المسلمون وعلاقتهم بغيرهم: واقع مسكون بهاجس التعايش والتنابذ
ياسر لطفي العلي
يُعدّ الخطاب الديني في هذه المرحلة على رغم الانكسارات التي يمرّ فيها، الخطاب الأكثر حظاً في احتلاله موقع الصدارة في مختلف مفاصل الحياة الإعلامية، فضلاً عن الحقول المعرفية المتعددة، الأمر الذي يؤكد ضرورة الاهتمام بتجسير الهوّة المفتعلة بينه وبين واقعه، وذلك من خلال الفهم المباشر للخطاب الإلهي وإدراك طبيعة المخاطب بمحدداته الذاتية والزمكانية، ومن جهة أُخرى التشديد على خطورة الابتعاد عن النظرة الشمولية والعقلانية أثناء فهم ذلك الخطاب وإدراك مقاصده العامة، لا سيّما ما يتعلق منه بقضايا العنف وطبيعة العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
ولكن هذا لا يعني الدعوة الى القيام بقطيعة كلية مع تلك الفهوم الموروثة التي انبثقت من الخطاب الإلهي، أو حتى التنكر لدورها في عملية الانسجام مع الواقع، وإنما الذي يعنيه الإشارة الى خطورة الارتهان أو الركون لسلطة التاريخ، التي تجعل الانسان مضطراً للانسياق وراءه وكأنه فقد قدرته على التفكير في قضاياه الحياتية، فيحرم الفرد نتيجة لتلك السلطة حتى من فرصة التفكير.
وفي هذا السياق يمكن اعتبار البحث عن طبيعة العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين أو البحث عن الوصف الناظم لتلك العلاقة وفق رؤية فقهية إسلامية، من أكثر المسائل التي تتجلى فيها قضية تغييب الذات والركون الى سلطة التاريخ، خصوصاً أنّ أي بحث في طبيعة تلك العلاقة سيصطدم باشكالية التعايش (التواصل)، والتنابذ (الصراع والاقتتال)، إذ المثير في ذلك كما يرى البعض أن البناء الفقهي التراثي في معظمه ما زال الى الآن مسكوناً برؤية الصراع والاقتتال في العلاقة مع الآخر، والمثير أكثر هو محاولة اجتزاء تلك الرؤية لاستثمارها في وقتنا الراهن من دون الانتباه الى الثقل التاريخي والمعطيات الزمكانية التي لابست ظهور تلك الاجتهادات الفقهية، أو حتى من دون استيعاب الفروق الجوهرية من الناحية الواقعية والتاريخية بين لحظة ولادتها وتبلورها عند الفقهاء، وبين لحظة تطبيقها في واقع مغاير، وربما تسبب ذلك في ايجاد حال من الارباك جعلت بعض المسلمين في حيرة من أمرهم حيال اتخاذ موقف ما – سواء كان مع أم ضد – من تلك التصورات الاسلامية المتعلقة بالعنف المجرم (الارهاب).
لذا باتت علاقة المسلمين بغيرهم الشاغل الأهم للكثير من علماء الشريعة الاسلامية على امتداد حقبهم الزمنية وتنوعها، لا سيما علماء العصر الحديث، وقد أدى البحث فيها الى تعدد الاجتهادات الفقهية وتباينها، ولكن المشكلة التي ينبغي الاشارة اليها أنه نتيجة لاشكالية البحث عن طبيعة العلاقة بيننا (كمسلمين) وبين الآخر (كل ما عدا المسلمين)، وتأثر ذلك بانفعالات الواقع واعتباراته العاطفية، برز حيال الموقف من تلك العلاقة اتجاهان لم يسلما من الجنوح والشطط، ولم يتمكنا من ملامسة موقف الشرع منها:
الاتجاه الأول: صرف جلّ اهتمامه للدفاع عن صورة الإسلام المثالية من خلال إظهار معاني الوسطية والتسامح والرحمة والأمان التي يتمتع بها الإسلام ويدعو اليها أتباعه في علاقتهم مع الآخر، وبالتالي تبرئة الإسلام من كل صور العنف المشروعة واللامشروعة، وقد أدى اندفاع أصحاب هذا الاتجاه وراء تحقيق غايتهم تلك الى الغاء فريضة الجهاد ببعدها القتالي (كحق للدفاع عن الذات)، نظراً الى ما تحمله من بعض صور العنف، كما أدى ذلك الى جعل المسلمين بموقع الفئة الضعيفة المنهزمة، الفاقدة لكيانها وسيادتها، التابعة لارادة وسلطة الغير في كل شيء.
الاتجاه الثاني: تأثر بكل من ضغوط الواقع وجيشان المشاعر العاطفية المحيطة بظروف العالم الاسلامي ومعاناته المستمرة، فأدى به ذلك الى:
- الخلط بين الحال الاستثنائية والحال الطبيعية للعلاقة بين الأمة الإسلامية والأمة غير الاسلامية، إذ تحوّل ذلك الاستثناء في العلاقة الى أساس وأصل، واعتبر الوضع الطارئ وضعاً طبيعياً ينظر اليه على أنه المرجع في تلك العلاقة.
- اختزال كل تعاليم الإسلام ومبادئه الانسانية في علاقته مع الآخر ببعض مظاهر العنف (الجهاد) التي شُرعت حالاً استثنائية وضمن ظروف وشروط خاصة.
- عدم الالتفاف الى خصوصية الحالات المشروعة من العنف، وبالتالي تعميمها لتشمل الكثير من الصور والممارسات العنيفة المحرمة.
وقد نجم عن ذلك ظهور تيارات اسلامية تؤمن بأن تاريخ الشعوب كان وما زال تاريخ حروب وصراع، وكل ما هو خلاف ذلك لا يعدو أن يكون نوعاً من المخادعة، أو كسب الوقت، وأما إن قال بعض الغربيين (كجزء من الآخر) موقفنا من الاسلام موقف تسامح وتعايش وسلام، فهو يقصد بذلك كسب الوقت لا غير، وكذلك إن قال بعض المسلمين أن الاسلام لا يكره الآخر، وإنما يسالمه ويعايشه، ويهادنه، فالواقع أن هؤلاء المسلمين يدركون في قرارة أنفسهم أن الاسلام له موقف آخر لو كان يملك القوة التي يواجه بها الآخر.
ثم إن هذه الرؤية ذاتها تحظى بتأييد الكثير ممن يمكن تصنيفهم بالآخر، وهو ما تجلى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومحاولة اصطناع العدو المتوقع، الذي سيهدد هوية ووجود ذلك الآخر، لتبدأ من بعدها ملامح تلك العلاقة الصدامية بالتشكل والتبلور، ولتزداد وضوحاً على يد هنتغتون وفوكوياما وغيرهم، ولتظهر مقولة «الإسلام عدو الآخر» في الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية، فضلاً عن انتشار رواسبها في المناهج التعليمية بصورة نمطية ومشوهة، وكل ذلك بهدف سرابي يسعى الى التخلص من حتمية التنوع الحضاري والأممي، الأمر الذي ساعد على إزكاء المشاعر العدائية عند كل فريق (نحن والآخر) تجاه الفريق الثاني.
وبعيداً من هذا الجدل التنظيري، لو انتقلنا الى صعيد الواقع، وقمنا برصد ماهية العلاقة بين الـ «نحن والآخر»، لوجدنا أن الحركة التاريخية برمتها عانت من اشكالية هذه العلاقة، فكانت ايجابية أحياناً، وسلبية أخرى، وكلنا يعلم تلك الصورة التاريخية المشرقة التي تجسدت عند المسلمين واقعاً عملياً في فترات زمنية مختلفة، عندما كانت العلاقة مع الآخر تواصلية وتشاركية يحتضنها شعور بفرض التعايش ورفض التنابذ، وذلك عندما تجلت باستلام عدد من غير المسلمين (الآخر) لمناصب هيكلية ومركزية، بل مفصلية في الدولة الاسلامية، وكتب التاريخ تذخر بكثرة أسمائهم وألقابهم.
وفي هذا السياق لا بدّ من الاعتراف بحقيقة الاختلاف والتنوع الثقافي والحضاري، الذي لا يعني تمييع الخصوصيات وإضعاف الانتماء التاريخي، أو حتى اضعاف التعلق بالهوية الذاتية الخاصة، ولا يعني أيضاً التقوقع على الذات، وايجاد حال من الفصام الحضاري واقصاء الآخر وإلغائه، وإنما الذي يعنيه بذل الجهد لتحقيق التواصل (الحوار) والتعايش، من خلال البحث عن النقاط الجامعة بين الحضارات، والاستعداد النفسي لاستيعاب الاختلاف وتحييد أسباب التنابذ والصراع، ليتحول التنوع الحضاري الى مادة إثراء، لا مادة عداء، «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله». (آل عمران: 64).
ويزداد هذا الأمر تأكيداً إن علمنا أن وجود الآخر المؤكد على حال التعددية، هو حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، وهو حقيقة شرعية مستمرة الوجود «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين» (هود: 118)، «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً» (يونس: 99)، وهذا يعني أن التنوع الأممي المتسم بالاختلاف، ما بين مسلم ومسيحي ويهودي ومجوسي، و... هو أمر حتمي وطبيعي، يجب التعامل معه على أنه حقيقة واقعية وشرعية.
وتأسيساً على ما سبق لا يمكن الاعتراف بالرؤى التعسفية التي تدعو الى تجاوز السنّة التي أودعها الله في خلقه، بتحقيق التفاعل والتواصل «لتعارفوا»، الذي يسمح بالتأثر والتأثير، ويتجاوز حال التنابذ والتصادم الى التعايش والتعارف، وبالتالي فإن أي ايحاء بحتمية التنابذ مع الآخر هو دليل على فشل إدراك أهمية وضرورة الاعتراف بحق التنوع والاختلاف كسنّة إلهية.
أخيراً ربما كان الأمر الأكثر خطورة واشكالية في هذا السياق، ما نشهده في ظل هذا الشحن المذهبي والطائفي الذي يعيشه العالم الاسلامي من تحوّل للحديث عن «الآخر» كمفردة تعبّر عن غير المسلم، الى مفردة ذات دلالة أكثر محدودية، تنحصر ضمن المنظومة الاسلامية الواحدة، حيث أصبحنا نشهد مثلاً أبحاثاً وندوات تهتم بدراسة العلاقة بين السني والشيعي – كمدرستين منتسبتين للإسلام – وماهية تلك العلاقة وحدودها ومظاهرها، وهل تلك العلاقة قائمة على معاني التعايش والقبول أم معاني التنابذ والتصادم، ثم بلغ الأمر أكثر تجزئة حتى صرنا نبحث عن طبيعة العلاقة بين الصوفي والسلفي، وبين الجهادي التكفيري والجهادي المعتدل، وبين الإمامي والسلفي، والإمامي والصوفي، وغير ذلك من الانقسامات التي لا ندري هل ستقف عند هذا الحد أم انها ستستمر في حال لا متناهية من التجرؤ المسكون باشكالية التعايش والتنابذ.