حتى لا يصبح ابنك إرهابياً..!! البيئة الأسرية بحاجة للفكر النقدي والتأملي والمعرفة والقدرة على الحوار

مساعد إبراهيم الطيار
 

يقول العالم الفرنسي جيرالد برونر أستاذ علم الاجتماع في جامعة ديدرو بباريس «المتطرّفون هم أفراد قادرون على التضحية بأثمن ما عندهم (وظائفهم، حرّيتهم…) ولاسيّما حياتهم، وفي كثير من الحالات حياة الآخرين أيضاً، باسم فكرة» وقد يضحون بأحد أفراد الأسرة بمجرد إيمانهم بمعتقد مزيف، تمكن المجرم من استغلال عقول الضحايا واستدراجهم والتغرير بهم وتحريكهم كيفما يريد، فمن المؤلم حقاً أن تكتشف الأسرة

-ولو بعد حين- بأن أحد أفرادها متطرفاً أو ضمن تنظيم إرهابي أو ضمن الانتحاريين، وتعيش في دائرة الحسرة والندامة.

الأسرة هي أولى المؤسسات الاجتماعية التي يتفاعل معها الطفل بصورة مباشرة، ويتلقى أساسيات التربية والتنشئة الاجتماعية، ويستقي منها قيماً وعادات وتقاليد المجتمع، ويتم من خلالها بناء العقول وتنميتها وأعمالها وتحريكها إلى جانب المؤسسة الاجتماعية الثانية المدرسة.

يقول كارل روجرز عالم النفس الأمريكي «أصبح بمقدورنا الآن استغلال ما حصلنا عليه من معارف في السيطرة على العقول، فلدينا من الوسائل والأساليب المستحدثة ما لم يخطر لأحد على بال، وما يمكننا من سلب إرادة أيّاً كان، وتوجيهه إلى ما نريد»، ولعل أخطر ما يواجه الفرد في مجتمعاتنا هو العقل القابل للاستلاب بواسطة تعدد الوسائل والأساليب الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة، هذا العقل الذي ميّز الله به الإنسان عن المخلوقات وجعله مدار التكليف وتحمل أعباء المسؤولية، وحثه على النظر في ملكوته بالتفكير، وإعمال العقل والتدبر والتفكير الناقد كوسيلة اكتشاف سنن الكون وفهمها والتبصر بالحقائق، وقد وصل عدد الآيات التي وردت فيها مشتقات العقل ووظائفه والدعوة لإعماله نحو 644 آية لأهميته في الوصول إلى الحقائق.

فالأبناء الذين يعانون من الانغلاق الفكري والجمود في التفكير هم أكثر الفئات تعرضاً للانحرافات الفكرية والعقدية والسلوكية والقيمية، وتقع المسؤولية على مؤسسات المجتمع بدءاً من الأسرة التي تعتبر اللبنة الأساسية والأولى في تحريك العقول والعناية بها وتنميتها والمحافظة عليها، وحتى لا تكون ضحية للاستلاب العقلي وسرقة العقول والتحكم بها وسلب حريتها، يرى فيه الفرد ذاك التصدع والصدام القائم بين ما هو ذاتي وما هو واقعي، وفي هذا الصدام فقدان لسيطرة الفردية، ولعل فقدان السيطرة واحد من أبرز وجوه الاستلاب و الاغتراب التي نعيشها اليوم في عالمنا المعاصر الذي تحول الفرد فيه إلى مجرد «أداة شطرنج» تحركها خيوط سلطة خفية فيتحول المجتمع المعاصر إلى ساحة شطرنج.

وعندما نشاهد ضحايا التغرير في بلادنا نجد أنهم متنوعي الخصائص النفسية والاجتماعية والأسرية والتربوية، لكنهم يشتركون في التعصب الأعمى للمعتقد المغروس في عقولهم، الذي لا يقبل التفكير أو النقد أو الحوار أو التمييز، مذعنين لرموزهم ولاءً مطلقاً وتبعية عمياء وعبودية فكر، حيث يمر المغرر به عبر مراحل أربع وهي: الاستقطاب والعزل والتغذية الفكرية فالتوظيف، فهؤلاء يختارون ضحيتهم بعناية فائقة وهو ما يسمى الاستقطاب، حيث يتم التركيز على المنغلقين فكرياً غير القادرين على الحوار ولا على الجرأة في المناقشة، ثم تبدأ مرحلة العزل المجتمعي لا يستطيع بموجبها أن يتواصل مع مجتمعه أو يقيم علاقة صحيحة وصحية معه، ومن مؤشراتها السرية في التعاملات والتكتم في العلاقات والخروج المتكرر بحجج مختلفة، وعدم المشاركة الأسرية، والتشكيك بالعلماء، وفي هذه المرحلة تتمكن قيادات التنظيم من عزل أفرادها وتهيئتهم لمرحلة التغذية الفكرية، وتتبع مرحلة العزل مرحلة التوجيه من خلال الولوج لعقولهم وفكرهم وبرمجتها لتنظيمات إرهابية وانحرافات فكرية حتى يكون مستسلماً وخاضعاً للفكر، ومهيئاً لتنفيذ الأوامر وتحويل الأفكار المحرض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة، والتضحية بأثمن ما عنده حتى ولو كانت النفس أو الوالدين أو الأقرباء. فعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «إن بين يدي الساعة الهرج» قالوا: وما الهرج؟ قال «القتل»، قالوا: أكثر مما نقتل؟ إنا لنقتل كل عام أكثر من سبعين ألفاً، قال «إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضاً»، قالوا: ومعنا عقول يومئذ؟ قال: «إنه لتنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء». قال أبو موسى: والذي نفسي بيده، ما أجد لي ولكم منها مخرجاً، إن أدركتني وإياكم إلا أن نخرج منها كما دخلنا فيها ولم نصب دماً ولا مالاً. وهذا يعني أنه عندما تُنزع العقول تحلّ محلها الأهواء، أهواء الجاه والاستعلاء والاستكبار، أهواء القتل وإذلال الآخرين ظناً من أن العظمة تبنى فوق جماجم الناس، وضرب جلودهم وإذلالهم، وظناً بأن الرعب يجب أن يتحقق مسيرة شهر بالقتل والتفجير والتدمير وقد نسوا آيات الرحمة والإحسان, وأن القوة هي لحماية العدل والحق.

وهنا نأتي لأهمية دور الأسرة ومكوناتها في تغذية العقول لأفرادها على جانب إشباع حاجاته النفسية والاجتماعية والعاطفية، فالبيئة الأسرية التي يغلف عليها الجمود الفكري يتشربون الوهم تلقائياً، وتتوارثه الأجيال، ولا يخرج المجتمع من هذا التوارث إلا بالتعرف عبر الفكر النقدي والتأملي والمعرفة والقدرة على الحوار، وهذا ما يراه العالم هيجل بأن المعرفة تساعد الذات الواعية لأن تجد حقيقتها الأساسية، فهو يؤكد على أن أول خطوة نحو معرفة الإنسان لذاته وتثقيفها هي اعتراف من الإنسان بانتمائه لمجتمع يتطور تاريخياً وحضارياً، فالأسرة عليها أن تكون إيجابية في أداء وظائفها وغرس القيم في نفوس أبنائها لمواجهة الأفكار المتطرفة، والسلوكيات المنحرفة، وتكون لديهم القدرة على التمييز والتمحيص والتفكير….

ومع التغيرات السريعة في مجتمعنا السعودي في السنوات الأخيرة وما صاحبها من تنوع الاحتياجات وتنوع المشاكل وتطور الأنماط السلوكية في ظل تآكل القيم الاجتماعية وضعف المساندة المجتمعية، مما يدعو إلى ضرورة مراجعة النسق الأسري لسياساته وبرامجه بالتكامل مع الأنساق الأخرى الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والدينية والأمنية بما يكفل الوقاية من الانحرافات وتأمين المجتمع، وبالتالي منع الإرادة لدى الأفراد للانحرافات الفكرية والسلوكية.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك