أدب الحوار واحترام الرأي الآخر

الدكتور عماد صالح إبراهيم شيخ
 

              إن  الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده ، حتى أتاه اليقين ، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .                 

   وبعد .

         في عصر العولمة وبعد أن أصبح العالم قرية صغيرة بفضل التقنيات الحديثة التي وصل إليها الإنسان من القنوات الفضائية، وشبكة الانترنت ، والهواتف النقالة والخلوية ،   يتابع المرء عبر الشاشة الصغيرة الموجودة في كل البيوت تقريبا، بل وفي المؤسسات العامة ، الكثير من البرامج والأحداث ، فيشاهد المحاضرات والندوات والمناظرات ، العلمية والأدبية والثقافية والسياسية ....الخ والتي يغلب عليها في العادة الأسلوب الحواري الشيق الذي يدفع المشاهد إلى متابعة هذه البرامج ويشده إليها والتفاعل معها ، بل ويحمله – أحيانا - على الاتصال بهذه البرامج ليشارك فيها للتعبير عما يجول في خاطره من أفكار وآراء حول موضوع الحوار المطروح .

          ولكن وللأسف فإن بعض هذه البرامج يخرج عن الهدف  الموضوع الذي تم التخطيط له، و يتحول في كثير من الأحيان إلى مهاترات واتهامات دون دليل بل وإلى أكاذيب أحيانا أخرى ، فتنقلب الأمور رأسا على عقب ، وبدلا من أن تكون هادفة ذات معنى  تتحول إلى أمور في غاية الإسفاف والانحطاط والتعصب للرأي وتجاهل الرأي الآخر .

          ولاشك  أن اتباع المنهج السليم في الحوار والاختلاف  المنبثق من مبادئ الدين الحنيف ، يمنع أطراف الحوار من الوقوع في المزالق الخطرة ، ويبعدهم عن الشقاق والبغضاء .ويجعل الحوار مثمرا وهادفا وبناءً .

              إن الإسلام دين الحوار ،  دين الدعوة،  ويحدد الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، لقد حاور القرآن الكريم الكفار الوثنيين ، وحاور أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، قال تعالى:" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون"([1]). في هذه الآية دعوة صريحة للحوار  وفيها دليل على أن الإسلام يدعو إلى حوار الحضارات والديانات ،  ولا يدعو إلى صراع الحضارات كما يدعي مفكرو الغرب وعلمائهم.

مفــهـوم الحـوار

   بدأ الحوار قبل وجود البشرية ، ففي اللحظة التي أخبر الله عز وجل الملائكة أنه سيخلق بشرا يجعله خليفة في الأرض ،  بدأ الملائكة بالاستفسار ، ودار حوار بين الملائكة وبين صاحب العزة جل شأنه ، قال تعالى :" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ".([2])" ثم أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا   إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ، وبعد ذلك دار حوار بين الله عز وجل وبين إبليس اللعين انتهى بطلب من إبليس بإمهاله إلى يوم القيامة فمنحه الله عز وجل هذه الفرصة .   

الـحوار في اللغة :

     الحوار هو المحاورة والمجاوبة . والتحاور هو التجاوب ، وقولنا : هم يتحاورون : أي تراجعون في الكلام ، وتحاور القوم :أي تراجعوا الكلام فيما بينهم ، قال تعالى :"والله يسمع تحاوركما "([3]) وحاوره محاورة وحوارا أي جاوبه وجادله ، قال تعالى :" قال له صاحبه وهو يحاوره".([4]) وقد سمي الحوار حوارا لأنه يدخل في عمق الأشياء وقعرها وأصلها , وذلك لأن الحور  هو القعر والعمق ، ومن ذلك قولهم هو بعيد الحور بعيد القعر - أي عاقل - متعمق . والحوار حديث يجري بين شخصين أو أكثر سواء في القصة أو في المسرحية أو في النقاش أو الجدل .([5] ) 

الـحوار في الاصطلاح  :

                   أن يتناول  الحديث طرفان أو أكثر عن طريق السؤال والجواب بشرط وحدة الموضوع أو الهدف ،  فيتبادلان النقاش حول أمر معين ، وقد يصلان إلى نتيجة وقد لا يقنع أحدهما الآخـر ولكن السامع يأخذ العبرة ويكون لنفسه موقفا([6]).

           الحوار هو الالتقاء بين طرفين لهما وجهات نظر مختلفة وقنا عات متباينة . وقد يحمل كل طرف عقدة تجاه الآخر بسبب الأجواء المشحونة بالتعصب والعداء . فالحوار يجعل كلاًّ منهما يلتقي الآخر ، يحاوره ، يطرح أفكاره عليه ، ببذل جهوده لإقناعه. هذه العملية تساهم في تقليص حدة التوتر والتعصب تجاه أحدهما للآخر حين يلتقون على مفاهيم مشتركة تبعث مشاعر الود والطمأنينة ([7]).

     وطريقة الحوار شيقة تُشوق الناس إلى الاستماع والتعلم والاستيعاب ومن ثم التأثر والالتزام بمادة  الحوار أسئلة وإجابات صحيحة ، وهذه الطريقة تعتمد على إيقاظ التفكير وإثارة الانتباه إلى الحقائق التي يراد الوصول إليها ، وهي ناجحة في التعليم والتوجيه ونشر الفكر والدعوة إلى الإسلام ([8]).

والقرآن الكريم كتاب حوار ، ينفتح على المشركين والملحدين والمنافقين وأهل الكتاب وكل (الآخر) المغاير لنا في الدين أو المذهب أو الاجتهاد . لذلك يجب أن نعمل على إيجاد مجتمع الحوار الذي ينفتح فيه الإسلام على كل الأفكار المضادة ، وينفتح المجتمع المسلم على المجتمعات الأخرى . ولا بد من تحصين الحوار بالضوابط التي تمنع استغلاله لأغراض أخرى ، فإن وجود المشاكل فيه لا يعني إلغاءه ، بل يعني العمل على دارسة هذه المشاكل ، ليجتمع لنا الحوار والمسؤولية والحرية المنضبطة في نطاق النظام العام للأمّة .

              وقد استخدم القرآن الكريم أساليب متعددة للحوار من أجل توصيل أهدافه التربوية للناس فاستخدم الحوار الوصفي والحوار القصصي والتربوي التعليمي والتعبدي ...، وكان لهذه الأساليب البديعة الأثر البالغ في نفوس الناس فما استمع أحد لهذا القرآن إلا وبادر بالنطق في الشهادة معلنا دخوله في هذا الدين وملتزما بكل ما فيه من أوامر ونواهي .

 أنواع الحوار

الحوار مهما اختلفت أشكاله وألوانه ومهما تعددت سبله وطرقه ومسالكه يمكن تقسيمه إلى نوعين اثنين هما:

  1. الحوار الإيجابي الهادف البناء
  2. الحوار السلبي المذموم

وسنتحدث فيما يلي عن هذين النوعين:

   1-  الحوار الإيجابي الهادف البناء

   وهو الحوار الذي يقصد به الوصول إلى الحقيقة من خلال المناقشة والمناظرة البناءة وتبادل

الآراء والخبرات بالدليل والحجة والبرهــــان ، وحتى يكون الحوار هادفا وبناء لا بد له من عدة

شروط منها :

  1. أن يكون الهدف من الحوار الوصول إلى الحقيقة مهما كانت وأن يتوفر الإخلاص في ذلك لدى طرفي الحوار
  2. أن تكون القضية المطروحة للحوار تستحق ذلك .
  3. الالتزام بالموضوعية والصدق والبعد عن المراء والجدل .
  4. حوار تسوده المحبة والمسئولية والرعاية وإنكار الذات .
  5. حوار متكافئ يعطي كلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي ويحترم الرأي الآخر
  6. حوار واقعي يتصل إيجابيا بالحياة اليومية الواقعية .

ومن أمثلة  الحوار الإيجابي في التاريخ الإسلامي ما حدث في غزوة بدر حين تجمع المسلمون للقاء الكفار وكانت آبار المياه أمامهم ، وهنا نهض الحباب بن المنذر رضي الله عنه وسأل رسول الله r    : أهو منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فأجاب رسول الله r " بل هو الرأي والحرب والمكيدة".

فقال الحباب : يا رسول الله ما هذا بمنزل وأشار على رسول الله r  بالوقوف بحيث تكون آبار المياه خلف المسلمين فلا يستطيع المشركون الوصول إليها، وفعلاً أخذ الرسول r بهذا الرأي الصائب وكان ذلك أحد عوامل النصر في تلك المعركة .([9])

وإذا حاولنا تحليل هذا الموقف نجد أن الحباب بن المنذر كان مسلما إيجابيا على الرغم من أنه من عامة المسلمين وكان أمامه من الأعذار لكي يسكت أو يعطل تفكيره فهو جندي تحت لواء رسول الله r الذي يتلقى الوحي من السماء وهناك كبار الصحابة ، أصحاب الرأي والمشورة ولكن كل هذه الأسباب لم تمنعه من إعمال فكرة ، ولم تمنعه من الجهر برأيه الصائب، ولكنه مع ذلك التزم الأدب الرفيع في الجهر بهذا الرأي فتساءل أولا إن كان هذا الموقف وحي من عند الله أم أنه اجتهاد بشرى فلما عرف انه اجتهاد بشرى وجد ذلك مجالا لطرح رؤيته الصائبة ولم يجد الرسول r غضاضة في الأخذ برأي واحد من عامة المسلمين وهذا الموقف يعطينا انطباعا هاما عن الجو العام السائد في الجماعة المسلمة آنذاك، ذلك الجو المليء بالثقة والمحبة والإيجابية وإبداء النصيحة وتقبل النصيحة.

وإذا كانت النظم الديمقراطية الحديثة تسمح للمواطن أن يقول رأيه إذا أراد ذلك، فإن الإسلام يرتقى فوق ذلك حيث أنه يوجب على الإنسان أن يقول رأيه حتى ولو كان جنديا من عامة الناس تحت لواء رسول الله r وهذا المستوى من حرية الرأي لا نجده الآن في أكثر الدول مناداة بالحرية فلا يجرؤ جندي أن يشير على القائد الأعلى للقوات المسلحة في أية دولة عصرية بتغيير الخطة العسكرية حيث لا يزال الحوار الفوقي السلطوي هو السائد في المجالات العسكرية على وجه الخصوص حتى في أكثر الدول تقدماً. [10][1]

  1.  الحوار السلبي المذموم

هو الحوار الذي يقصد به مجرد الجدل ودون وضع هدف أو غاية محددة له ، أو إضمار أحد طرفي الحوار لنية خبيثة يقصد الوصول إليها من خلال الحوار .

       والسؤال الذي يطرح هنا: متى يكون الحوار سلبيا أو  مذموما ؟

     يكون الحوار مذموما وسلبيا إذا اتصف بالصفات التالية :

  1. الحوار في قضايا لا يجوز الحوار فيها .
  2. أن يكون هدف الحوار إثبات الذات وإبراز القوة العلمية والثقافية والعقلية أو العضلية أحيانا
  3. وجود قناعات سابقة لدى أحد الطرفين أو كليهما لا ينوي التخلي عنها مهما كان الأمر ،حتى لو ثبت خطؤها
  4. دخول الهوى في الحوار وتحوله إلى المنازعة والخصومة والجدال

ومن أمثلة الحوار السلبي المذموم :([11])

  1.  الحوار المزدوج: وهنا يعطى ظاهر الكلام معنى غير ما يعطيه باطنة لكثرة ما يحتويه من التورية والألفاظ المبهمة وهو يهدف إلى إرباك الطرف الآخر ودلالاته أنه نوع من العدوان الخبيث.وهذا ما أشار إليه القرآن عندما تحث عن المنافقين قال تعالى : " وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ

إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون ([12])    فهو حوار المنافقين إذن .

  1.  الحوار السلطوي (اسمع واستجب) : نجد هذا النوع من الحوار سائدا على كثير من المستويات ، فهناك الأب المتسلط والأم المتسلطة والمدرس المتسلط والمسئول المتسلط ..الخ وهو نوع شديد من العدوان حيث يلغي أحد الأطراف كيان الطرف الآخر ويعتبره أدنى من أن يحاور ، بل عليه فقط السماع للأوامر الفوقية والاستجابة دون مناقشة أو تضجر وهذا النوع من الحوار فضلا عن أنه إلغاء لكيان (وحرية) طرف لحساب الطرف آخر فهو يلغى ويحبط القدرات الإبداعية للطرف المقهور فيؤثر سلبيا على الطرفين وعلى الأمة بأكملها .
  2.     الحوار ألإلغائي أو التسفيهي (كل ما عداي خطأ ) يصر أحد طرفي الحوار على ألا يرى شيئا غير رأيه ،وهو لا يكتفي بهذا بل يتنكر لأي رؤية أخرى ويسفهها ويلغيها وهذا النوع يجمع كل سيئات الحوار السلطوي وحوار الطريق المسدود.وهذا مسلك فرعون ، قال تعالى: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد ([13])  فأحد المتحاورين يصمم على إلغاء الطرف الثاني نهائيا ، ولا يعترف بوجوده  بل ويطالبه بالتسليم له بكل ما يقول ويدعي .
  3.    الحوار المعاكس (عكسك دائما): حين يتجه أحد طرفي الحوار يمينا ويحاول الطرف الآخر الاتجاه يسارا والعكس بالعكس وهو رغبة في إثبات الذات بالتميز والاختلاف ولو كان ذلك على حساب جوهر الحقيقة . وأخطر ما في هذا الأمر أن تكون  المعاكسة هدفا في حد ذاتها ، وأن يتمادى المتحاوران في معاكساتهما حتى يصل الأمر إلى حد القذف والسب والشتم واتهام النوايا ،

أهمية الحوار وضرورته

للحوار أهمية بالغة في  حياة الناس  وتعود هذه الأهمية للأمور التالية :

أولا : الحوار  ضرورة بشرية إنسانية:

          قال الله تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير"" ([14])الله عز وجل هو الذي خلق الناس وهو الأعلم بأحوالهم ، وقد جعلهم شعوبا وقبائل وجماعات ليتعارفوا وأوجد بينهم من الصلات ما تؤهلهم  للتآلف والتآخي ،الله عز وجل ينادي الناس ليطلعهم على الغاية من خلقهم شعوبا وقبائل  ، إن الغاية ليست التنافر والخصام ، إنما التعارف والوئام ، وأما اختلاف الألسنة والألوان واختلاف الطبائع والأخلاق والمواهب والاستعدادات فلا يقتضي النزاع والشقاق بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف ([15])    قال رسول اللهr  :" كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب  ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان ([16])"

  إذن فالله عز وجل خلق الناس للتعارف والتآلف وهذا لا يتم إلا من خلال التخاطب والحوار والنقاش بين الناس ، لذلك نقول إن الحوار ضرورة بشرية إنسانية  .

ثانيا : الحوار ضرورة دعوية     

     الدعوة إلى الإسلام فريضة شرعية على كل مسلم ، قال تعالى :" وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون"([17])   وقال رسول الله   r :" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "([18]).   وقال رسول الله   r   :"لتأمرن بالمعروف  ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم "([19]).،

 وقال تعالى :" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون"([20]).هذه الآية دعوة صريحة للحوار .

ثالثا :الحوار ضرورة اجتماعية

لا يستطيع الإنسان أن يعيش منفردا ، فهو كما يقول الحكماء مدني بالطبع ، وهو كائن اجتماعي لا بد له من الاختلاط والتعايش مع الآخرين ، كما أنه لا يستطيع تأمين حاجاته الفطرية التي فطره الله تعالى عليها كالطعام والشراب والكساء والسكن والزواج ....الخ بمفرده ، قال تعالى :" ليتخذ بعضكم بعضا سخريا ."فالله عز وجل خلق الناس وجعلهم مستويات متفاوتة حتى يستفيد بعضهم من بعض ، وليخدم بعضهم بعضا .وهذا لا يتم إلا من خلال الحوار البنّاء  والتفاهم والتخاطب .

رابعا : الحوار ضرورة علمية

          قال تعالى : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .([21])" أمر الله عز وجل عباده الراغبين في العلم أن يسألوا أصحاب العلم والذكر ويحاوروهم .

             من هنا فإن من أراد العلم  لابد له أن يجلس إلى العلماء والفقهاء ويسمع منهم ويناقشهم ، وقال بعض العلماء بضرورة تلقي العلم من العلماء والمعلمين والشيوخ ولم يحبذوا  أن   يأخذ الطالب علومه من الكتب وحدها دون العلماء ، وقد ورد في رسائل إخوان الصفا ( إنه ليس في وسع إنسان معرفة العلم في أول مرتباته ،ومن أجل هذا يحتاج كل إنسان إلى معلم أو مؤدب أو أستاذ في تعلمه وتخلقه وأقاويله واعتقاده وأعماله وخصائصه([22]) ) .

      ولقد استخدم الرسول r‏ الحوار في تعليم أصحابه  في أكثر من موضع ،

خامساً : الحوار ضرورة تربوية

                          وطريقة الحوار شيقة تُشوّقُ الناس إلى الاستماع والتعلم والاستيعاب ومن ثم التأثر والالتزام بمادة الحوار أسئلة وإجابات صحيحة ، وهذه الطريقة تعتمد على إيقاظ التفكير وإثارة الانتباه إلى الحقائق التي يراد الوصول إليها ، وهي ناجحة في التعليم والتوجيه ونشر الفكر والدعوة إلى الإسلام ([23]).

              وقد استخدم القرآن الكريم أساليب متعددة للحوار من أجل توصيل أهدافه التربوية للناس فاستخدم الحوار الوصفي والحوار القصصي والجدلي والتعبدي ، وكان لهذه الأسباب البديعة الأثر البالغ في نفوس الناس فما استمع أحد لهذا القرآن إلا وبادر بالنطق في الشهادة معلنا دخوله في هذا الدين وملتزما بكل ما فيه من أوامر ونواهي .  

        من هنا فعلى من يتصدون للعمل في التربية،  ويتحملون أعبائها خاصة من المعلمين والمربين أن لا ينسون هذه الوسيلة الفعالة في التربية ، وعليهم أن يكثروا من طرح الأسئلة ليستفزوا بها المتعلمين ويحملوهم على الحوار والنقاش ، فالحوار يبدد الملل والسآمة عن المتعلم ويجعله متوقد الذهن حاضر البديهة من أجل أن تكون مشاركته في الحوار بنّاءة وَتدخُلَهُ فيه مفيد ، وكذلك فإن على المربي أن يركز الحوار حول النقاط الهامة في الموضوع الذي يطرحه على المتعلمين  و أن يحسن إعداد الأسئلة الحوارية التي سيطرحها في موقفه التعليمي ويتدرج بها حسب الأساليب  التربوية السليمة .

فوائد الــــحوار:

1-تجديد الفكر الإسلامي والنهوض بمشروعه الحضاري في إطار ممارسة الفكر بطرقه السليمة عبر مقارعة الدليل بالدليل، والحجة بالحجة، والعقل بالعقل في حوار ينفتح فيه الجميع وتتبادل فيه الآراء والطروحات بموضوعية وعلمية بعيداً عن التعصب([24])

2-  الحوار هو المنهج السليم في حل المشكلات، وهو الطريق إلى الاعتراف بالآخر والتعايش معه.. وفي الدعوة إلى الحوار دعوة إلى التعارف والتآلُف واقتراب الإنسان من أخيه الإنسان 3- الحوار أسلوب لتصحيح العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة ، والدعوة إلى الإسلام ، فالحوار الهادئ البناء والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يشجع الآخرين على الدخول في دين الله عز وجل ،وتقبل الأفكار السليمة والتخلي عن الأفكار المنحرفة  الهابطة .

4- الحوار وسيلة للتعامل مع أهل الديانات السابقة  أو ما يسمي بحوار الأديان الذي دعا إليه الإسلام ، قال تعالى

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون ( ([25]

    إن هذه الآية تمثل دعوة إلى حوار هدفه التوصل إلى أصل الدين الذي اتفقت عليه جميع دعوات الأنبياء .

  5- الحوار هو سبيل تفاهم الحضارات ولقاء الشعوب ، ومن خلاله يمكن أن تتلاقى الحضارات وتستفيد من بعضها البعض ، وتتكامل الثقافة ، وبالحوار نبتعد عن صراع الحضارات التي يدعو إليه بعض الغربيين  المتعصبين  الذين ينطلقون من منطلق التفوق المطلق لمدنيتهم الغربية المعاصرة ، ناسين أن أصول الحضارة التي هم فيها ليس لهم فيها نصيب .

6- الابتعاد عن الأحكام التجريدية في قضايا الواقع ، والوصول إلى وضوح الرؤية حول قضية ما و استقصاء جوانب الخلاف ما أمكن ، وتجلية ما بين المتحاورين من قضايا خلافية مما قد يوفر حالة من الود ،ولذلك قيل "  إن اختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية " . كما أن الاستقصاء فيها يجنب النظرات الانفعالية أو القناعات المسبقة .

  1. للحوار فوائد عديدة على المستوى التعليمي، تفوق في آثارها كثيرا من الأنشطة التعليمية .

    ونورد هنا بعض الأصول الضرورية للحوار: 

1.سلوك الطرق العلمية والتزامها ، من تقديم الأولى المثبتة أو المرجحة للدعوى ، ومن صحة الثقل في الأمور المنقولة قال تعالى : (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). وهكذا يثبِّت القرآن منهجاً للحوار على أساس البرهان والعقل والتدبُّر والتفكُّر والمسلّمات الثابتة لدى الطرفـين ، بعيداً عن العصـبيّة والتحجّر الانتمائي الذي لا يملك دليلاً ، ولا يقوم على أساس الوعي . ولذا قال العلماء : إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدعياً فالدليل ([26]): .
2.الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلَّمة سواء كانت عقلية أم نقلية كأوامر الشرع الصريحة كالأمر بالحجاب ونحوه ومن الخطأ غير المقصود عند بعض الكاتبين إثارة قضية حسمها الشرع كالحجاب بقصد إثباتها وصلاحيتها.
3. التجرد وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتـزام بأدب الحوار : قال الشافعي رحمه الله : " ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه ، وما ناظرني فباليت ! أظهرت الحجة على لسانه أو لساني "(
[27]).
 4. أهلية المحاور ، فمن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل ، أو من لا يعرف الحق ، أو من لا يجيد الدفاع عن الحق ، أو من لا يدرك مسالك الباطل .
5. الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتـزام الجاد بها ، وبما يترتب عليها ، قال الشافعي رحمه الله : " ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجة إلا عظم في عيني ولا ردها إلا سقط من عيني (
[28])".

6 ـ الأسلوب السلمي والهادئ في العرض والنقد بعيداً عن العنف والحدة.

7 ـ الأدب في الكلام وتحاشي الكلمات التي تجرح الخصم وتسيء إلى كرامته أو شرفه أو تسفّه عقيدته ، أو تؤدي إلى سبّه وشتمه .

8 ـ عدم التقول على الطرف الآخر وطرح مفاهيم وآراء منسوبة إليه وهو يرفضها أو استخدام نصوص وأحاديث يشك أنها ضعيفة وغير معتبرة في عقيدته أو مذهبه .

9 ـ عدم استخدام مصادر خصوم الطرف الآخر لأنها تتضمن آراء غير حيادية بل عدائية في الغالب ، بل يجب استخدام مصادر الطرف الآخر مما يعتقد أنها صحيحة وموثوقة لديه .

10 ـ عدم إحراج الخصم بشكل يضطر معها للعناد حفاظاً على كرامته وموقعه ، بل محاولة إقناعه بيسر وسهولة ، ومنحه وقتاً كافياً للتفكير والتأمل ، فلسنا معه في حلبة صراع بل مناقشة أفكار .

11 ـ لا يعني وجود طرفين في مناظرة أو حوار أن أحدهما يحمل كل الحقيقة والآخر لا يحمل شيئاً من الحق ، بل هناك حقائق يجب على الطرف الآخر أن يسلّم بها لتكون قاسماً مشتركاً في المرحلة الأولى من الحوار ، ثم يناقشان ما اختلفا عليه بهدوء وصبر ولين .

  آداب الحــــــوار:

                  لا بد من آداب يتأدب بها المسلم أثناء حواره ومناقشته للناس حتى يكون عمله مقبولا عند الله عز وجل ، فالمسلم  مؤدب مع الله عز وجل ، لا يعترض على حكم الله بل يتقبل حكم الله راضيا مطمئنا ، والمسلم مؤدب مع رسول الله r   فلا يعترض على أحكامه .

                 والمسام مؤدب مع الناس كل الناس على اختلاف هيئاتهم وصفاتهم ،وأشكالهم وألوانهم وجنسياتهم ، ومن هنا أرى أن هناك آدابا لا بد منها في الحوار ومن هذه الآداب :

  1. الإخلاص :

    لابد لكل عمل من نية ، ونية الإنسان خير من عمله ، ورسول الله r   يقول : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى "([29])، فالأصل في المسلم أنّ  نيّته في الحوار مرضاة الله عز وجل .

  1. الصـــدق :

        أن يكون المحاور صادقا في حواره

  • صدق الحديث قال  r " إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن  الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا "([30]) .
  • الصدق في نقل الروايات التي يريد المحاور تقديمها والتحدث بها فلا يجوز أن ينسج القصص من خياله أو يحول القصص ويبدلها كما يشاء لتناسب موضوع حواره .
  • الأمانة العلمية في نسب الأمور إلى أصحابها وأن لا يسمح لنفسه بادعاء ما ليس له .
  • الصدق في الوعد ، إذا حدد من أجل الحوار وعدم الاختلاف . 
  1. مراعاة آداب مجلس الحوار
    • الدخول إلى مجلس الحوار بإذن أصحابه
    • مصافحة من يجلس في مجلس الحوار .
    • الجلوس في المكان المخصص له وعدم إيذاء الناس بتخطي الرقاب والجلوس بينهم دون إذن منهم ، يقول الإمام الشافعي([31])  :                

إذا رمت الدخول على أناس       فكن منهم بمنزلة الأقل

فإن رفعوك فإن الفضل منهم      وإن أخروك فقل هذا محلي

  • احترام من كان في المجلس لاسيما إذا كان عالما أو مسئولا . قال الشافعي " كنت أتصفح الورق بين يدي مالك برفق لئلا يسمع وقعها ." وقال الربيع تلميذ الشافعي " والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر ."([32]
  1. مراعاة آداب الحديث
  1. التمهل في الكلام أثناء الحديث ، فعلى المتحدث أن يتأنّى حتى يفهم الناس ما يريد عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  لا يسرد الكلام كسردكم إذا تكلم  تكلم  بكلام فصل  يحفظه من سمعه "([33])
  2. مخاطبة الناس على قدر عقولهم ، وعدم الارتفاع بمستوى الحديث عن مستوى الناس الذين يتحدث معهم أو يناقشهم اقتداء في ذلك بسيد البشر r حيث قال :" نحن معاشر الأنبيــــــاء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم "([34])
  3. الإصغاء إلى المتحدث بشكل جيد حتى تشعره باهتمامك وحتى تفهم منه ما يريد قوله .
  4. عدم مقاطعة المتحدث أثناء حديثه ، هذا أدب لا يغيب عن بال المسلم أبدا فهو يستمع ولا يقاطع حتى ينتهي المتحدث من حديثه وبعد ذلك يبدأ بالرد والنقاش ، ولنأخذ العبرة من والقدرة في ذلك من رسول الله r  .
  5. الإقبال على الجلساء جميعا ، وأن يشعر المتحدث كل من يجلس في مجلسه أن الكلام موجه له بشكل خاص ، حتى يتابع كل واحد منهم الحديث باهتمام دون ملل .
  6. أن يقتصر الكلام على ما يفيد فقط وخير الكلام ما قل ودل ، فلا يزيد في الكلام بحيث يمل السامع ، ولا يختصر اختصارا يُذهب المعنى .الأصل في المتحدث أن لا يرفع صوته أكثر مما يحتاج إليه السامع فلا  يرفعه بحيث يؤذي السامعين ولا يخفضه حتى لا يسمعه أحد ، .
  1. الالتزام بأهداف الحوار وموضوعيته :-

          إذا جرى الحوار بين طرفين فلا بد من تحقيق الهدف والغاية التي من أجلها بدأ الحوار ، ولا يجوز الخروج عن موضوع الحوار والخوض في أمور جانبية بعيدة عن الهدف الأصلي للحوار .

         ومن سوء الأدب أن يستدرج أحد الطرفين الطرف الآخر لإيصاله إلى طريق مسدود بعيدا عن الموضوع الأصلي ، أو فتح موضوع جديد لا يمت للموضوع السابق بصلة وهكذا يضيع الجهد والوقت .    

  1. الاحترام المتبادل بين طرفي الحوار :-

                    حتى ينجح الحوار لا بد من  أن يسود الاحترام المتبادل بين المتحاورين ، فلا يجوز استعمال الألفاظ الجارحة أو اللجوء إلى نبش الحياة الخاصة لكل منهما ولإدراجها في موضوع الحوار أو اللجوء إلى السخرية  والاستهزاء ، فلا يجوز أن يسخر طرف من طرف ولا يجوز التنابز بالألقاب ، ومما يحز في النفس في هذا المجال أن كثيرا من الناس لا يتحمل النقد ولا مجرد المعاتبة التي يقصد فيها النصح والإرشاد ، فيثور ويغضب  فيكون رده بالسخرية والاستهزاء .

  1. مراعاة شعور الذين يتابعون الحوار

       يتابع الحوار في الغالب عدد لا بأس به من الناس ، وهنا يجب على طرفيّ الحوار مراعاة شعورهم ، بأن لا يتعرضوا لأشخاصهم أو هيئاتهم أو أفكارهم بالنقد والتجريح ، وعدم إيذائهم بالألفاظ القبيحة أو الجارحة  أو الخارجة عن الأدب ، حتى وإن كان الاختلاف بين المتحاوران اختلافا كبيرا .

  1.  البعد عن الغيبة والنميمة والتجسس

       أن يحذر المتحاورون  الخوض في أعراض الناس أو صفاتهم بلا مبرر شرعي حتى لا يقعا في المحذور الشرعي ويقعا في الإثم ، قال رسول الله r  " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ، قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ."([35]) .

  1. عدم إفشــــاء الأســــرار

       في كثير مكن الأحيان يطول الحوار ،وهذا يعني أن يكثر الكلام وكثرة الكلام توقع في المهالك ، فيسرب بعض طرفي الحوار أسرارا ينبغي أن لا تقال وأن تبق محفوظة وكشفها فيه خطر جسيم فليحذر المتحاورون من ذلك .

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك