من أجل أخلاقية عالمية للحوار ونشر ثقافة السلام

محمد سعدي         

أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية

جامعة محمد الأول- المملكة المغربية

 

إن التفاعل والتواصل بين الثقافات ظاهرة إنسانية متأصلة في التاريخ الإنساني،والعولمة بقدر ما ساهمت في التقارب بين الشعوب وانفتاح وتفاعل الثقافات على بعضها البعض، بقدر ما أدت إلى بروز النرجسية الحضارية والشوفينية الثقافية والتعصب الديني والانغلاق على الذات.

ويبدو أن تجاوز المسافة بين خطاب حوار الثقافات والأديان وبين الواقع المؤلم المكرس للعنف والتطرف والأحقاد وانسداد الآفاق، هي إحدى أهم الانشغالات المطروحة للنقاش، وعلينا أن نبدأ بترسيخ قيم الحوار والتسامح الديني والثقافي داخل مختلف التقاليد الثقافية والدينية وداخل مختلف الأنظمة التربوية ، ليتحول إلى سلوك فردي وجماعي داخل الأسرة، بين الأفراد، بين الجماعات وبين الأمم والشعوب. والحوار الثقافي والديني عملية متعددة الأبعاد، مسار للبناء المستمر، يتطلب المثابرة والنفس الطويل. وينبغي اليوم تطوير بيداغوجية جديدة  ترسي لثقافة السلام قصد البحث عن أفضل السبل  لكيفية التصرف بحكمة وتوازن أثناء التوترات والأزمات وبشكل يؤدي إلى امتصاص العنف والحد من نزعات التطرف . هذا ما يفرض التفكير  بحس نقدي في آليات تشكيل صورة الآخر  و في  التصور المانيكياني الذي يدفع إلى اعتبار أن الأشرار دائما هم الآخرون الذين لا يتقاسمون معنا الانتماء وكذا مراجعة نزعة الاختزال والتبسيط والتعميم التي تسعى إلى نزع الطابع الإنساني عن ثقافات وجماعات وشعوب بأكملها وتحميلها مسؤولية أفعال وأعمال مشينة يرتكبها أفراد ومجموعات ينتمون إليها.

وأمام الصعود القوي لدعاة التطرف الديني والفكري، ألا يجب البحث عن إستراتيجيات جديدة لتحويل دياناتنا وثقافاتنا إلى منابع للحب، والتضامن والحوار البناء بين الشعوب ؟ ما هي السبل لتحقيق تواصل حقيقي بين والثقافات لامتصاص التطرف و العنف الفكري بمختلف أشكاله؟  ومع تزايد التحديات والرهانات العالمية التي تعيشها الإنسانية عند بداية القرن الحادي والعشرين ألسنا في حاجة إلى أخلاقية كونية تشترك فيها كل الأديان والثقافات والشعوب ؟ .

 

1-  ثقافات متعددة في ظل حضارة إنسانية واحدة

 

  إن الإنسانية اليوم تتطور في ظل حضارة عالمية واحدة تتميز بالتعدد الثقافي ولا يمكن الحديث عن صراع بين الحضارات فالعالم يتجه لكي يصبح موحد الحضارة في ظل ثقافات متعددة تتفاعل وتتجاور فيما بينها بشكل يومي. العالم يعيش على وتيرة من التمازجات والتشابكات، ولا توجد ثقافات موحدة منسجمة تعيش في فضاءات ثقافية متمايزة في العالم المعاصر. و الاندماج العالمي الذي خلقته الثورة الاقتصادية والإعلامية في ظل ما أصبح يعرف بالعولمة، حرك عملية التفاعل والاحتكاك الثقافي بشكل سريع وتعسفي أحيانا. مما أحدث تحولات جذرية وتوترات ثقافية، نتيجة صعوبة إدراك واستيعاب قيم المنظومات الثقافية للآخر من جهة، ونتيجة للاستعلاء الثقافي والتمركز الذاتي والذي يحول دون الاعتراف بالحق في الاختلاف الثقافي من جهة أخرى. وهذا ما فتح الباب لشعور عدة فضاءات ثقافية غير غربية بضرورة "مواجهة" المد الثقافي الغربي وذلك عبر التمركز حول "الأصول" و "الخصوصيات الثقافية" كسلاح ورد فعل ضد موجة التغريب الكاسحة. كما أن الهوة الشاسعة بين الشمال والجنوب على كافة المستويات، جعلت الشعوب الفقيرة تحتمي بالعوالم الثقافية لإثبات الذات والتعبير عن عدم رضاها واستنكارها للحيف والتخلف وعن قلقها من المستقبل الغامض. ومن هنا فإن استيقاظ وانتعاش الثقافات المحيطة هو سلاح الفقراء للاحتجاج ضد الاختلالات الاجتماعية العالمية  وضد الآثار السلبية للعولمة.

لقد فرضت العولمة ضرورة التعايش المستمر لمختلف الشعوب والحضارات مما يشكل مصدرا للتفاهم والصراع في آن واحد. الاحتكاكات الحادة والمتسارعة خلقت وعيا هوياتيا عميقا لدى مختلف الأفراد والشعوب وهذا ما يدفعهم للرجوع إلى ثقافاتهم ودياناتهم لتأكيد ذاتهم وخصوصياتهم الثقافية . و ثمة منظور ينطلق من رؤية مركزية ذاتية للدفاع عن ثقافة عالمية واحدة هي المرجع والمحور لكل الشعوب، وإقصاء وتهميش الثقافات المحلية باسم العولمة التي خلقت انقلابا كاملا في القيم والعادات والأفكار داخل هذه الثقافات. وفقط تكريس التعددية الثقافية بإمكانه أن يسمح بالتخلص من انغلاق العالم على نفسه، وإذا تم تنميط أفكارنا وتأحيد رؤانا لن يكون هناك لا تاريخ ولا أمل في التغيير نحو الأفضل[1].  

لقد دخلـنـا على ما يبدو عصر اللاستقرار بحيث أن الإنسان أضحى كمن يسبح في محيط من اللايقين لا توجد فيه إلا جزر صغيرة من المعنى واليقين، وهذا ما فتح المجال في المجتمعات الانسانية لكثرة المخاوف من المستقبل. وما أن تكثر المخاوف حتى تنتعش التطرفات الدينية، الإثنية والسياسية واللاعقلانيات وذلك بفعل ما يسمى بهاجس المستقبل. كما أن انتشار التيارات العلموية واكتساح العقلنة المفرطة لكل الفضاءات الفكرية، العلمية، الاجتماعية... قد خلق قلقا عميقا ولذلك صرح آدام مشنك: "إني خائف من عالم قد تحكمه عقلانية بدون حدود وثقافة بدون مقدس، لأن ذلك معناه عالم بلا أخلاقية وبلا ثقافة"[2].

إن العولمة بقدر ما تشكل فرصة فريدة للتواصل والتفاهم بين مختلف البشر والثقافات بقدر ما تحمل في ذاتها جانبا مدمرا يكمن في توحيد الهويات وإقصاء التنوع الثقافي، ولذلك انتعشت تيارات الانكفاء على الهوية والانغلاق القومي والديني.والمأزق اليوم كما يطرحه عالم الاجتماع الفرنسي ألان توران هو: "كيف نتخلص من الخيار الصعب بين عولمة كونية خادعة تغفل تنوع الثقافات، والواقع المنغلق للجماعات المتقوقعة على ذاتها"[3]، و الإنكفاء الهوياتي وكذا الدفاع المتعصب عن العولمة كلاهما يشكلان خطرا قد يؤدي إلى انسداد الآفاق الإنسانية.

لهذا ينبغي إبداع فكر ديناميكي قادر على التفكير في وحدة المتعدد وتعدد ما هو موحد، حيث أنه عادة عند رؤية الوحدة تكون هناك إرادة لتأحيد كل شيء ويتم تجاهل التنوع، وعندما يكون هناك تعدد يتم استبعاد أي وحدة وتجانس. فثمة جدلية بين التعدد والتوحد،  فهناك تعدد وتنوع ثقافي وإنساني ولكنه قائم على وجود جوهر إنساني وأخلاقي مشترك بين الإنسانية في مجموعها.

إن الوحدة لم تعد تعني التجانس والتنوع لا يعني الانغلاق على الذات ونفي وحدة الجنس البشري.   والإنسانية لن تكون موحدة إلا في ظل احترام التعدد و التنوع، كما لا يمكن للتنوع أن يكون مثمرا إلا في ظل حد أدنى من الانسجام والوحدة[4]. ولإرساء التضامن وتأحيد العالم دون السقوط في البلقنة والانطواء على الهويات العرقية و الدينية، ينبغي الترسيخ العميق في الوعي الإنساني لحقيقة أن الأرض هي وطن للجميع في ظل وحدة الإنسانية، وهذا هو السبيل للحد من المشاكل المتشابكة والمعقدة التي تواجه العالم[5]، يقول إدغار موران: "نحن ضائعون في الكون الهائل  ولكن لنا بيت و حديقة نستطيع العناية بهما. والحديقة هي الإنسانية جمعاء إنها الأرض، لنكن إخوة ليس لأننا سننجو بل لأننا ضائعون جميعا"[6]. لقد أصبح من  اللازم ترسيخ  وعي إنساني تضامني  في كل الفضاءات الثقافية والأنظمة التربوية.  فأي شيء يحدث في جزء من العالم يؤثر على الكوكب كله سلبيا أو إيجابيا، وأية متغيرات محلية تتبادل بشكل متزايد التأثير والتأثر مع السياق العالمي كله. وما ينقص العالم اليوم هو الوعي المشترك بالانتماء إلى الأرض كوطن للجميع، فالشعور بكوننا مواطنون ننتمي إلى نفس العالم / الوطن مازال في مرحلته الجنينية[7].

إذن هناك حتمية للاتصال و التفاعل بين مختلف الحضارات والثقافات على اعتبار أن التبادل الحضاري ظاهرة إنسانية متأصلة في التاريخ الإنساني، ومن هنا ضرورة إرساء تواصل حي ودائم ومثمر بين مختلف الخصوصيات الثقافية حتى يصبح العالم موطنا رحبا للجميع . وحتمية الاتصال لا تعني انمحاء الخصوصيات الثقافية وذوبانها للتوحد في حضارة عالمية واحدة. والميل القوي والمتسارع لتكريس هيمنة حضارة واحدة قد يؤدي على المستوى البعيد إلى عدم إمكانية التواصل والتفاعل البيوثقافي. لذلك لابد من ترك مساحة للخصوصيات الثقافية لمختلف الشعوب قصد بناء حضارة إنسانية مشتركة.

جدلية العالمية والخصوصية أمر حيوي في الوضع الراهن، فالعالمية الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا في ظل احترام التنوع الثقافي للشعوب، كما أن الخصوصيات الثقافية لا يمكن أن تثمر إلا في ظل الإيمان بوجود مبادئ إنسانية مشتركة. لهذا علينا أن نعطي الأولوية لما هو مشترك لنشكل هوية مشتركة في ظل احترام التنوع. فاليوم كل الكيانات الثقافية هي كيانات متعددة الهوية والإنسان سيصبح أكثر فأكثر متعدد الانتماءات والهويات. لذلك "فإن البحث عن أصل واحد وجوهر واحد يؤدي ليس فقط إلى تخريب الثقافة، بل إلى أخطر الأصوليات"[8].

2- نحو أخلاقية عالمية لحوار الثقافات

إن الصراعات عادة ما تندلع نتيجة سوء الفهم والخوف وانعدام الثقة بين مختلف الثقافات، وإذا كانت السلع والمعلومات تنتقل بين الدول والشعوب فإن تبادلا حقيقيا للأفكار وتغييرا عميقا للعقليات وإسقاطا فعليا للحواجز الثقافية بين الشعوب والأفراد يفترض الكثير من الوقت والمثابرة وإبداع آليات جديدة لإرساء أخلاقية عالمية للتواصل بين مختلف الثقافات والديانات. وفي عصرنا لم يعد لنا خيار إلا بين الصراع الشامل المتبادل أو الحوار، وادعاء ثقافة ما امتلاك الحقيقة المطلقة هو بمثابة أسوء الأخطار[9].ولا يمكن تسوية الخلافات الثقافية إذا لم تكن لدى جميع الأطراف المعنية، القدرة على الإقرار وتسليط الأضواء على الأسباب والجذور العميقة التي خلقت وغذت هذه الخلافات[10].

ثمة مجموعة قيم إنسانية أساسية مشتركة بين كل الفضاءات الثقافية والدينية في العالم، وينبغي استثمارها والتركيز عليها لتكريس وحدة الإنسانية . إن قيما مثل : العدالة، رفض العنف، رفض الظلم، الإيثار، المساواة،التسامح، التعاون، المحبة... وأحاسيس مثل السعادة، المعاناة، الألم، الإحباط، الغبن، الرأفة، الرحمة هي جزء من إنسانية كل إنسان. ولذلك فالجوهر الإنساني حاضر في كل التقاليد الثقافية والدينية لكل الشعوب عبر التاريخ الطويل للإنسانية. وبالتالي لا يمكن للإنسانية العيش والبقاء بدون أخلاقية عالمية تكرس التسامح ونبذ الإرهاب والتطرف بكل أشكاله. ونحن في أمس الحاجة اليوم إلى إيكولوجيا ثقافية لتحويل ثقافاتنا وأدياننا إلى ركائز للتنمية والتضامن والمسؤولية الجماعية لبناء أفق مشترك للإنسانية جمعاء.

إن الأمر أصبح يتطلب إرساء براديغم جديد للتراضي والتوافق بين مختلف الهويات الحضارية وإنشاء سوسيولوجيا لتفعيل التواصل الإنساني عبر مختلف الفضاءات الإعلامية، السياسية، الاقتصادية.  وقد سبق للفيلسوف الفرنسي ر وجي غارودي أن  دافع في أواخر السبعينات  عن ضرورة قيام حوار بين الحضارات لتحقيق السلام العالمي. وقد اعتبر أن " فكرة حوار الحضارات تحارب التقوقع حول الأنا الضيقة و تركز اهتمامها على الحقيقة الفعلية للأنا، باعتبارها قبل كل شيء علاقة مع الآخر وعلاقة مع الكل"[11]. كما أكد المفكر المغربي المهدي المنجرة على أن رهان التنوع الثقافي هو مفتاح البقاء مستقبلا[12].

و لابد من الدعوة إلى إرساء أخلاقيات عالمية جديدة، ذلك أن مستقبلنا أصبح يتوقف على إحساسنا بالاحترام المتبادل والمسؤولية المشتركة والتضامن الفعال لإقامة علاقات دولية أساسها العدل، التكافؤ والتعاون الدولي لإيجاد حلول للرهانات التي تواجهها الإنسانية.

ويبدو أن إرساء  حوار حقيقي بين الأفراد، الشعوب والحضارات وبين الشمال والجنوب يفترض الإيمان بمجموعة مبادئ أساسية:

- التواضع: إن التكبر واعتقاد امتلاك الحقيقة  المطلقة و تمثيل الخير  المطلق لا يساهم في تشجيع الحوار بل يؤجج الحقد والعداء ، ومنطق "الأنا ضد الباقي" منطق شوفيني إقصائي  يرفض الاعتراف  بحقيقة  التكامل والاعتماد المتبادل بين كل شعوب العالم. وسياسة استعمال  القوة لحل مختلف الأزمات، سياسية لا أفق  لها ولا تنتج إلا مزيدا من الصراعات والتوترات. لهذا ينبغي أن يتعلم الأفراد والشعوب قيم التواضع والتسامح واللجوء للحلول السياسية للتمكن من التواصل والتفاهم والتعايش.

- الرأفة: أي الإحساس بآلام ومآسي الآخرين والتعاطف معها، وهذا   هو المنطلق للوعي بإنسانيتنا، أي بكون أنه رغم كل الاختلافات الحقيقية المتواجدة بين الأفراد في العالم  بأكمله، إلا أن كل منا يسكن ذوات ودواخل الآخرين الذين يشاركوننا في إنسانيتنا[13]. و علينا أن نمتلك القوة الأخلاقية والقدرة النفسية لكي نضع أنفسنا في مكان الأفراد والشعوب التي تعاني من عدة مآسي، وذلك لنحس بما يشعرونه ونفهم معاناتهم وإحباطا تهم  من الداخل وبشكل يجعلنا نعي بأن معاناتهم تعنينا بشكل مباشر  وتهدد إنسانيتنا. والقاعدة الذهبية في هذا الموقف هي:" لا تعامل الغير بغير ما تريد أن يعاملك الغير  بمثله" . وهذا ما عبر عنه الفيلسوف ورجل الدين اليهودي موسى  ابن ميمون بقوله:" لا تتعامل باللامبالاة مع ما يهدد الآخرين" ، والدين الإسلامي  يؤكد على قاعدة" أحب لغيرك ما تحب لنفسك"، قال  الرسول  صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه". كما أن الدين المسيحي  يدعو إلى مبدأ  :" أحب لمن سيأتي بعدك ما تحب لنفسك". يقول في هذا الإطار عالم النفس الألماني إريك فروم:" فكرة "لا تعامل الغير بما لا تريد أن تعامل به"، تشكل مبدأ أساسيا للأخلاق. لكن من الأفضل أن نقول:" إن ما تفعله من سوء للغير، هو كما لو أنك تفعله لنفسك ولإنسانيتك"[14].

- الرضى والحب: قبل كل شيء على الأفراد أن يتمكنوا من الرضى عن أنفسهم وحب ذواتهم قبل أن يحبوا الآخرين، فلا يمكن لمن هو غير راض على حياته الشخصية وغير واثق في مؤهلاته وغير مستمتع بحريته أن تتفتح شخصيته لحب الآخرين والتعاون والتجاور معهم. لذلك ينبغي تنمية مؤهلاتنا بالقدرة على الحب: حب الحياة، حب الغير، حب العمل، حب الخير، حب الحقيقة والمعرفة وحب الإنسانية[15].

- التعايش  والتسامح : واقع العولمة وتزايد الاحتكاكات والتفاعلات  الثقافية بين مختلف  الأفراد والشعوب بفعل ثورة الاتصالات  وتزايد حركات الهجرة  خلق ديناميات اجتماعية  دولية جديدة أساسها تراجع الأحادية الثقافية  لصالح تصاعد واقع  التنوع الاجتماعي والتعدد  الثقافي. وهذا ما أصبح يفرض على مختلف المجتمعات الإنسانية تعلم التسامح  والتعايش السلمي على المستوى الثقافي والديني بين مختلف الأفراد، الجماعات والشعوب[16].

- الحوار الداخلي: إن الحوار لا ينبغي أن يكون ترفا زائدا مخصصا للمنتديات والمؤتمرات، فعليه أن يتحول إلى حاجة أساسية  لا تهم فقط العلاقات  بين الحضارات والشعوب والدول بل تشمل المجتمعات  من داخلها، فمن العبث التفكير في حوار الثقافات إذا لم يكن هناك حوار داخل الثقافات والديانات والمجتمعات[17]. من المهم في الحياة اليومية محاورة الذات  ومساءلتها من جهة وفتح الحوار بين أفراد المجتمع ومكوناته الثقافية والسياسية  من جهة أخرى. وبهذا يتحول الحوار إلى سلوك يومي يقي المجتمعات من التعصب ويحول دون اللجوء إلى العنف لتسوية الاختلافات.

- الإيمان  بقوة السلم : على الإنسان الإيمان بقدرته على إدارة الصراعات وتحقيق السلم، والتحرر من النظرة التشاؤمية التي ترى في الصراع حتمية تاريخية تحكم الإنسان منذ القدم. وكما أوضح ذلك بيان إشبيلية حول العنف سنة 1986 والذي  صاغه  مجموعة علماء من مختلف التخصصات، فإن " السلام ممكن والحرب ليست حتمية بيولوجية بل هي ابتكار اجتماعي  ينبغي  أن يخلي مكانه لابتكار السلام". وإذا كانت مرحلة الحرب الباردة قد طغى عليها الشعار الروماني: " إذا أردت السلام عليك أن تعد للحرب"Si vis pacem, para bellum"  فإنه اليوم أصبح من اللازم  تغيير الشعار ليصبح:" إذا أردت السلام، فعليك  أن تعد للسلم" Si vis pacem, para pacem .

- البحث عن الحقيقة:  السعي لمعرفة الحقيقة شرط أساسي للحوار، فالحوار هو اكتشاف الغير واحترامه كما هو وكما يريد أن يكون، ومعرفة الاختلافات والقيم المشتركة للتمكن من التبادل والتفاهم. وكما يقول ميشال لولون:" لحسن الحظ فإن عصر الحروب الدينية قد انتهى، ولكن عصر الحقد والاحتقار سيستمر ما دامت كل جماعة تنظر إلى الأخرى لا كما هي وكما تريد أن تكون و كما تشعر بوجودها، بل من خلال صورة مشوهة. أول عمل لتحقيق المصالحة الحقيقية بين الجميع هو البحث عن الحقيقة"[18].

 إن السعي لمعرفة الحقيقة مسار طويل يتطلب الإرادة والعمل الدؤوب، والبحث  عن الحقيقة من شأنه أن يجعلنا نؤمن  بتعدد الرؤى  وتعقد العالم وبضرورة  تجديد مختلف الثقافات لرؤاها ومرتكزاتها حتى  نتمكن من خلق حوار ثري  وفعال بين مختلف  الثقافات والشعوب[19].

- المسؤولية: ينبغي إرساء أخلاقية شمولية تقوم بضبط وإدارة مختلف التحديات التي تهم الجماعة الإنسانية بأكملها، ويمكن الرهان على مبدأ  المسؤولية : مسؤولية الأفراد إزاء أنفسهم، إزاء الغير، مسؤولية المجتمع  إزاء محيطه الاجتماعي والبيئي  ومسؤولية الإنسانية إزاء  مصير العالم،  ومستقبل الإنسانية. وعبر إحياء مفهوم المسؤولية الإنسانية نحو العالم،  يمكن أن نخلق الانسجام  الإنساني داخل الحضارة العالمية[20]. ولهذا فإن أي حوار حقيقي بين الثقافات ينبغي أن يجعل غايته مستقبل الإنسانية وضمان حقوق الأجيال المقبلة في السلام والعيش الكريم. وقد صاغ الفيلسوف الألماني هانس يوناس ما يمكن أن نعتبره بيانا للالتزام بالمسؤولية كواجب أخلاقي أساسه: " تصرف بشكل يجعل نتائج فعلك غير تدميرية بالنسبة لإمكانية الحياة  مستقبلا، ولا تعرض  للخطر شروط بقاء الإنسانية في الأرض"[21].

- التضامن: ينبغي الوعي بوحدة مصير الإنسان ووحدة مصالحه العليا في العالم،  وبالتالي تدعيم أواصر التعاون والتضامن داخل المجتمع العالمي، والحد من  سطوة اقتصاد  السوق  عبر خلق ضوابط لتدجين الليبرالية المتوحشة،  وإرساء عولمة مسؤولة ومتضامنة كفيلة بإنقاذ العالم من أصولية التقدم[22].

- القيم المشتركة: ثمة مجموعة قيم إنسانية أساسية مشتركة بين كل الفضاءات الثقافية والدينية في العالم، وينبغي استثمارها والتركيز عليها لتكريس وحدة الإنسانية ووحدة " الجوهر الإنساني". وحسب  قول شيخ المتصوفة  محيي الدين ابن عربي:" الإنسانية واحدة العين  في كل إنسان، وإنما يتفاضل الناس بالمنازل لا بالعين" . إن قيما مثل: العدالة، رفض العنف،  رفض الظلم، الإيثار، المساواة، التعاون، المحبة... وأحاسيس مثل المعاناة، الألم،  الإحباط، الغبن، الرأفة، الرحمة هي جزء من إنسانية كل إنسان. ولذلك فالجوهر الإنساني حاضر في كل التقاليد الثقافية والدينية لكل الشعوب عبر التاريخ الطويل للإنسانية[23].

- إرساء أخلاقية كونية تسعى لخدمة الإنسان والإنسانية بروح مسؤولة متفتحة على العالم  وتعقده. ودعا في هذا الإطار عالم اللاهوت الألماني  هانز كونغ Hans Kung  إلى إنشاء  إعلان  عالمي للأخلاق على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وترتكز هذه الأخلاقية العالمية على ثلاثة أسس:

- لا يمكن للإنسانية العيش والبقاء بدون أخلاقية عالمية،

 - لن يكون هناك سلام عالمي  بدون  سلام بين الأديان،

- لن يكون هناك سلام بين الأديان بدون حوار بينها[24].

ويعتقد كونغ أن استمرارية الإنسانية رهين بوجود روح قيمية مشتركة وكونية Ethos planétaire وكل الديانات الكبرى في العالم تشترك في خمس وصايا للإنسانية :

 -لا تقتل،

 -لا تكذب،

 -لا تسرق،

 -لا تزني،

 -احترم الوالدين وأحب الأبناء[25].

وفي 1993 انعقد بشيكاغو برلمان ديانات العالم والذي حضره أكثر من مائتي شخصية تمثل مختلف أديان العالم، وتم التوقيع على "إعلان نحو أخلاقية كونية"، ويقوم على البحث عن الحد الأدنى الأخلاقي المشترك بين كل الديانات والفلسفات الإنسانية. وانطلق هذا الإعلان من مبدأين أساسيين :

- كل كائن بشري ينبغي معاملته بإنسانية،

 - كل شخص عليه أن يتصرف إزاء الآخرين كما يتمنى أن يتصرف الآخرون نحوه[26]  .

 

 3-  ثقافة السلام مفتاح مواجهة التطرف وثقافة العنف

 

لثقافة السلام والتربية على السلام دور طلائعي في تشجيع التعايش المدني  والسلمي بين الأفراد والشعوب المختلفة . ويعرف فردريكو مايور ثقافة السلام بأنها:" ثقافة التعايش  والتشارك المبنية  على مبادئ  الحرية، العدالة، الديموقراطية، التسامح والتضامن، وهي ثقافة  ترفض  العنف  وتتشبث  بالوقاية من النزاعات في منابعها وحل  المشاكل عن طريق  الحوار والتفاوض"[27]. ومن جهته يعتبر جوهان كالتنغ أن التربية  على السلام " هي قبل كل شيء  أن نعلم الناس على إدارة المواقف الصراعية  بشكل مبدع وأقل عنفا... وأن نمنح لهم الوسائل لتحقيق  ذلك. إنه عمل جد ملموس يتطلب معرفة كبيرة وكفاءة على المستوى النظري والتطبيقي. والتربية من أجل السلام لن تكون ذات أهمية إذا لم تمنح ثمارها على مستوى الفعل والواقع. فالهدف ليس إنتاج كتب كثيرة تهتم بالسلام، بل إنتاج مزيد من السلام"[28] .

وتساهم التربية  بشكل عميق  في ترسيخ ثقافة الحوار داخل المجتمع وما بين المجتمعات وهذا  ما يؤكده إعلان المبادئ حول التسامح لنونبر 1995 حيث  نصت المادة الرابعة على أن:

" التربية هي الأداة الأكثر فعالية للوقاية من التعصب وأول خطوة في هذا الإطار تكمن في تعليم الأفراد معرفة حقوقهم وحرياتهم لضمان احترامها ولحماية حقوق وحريات الآخرين. التربية على التسامح ينبغي اعتبارها واجبا أوليا. لذلك من الضروري تطوير مناهج نظامية عقلانية لتعليم التسامح على أساس التركيز على المصادر الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية والدينية للتعصب والتي تشكل الأسباب العميقة للعنف والإقصاء، وسياسات وبرامج التربية يجب أن تساهم في تنمية التفاهم، التضامن والتسامح بين الأفراد وكذا بين الجماعات الإثنية، الاجتماعية، الثقافية، الدينية واللغوية وبين الأمم... والهدف هو تكوين مواطنين متضامنين ومسؤولين، متفتحين على الثقافات الأخرى، قادرين على اتقاء النزاعات أو حلها بوسائل سليمة".

وقد أصدرت مجموعة من الشخصيات الحائزة على جائزة نوبل للسلام أثناء اجتماعها في مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان في 1993 تصريحا أوضحت فيه أن:

" إحدى العبر الأساسية لعصرنا تكمن في أن احترام حقوق الإنسان هي مسألة جوهرية لتحقيق السلام. فلا يمكن أن يوجد سلام حقيقي بدون عدالة. وكل سلام دائم يجب أن يتأسس على التشبث الكوني بالعائلة الإنسانية... والطريقة الوحيدة للحل الدائم للنزاعات التي تندلع في العالم هي مواجهة المسببات الرئيسية لانتهاك حقوق الإنسان. الحروب الإثنية، العسكرتارية المتزايدة، الصراعات العرقية، الدينية، الثقافية والإيديولوجية ونفي العدالة الاجتماعية، كل هذا سيتوقف إذا تمت تنشئة وتربية وتكوين الأفراد في  إطار روح التسامح المبنية على احترام الإنسان"[29].

ونظرا للأهمية المركزية لثقافة السلام   في ترسيخ السلام والتسامح في كل بقاع العالم، فقد أعلنت الجمعية  العامة  للأمم المتحدة سنة 2000 سنة   دولية لثقافة  السلام واللا عنف. وقام مجموعة من الشخصيات الحائزة على جائزة نوبل للسلام بمناسبة إحياء الذكرى  الخمسين  للإعلان العالمي لحقوق  الإنسان بصياغة بيان 2000 لثقافة السلام والذي  يؤكد  على :

" ... لأني واع بالمسؤولية إزاء مستقبل الإنسانية وخصوصا أطفال اليوم والغد، ألتزم في حياتي اليومية، أسرتي، عملي، جماعتي، بلدي بأن:

- احترم الحياة: احترام حياة وكرامة كل كائن إنساني بدون تمييز أو حكم مسبق،

- أرفض العنف: أطبق اللا عنف  الإيجابي عبر رفض العنف بكل أشكاله: الجسدي،  النفسي، الاقتصادي والاجتماعي خصوصا اتجاه الأفراد الأكثر فقرا وضعفا كالأطفال والمراهقين،

- أتعامل بكرم:  أقسم وقتي ومواردي المادية بسخاء للقضاء على التهميش، الظلم، والقمع السياسي والاقتصادي،

- أنصت من أجل التفاهم: أدافع عن حرية التعبير والتنوع الثقافي عبر تشجيع الإنصات والحوار بدون الاستسلام للتعصب والنميمة ولإقصاء الآخر،

- أحافظ على كوكب الأرض: أدعم استهلاكا مسؤولا  ونمطا تنمويا يأخذان  بعين الاعتبار أهمية كل أشكال الحياة ويحفظان توازن الموارد الطبيعية لكوكبنا الأرض،

- اكتشف من جديد قيمة التضامن: أساهم في تنمية جماعية بالمشاركة الكاملة للنساء وفي إطار احترام مبادئ الديموقراطية وذلك من أجل أن نخلق جميعا أشكالا جديدة للتضامن"[30].

ومع تزايد الجماعات التي تؤمن بثقافة العنف و التطرف الفكري والسياسي،  أصبح من الضروري  التفكير في بيداغوجية جديدة  للبحث عن أفضل السبل  لكيفية التصرف بحكمة وتوازن أثناء الصراعات والتوترات وبشكل يؤدي إلى امتصاص العنف واللجوء إلى الحلول السلمية. لهذا ينبغي إعادة النظر  بحس نقدي في آليات تشكيل صورة الأعداء  و في  التصور المانيكياني الذي يدفع إلى اعتبار أن الأشرار دائما هم الآخرون الذين لا يتقاسمون معنا الانتماء. كما يجب مراجعة نزعة الاختزال والتبسيط والتعميم التي تسعى إلى نزع الطابع الإنساني عن ثقافات وجماعات وشعوب بأكملها وتحميلها مسؤولية أفعال وأعمال مشينة يرتكبها أفراد ومجموعات ينتمون إليها. كما أنه يجب فهم السياق الواقعي والإطار التاريخي والملابسات المحيطة بمختلف التوترات للتمكن من إيجاد حلول مناسبة وفعالة.

لقد أصبح من الضروري تشجيع ثقافة المشاركة قصد تدعيم قيم التضامن، الإيخاء،  والتسامح، ومن شأن ذلك أن يجنب الأجيال المقبلة الكثير من المآسي والحروب والعنف وأن يرسي قيم السلام والتعاون داخل مختلف المجتمعات. ويبدو أنه من المهم بذل مجهودات كبيرة لمراجعة الكتب  المدرسية وإعادة قراءة  تاريخ وذاكرة مختلف الشعوب  قراءة نقدية، متفتحة ومتيقظة، لاجتناب الوقوع في أخطاء الماضي  وإعادة الاعتبار للتواريخ المهمشة. وذلك لإنهاء جراح الماضي  والأحقاد المتجذرة وتحقيق التصالح مع التاريخ بين مختلف الشعوب.

وأصبحت الدراسات الحديثة حول ثقافة السلام تقر بأن من أفضل الأساليب للتدخل بشكل إيجابي في حل الصراعات ،  ضرورة  رؤية الصراعات بأربع نظارات:

- النظارات عن قرب وهي إما شفافة تكون مهمتها التعرف على المسببات المباشرة والأزمات الآنية التي ترتب عنها الصراع، أو سوداء تكون مهمتها الكشف عن المظاهر والمؤشرات الخادعة التي تدفع إلى تأجيج الصراع أو على العكس قد تساهم في الاستخفاف من حدة الأزمات على عكس ما هي عليه في الواقع.

- النظارات عن بعد و هي إما شفافة تهتم بالرؤية البعيدة للصراعات عبر البحث  عن مسبباتها العميقة وجذورها التاريخية، أو سوداء وتهتم بتحليل الثقافات العميقة والوعي الجماعي  للمجتمعات المتصارعة. وهذا يؤكد أن لكل رؤية نظاراتها الخاصة وأن هناك رؤى مختلفة ومتنوعة في تحليل واقع الصراعات، تختلف باختلاف الموقع والإطار الذي تنطلق منه لمقاربته. والصراعات اليوم أصبحت ذات طبيعة جديدة مما يفرض الابتعاد عن الرؤى الأحادية  والآنية لاعتناق رؤية معقدة متعددة تراهن على دبلوماسية  العمل الهادئ والشاق والبعيد المدى، لإرساء ثقافة سلام حقيقية في كل أركان العالم[31].

وينبغي التنبيه إلى أن الخطوط الفاصلة بين السلام والحرب لم تعد واضحة، فالسلام لم يعد يعني غياب الحرب والعنف فقط، بل يعني توفير بنيات تحتية فعالة على المستوى الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي والسياسي لضمان استمرار السلام، فالسلام يتطلب العمل من أجل العدالة، فلا سلام بلا عدالة و لا عدالة بلا تضامن. والتوترات لم تعد مرتبطة بالقوة والعنف المادي بل إن العنف المعنوي الذي يمارس على الأفراد والشعوب من خلال امتهان كرامتها وحرمانها من حقوقها ومن إنسانيتها قد يكون له نتائج أكثر خطرا من العنف المادي المباشر.

ومن خلال دراسته للعنف في البيئة الدولية توصل جوهان كالتونغ إلى أن غياب الحرب والصراع يترتب عنه سلام سلبي، أما السلام الإيجابي فلا يتحقق إلا إذا تم توفير وضمان الحاجيات الأساسية للإنسان: الحق في الحياة والبقاء، العيش الكريم، الحرية، الهوية. ويميز جوهان كالتونغ بين ثلاثة أنواع من العنف:  العنف المباشر والذي يتسبب بشكل مقصود في الألم والمعاناة للإنسان وتفقده   آماله، العنف البنيوي   وهو عنف   معنوي ورمزي قد يبدو على المستوى الظاهري عنفا بسيطا ولكنه في العمق هو عنف متواصل ذو بعد خطير وحاد على المستوى البعيد، والعنف الثقافي ويسعى لمنح الشرعية والمصداقية  للعنف المباشر  أو العنف البنيوي. وفي مواجهة مستويات العنف هاته، ينبغي توظيف نفس  مستويات السلام التي توازيها، أي السلام المباشر مقابل العنف المباشر، والسلام  البنيوي مقابل  العنف البنيوي والسلام الثقافي  مقابل العنف الثقافي[32].

و السلام كحاجة إنسانية ينبغي أن يتوخى ليس فقط الحد من العنف المباشر أو البنيوي  أو الثقافي، بل  خلق الشروط الضرورية  لتتحول الصراعات بشكل إيجابي إلى مواقف  تعاونية، وذلك عبر الحوار وإدارة الصراعات بشكل يمنح القدرة  على التحكم فيها وضبط سلوك مختلف المعنيين بالصراع[33]  .

وقد لخص  بيان يموسكرو حول " السلام في عقول البشر" بشكل جيد أهم  مرتكزات ثقافة السلام:

- السلام هو أساسا احترام الحياة،

-  السلام   هو أغلى  ما يوجد لدى الإنسانية،

- السلام هو أكثر من مجرد نهاية الحروب المسلحة،

- السلام هو سلوك،

- السلام هو اندماج عميق للكائن الإنساني في مبادئ الحرية، العدالة، المساواة، والتضامن بين كل البشر،

- السلام هو تزاوج منسجم بين الإنسانية والبيئة[34].

إن الرهان على الحس المشترك للإنسانية ووحدة مصيرها لبناء نظام اجتماعي عالمي يحرر الإنسان من استيلاباته ويمنحه الثقة في حاضره ومستقبله، كفيل بأن يؤسس لقواعد الحوار بين الشعوب والحضارات. ويبدو أننا في حاجة إلى إيكولوجيا ثقافية للحفاظ على البيئة الثقافية للشعوب ولإدارة وتدبير مختلف المواقف الصراعية، ولتحويل الثقافة إلى محرك فعال للتنمية وانفتاح الشخصية الإنسانية. ومن أجل هذا يبدو مهما خلق أخلاقية للتواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل بحيث تتفاعل تجارب الماضي مع هموم الحاضر ويتحرر الحاضر من أنانيته الضيقة ليفتح آفاقا للتفكير في المستقبل وفي حقوق الأجيال المقبلة.

 

خاتمة

هناك اليوم إسهال فكري وتضخم على مستوى الخطاب بالنسبة لحوار الثقافات والأديان،  والأسوأ من ذلك أن الدعوات  للحوار الثقافي والديني تتناسل بقوة ولكن لا نرى حوارا حقيقيا في الواقع. وثقافة الحوار هي في العمق سلوك وممارسة قبل كل شيء، ويبدو أن تجاوز المسافة بين خطاب حوار الثقافات والأديان وبين الواقع المؤلم المكرس للعنف والأحقاد والاستعلاء وثقافة الإقصاء، هي إحدى أهم الانشغالات المطروحة للنقاش. وعلينا أن نبدأ بترسيخ قيم الحوار والتسامح الديني داخل مختلف التقاليد الثقافية والدينية وداخل مختلف الأنظمة التربوية ، ليتحول إلى سلوك فردي وجماعي داخل الأسرة، بين الأفراد، بين الجماعات وبين الأمم والشعوب. والحوار الثقافي والديني عملية متعددة الأبعاد، مسار للبناء المستمر، يتطلب المثابرة والنفس الطويل. وقد شكلت أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول الأكرم امتحانا أظهر مدى الحاجة إلى ابتكار آليات جديدة للحوار ولإرساء أخلاقية عالمية للتواصل بين الثقافات والديانات.

إن جدلية الكونية والخصوصية مسألة حيوية ستحتل صدارة التفاعلات الثقافية العالمية، والكونية الحقيقية لا يمكن أن تثمر إلا في ظل احترام الحق في الاختلاف والحق في التنوع الثقافي، كما أن الخصوصيات الثقافية لا يمكن أن تشكل إثراء لثقافاتها إلا في ظل الإيمان بوجود مبادئ إنسانية مشتركة تتجاوز كل الحدود الجغرافية، الثقافية والدينية. وعوض إلغاء التنوع الثقافي باسم الكونية أو رفض الكونية باسم الخصوصية، ينبغي الدفاع عن أولوية ما هو مشترك بين الإنسانية. إن الثقافات والديانات لا تحمل في ذاتها أي تعصب أو نزوع لرفض كرامة الإنسان وحقوقه، وفقط توظيفها واستغلالها من طرف الأفراد والجماعات قد يجعلها معيقة لانتشار الوعي بحقيقة وحدة الإنسانية وبكونية القيم الإنسانية. وفي هذا الإطار و بمناسبة افتتاح  سنة  الأمم المتحدة  لحوار الحضارات سنة 2001 أكد جياندو مينيكو  بيكوGiandominico Picco الممثل  الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة لسنة  الأمم المتحدة لحوار الحضارات أنه :" ليس التاريخ   هو ما يقتل، ليست الديانات هي التي تغتصب النساء، وليس نقاء الدم  هو الذي يهدم البيوت... فقط الأفراد هم من يفعلون ذلك".

إننا نعيش اليوم في ظل لاتوازن حاد بين الجنوب والشمال، ولم يسبق للتهميش الاجتماعي أن كان بالحجم الذي هو عليه اليوم، فالفقراء يزدادون فقرا والأغنياء يزدادون غنى. وأي حوار ديني أو حضاري سيبقى حوارا بلا أفق إذا لم يستحضر بعد التنمية المستديمة ومطالب احترام حقوق الإنسان. وإقامة علاقات دولية متكافئة، تعزيز آليات التعاون الدولي، إرساء نظام اقتصادي عالمي عادل، لكن أيضا التفكير في بناء نظام حضاري عالمي قائم على التنوع الثقافي وعلى أخلاقية عالمية، تلك هي الشروط الأولية لمنح القوة الفكرية والسياسية لحوار الثقافات والأديان.

وأمام خياري الصدام بين الثقافات والاكتساح الجامح للعولمة، ينبغي البحث عن ابتكار كونية اكثر إنسانية وتحديد إستراتيجيات جديدة للعولمة تخدم مصالح وقيم شعوب العالم بعيدا عن كل انكماش ثقافي أو تأحيد تعسفي.

إن منطق الحياة في العالم المعاصر يفترض التعدد والاختلاف في الرؤى والأفكار، ولا يمكن محو الاختلافات بمنطق التبسيطات التعسفية. فالعالم الحي هو عالم اللاستقرار والحركة الدائمة، وعلينا ونحن نستقبل قرنا جديدا أن نبذل جهودا كبيرة للتحرر من سجن الأنوية والهوية النقية، للتعايش مع عالم معقد مليء بالرهانات والتحديات. والخمول الفكري الذي يتخفى وراء أفكار مبسطة وشمولية لم يعد قادرا على فهم الأبعاد الجديدة للمتغيرات الجذرية على مستوى مفاهيم: الهوية، العولمة والآخر، وما يترتب عن ذلك من تحولات مهمة على مستوى أنماط العيش والتفكير والقيم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] - Engelhard  (Philippe), L’homme mondial, , Arléa, Paris ,  1996, p.262.

[2] - Michnik (Adam),"La foi et la raison, un oecuménisme nécessaire", Le Courrier de L’Unesco, décembre 1994,  p. 19.

[3] - Touraine (Alain), Pourrons nous vivre ensemble ?, Fayard, Paris, 1997, p.2.

[4] - Morin (Edgar), Penser l'Europe , Gallimard,1987.

[5] -Morin (Edgar), Kern (Brigitte) , Terre/ Patrie, Paris , seuil. 1993.

[6] -حوار مع إدغار موران، جريدة العلم، 1993 /10/24.

[7] -إدغار موران،"نحو وعي جديد بكوكبنا الأرض"، لوموند ديبلوماتيك، أكتوبر، نوفمبر 1989 ، ص.15.

[8] - Goytisolo (Juan),"Que peut la litterature ?", Le Monde Diplomatique, Novembre 1999, p.28.

[9] –  Garaudy  (Roger), Integrismes, Belfond, Paris, 1990,  p.189.

[10] -Fisas  (Vicenc), "Conflictos entre culturas", El Pais, 27/6/2000, p.16.

[11] - Garaudy (Roger), Pour un dialogue des civilisations, de noël, Paris, 1977,  p. 220.

[12] أنظر:

 - Elmandjara  (Mahdi), "Diversité culturelle: une question de survie. », Futuribles, n° 202, Octobre 1995, pp. 5-15.

[13] - Savater ( Fernando ), Éthique à l'usage de mon fils, seuil, Paris, 1994, p. 133.

[14] - Fromm ( Erich ), un homme pour lui – même, Édition sociales françaises, 1997, p. 171.

[15] - Ibid, p. 106.

[16] - Voir, Jares ( Xesus), Aprender a convivir , Xerais, Vigo, 2001.

[17] - Voir, Panikkar ( Raimundo), Le dialogue intrareligieux, Aubier,Paris, 1995.

[18] - Lelong ( Michel), l'islam et l'occident, Albin Michel, Paris, 1982, p . 149.

[19] - Levrat ( Jacques), Du dialogue, horizons  méditerranéens, Casablanca, 1993; pp. 139 – 152.

[20] - Havel ( Vaclav), Il est  permis d'espérer,Calman levy, 1997, p. 70. 

[21] -  Jonas  ( Hans), le principe  responsabilité: Une éthique pour la civilisation technologique, CERF, Paris; 1992, p. 30- 31.

[22] - Eco ( Umberto), in Entretiens sur la fin des temps,Fayard, Paris, 1998; p. 255.

[23]  - قام   المفكر الإيراني  داريوش شايغان والمتخصص في دراسة الحضارات  بمقارنة  بين مجموعة من التقاليد  الصوفية من مختلف الفضاءات الثقافية: المعلم إيكار  Eckhart من القرن  الثالث عشر،  ابن  عربي من القرن  الثاني  عشر،  الهندي  شامكاراشاريا  Shamkarâ  chârya   ( القرن الرابع) والصينيون  شوانغ تسو chang tsu   ولاوتسو       )  Lao Tseu  قبل  التاريخ  الميلادي)  وتوصل إلى تواجد انسجام وتطابق بنيوي  فيما يخص  رؤاهم للإنسان والعالم وذلك  رغم التباعد الزمني  والمكاني فيما بينهم.  انظر كتابه:

- Daryush Shayegan , La lumière vient de l'Occident : Le ré enchantement du monde et la pensée nomade, Editions de l'Aube, Paris, 2008.

[24] -Kung  (Hans), Projet d'éthique planétaire, la paix mondiale par la paix entre les religions, Seuil, Paris, 1991.

[25]-  Ibid, p. 17.

[26] - Hans Küng, Karl Josef Kuschel, Manifeste pour une éthique planétaire, Parlement des religions du monde, Cerf, Paris, 1995.

[27] - Cité in,  Acuna ( Ramon), " Pour une culture de paix", Le Monde Diplomatique , Novembre 1999, p. 32.

[28] -  Galtung  ( Johan), ( Entretien), Le Courrier de l'Unesco, Janvier 1997, p. 4.

[29] - Voir  le Courrier  de l'Unesco, Mars 1994, p. 39.

[30] - Voir, le Courrier de l'Unesco, Juillet / Août 1999, p. 11.

 

[31]  - Fisas ( Vicenc), " Las incertidumbres de la paz  y de la guerra" El país, 19/10/2001 , p. 18.

[32] - Galtung  ( Johan), Sobre la paz, Fontamara, Barcelona, 1985.

[33] - Fisas (Vicens ), Cultura de paz y gestión de conflictos, Icaria, Barcelona,  1998.

[34]  - Déclaration de Yamoussoukro sur la paix dans l'esprit des hommes, Yamoussoukro, Côte d'Ivoire, 1 juillet 1989.

المصدر:https://www.philadelphia.edu.jo/arts/.../mohammad_sadi.doc

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك