الحوار الإنساني في المنهج النبوي

الحوار الإنساني في المنهج النبوي
لقد بينا أن القرآن الكريم حث على التعارف الإنساني والحوار بين الناس لأجل الدعوة إلى دين الله . ويستكمل هذا المنهج من خلال تطبيقاته التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال أحاديثه الشريفة وسلوكه النبوي الكريم. فالمبدأ الأساسي الذي بُني عليه الإسلام هو الحوار والتعارف بين بني البشر جميعاً ومنذ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم راح يسعى بشكل حثيث للحوار من أجل الدعوة الإسلامية. وقد تجسدت الدعوة عند هجرته إلى المدينة بالاعتراف بالآخرين من يهود وغيرهم ممن ظلوا على الوثنية من الأوس والخزرج.
وتعتبر معاهدة المسلمين التي دونت العلاقة الاجتماعية والسياسية أول وثيقة دستورية تحدد العلاقات بين الناس على اختلاف عقائدهم. وقد بينت هذه المعاهدة هوية الأمة المسلمة وهوية الآخرين والعلاقة بينهما، وقد جاء فيها أن اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ ( يفتك) إلا نفسه وأهل بيته. وأن ليهود بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبنى الأوس وبني ثعلبة وجفنه وبني الشطيبة مثل. ماليهود بني عوف وأن بطانة يهود كأنفسهم). فهذه الوثيقة تعتبر أهم فاتحة للحوار بين أصحاب الأديان والعقائد. وقد نظمت حدود التعامل الديني والاجتماعي بين المسلمين وغيرهم. لقد شكلت منذ البداية قانون الاعتراف بالآخر وعدم إلغائه ، وهذا ما يفتقده اليوم العالم الغربي ،الذي يتعالى ويستعلي، وينظر للمسلمين نظرة دونية لا تليق بإنسانيتهم. وفي نفس الإطار فقد تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد نجران من المسيحيين، حيث عهد إليهم بالحفاظ على كنائسهم وطقوسهم وأرواحهم. فجاء في العهد: ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس علـيه دنّية) . وقد تحدثت السيرة النبوية كثيراً عن حوارات متواصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة وقد تناولت العديد من القضايا العقدية والتشريعية. وفي هذا الإطار لابد من التفرقة بين اليهودية والكيان الإسرائيلي الغاصب ، فاليهودي كالنصراني . وقد اعترف الإسلام بهما وبالأنبياء جميعا، بل دعا إلى الحوار مع اليهود والنصاري. (فنحن نقف مع اليهود لنتحدث معهم عن النبي موسى عليه السلام والتوراة .والمسلم يعيش مع اليهودي في القرآن كما لايعيش مع أية حالة دينية أخرى . فنحن حين نتصفح القرآن الكريم نجده مملوءا بالآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل، وحديث الله تعالى إليهم وتعقيدات حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية، والمشاكل التي كانوا يثيرونها في وجه موسى، ومن جاء بعده من أنبياء ،وما إلى ذلك من قصص تتصل بحركتهم في التاريخ إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك فإن المسلم لايتعقد من اليهودية في إطارها الفكري الديني الشرائعي ، وإن كان يختلف معها في بعض ما أستحدثه المنتمون إليها من أفكار منحرفة، أدخلت في التوراة فشوهت الصورة الحقيقية للدين الإلهي ) "1" يقول تعالى : (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)سورة العنكبوت آية46 . فالله سبحانه يطلب من رسوله ومن المسلمين جميعا مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن واستثنى الظالمين منهم، الذين يقتلون ويغتصبون بغير حق. وانطلاقاً من مبدأ الدعوة إلى الإسلام، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم برسائله المعروفة إلى الملوك والزعماء الذين كانوا يحكمون البلاد، آنذاك . فبعث برسائل إلى المقوقس ملك مصر، وإلى هرقل ملك الروم ، وإلى كسرى فارس وإلى زعماء القبائل المنتشرة في الشام والعراق. وتعتبر هذه الرسائل من أهم أنواع الحوار آنذاك حيث تبين الهدف من الدعوة والغاية المرجوة من إفهام الآخرين طبيعة هذا الدين الحنيف العالمي الإنساني. لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة إلى النجاشي ملك الحبشة وقد جاء فيها "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة سلْم أنت فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، حملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ،وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعنى وتؤمن بالذي جاء نى فإني رسول الله إليك وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى) "2" فهذه الرسالة حملت معالم الحوار الإنساني المنطقي الديني. الذي لا يمكن أن يقرأها عاقل إلا وجد فيها نفس الإخوة الانسانية. فليس فيها استعلاء ولا انتقاص ولا تهديد ولا وعيد. إنما فيها دعوة إلى الحق والعقل والمنطق. وإذا قارناها بالرسائل الاخرى وجدناها تحمل خطاباً خاصاً مختلفاً ،لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد بعث بعض المسلمين في هجرة معروفة إلى الحبشة حيث قال: إن فيها ملكا حليما. وهذا يدل على أن علاقة حميمة كانت موجودة سلفأ بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين ملك الحبشة. أما رسالته عليه الصلاة والسلام لهرقل ملك الروم فقد جاءت على النحو التالي:(بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين، ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران الاية 64 ) فمن الواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف المحاورين بما يليق بمقاماتهم فقال إلى عظيم الروم ولم يقل أي صفة أخرى أقل شأنا. أما بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فقد دعا نفسه بـ محمد بن عبد الله ورسوله ولم يصف نفسه بأي صفة دنيوية تدل على زعامة أو ملك. فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي صفة النبوة التي اختارها الله سبحانه لأنبيائه . ورسالته إلى المقوقس ملك القبط في مصر جاء فيها.(بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبدالله إلى المقوقس عظيم القبط سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم القبط ،( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران الآية 64 (4) وهي بنفس الأسلوب الذي حوته الرسالة إلى ملك الروم. وفيها تكريم للملك ، وفيها أيضا ذلك الحس الإنساني الإسلامي الداعي إلى الله سبحانه والتوحيد. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم برسائل عدة غير التي ذكرنا ومنها : 1-رسالة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني 2-رسالة إلى ملك عُمان. 3-رسالة إلى هذه بن على الحنفي وكان ملكاً على اليمامة ويدين بالنصرانية. 4-رسالة إلى أسقف نجران أبي الحارث. 5رسالة إلى جبلة بن الأيهم الغساني . 6-رسالة إلى ضغاطر الأسقف في دمشق من قبل الروم . 7-رسالة إلى يوحنا بن رؤية ملك إيلة ( العقبة) . 8-رسالة إلى أكيدر بن عبدالملك في دومة الجندل . 9-رسالة إلى ضروة بن عمرو الجذامي ملك ققان . ولو استعرضنا كافة الرسائل نرى أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم هو خطاب بالسلام ودعوة إلى دين الحق، فلا تهدد أحداً ولا تنزع ملك أحد، وغاية الاسلام أن يدخل الناس في هذا الدين مع المحافظة على مراكزهم وملكياتهم إن أسلموا، وهذا الهدف الإسلامي العظيم لم يأت إلا من خلال طبيعة الحوار الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسمه سلوكاً عملياً، يسير على هداه من جاء بعده من الخلفاء. لقد وضع الله سبحانه في قرآنه الكريم منهجاً كاملاً للحوار بين المسلم وغيره وشدد على الحكمة والموعظة الحسنة وعدم الإكراه في الدين، وبين سبل الدعوة إلى الدين الحنيف وأهمها الكلمة الطيبة والحسنة، فالسيئة والحسنة ليستا سواء بسواء. وعلى هذا المنهج الخالد سارت الدولة الإسلامية في كافة عصورها. فلم ينقطع الحوار بين المسلمين وأصحاب العقائد الأخرى خاصة أصحاب العقيدة النصرانية. وقد جرت حوارات فردية منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت إلى عصور متأخرة ومنها الحوار الذي جرى بين خالد بن الوليد وجرجة قائد قوات الروم يوم وقعة اليرموك. وهذا الحوار دونته كتب التاريخ كالبداية والنهاية لابن كثير وينسبون حواراً جرى بين الخليفة العباسي المهدي والبطريرك طيما ثاوس. وحواراً جرى بين هارون الرشيد وطبيبه الخاص. وحواراً بين كلثوم بن عمرو القنابي وابن فروه النصراني. وهناك عشرات الأخبار عن حوارات جرت على مدى تاريخ الدولة الأندلسية ودول المغرب العربي. ومن أشهر الحوارات في عصر النهضة ما جرى بين الشيخ محمد عبده وبعض المسيحيين مثل القسيس إسحق تايلور والمستشرق غبريال حانوتو. وقد شهدت الدولة الإسلامية في مختلف عصورها حوارات جماعية فكان الخلفاء يدعون إليها وقد جرت مثل هذه الحوارات في مجلس معاوية بن أبي سفيان وكذلك في مجلس عبد الملك بن مروان. وكانت غالبية هذه الحوارات تحدث بين علماء المسلمين وأقطاب المسيحيين من النساطرة و اليعاقبة. وهما فرقتان مسيحيتان اختلفتا في طبيعة المسيح. ولم يتوقف الحوار بين علماء المسلمين وغيرهم من أصحاب العقائد، على مدى القرون السابقة، على الرغم من الموقف العدائى لبعض الاطراف. لقد رسخ الإسلام منهج الحوار في النفس المسلمة حتى أصبحت ذات طبيعة مسلكية دائمة. فهكذا هي طبيعة الدين الحنيف الذي جاء رحمة للعالمين سبيله الحوار وعدم الإكراه في الدين. ولذلك نرى أن الكثيرين اليوم من أبناء الغرب يقبلون على هذا الدين طواعية وبقناعة تامة دون أن يقفوا تحت ضغوط نفسية أو دينية فهم أحرار فيما يختارون
المصدر:
http://arabic.islamic-call.net/modules/smartsection/item.php?itemid=79

الأكثر مشاركة في الفيس بوك