الهوية الثقافية العربية بين جدلية الأنا والآخر
سؤال الهوية هو الآن أحد أكثر الأسئلة إلحاحاً في الفكر العربي الحديث، وهو سؤال أزمة عميقة ولَّدت قلقاً عظيماً؛ فالشعوب تنشغل بسؤال الهوية كلما دخلت في أزمة، والمجتمع العربي منذ سنوات يمر بهذه الأزمة العميقة، وزادت أزمته بعد ما يُسمّى بالربيع العربي، لذا بدا إعادة طرح مفهوم الهوية، والعلاقة بين الأنا والآخر المغاير، وسؤال من أنا، وما هويتي الثقافية؟ وما علاقتي بتراثي، وعلاقتي بالآخر؟ أسئلة ملحة. وبات من المتوقع في هذه المرحلة الحاسمة من عمر الأمة العربية، أن يعاد طرح هذه التساؤلات، لأن الأمة العربية في حالة من التراجع الفكري والحضاري، وفي حالة من الضعف والتهديد على ضياع هذه الهوية، والذي يراجع التاريخ يتكشف له أن الأمم والشعوب تزداد انشغالا بتاريخها وماضيها حين يكون حاضرها مأزوما ومستقبلها غير واضح.
والهوية الثقافية هي مجموعة من السمات والخصائص التي تنفرد بها الشخصية العربية، وتجعلها متميزة عن غيرها من الهويات الثقافية الأخرى، وتتمثل تلك الخصائص في اللغة والدين والتاريخ والتراث والعادات والتقليد والأعراف وغيرها من المكونات الثقافية المختلفة. وهناك من يعرف الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم بأنها: القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية طابعًا يتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى.[2]
ثمة تصور يرى الهوية الثقافية شيئا اكتمل وانتهى وتحقق في الماضي، في فترة زمنية معينة، أو نموذجا اجتماعيا معينا، وأن الحاضر ما هو إلا محاولة إدراك هذا المثال وتحقيقه، كما أن لها تصورا ديناميا آخر يراها شيئا يتم اكتسابه وتعديله باستمرار، وليس أبدا ماهية ثابتة، أي إن الهوية قابلة للتحول والتطور، ويمكن النظر إلى الهوية في صورتها الدينامية على أنها مجموعة من المقررات الجماعية التي يتبناها مجتمع ما، في زمن محدد للتعبير عن القيم الجوهرية (العقائدية) والاجتماعية والجمالية والاقتصادية والتكنولوجية، والتي تشكل في مجموعها صورة متكاملة عن ثقافة هذا المجتمع.
سوف تنشغل الدراسة بطرح مجموعة من الأسئلة من قبيل: ما المقصود بالهوية الثقافية؟وما مكوناتها؟ ما عوامل أزمة الهوية الثقافية في المجتمع العربي؟ وما علاقتها بالآخر الغربي في ظل جدلية الأنا والآخر؟وما هي المتغيرات الجديدة التي تؤثر على الهوية الثقافية؟
وتهدف الدراسة إلى الاشتغال على مفهوم الهوية الثقافية، والكشف عن ملامحها ومنابعها، كما تسعى لأن تلفت نظر المعنيين بالدراسات البينية السوسيوثقافية إلى تقديم استراتيجيات عربية تساعد في تعزيز الهوية الثقافية والحفاظ عليها من خلال وضع تصور لدور الهوية الثقافية في مواجهة التحولات العالمية.
الثقافة والهوية
إن الثقافة والهوية شيئان متلازمان، فلا يمكن الفصل بينهما، وكل شعب له ثقافة خاصة به تكون بمثابة عنوان لهويته. والثقافة تعني في مفهومها الواسع مجموعة من القيم والمبادئ والأسس التي تنفرد بها أمة أو جماعة عن غيرها، وكلما كان للثقافة خصوصية تميزها، كلما انعكست هذه الخصوصية على أصحابها. ولا تعني الثقافة بأي حال من الأحوال الانسلاخ عن التراث ونفيه لصالح أفكار حداثية، كما أنها لا تعني الانغماس في التراث والماضوية والهروب من الحاضر والآني وما فيه من طروحات وثقافات بحجة أنها ثقافات وافدة. وثقافة الشعوب تعني السمات والخصائص التي تميز شعبا عن آخر وفق مجموعة من الأصول والجذور التاريخية والدينية والأدبية والتربوية والاقتصادية والمعرفية تجعل لهذا الشعب هوية خاصة في خارطة الثقافة العالمية.
إن الثقافة تعتبر قوّة من قوى التشكل الحضاري للأمة في مدلوله الشامل: الفلسفي الأدبي، السياسي والاجتماعي، كما أنها طاقةٌ للإبداع في شتّى حقول النشاط الإنساني، ولكي تتمكن الثقافة من أن تكون قوة فاعلة، لابد وأن تسعى، لأن ترقى بوجدان الإنسان، وتهذب روحه، وتصقل مواهبه، وتوظف طاقاته وملكاته في البناء والتعمير، والتي تعمل من أجل تحقيق الرقيّ والتقدّم والرخاء والازدهار.
والسؤال الأولي الذي يجب طرحه، ما هي الهوية الثقافية المُمَيِزة لشعب من الشعوب؟ هل هي الثقافة الدينية، أم التاريخية أم الأدبية أم العلمية، أم أنها مجموع هذه الثقافات، والجواب الأدق هو: أن مجموع هذه الثقافات هو الذي يشكل معالم الثقافة العامة في بلد ما، بل هو مجموعة من الروافد والمراحل التاريخية التي يمر بها شعب من الشعوب، وتسهم في تشكيل معالم هويته الثقافية، يمتزج مع مجموع القيم والعادات والتقاليد وطرق الحياة وأساليبها.
والثقافة بحسب تعريف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والذي يشير إلى أنها "تشتمل على جميع السمات المميزة للأمة من مادية وروحية وفكرية وفنية ووجدانية، وتشمل جميع المعارف والقيم والالتزامات الأخلاقية المستقرة فيها، وطرائق التفكير والإبداع الجمالي والفني والمعرفي والتقني، وسبل السلوك والتصرف والتعبير، وطراز الحياة، كما وتشمل تطلعات الإنسان للمثل العليا ومحاولاته في إعادة النظر في منجزاته، والبحث الدائم عن مدلولات جديدة لحياته وقيمه ومستقبله وإبداع كل ما يتفوق به على ذاته".[3]
كما تعرف أيضا بأنها "شبكة من المعاني والرموز والإشارات التي نسجها الإنسان لنفسه لإعطاء الغاية والمعنى لنفسه وجماعته والعالم والكون من حوله"[4]، وهي أيضا منظومة متكاملة، تضم النتاج التراكمي لمجمل موجات الإبداع والابتكار التي تتناقلها أجيال الشعب الواحد، وتشمل بذلك كل مجالات الإبداع في الفنون والآداب والعقائد والاقتصاد والعلاقات الإنسانية، وترسم الهوية المادية والروحية للأمة لتحديد خصائصها وقيمها وصورتها الحضارية، وتطلعاتها المستقبلية ومكانتها بين بقية الأمم، انطلاقا من هذه التعاريف وغيرها، تكون الثقافة إرثا تاريخيا يحمل معه الطابع الخاص بكل أمة، غير قابل لأي شكل من أشكال العولمة، حتى لا يتم طمسها أو إلغاؤها في عدد من المجالات.
حين كانت الثقافة العربية في لحظات قوتها، وخاصة في العصر العباسي الأول والثاني، ازدهرت الترجمة من الثقافات الأخرى، وتميزت بأنها ثقافةَ حوار وتواصل، وكانت تقوم على التمازج مع الثقافات الأخرى ولم تكن قط لتنأى عن التلاقح والتمازج والتداخل. ولم يكن يطرح ساعتها مفهوم الأنا والآخر، فقبلت الثقافة العربية كل الثقافات الوافدة إليها، سواء بالفتح، فتح الدول ونشر الإسلام فيها، أو بالترجمات والانفتاح على الثقافات الأخرى، مثل الترجمات عن اليونانية والفارسية والهندية، وقد اعتبرت هذه الثقافات الوافدة عليها روافد تغذي ثقافتها، بل صارت من نقاط القوة في الثقافة العربية، لكن حين تراجعت الحضارة العربية نتيجة للاستعمار الذي أصاب الأمة بالتخلف والتراجع صار حينئذ يطرح سؤال من نحن؟ وما علاقتنا بالآخر الذي هو خارج الذات، الذات العربية الجمعية، وصار الآخر معاديا للأنا، وبدأ حينئذ يطرح سؤال الهوية وجدلية العلاقة بين الأنا والآخر.
الهوية الثقافية وتحديات المعاصرة
إن القطيعة الإبستمولوجية مع ما تركه لنا القدماء من تراث ثقافي بحجة المعاصرة والحداثة لن تفيد، ولن تكون السبيل الأصح في تحصيل ما ينتجه العقل البشري من معارف، كما أنها لن تفيد في إنتاج ثقافة تناسب العصر وتقدم تمايزا لهذا المجتمع مقارنة بالمجتمعات الأخرى، ومن جهة أخرى، فالاعتماد على التراث وما أنتجه الآباء من معارف وحدها لن يُمكِّن هذا المجتمع أن يعيش اللحظة الراهنة متساوقا مع العصر وما ينتجه من ثقافة وإبداع وفكر، لذا يأتي تجديد التراث الثقافي على أولويات التحديات لمجتمعنا العربي الذي يجد نفسه مشدودا إلى الماضي؛ ليميزه عن المجتمعات الأخرى، بشرط أن يتم ذلك عبر: "ممارسة العقلانية في قراءتنا لتراثنا، فهي السبيل لأجل صياغة حداثة خاصة بنا، تمكّننا من الانخراط في سيرورة الحداثة العالمية كفاعلين وليس مجرد منفعلين؛ لأن الحداثة لا تطلب من أجل ذاتها، فنحن نطلبها كونها تمثل رسالة حضارية، ونزوعاً من أجل التحديث، تحديث الذهنية، وكذا المعايير العقلية والوجدانية".[5]
يظهر الصراع جليا بين الأنا والآخر لدى العرب والمسلمين الذين يستقرون في ثقافة مغايرة، ثقافة الغرب، فلا هم قادرون على أن يتعايشوا مع معطيات العالم الجديد، وبلد المستقر، وينسوا ثقافتهم الأصلية، ولا هم قادرون على ترك فرصة يرونها الأفضل بالنسبة إليهم وإلى أبنائهم، فلا يسعون في ذات الوقت للعودة، بل يعيشون حالة من الحنين إلى بلدهم الأصلي، ومن ثم يعيشون هذا الصراع واضحا جليا، بل يكونون تجمعات بشرية متآلفة (جيتو) من ثقافتهم الأصلية، وينتمون إلى هذه التجمعات، بل ويعتبرونها بديلا عن بلدهم الأصلي، وهذه التجمعات تغنيهم عن الذوبان في ثقافة البلد الذي يعيشون فيه.
إذن ما يعيشونه هل هو عجز عن التكيف مع معطيات الواقع الجديد؟ أم مجرد حنين مأساوي يرتبط برغبة نفسية في العودة إلى الجذور، إلى الحضن الأول، حيث الأهل والعادات والتقاليد، والموطن الجغرافي، واللغة المتداولة والدين المعروف؟ هذه الأسئلة تكشف لنا جانبا من جوانب خطاب الهوية الثقافية التي يحرص عليها من يعيش في ثقافته الأصلية.
وقد طُرِحت جدلية الأنا والآخر، والبحث عن هويتنا الثقافية، والصراع بين الأصالة والمعاصرة حين التفت العرب إلى أهمية البحث عن هويتهم الثقافية، لكي يتمايزوا عن غيرهم، وكأن الهوية الثقافية لمجتمعنا أو تمييزنا كعرب مقارنة بالأمم الأخرى أن نعيش أسرى الماضي، وأن يتحكم فينا الفكر الماضوي. وربما ميراث القهر الذي خلفه المستعمر/ الآخر هو ما جعل هذه الثنائيات تتجاذب المفكرين العرب، حتى صار صراعا حقيقيا بين تيارين: التيار الأول يرى الآخر عدوا يجب أن نحذره، وأن نحتمي بتراثنا وماضينا، حين كان هذا الماضي قويا وفاعلا في التراث الإنساني، والتيار الثاني ينظر إلى الآخر الغربي نظرة الشعوب المُستَعمَرة للشعوب المُستَعمِرة، وأقصد بها نظرة الإعجاب بالآخر المحتل، وتفضيل ثقافته وطرائق معيشته على ثقافة الشعوب المحلية، وهنا تطرح جدلية الأنا والآخر، والصراع بين الثقافة العربية والثقافة الغربية. ومن هنا تطرح أسئلة جوهرية، فهناك من يحكمه الوعي الماضوي، ويدعو إلى انبعاث الأصوليات الدينية والعرقية التي تتبنى تصورات نكوصية للهوية، تقوم على العقيدة أو العرق، وتنظر إليها بوصفها حقيقة مطلقة، ومتعالية، وأنها هي ما يشكل ماهية الإنسان. وهناك رؤية مغايرة ترى أن النهوض بالمجتمع يحتم علينا أن نتجه كلية لثقافة الحداثة، والتنكر للتراث وما يمثله من تاريخ يشير إلى العمق الحضاري لهذه الأمة.
في حين يرى تيار الدعوة إلى الحداثة وإنكار التراث أن الهوية لا تعدو أن تكون مجموعة من الإسقاطات الوهمية التي يضفيها الفرد على نفسه، وهو ما يعطي الأولوية في انتماء الفرد للعام العالمي على الخاص المحلي، وهذه الفرضية هي ابنة أفكار العولمة وفلسفة ما بعد الحداثة. إذن خطاب الهوية وليد ما يُسمى بالحقوق الثقافية، التي تنهل من مرجعيات الحداثة، ومن الثقافة الديمقراطية، والمواثيق الدولية المعاصرة. وخطاب "الأنتي هوية" أو ضد الهوية الذي ينادي بمحاربة فكرة الهوية من أجل عولمة الثقافة، وتضييع خصوصيات الشعوب هو وليد فلسفات العولمة.
وللرد على هذين التيارين المتصارعين على كل المستويات، سواء على مستوى الثقافة أو المجتمع يجب أن نؤمن بتعددية الهوية الثقافية للشعوب، فكون المجتمع يسعى للحداثة والتنوير لا ينفي أن يتمسك بخلفية حضارية أو دينية، فلا تعارض بين الأمرين.
إن القضية لا يمكن أن تحسم في أحد الاتجاهين بمعزل عن الآخر؛ فالهوية تخضع لصيرورة زمنية تجعلها تتجاوز نفسها باستمرار دون أن تفقد بعض عناصرها الأساسية، فهي تزاوج في كل لحظة بين الاستمرارية والقطيعة، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال: ما هي العناصر التي تحافظ عليها الذات في صيرورتها، والتي تبقيها هي هي رغم التغير الذي يطرأ في الزمان؟ وهل يفيد أمة من الأمم الانفتاح على الثقافات الأخرى أم ذلك يعد تهديدا مباشرا للهوية الثقافية لمجتمع ما؟
لا نستطيع أن نحاصر ذواتنا في أسر وفلك القديم، وكذلك لا نستطيع أن نحدث قطيعة مع تراثنا بحجة فك حصار الذات، فالتحدي إذن هو تصحيح علاقة الذات بالزمن: أن تعيش حاضرها، والزمن هو التاريخ، أن تقوم بدور مرحلتها التاريخية وليس بدور جيل مضى فتقع في الماضوية، أو دور جيل قادم فتقع في القطيعة المعرفية مع التراث. وقد أرجع البعض، أسباب هذا التضخم في الانشغال بسؤال التراث والحداثة، إلى حالة "الإخفاق والانسداد التي ولجتها البلاد العربية منذ مطلع العقد السابع من القرن العشرين بعد أن تعرض مشروع النهضة والتقدم فيها إلى انتكاسة فادحة"[6]. ويرجع هذا الاهتمام الكبير بمسألة التراث إلى "حالة التأجيل التي مازالت توجد عليها اليوم أسئلة الماضي، كذلك إخفاق الحاضر: حاضر العرب، في إنجاز مطالب النهضة والتقدم والحداثة وسواها، أنتج كل الأسباب لتجديد سلطة التراث بوصفها سلطة ماضٍ لم ينته في حاضر لم يبدأ".[7]
ويرى البعض أن الاهتمام بالتراث وطرح أسئلة الهوية جاء نتيجة لما أدت إليه نكسة يونيو/ حزيران -1967-، تلك التي "ضغطت على الفكر العربي والإسلامي المعاصر باتجاه إعادة تأثيث إشكالياته على أرضية من التشخيص الجديد للمشكل العربي. وقد بدا تأثيرها على الوعي العربي واضحاً، رغم كل المحاولات التي رامت التخفيف من وطأتها النفسية إلى حد أعادت فيه الفكر العربي والإسلامي إلى وضعية الأزمة. أو لنقل بتعبير محمد جابر الأنصاري: إنها وضعته "تحت الحصار".[8]
ولم يكن الأنصاري وحده من ربط الانشغال العربي بسؤال الهوية، ورغبة العرب في التحديث بآثار نكسة 1967، فعبد العزيز حمودة يرى أن سؤال التحديث يمكن فهمه: "بالمنطق نفسه يمكن فهم ما حدث في السنوات التي أعقبت الهزيمة العسكرية عام 1967، حينما اعتبرها قطاع كبير من الشعب العربي هزيمة لعقل عربي متخلف، ومن ثم بدأ البحث المحموم، وسط إحباطات مؤلمة، عن تفسير انتهينا فيه إلى الرغبة المحمومة في تحديث الأداة العسكرية وفنون القتال وإدارة المعارك. وقد استغلت قلة منا رغبة الجماهير العربية في تحقيق تحديث كامل، لتحقيق (حداثة) انتهت بنا إلى الارتماء الكامل في أحضان الثقافة الغربية ومنجزات العقل الغربي دون تمحيص أو ترو".[9]
إذن ثمة تياران على الساحة الفكرية العربية يناقشان موضوع الهوية الثقافية، أحدهما يطالب بالأصالة بالمحافظة على الموروث، بالاحتماء بالماضي، بالرجوع إلى أزمنة كانت فيها الأمة قوية ومرهوبة الجانب، والثاني يطالب بالانخراط في اللحظة الآنية والتطلع إلى المستقبل في إطار التراث الإنساني المشترك، والمحافظة على قيم الإنسانية في النظر إلى علاقتنا بالآخر. كان التيار الأول يمثل القديم الموروث في قيمته التي أعطت للعرب زخما فكريا ومعرفيا في فترة مهمة من عمر المجتمع البشري، في حين أن التيار الآخر يمثل الجديد الوافد في بريقه وإغرائه، والأمر يتطلب درجة عالية من الوعي، ويقتضي شجاعة أدبية في مراجعة المسلمات الفكرية والتحرر الفكري، فلكل عصر إبداعه، فمن غير المنطقي أن نطالب مجتمعا ما أن يعيش بقناعات وأفكار طرحها الأجداد قبل مئات وآلاف السنين، كذلك من غير المنطقي أن نطالب مجتمعا ما أن يتنكر لتاريخه وتراثه الفكري والأدبي والإبداعي، فلن نستطيع أن نحل هذه الإشكالية إلا إذا تمثلنا وعيا حادا بأنه "لن تمتد أغصاننا في العصر حتى نعمق جذورنا في التراث".[10]
وإذا كانت مسألة الدعوة إلى تبني التراث تبرز في الوعي العربي المعاصر بمثابة السلاح الأيديولوجي ضد أشكال التهديد الخارجي، فإن قضية الأصالة والمعاصرة تعني ذلك الشعور النفسي الضاغط بالإحساس بعمق الهوة التي نلمسها بين التراث ومضامينه المعرفية والأيديولوجية والمعيارية، وبين الفكر العالمي المعاصر ومنجزاته العلمية والتقنية، وكذا نظمه العقلية ومعاييره الأخلاقية.
إن الأصالة والمعاصرة تُطرح على المستوى النظري بوصفها مشكلة اختيار بين النموذج الغربي وبين التراث. وتبعاً لذلك، فإن المواقف إزاءها أخذت طابعاً تصنيفياً أوردها محمد عابد الجابري في ثلاثة مواقف: "مواقف عصرانية، وتطرح ضرورة تبني النموذج الغربي، أي النموذج الحداثي العقلاني العلماني، وهو النموذج الذي يفرض نفسه حتمية تاريخية حضارية للحاضر والمستقبل، ثم مواقف سلفية، تطمح إلى استعادة النموذج العربي- الإسلامي السابق على تاريخ الانحطاط، أو على الأقل الارتكاز عليه لتشييد نموذج عربي إسلامي أصيل يحاكي النموذج القديم، ويتطلع إلى تقديم حلوله الخاصة لمستجدات العصر.و مواقف انتقائية تطمح إلى الإصابة في الأخذ بأحسن ما في النموذجين معاً في صيغة واحدة تتوافر لها الأصالة والمعاصرة معاً".[11]
لذا يعاني الفكر العربي من جدليات الماضي والحاضر، وهي: "جدليات لإشكاليات ثابتة ومتحولة في الفكر والمجتمع والتاريخ، فالفكر العربي، على اختلاف مرجعياته وتباين اتجاهاته وتنوع آلياته ومضاعفاته- منخرط بالضرورة في أنساق ومسالك الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفلسفي والعلمي في الحضارة والعالم المعاصرين".[12]
لذا، فسؤال مساءلة الماضي لحساب المستقبل مشروط معرفياً وسياسياً وتاريخياً بنوعية علاقات المجتمع العربي الإسلامي بذاته وبالآخر، عبر التاريخ وموقعه منه وفعله فيه أو تأثره به. سؤال الهوية والتراث والتحديث يُعد سؤالاً وجودياً قبل أن يكون معرفياً وسياسياً، منطلقه الوعي النقدي باعتبار الوعي والنقد استراتيجية التغيير والمستقبل لا الاستسلام والالتزام، ومن هنا كان على الفكر العربي المعاصر –بكل آلياته وأدواته- أن يدخل عالم المستقبل بحثاً عن موقع مميز فيه، فتعددت مجالات ومحاور دراساته انطلاقاً من جدليات التاريخ العربي، وهي كثيرة أهمها: جدلية الداخل والخارج، جدلية الدين والسياسة، جدلية السلطة والمجتمع، جدلية الثقافة والتاريخ إلى فضاءات الدولة والمجتمع في الوطن العربي، العرب والعالم، العرب والمستقبل، التنمية العربية، التحديات البدائل المستقبلية، فلا شك أن العقل العربي يحتاج إلى وعي بتحديات اللحظة الراهنة، حيث إنه: "لا بد للعقل العربي حتى يكون مستقبلياً أن يقوم بدوره في بناء المشروع العربي الوحدوي الحضاري من أن يكون ذا بنية وتوجه وحدوي، مؤسسي، ديمقراطي، عقلاني، علمي"، ومن أجل ذلك، أصبح البحث في تاريخ المجتمع العربي وطبيعته أمراً لا خلاف فيه وشرطاً من شروط الوعي بالتاريخ وبالمستقبل".[13]
إنّ الحاجة إلى مراجعة التراث العربي، والأخذ بأسباب تحديث الفكر العربي تفرضها طبيعة اللحظة التاريخية الفيصلية للعرب في القرن الواحد العشرين وموقعهم من الحضارة الإنسانية؛ فالاهتمام بهذه الجدلية ليس من باب الترف الفكري البورجوازي، ذلك أنه من الضروري التركيز على عناصر الحركة العامة في عالمنا المعاصر التي تفرض علينا عدم فصل أو انفصال العرب عن منطق التاريخ المعاصر، بهدف إدراك حقيقة وعمق الروابط بين العرب والغرب، فالمجتمع العربي: "لا يخرج عن كونه منظومة في جدلية وصراع مستمرين مع نظام عالمي أوسع وأعقد وأكثر إلماماً بمتغيرات المستقبل، فعالمنا المعاصر سريع التغير في الحقيقة في المجالات المادية والمعرفية والفنية، ولعل أخطر مهمة يواجهها الفكر العربي المعاصر بكل فروعه وآلياته، هي كيفية نقد المنظومات الغربية ودراسة التراث العربي، لتحديد ملامح المستقبل وتأسيس أو إعادة بناء الشخصية التاريخية العربية، والأخذ بالعقلانية العلمية والإبداع، لأن السيطرة على المصير وصناعة المستقبل بدأت تستلزمها بشكل متزايد نظراً للتحديات الكبرى المفروضة على الوطن العربي من العالم الصناعي الذي وصل إلى عصر ما بعد التكنولوجيا، بعد جهد من تطوير العقل وتقنين طاقاته وتنميتها وصولاً إلى المنهجية والمنطق والتحليل الجدلي للواقع؛ فهذا الجهد في العالم الصناعي لم يأت عفو الخاطر ولا كذلك نتاج موروث بيولوجي، ولم تقتصر المعركة على البعد المادي للواقع، بل انصبت أيضاً على بعده الإنساني من خلال نمو العلوم الإنسانية التي هدفت إلى اكتشاف قوانين حركة المجتمع من جانب وأسرار وقوانين الطاقة من جانب آخر".[14]
نقد خطاب الهوية
ليس من المعقول أن نوافق على خطاب من ينادي بالقضاء على فكرة خصوصية الهوية لصالح أفكار العولمة والعالمية، كذلك من غير المعقول أن نوافق على الخطاب الهوياتي المتعالي الذي ينظر إلى الآخر كفرة مجردة، وكأن الآخر الأمريكي يشبه الآخر الأوربي، يشبه الآخر الأسيوي أو الإفريقي مثلا، فالآخر متعدد بتعدد الشعوب وجنسياتها وخصوصية هوياتها، لذا من الأصلح والأفضل لمجتمعاتنا أن نقوم بنقد خطاب الهوية، دون أن نخضع لتأثير جدلية الصراع بين الأنا والآخر. من المهم لنقد خطاب الهوية أن ندعو إلى تنقية عناصر التراث الذي يمثل القسم الأكثر تأثيرا في خطاب الهوية من أفكار تدعو إلى نبذ الآخر، ومعاملته بنوع من التعالي، بل يصل في بعض الأحيان إلى اعتبار هذا الآخر في منزلة إنسانية أقل وأدنى، لأن مثل هذه الأفكار الطائفية والعنصرية هي ما تجعل من الآخر عدوا، وليس شريكا في الإنسانية. إن تنقية عناصر التراث من مثل هذه الأفكار يمكننا من تجديد الخطاب الديني والخطاب الثقافي، فهما خطابان يؤثران في حياتنا بشكل واضح وجلي، بل يحكمان وعينا، ورؤيتنا للعالم والآخر.
هناك أصوات كثيرة تدعو إلى عولمة الثقافة التي تشير إلى التحرر الثقافي من النسق القيمي لثقافة المجتمع المحلي، ورغم أن دعاة عولمة الثقافة يرون أنه يفترض فى الخصائص الثقافية التي تناسب العولمة عدم تعارضها مع الأنساق المحلية للقيم، فهي، نظريا، خصائص تطورت نتيجـة تعاون ثقافات كثيرة تمكنت من تطوير صياغة توفيقية، و: "غني عن البيان أن مثل هذا التفاعل بين الثقافات العالمية ينبغي أن يؤدي في النهاية إلى تقارب عملي قوامه وضع مجموعة من الثوابت العالمية الثقافيــة التي نبغي أن تعمل الثقافات جميعها على احترامها وتعميق جذورها. وتوليد مثل هذه الثوابت وقبولها أمر ممكن إذا هو تم عن طريق الحوار الحقيقي، وحل محل فرض ثوابت ثقافة معينة أو بلد معين على العالم كله، والادعاء بأنها هي وحدها الثوابت العالمية".[15]
وترجع خطورة عولمة الثقافة أن الثقافة تعبير عن الهوية المستقلة لمجتمع ما، ولكون العولمة تقتضي الذوبان والتلاشي للهويات المستقلة ليصير العالم واحدًا؛ فلابد إذن من طمس الثقافة المحلية بما تحمله من قيم وأخلاق وعقائد. وقد تم تعريف العولمة الثقافية بأنها: "محاولة مجتمع ما تعميم نموذجه الثقافي على المجتمعات بوسائل سياسية، واقتصادية، وثقافية، وتقنية متعددة".[16]
كما أن عولمة الثقافة تؤدي إلى: "العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات على بلدان العالم أجمع"، وهي أيضاً أيديولوجياً تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته.. أي محاولة الولايات المتحدة إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها الاقتصادية والسياسية، ويتركز أساسا على عمليتي تحليل وتركيب للكيانات السياسية العالمية، وإعادة صياغته سياسيا واقتصاديا وثقافيا وبشريا، وبالطريقة التي تستجيب للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية".[17]
جدلية العلاقة بين الأنا والآخر
تختلف علاقة الأنا (العربية) بالآخر (الغربي) وتأخذ عدة مستويات، تحددها عدة أشياء، منها: زاوية الرؤية التي ترى بها الأنا الآخر، وتموضع الأنا بالنسبة إلى الآخر، وموقع الآخر من حيث الهيمنة والتسلط، والمصالح التي تحكم كل منهما، ومساحة الحوار التي يمكن أن تنشأ بينهما، مبدئيا سوف نستعرض بشئ من التفصيل تموضع الأنا من الآخر، ومن ثم زاوية الرؤية، رؤية العالم ـ بحسب جولدمان ـ التي تنظر من خلالها الذات إلى ما هو خارجها، وبالتالي تنظر للآخر باعتباره أحد تمثلات هذا الخارج/ الهو.
1ـ وضعية التفوق/ الدونية:
هذه الوضعية تكون فيها الأنا في تموضع يعطيها الإحساس بالتفوق، فترى كل ما يخص الذات الجمعية، وما يخص تراثها هو الأفضل والأعظم والأنقى، وبالتالي تضع الهو في موضع الأقل والدونية، ويصير الآخر في هذه الحالة، إما عدوا يجب محاربته والنيل منه، وإما متآمر يحاول أن يهدم صرح حضارتنا، وينال من هويتنا الثقافية. وما يسبب هذه العداوة هي المركزية الذاتية وانغلاق الذات على ذاتها وهو ما يعكس هوية بسيطة قائمة على التطابق أو ضرب من "الشعور بالأنا"، حسب تصور ابن سينا للإنسان، أو قل بلغة الفيلسوف الألماني هيجل: "وجود لذاته بسيط، مساو لنفسه، ينفي من الذات كل ما هو آخر، فماهيته وموضوعه المطلق هما بالنسبة إليه الأنا". وفي هذا الإطار يمكن استدعاء المقاربة الديكارتية التي تجعل من الأنا وعيا متعاليا لا يشترط الآخر وجوديا ومعرفيا، وقد سبق وأشرنا إلى مقولة سارتر" الآخر هو الجحيم"، وهذه النظرة أنتجت بنية فكرية أقصت الآخر، وأعادت إنتاج التراث الجمعي للأنا.وبسبب هذه النظرة العدائية تنتقل العلاقة بينهما من مرحلة التعايش والسلام إلى مرحلة العدوان والصراع الجدلي.
2ـ وضعية الدونية/ التفوق:
وهي وضعية مفارقة ومضادة ومتباينة مع النظرة الأولى، هنا تتموضع الأنا/ الذات في وضعية أقل بالنسبة إلى الآخر/ الهو، فتنظر إليه نظرة انبهار، وتضعه في موضع المتفوق، وتأمل أن تُصيّر كل تراثها الثقافي، وهويتها الجمعية لصورة مماثلة للآخر، وترى كل ما يأتي منه خيرا، وتدين الذات بشدة، ويصير احتقار الذات في مقابل إعلاء شأن الآخر، ولا يصير الآخر هو الجحيم، بل هو النعيم الذي تسعى إليه الذات، ولعل هذه الأعداد الهائلة التي تهرب كل يوم عبر المتوسط في هجرة غير شرعية، سعيا ورغبة في الوصول لمجتمع الآخر تفسر لنا تلك النظرة، فهؤلاء الذين يلقون بأنفسهم إلى المجهول، يعرفون أنهم قد لا يصلوا أبدا إلى الهناك، إلى الهو، حيث النعيم المرتقب، لكنهم في الغالب يفعلون، قد تتحقق لهم النجاة ويصلون، وقد لا يحدث، ويغرقهم المتوسط في مياهه العميقة.
3ـ وضعية النقد والتأمل:
هي وضعية أكثر عقلانية في نظرة الأنا لهويتها الثقافية، وتاريخها، وميراثها الحضاري، وكذلك في نظرتها للآخر، فالتراث الجمعي للأنا ليس كله خيرا، بل يحتاج إلى تمحيص، وإعادة قراءة لمقولاته الثقافية، فهذه المقولات الثقافية هي ما تنتج البنية الذهنية في نظرتها للذات والهو، كذلك ليس كل ما يأتي من الغرب هو خير في مجمله، بل تحاول الذات العاقلة الناقدة أن تقرأ تاريخ الغرب، وميراثه الحضاري، ومنجزه الآني، وتأخذ منه ما يناسب الذات الجمعية، ولا يتعارض مع هويتها الثقافية، وتطرح عنها ما يتعارض مع هوية هذه الذات.
وحين نتأمل الآخر، فنحن نتأمل الذات، ونعيد اكتشافها، في علاقاتها مع الآخر سياسيا واجتماعيا وحضاريا وثقافيا، وهذه العلاقة قائمة على أساس من حرية الانتقاد، بل يصير الانتقاد والتأمل وضعية صحية، لكن على أية حال تظل العلاقة بين الأنا والآخرة علاقة جديلة افتراضية، فقد تكون الأنا على حساب الآخر، أو إلغاء الآخر لصالح الأنا، وهذه العلاقة قائمة على ثنائية الأشياء، وعلاقة التضاد القائمة بينهما، واستحالة الدمج بين الثنائية الضدية التي تحكم منطق الأشياء. والصراع بين الأنا وربما يعبر الشاعر الألماني "غوته" عن ذلك، وهو يتحدث عن ذاتية اللغة الألمانية بالنسبة إليه، وغيرية اللغات الأخرى، يقول: أنا أحب الألمانية ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن أحب الفرنسية، ولكني أفهم حقيقة أن الفرنسي يحب الفرنسية ويعيشها، ولا يمكن أن يحب الألمانية كما يحب لغته القومية"، وحين نتأمل مقولة جوتة، نكتشف حتى الآخر بالنسبة إلينا ليس له وجه واحد ثابت، بل هو متعدد الوجود أيضا، فلا نستطيع أن نضع كل الأوروبيين والأمريكان في سلة واحدة اسمها "الآخر" بل الإنجليزي يختلف في وجوده وتمثله الثقافي عن الفرنسي وعن الألماني وهكذا. وكذلك العربي ليس هو "الأنا" في مجملها دون ملامح وتفاصيل؛ فالمغربي يختلف عن الخليجي ويختلف عن المصري في تفاصيله، صحيح يجمعه إطار ثقافي وخطاب هوياتي واحد، لكن تظل التفاصيل تفرق بين أنا وأخرى، وبين آخر وآخر مخالف له.
ومن المهم أن تتخلص علاقة الأنا بالآخر من ذهنية العداوة أو الانبهار، بل يجب أن تنبني على ذهنية المساءلة الحضارية والسياسية لإشكالية التقدم والتخلف المتعلقة بالشرق والغرب. كما يجب أن ندرك أن من أهم شروط العلاقة السليمة بين الأنا والآخر هو هذا الإدماج أو الإقحام للآخر في الأنا عبر تجربة الصداقة والتعاطف والحب. بناء على هذا المنطق التركيبي؛ فإن الصداقة لا تقوم على التباين المطلق أو التماثل المطلق، وإنما هي تركيب من التماثل والتباين.
النتائج
1ـ وقوع الذهنية العربية في ثنائيات التراث والمعاصرة الأصالة والحداثة، وهذه الذهنية أحدثت شرخا حقيقيا في المجتمع، فدعاة تقديس التراث يرفضون دعاة المعاصرة، ودعاة المعاصرة يرفضون أصحاب التراث.
2ـ الهوية الثقافية لأي مجتمع تتضمن كل المكونات الثقافية لهذا المجتمع من عادات وتقاليد وأسلوب حياة ومن قبلهم الدين والتراث غير المادي.
3ـ يجب أن نقدر للتراث قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه حاجتنا اليوم.
4ـ يجب أن نقبل على الثقافة المعاصرة، فنقتبس من ثقافات الآخرين ما تحتاج إليه ثقافتنا، لتحقق معاصرتها ومواكبة الثقافات الأخرى، ولاسيما في ميدان العلوم والتقنيات الحديثة؛ فالمواءمة بين الموروث والجديد يحفظ للأمة هويتها، ويجدد طاقتها على النماء والتطور.
5ـ تجديد التراث الثقافي للأنا يقتضي إعطاء الأولوية للواقع على بعض تأويلات النص؛ لأن الواقع في خطر، والنص في أمان. والمصلحة ضائعة تائهة، والنص ثابت قائم.
6ـ لا يتأتّى للثقافة أن تقوم بما ينتظر منها من بناء الإنسان ابن هذه الثقافة، إلاَّ إذا توفّرت لها ثلاثة شروط تعتبر من مصادر القوة في أية ثقافة، ومن أسس النهضة الثقافية، ومن العناصر الأساس لبنية الثقافة العربية.
7- ومن شروط مصادر القوة في أية ثقافة:
أولاً: أن تكون الثقافة ذات مرتكزات تستند إليها ومبادئ تقوم عليها، فلا تكون ثقافة منبتّة الجذور، لا هوية لها تُعرف بها، ولا خصائص لديها تميّزها.
ثانياً: أن تكون الثقافة ذات أفق مفتوح ورؤية شاملة، لها قابليةٌ للتفاعل مع الثقافات الأخرى، ولها استعدادٌ كامنٌ في أصولها للتعامل مع الثقافات الإنسانية من هذه المنطلقات.
ثالثاً: أن تكــون الثقافة ذات منحى إنساني تتخطَّى به المجال المحلّي أو الإقليمي، إلى الآفاق العالمية، من دون أن ينال ذلك من خصوصيتها، أو يؤثّر في طبيعتها، فتكون بذلك ثقافة تَوَاصُل بشري، وتَحاوُرٍ إنساني، وثقافة تفاهم يؤدّي إلى التعايش بين الأمم، وثقافة تعاونٍ يحقق التضامن بين الشعوب.
8ـ حين تكون الثقافة ذات منحى إنساني تكتسب القوةَ والمناعة، كما تكتسب القدرةَ على السموّ والرقيّ، الثقافة القوية القادرة على البناء، هي تلك الثقافة التي تسمو بالإنسان إلى المقام الأرفع والمكانة الأسمى.
9ـ الآخر ليس في كل الأحوال هو العدو؛ فالآخر ليس هو الجحيم بالتعبير الفلسفي، لذا يجب أن نحرص على تنقية التراث الثقافي من عناصر الإقصاء والتهميش للآخر، وعناصر الطائفية والعنصرية ضد هذا الآخر.
10ـ شرط العلاقة السليمة بين الأنا والآخر هو هذا الإدماج أو الإقحام للآخر في الأنا عبر تجربة الصداقة والتعاطف والحب. بناء على هذا المنطق التركيبي، فإن الصداقة لا تقوم على التباين المطلق أو التماثل المطلق، وإنما هي تركيب من التماثل والتباين.
[1]- نشر بمجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، في العدد (33)
[2]- ينظر: حمدي سليمان، روقة عمل قدمت لمؤتمر الثقافة والهوية، ضمن فعاليات مؤتمر أدباء مصر في دورته الثامنة والثلاثين، كتاب الأبحاث ـ 2012، ص77
[3]- هويدا صالح، صورة المثقف في الرواية الجديدة، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة ـ 2011، ص17
[4]- المرجع السابق، ص17
[5]- محمد عابد الجابري ـ التراث والحداثة، دراسات ومناقشات ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ المغرب ـ 1991 ـ ص 20
[6]- عبد الإله بلقيزـ أسئلة الفكر العربي المعاصر ـ كتاب المعرفة للجميع ـ مطبعة النجاح الجديدة ـ المغرب ـ 2001 ـ ص 86
[7]- المرجع السابق ـ ص87
[8]- محمد جابر الأنصاري ـ مساءلة الهزيمة ـ المؤسسات العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ 2001 ـ ص 12
[9]- عبد العزيز حمودة ـ المرايا المقعرة ـ سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ 2001 ـ ص28
[10]- عبد المعطي الدالاتي، عطر السماء، دمشق، مؤسسة الرسالة، ط 1423هـ 2002م، ص 33
[11]- محمد عابد الجابري ـ، التراث والحداثة، مرجع السابق ـ ص29
[12]- برهان غليون ـ اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلطة والتبعية، مكتبة منبولي، ط3، القاهرة، 1990 ـ ص 236
[13]- مطيع المختار ـ نقل التكنولوجيا في البلاد العربية: إجراء تنموي أم أداة للتبعية ـ مركز الوحدة العربية ـ ع 55 ـ بيروت - 1989 ص13
[14]- أحمد صدقي الدجاني ـ رؤى مستقبلية عربية ـ دار المستقبل العربي ـ القاهرة ـ 1983 ـ ص121
[15]- عبد الله عبد الدائم ـ العرب والعالم بين صدام الثقافات وحوار الثقافات، مجلة المستقبـل العربي ـ ع 203، 1996 ص26
[16]- عبد الله أحمد أبو راشد ـ العولمة والنظام العالمي والشرق أوسطية ـ دار الحوار للنشر والتوزيع ـ 1999ـ ص10
[17]- محمد عابد الجابري ـ العولمة والهوية الثقافية ـ دار المستقبل العربي ـ بيروت ـ عدد 228 ـ 1998 ـ ص 137
المصدر:http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D...