حوار مع الحوار
محمد فال بن عبد اللطيف
وردت مادة “الحوار” في القرآن العظيم في سورتين اثنتين أولاهما سورة الكهف في شأن صاحب الجنتين من أعناب محفوفتين بنخل و بينهما زرع وخلالهما نهر و كان لصاحبهما مال صامت كثير ، ولكنه مع ما أنعم الله به عليه كان كافرا لتلك النعم قد دخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا و ما أظن الساعة قائمة و لئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منهما منقلبا.
حاوره صاحب له لعله يرجع عن موقفه هذا فما زاده ذلك إلا إصرارا و تعنتا و تصلبا في موقفه فلم يتنازل عن شيء قل أو كثر ، إلا أنه لما حل بجنته ما حل ندم و لات حين مندم و قال يا ليتنى لم أشرك بربي أحدا .. ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله و ما كان منتصرا . هذا نموذج من الحوار الذى لم يثمر إلا دروسا تقرؤها الأجيال القادمة.
والسورة الثانية سورة المجادلة ، وهي المرأة التى جاءت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تشتكى إلى الله من زوجها حين ظاهر منها فسمع الله محاورتها لرسوله فأنزل في شأن الظهار ما أنزل و قرر أنه منكر من القول وزور و حدد ما يجب على مرتكبه.
هذا نموذج من الحوار المثمر ترتب عليه تشريع خالد و خروج من ورطة كانت تعانى منها النساء.
ولقد كثر الكلام عن الحوار في العصر الحديث وهو ما يدل على أن البشرية بدأت تركن إلى تحكيم العقل و المعقول بعد العنف و المجهول. فهذا حوار الحضارات نادى به الشاعر الرئيس السنغالي سينغور ومن بعده من المفكرين و رآه أجدى وسيلة لقبول الآخر و بث روح التسامح بين الشعوب.
و هذا حوار الديانات – يدعو إليه- القائمون على الديانات في غالب الملل و إن كانت تقف أمامه عقبات عضوية و أخرى ظرفية بصعب – ولا يمكن- التغلب عليها.
وهذا الحوار السياسي يدعى إليه بعد أن تفشل الحرب و تسكت المدافع فيجلس المتحاربون أمام مائدة الحوار فيكون الأخذ والرد والتدافع و التنازل ثم يبرم الصلح وتغمد السيوف و تضع الحرب أوزارها و يأمن الناس.
و لابد هنا من التذكير بأن مفهوم الحوار عريق في الحضارة العربية الإسلامية و أن قول الشاعر:
ولكن حكم السيف فيكم مسلط *** فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا
هو حالة شاذة لا يقاس عليها فهذا الشاعر زهير بن أبى سلمى يقرر في بيت له كان يعجب عمر بن الخطابأن الحق يظهر بالنقاش حيث يقول:
فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمين أو نفار أو جلاء
ولقد حاور حبر الأمة عبد الله بن عباس فرقة الخوارج على علي بن أبى طالب فأقنع منهم أربعة آلاف فرجعوا عن نحلتهم و عاودوا صف الإسلام .
ومن تأمل الحصة المكية من القرآن العظيم وجدها حافلة بالدعوة إلى الحوار و تقديم البراهين و التسجيل على الخصم و التنازل له و التسليم له جدلا ، ودعوته |إلى الحق بالحسنى و الإعراض عنه إذا جهل ، وعدم اليأس منه أن يؤوب إلى الصواب ، والصبر على جفائه.
أما في بلادنا هذه – أعزها الله- فإن عادة الحوار فيها متجذرة فهي من بقية الديمقراطية الأولى التى ورثناها من أصولنا العربية و الإفريقية. فلقد كان لكل أمير من أمرائنا جماعة من أهل الحل و العقد يصدر عن رأيها ويحاورها في مصلحة القبيلة و الإمارة والدين و المروءة.
كما أنه لكل قرية من قرى الجنوب شجرة وارفة الظل تسمى ” شجرة الحوار” تبحث تحتها الأمور و تسوى عندها المشاكل وتحت ظلها تعقد السلم والحرب ، يذعن الجميع لقرارات تلك الشجرة المباركة.
و أتذكر – أيها الكاتب – أنه في أوائل السبعينات من القرن الماضى كان طلاب الثانويات – وكنت منهم – مولعين بالإضراب و الإضطراب ، وكانت الحكومة اتجاههم تراوح بين القسوة و اللين و كان عاقبة أمرها أن جنحت إلى اللين و الحوار فنجح ذلك الحوار و رجع التلاميذ إلى مقاعدهم سالمين و حلت المشكلة على ما يرام و قيل الحمد لله رب العالمين.
و للحوار أدبيات معروفة و استراتيجيات مقررة تسمى في العرف الدبلوماسي بفن التفاوض و تتقاطع في كثير من الأحيان مع ما يسميه علماء الأصول بعلم المناظرة.
و من فصول فن الحوار التقليدية ما يسمى طلب الكبرى لنيل الصغرى و منها تقسيم الأدوار داخل الطرف الواحد يضطلع جزء منه بالقسوة و جزء آخر باللين ، ومنها ما يسمى بالمزايدة و هي تهويل الأمور لإرغام الخصم على قبول ما يقدم له و أكل ما يعلف به.
أما سياسيونا – نحن أهل هذا القطر – المفترض فيه أن يكونوا من فرسان الحوار و الداعين إليه لأنه من صلب ثقافتنا وحضارتنا و الحق أنهم يقولون بموجبه كلهم و لكنه ما زال دون المستوى المطلوب وعلى الله قصد السبيل.