منهجية وآداب الحوار في القرآن الكريم والسنة المطهرة وعند السلف الصالح وبين المسلمين
منهجية وآداب الحوار في القرآن الكريم والسنة المطهرة وعند السلف الصالح وبين المسلمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
منهجية الحوار
إن ما نسمعه ونحسه من الخلاف والاضطراب بين أفراد وجماعات وفصائل متعددة في المجتمع المسلم، وما يحصل من إخفاق في طريقة التواصل والتخاطب بينها يرجع إلى عدم اعتماد المنهج العلمي في الحوار. فالحوار القائم ليس مبنياً على أسس وأصول أو منهج علمي؛ وهذا من شأنه أن يحدث نزاعاً واختلافاً بين بعض المسلمين. بيد أنه إذا اعتمد منهج واضح مقتبس من الكتاب والسنة في أصول الحوار، فإن هذا مما يساعد على جمع الكلمة وتضييق فجوة الخلاف والاختلاف بين الأقوال والآراء المختلفة في مسألة من المسائل، ويعدّ هذا من الأمور الملحة التي تنير السبيل في طريقة تقويم المسيرة العلمية والدعوية، وتنير الطريق أيضاً للنهوض بالأمة الإسلامية من جديد.
ونعني بمنهجية الحوار: الأصول العلمية الشرعية التي يرتكز عليها الحوار، والتي منها:
1- العلم
فلا بد أن يكون المحاور عالماً بالمسألة التي يريد أن يحاور فيها، قادراً على النظر والموازنة والترجيح بين الأدلة المختلفة. لا أن يكون جاهلاً ويجادل ويحاور على جهل، قال تعالى في سورة الحج -آية رقم 3 - (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) وقال تعالى في سورة الإسراء - آية رقم 36 - (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).
والعلم يشمل أمرين:
1- العلم بشرع الله المطهر كتاباً وسنة.
2- العلم بالواقع الذي يراد تطبيق شرع الله عليه.
قال تعالى في سورة آل عمران - آية رقم 66 - (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
وقال تعالى في سورة النحل - آية رقم 43 - (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون).
فالجاهل حقه السؤال والاستنارة بما عند العلماء من العلم.
وقد خرَّج الإمام أبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجرٌ في رأسه، فاغتسل فمات، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قتلوه قتلهم الله؛ ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العَي السؤال، إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقةً ثم يمسح عليها" أخرجه أبو داوود والدارقطني.
لذلك فليعلم بأن من أعظم أسباب الخلاف المذموم انتشار الجهل ونقص العلم (1) أو عدم سؤال أهل العلم؛ إما استحياءً أو تكبراً.
فالحذر كل الحذر من التعالم، وأن تقول قولاً وأنت لا تعلمه وتجادل فيه على جهل، فهو من أعظم البلايا. قال الشاعر:
كل من يدعي بما لي فيهفضحته شواهد الامتحان
وقال الغزالي: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف.
وقال الشافعي: فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به، وأقرب من السلامة له إن شاء الله.
وقال ابن حزم: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون.
وواجب أهل الإسلام أمام كل متعالم يدعي العلم وليس بعالم أن يأخذوا على يديه، وأن يمنعوه من الوقوع في النار، وأن يبصِّروه بعظيم جُرمه، حمايةً له أولاً، وكفاحاً عن بيضة الإسلام وشريعته.
وقد ألَّف في هذا الباب كثير من العلماء، منهم البيهقي والشوكاني وغيرهم، ومن المعاصرين فضيلة الشيخ بكر أبو زيد في كتابه الجميل الفريد في بابه "التعالم وأثره على الفكر والكتاب".
2- الفهم
قديماً قيل: (لا ترد على أحد جواباً حتى تفهم كلامه).
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاًوآفته من الفهـم السقيـم
[color=#0000CC][size=5][size=5]لا بد من فهم ما عند الطرف الآخر، وإن لم تفهم كلامه أو حجته، فلا يضرك أن تسأل، وأن تستفسر عما لم تفهمه دون إفراط ولا تفريط، وفي الوقت المناسب من الحوار؛ فإن الفهم نصف الإجابة.
3- التأصيل الشرعي لدرء النزاع
لا بد أن تكون هناك أصول مرجعية معتمدة متفق عليها يرجع إليها لمعرفة الحق والباطل. ويرجع لها عند النزاع، وألاَّ يترك المجال مفتوحاً للعقول فقط. ومحور المنهج الشرعي عن المسلمين يعتمد على النص الشرعي؛ كما قال تعالى في سورة الشورى - آية رقم 10 - (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "فإذا تنازع المسلمون في مسألة؛ وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فأي القولين دل عليه الكتاب والسنة وجب اتباعه".
وقال أيضاً: "وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا رُدُّوا لعقولهم، فلكل واحد منهم عقل
4- تحديد الهدف
المنهج العلمي في الحوار يقتضي تحديد نقاط الاختلاف بين المتحاورين بدقة، ثم ترتب في سلم المحاورة.
قال الربيع بن سليمان رحمه الله: "كان الشافعي إذا ناظره (حاوره) إنسان في مسألة فغدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة، ثم نصير إلى ما تريد".
وهو من وسائل ضبط الحوار؛ فالحوار يموج ويضطرب أشد من موج البحر في يوم عاصف، فإن لم يكن المتحاوران أو أحدهما رباناً ماهراً يمنع من الاستطراد والاستئثار بالحديث غرقت سفينة الحوار في بحر النقاش العقيم. وقد جاء في الحكمة "إذا كثر الملاحون غرقت السفينة". وحتى يكون الحوار ناجحاً لا بد من تحديد الهدف ونقطة الخلاف عند كلا المتحاورين، وأن يمنع الاستطراد والاستئثار بالحديث.
5- التفريق بين الفروع والأصول
وأن يكون الموضوع مما يجري التحاور فيه، والخلاف أمر واقع في الأمة، والله خلقهم مختلفين في الأفهام والآراء. وهو مسلَّم به في دنيا البشر وهو سنة الله عز وجل في خلقه؛ قال تعالى في سورة هود - آية رقم 118 ورقم 119 - (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {119}.
يقول الرازي:"والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال". ويمكن تقسيم الاختلاف إلى ثلاثة أقسام:
أ) الخلاف السائغ:
وهو اختلاف المجتهدين من علماء وفقهاء ومفتين وحكّام في المسائل الاجتهادية، وهو ما يسمى بخلاف التنوع الذي يكون في الفروع لا في الأصول، وفي الجزئيات لا في الكليات. قال عليه الصلاة والسلام: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر". متفق عليه.
ب) الخلاف المذموم
وهو ما يقع في الأصول، ويسمى بخلاف التضاد، وهو مذموم على كل حال؛ قال تعالى في سورة آل عمران - آية رقم 105 - (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وهم الذين يخالفون في القطعيات وثوابت الأمة وأصول الملة، فهذا خلاف مذموم، وما يخالف فيه إلا عقيم أو سقيم الفهم، وله صور شتى منها:
1- اختلاف البشر إلى مؤمن وكافر قال تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ).
2- خلاف أهل الأهواء والبدع كالخوارج وأشباههم.
ج) الخلاف المحمود
فيقصد به مخالفة المسلم للمشركين وأهل الكتاب وأهل الفسق والمجون في هيئاتهم وأحوالهم وأعيادهم .. فالمخالفة في هذا وأمثاله ممدوحة في الشرع، بل هي مقصد شرعي، ويقابلها النهي عن مشابهتهم والتشبه بهم.
من هنا يتضح بأنه لا يسوغ الخلاف في ركنية الصلاة مثلاً، ولا حرمة الربا، ووجوب الحجاب وغير ذلك من الأصول والثوابت.
قال المتنبي
وكيف يصح في الأذهان شيءإذا احـتــاج الـنـهـار إلـــى دلــيــل
6- أن النفي والإثبات لا يصحان إلا بدليل
ولا دليل إلاَّ ما يثبت به العلم، سواءً بالنسبة إلى نفي الأشياء أو الأحكام وإثباتها، وسواءً أكانا متعلقين بأمور الدنيا أم بأمور الدين، وسواءً أكانا نفياً أم إثباتاً، متعلقين بالنقل أم بالعقل.
"فلا بد أن يكون نفي النافي بدليل يصح، سواءً أكان بدليل النقل الصحيح أم بدليل العقل الصحيح،ولا بد أن يكون إثبات المثبت بدليل يصح.
فالحجة لا تكون إلا بدليل يصح، ولا تكون الدعوى المجردة من الدليل والبرهان حجة.
فعلى سبيل المثال بعض الناس يدّعي شيئاً ثم يجعل دعواه حجة؛ وربما يزكي نفسه؛ إما بكبر سنه أو بوظيفته أو وجاهته أو إمارته، أو بعدد الكتب التي ألفها .. فالإنسان كما قدمنا ليس معصوماً وليس نبيّاً ولا رسولاً، وكلٌّ يُؤخذ من قوله ويُرد إلا النبي عليه الصلاة والسلام.
ولنقف وقفة مع قوله تعالى في سورة البقرة - آية رقم 111 - (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) - هذه حكاية قولهم، وهذه المقولة لا تستند إلى دليل، سوى الادعاء العريض! ومن ثم يلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بالتحدي، وأن يطالبهم بالدليل (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
فإذا ادَّعى شخص أمراً من الأمور أو حكماً من الأحكام، فنقول له: إيت بالدليل على صحة قولك، ثم ننظر في صحة دليله .. هذه قاعدة من قواعد الدين (البينة على المدعي.
والدعاوى إذا لم يقم عليهابيـنـات أصحابـهـا أدعـيــاء
فمن كانت دعواه عارية من الدليل، خالية من السلطان والبرهان سقطت.
وفي الحلقة القادمة سنتحدث إن شاء الله عن أنواع الحوار.
أخوكم
حسن خليل