ثقافة الحوار
تتردد كلمة «حوار» كثيراً على مسامعنا هذه الأيام وكأنما نحن بصدد ظاهرة جديدة أو مفهوم جديد، حتى كادت عبارات مثل «ضرورة الحوار»، «تفعيل الحوار»، «الدخول في حوار»، حل الخلافات عن طريق «الحوار» أن تتحول إلى كليشيهات
جامدة. بل إنه ظهرت أيضاً مفاهيم جديدة كثيرة تتداول على مستوى السياسة الدولية مثل: «حوار الحضارات»، «حوار الشرق والغرب»، الحوار الإسلامي المسيحي».
وأضحت كلمة حوار مفهوم سياسي راسخ تتداولة الدول فيما بينها، والمجتمعات بين فئاتها. وللمملكة دور كبير في تعميم سياسات الحوار على أكثر من صعيد. ولكننا أحيانا لا نتوقف عند هذه الكلمة لنفهمها حق فهمها، مما قد يترتب عليه إساءة فهم هذا المصطلح، وإساءة فهم المصطلح قد تكون أسوأ من الجهل به.
ومن الملاحظ أن البعض، ومنهم وللأسف من يعملون في مراكز الحوار، يرددون هذا المصطلح دونما وعي لمعناه الحقيقي.
فهناك مستويان لفهم هذا المصطلح المهم، مستويان يؤثران على مدى الوعي بدلالته، ومستوى فهمها: الأول، المعنى المباشر السطحي الذي يعني تبادل، وتراجع الكلام والآراء بين طرفين أو أكثر وجها لوجه في مجلس، أو طاولة مفاوضات، أو من خلال وسائط كالصحف، أو التلفزيونات، أو وسائط الإعلام الحديث الأخرى.
حيث يعتقد البعض أن الحوار يقتصر على الجلوس مع الآخر، او تبادل الآراء معه من أجل إقناعه بوجهة نظره فقط، وفرضها عليهم بأي شكل.
ويكون السعي في هذه الحالة هو لقتل الحوار بضم رأي الآخر لنا كصوت أحادي لا نسمع إلا هو، ولا نفكر في غيره، وكأنما هو حقيقة مطلقة ضل طريقها الآخرون.
وعندما يتقابل أصحاب الآراء المسبقة والحقائق المطلقة يكون الحوار أشبه بحوار الديكة، أو حوار الطرشان.
وقد قدمت لنا بعض قنواتنا الفضائية أمثلة حية على هذا النوع من الحوار فيما يسمى تجاوزاً بالبرامج الحوارية بينما هي في الحقيقة برامج أقرب منها للشجار منها للحوار.
أما المعنى الآخر للحوار، وهو المعنى المنهجي الأعمق لهذه الكلمة، فهو الرفض المطلق «للدوغمائية»، التي تعني أن ينزل الفرد أو تنزل الجماعة رأيا أو ما فكره منزلة العقيدة المقدسة المطلقة أو السنة الكونية، مع استثناء عقيدتنا الدينية التي نعبد بها الله ونوحده.
الشخص الذي يفكر بهذا الشكل عادة لا يسمع للآخرين ويكون صوته أحادياً.
وهنا يكون الفرد مصراً على رأيه ومستعد للقتال دونه، وهذه عادة صفة من صفات الغوغاء، أو صفات الأتباع الذين وصفهم «إيرك هوفر» في كتابه «المؤمن الصادق» الذي ترجمه الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، ويصف فيه بدقه الحركات الجماهيرية الغوغائية.
وهذه عادة عقلية الجيوش، وحركات التمرد، والشبيحة ومن اتصف بصفاتهم من الإرهابيين.
وهي أيضا عقلية التفوق والتعالي الطبقي التي تنظر بها بعض الطبقات للطبقات الأقل منها، فهى ترى أنها ولدت كذلك وستبقى كذلك، ومن أجل ترسيخ مثل هذه المفاهيم تربط ببعض المفاهيم المقدسة كنظام الطبقات في الهند، أو الحقائق البيولوجية مثل اعتقاد العرق الآري بتفوقهم العرقي.
لكن الحوار الحقيقي يتطلب أن يترك الفرد مساحة لو ضئيلة في تفكيره لإمكانية أن يكون رأيه غير صحيح، ورأي الآخر هو الصحيح.
ويحدث أحيانا أن يمتلك كل طرف من أطراف الحوار جزءا من الحقيقة يكملها الآخر، أو تكون هناك فجوات في الفهم يساعد الحوار في جسرها والتغلب عليها.
هذه المساحة تشكل في عقل المحاور نافذة صغيرة يطل منها على آراء الآخرين ليحترمها ويحترم اختلافها معه.
فالشخص الأحادي الصوت لا يسمع ولا يقرأ إلا ما يتماشى مع ما يعتقده صحيحاً، ولذلك فهو يرفض تماماً وبشكل مسبق ما يقوله الآخرون.
ومن صفات هذه الشخصية أنها تكون إمعة سهلة الانقياد لمن يتفق مع قناعاتها المسبقة أو تغذيها.
والجماعة التي ترفض الحوار أساساً تسعى دائماً لحجب الآراء الأخرى عنهم.
الحوار يتطلب إدراك أن الاختلاف هو الأساس وأن البشر شعوباً وقبائل ليس فقط في أعراقها وإنما في تفكيرها ومعتقداتها.
وأنه بدون الاختلاف لا نستطيع إدراك ماهية الأشياء، فاللون الأسود يدرك فقط بوجود الأبيض، والغرب غرب لأن الشرق شرق، وخلط الأسود والأبيض يعطي الرمادي، وخلط الشرق بالغرب يعطي الوسط، وكلما زدنا في نسبة أحدهما كان على حساب الآخر.
فبضدها تتميز الأشياء، والتاريخ الطويل للبشرية هو تاريخ حوار طويل بين الأجيال والثقافات السابقة والأجيال والثقافات اللاحقة.
وتاريخ الحروب هو تاريخ لأحادية الرأي والدوغمائيات السياسية والفكرية.
والحوار هو أيضاً أساس وعي الفرد بذاته، فأهم حدثين في حياة الفرد: ولادته وموته، يشاهده الآخرون فقط أما هو فلا يراها ولا يعيها.
والفرد يقيم ذاته من نظرة الآخرين حوله له، لأنه في نهاية المطاف لا يرى نفسه، وإنما يرى انعكاسها في وجوه الآخرين.
ونحن نتشابه فيما بيننا نسبياً كلما تقاربت البيئة التي نعيش فيها؛ إلا أننا نختلف لأن لكل منا زمانا ومكانا خاصا به، ولا يمكن لفرد أن يعيش تجربة لآخر حتى ولو كان توأمه المتطابق.
فنحن نعيش في مجتمعات واحدة إلا أن تجاربنا مختلفة في ضمن إطار هذا المجتمع. فلا يمكن اختزال الجماعة في مجموعة أفرادها، ولا النظر للفرد من خلال جماعته فقط.
وعليه فالعرب تقول لكل زمان (ومكان) دولة ورجال.
فما نأخذه اليوم كمسلمات لم يكن مسلمًا به في السابق، وبعض ما سلم به أسلافنا خالفناهم فيه اليوم، فهذه سنة الحياة وناموسها.
فالاختلاف هو الأساس والحوار لا يفترض تجاوز الاختلاف، كما يعتقد البعض، وإنما يفترض إدراك هذا الاختلاف والتسليم به.
والاختلاف مع الحوار قوة، أما الاختلاف مع الدوغمائية فهو انقسام وضعف، وحروب وويلات.
والتعليم، سواء كان ذلك التعليم الرسمي أو غير الرسمي هو ما يحدد عقلية الفرد، كعقلية حوارية أو دغمائية.
وعندما يرسّخ التعليم بعض أمور الحياة وينزلها بمنزل العقيدة المطلقة، فهو يخلق هنا عقلية دوغمائية أحادية الرأي لا تتعايش إلا مع نفسها.
ومن أكبر الأخطاء هو محولة التعليم فرض رؤية واحدة ورأي واحد في المجتمع.
ولذلك فالمجتمعات الغربية التي عانت من ويلات الحروب تشجع التعددية وتصر عليها في كل شيء: في التعليم، في الأنظمة، في الحقوق لأنهم لا يريدون أن تتحول علاقاتهم إلي حروب، ولا يريدون أن تستغل مساحات الحرية التي تكفلها دساتيرهم إلى مساحات للعنف.
في المجتمعات الحوارية يترك مجال للاختلاف ليطفو على السطح ولا يتحول لاحتقان من أي نوع.
وتتاح الفرصة ضمن إطار معين لفئات المجتمع لممارسة حقوقها وحرياتها حتى ولو اختلفت معها فئات أخرى، لا أن تفرض جماعة رأيها بالقوة أو العنف.
أما في عالمنا العربي والإسلامي فنحن نسير في اتجاه مغاير ونحاول أن نجعل الناس ينظرون للحياة بعين واحدة فقط فيتسلط القوي على الضعيف، ويبقى العنف والاحتقان من سمات حياتنا البارزة.
المصدر: http://hewarpost.com/?p=40