فلسفة الالتزام في الفن الإسلامي
نجيب بن خيرة
التقديم:
المسلم المعاصر ينبغي أن يخرج إلى رحاب الفن بمنهجه وتصوره ورساليته، فيتناغم مع حاجات العصر، ويتفق مع الفطر الإنسانية السليمة ، ويملأ الإحساس و الوجدان بمحبة الله ، ويثبت عبقريته وقدرته على التميز و العطاء و الإبداع ...
تمهيد :
إن التحدي الحضاري اليوم يضع الأجيال المسلمة المعاصرة أمام واجبات متعددة ومتنوعة ، ولا يمكن القيام بهذه الواجبات إلا من خلال مستوى متقدم من التخصص في مكوّنات المساحة الإسلامية وميادينها المختلفة ، ومن أهمها ميدان " الفنون " .
والفن هو محاولة التعبير عن الجمال و الحسن الذي يتراءى في أرجان الكون ، وينبعث من داخل كل صورة في الوجود ، فيبهر الإنسان ، ويغمر وجدانه بالإحساس بوجود وشائج نسب خفية، وأواصر تناسب عميقة بينه وبين هذا الجمال إلى حد الرغبة في الالتحام به أو الذوبان فيه .
وقد ظل الفن الإسلامي يملأ بإشعاعاته أرجاء العالم أٍربعة عشر قرنا ، عاش خلالها فنا متميزا في شكله وجوهره ، ينبثق من رحاب المساجد النابضة بالإيمان و الحياة ، ويتجلى في دروب حواضر الإسلام الزاهرة ، وترتسم زخارفه ، وتسطع توريقاته في عالم متحرك من الجمال الساحر ، والانسجام الباهر ، يحكمه حسن الإيقاع ، وتأتلف فيه الألوان المختلفة .
و قد بقيت شاهدة على عبقرية هذا الفن: المنمنمات في الأبواب و المشربيات ، والقباب و المآذن ، والخطوط المتألقة ، التي شكل لها القرآن الكريم منبعا متدفقا للإلهام على مرّ العصور فتُطرب العيون بروعتها ، وكذا العمارة الإسلامية المترعة بحسن شكلها ، وجمال هندستها ، وبديع نسقها ، حتى شارفت حدّ الكمال !.
وفي عالم متسارع يضج بالحركة بدأ الفن الإسلامي يخطو وئيدا ليأخذ مكانه في هذا العالم ، ويطل بعنقه على جماهير تتعشقه وتتذوقه ، ليفرض نفسه بديلا أصيلا للفن الهابط ،والتفنن الخليع .
و المسلم المعاصر ينبغي أن يخرج إلى رحاب الفن بمنهجه وتصوره ورساليته، فيتناغم مع حاجات العصر، ويتفق مع الفطر الإنسانية السليمة ، ويملأ الإحساس و الوجدان بمحبة الله ، راجيا أن يحقق انتصارات متلاحقة في معركة البناء الفني الهادف ، ويثبت عبقريته وقدرته على التميز و العطاء و الإبداع .
1 - الفن الإسلامي ـ المصطلح و المفهوم .
الفن الإسلامي -في تعريف محدد- هو الفن الذي يعكس التصور الإسلامي للوجود أيًا كان شطحه أو انحرافه عن التعاليم الإسلامية، أو حتى تمرده الآني على العقائد الإسلامية نفسها، ما دام يعود بطبيعته إلى مرجعيته الإيمانية في النهاية.
فما دام الذي يحدد كون الإنسان مسلمًا أو غير مسلم هو عقائده وتصوراته، وليس بعض شطحاته أو أفعاله أو تساؤلاته الكونية المتمردة؛ فإن نفس الأمر ينسحب على الفن الإسلامي أيضًا.
2 ـ مصطلح "الإلتزام " في المفهوم الإسلامي :
الالتزام لغة هو: التعلق وعدم المفارقة والاعتناق ، واصطلاحا هو اعتناق مبدأ ما ، وفق تصور ما ، والتعلق به تعلقا لامفارقة بعده.
ولما بدأ الاهتمام بشكل بدائي ببعض الأعمال الفنية، لاحظ بعض العلماء والمفكرين أن الفن الذي أطلق عليه "الفن الإسلامي" أي: الذي يوافق عليه الإسلام لا ينطبق على تلك الأعمال الفنية التي تظهر فيها صورة بعض الفنانين أو المنشدين في خارج ساحة الفن. فهم في المسرح والاستديو يقدمون الفن الجيد، ولكنهم في خارجه صورةً أخرى!
فتم اقتراح مصطلح "الفن الملتزم" وهو مأخوذ من العبارة الدارجة عن الإنسان المحافظ على قيم دينه الشرعي بمسمى "ملتزم".
"فالفن الملتزم" يعني إذاً: الفن الذي يوافق عليه الإسلام، ويؤديه الملتزمون بمنهج الإسلام أثناء العمل وبعده. وبالتالي لا يقع الخلل والإضطراب لدى الناس بين روعة العمل الفني الإسلامي من قبل هؤلاء الفنانين وبين سلوكياتهم العامة ومعاملاتهم الظاهرة المعلنة المخالفة للإسلام.
وحول هذا المعنى يقول الدكتور عماد الدين خليل : " والالتزام في المفهوم الإسلامي : أن يمتلك الفنان ـأولاـ تصورا شاملا متكاملا صحيحا للكون و الحياة والإنسان ، يوازيه انفتاح وجاني دائم وتوتر نفسي لا ينضب له معين إزاء الكون و الحياة و الإنسان ، ومن بعد هذا يجيء الالتزام عفويا متساوقا منسابا ...علاقته بالعطاء الفني لا تقوم مطلقا على القسر و التكلف و الإكراه ، ولا تعترف أبدا بالمدرسية أو الوعظية أو المباشرة .."([1]).
كما أن الالتزام بمعناه الإسلامي الواسع هو "الطاعة".والطاعة الحقيقة قناعة إيمانية، وفرح في قلب المؤمن، وسلوك مطابق لحقيقة العقيدة وكل ما يتعلق بها، الالتزام إذن عمل، يبدأ بالنية الصادقة، والعزم الذي لا يتزعزع، وينطلق من ممارسات واقعية في مختلف جنبات الحياة، إنه وئام بين الإِنسان ونفسه، وبينه وبين الآخرين، وهو يضم تحت جناحيه قيم الحياة الإسلامية وقوانينها أو أحكامها، وتصورات المؤمن لما يحيط الدنيا بالآخرة، ومرجع ذلك كله هو كتاب الله وسنة نبيه (ص)، والنفس ليست قوة تائهة ضالة، وإن كانت مسرح جهاد دائم، وصراع مستمر، فالصعود دائماً ليس حركة سلبية، والتسامي لا يتحقق دون جهد.
3 ـ خصائص الفن الإسلامي :
1. يقوم الفن الإسلامي على العبودية الخالصة لله تعالى فهو يقوم على أساس من عقيدة التوحيد وعلى تصور شامل للإنسان والكون والحياة . ولذا فلا مجال فيه للباطل من وثنيات وخرافات وأوهام وأساطير . ([2])
وذلك في الوقت الذي قامت فيه الفنون غير الإسلامية على التعبير عن التصورات الوثنية والانفعالات الخاطئة وأخذت تصور الآلهة على اللوحات أو تمثلها في التمثيليات أو تخاطبها في لحن موسيقي وكلام غنائي وكذلك تُنصب تلك المبادئ عبر فنونها أبطالاً يصارعون الآلهة مع وضعها آلهة لكل شيء في حياتنا فللخمرة إله وللشر إله وللخير إله وللخصب إله وهكذا . ثم إن القصة أو التمثيلية أو اللوحة المصورة في تصورهم يجب أن تترجم الصراع بين الإنسان والقضاء والقدر والفنان إنما هو إله أو نصف إله لأنه يكمل في فنه ما خفي من الكون.([3])
2. واقعية الفن الإسلامي ، بحيث يخاطب ويعبّر عن الواقع كما هو الواقع ، فيقرن بين المادة و الروح في تعبيره ، ويلحظ الآخرة و الدنيا في فلسفته ، ويبتعد عن التحليق في الخيال الخادع ، والوهميات الزائفة ، وينبذ اللاشعور الذي قام عليه الفن السرياني ، وهو ينظر إلى الطبيعة على أنها طبيعة مخلوقة لا خالقة .
ويكره الفن الإسلامي كل المحاولات الفنية التي تخرج الإنسان من واقعيته وطبيعته إلى واقع بعيد عنه ، أو حالة لا تتفق مع طبيعته ، فهو مثلا يحرم صناعة التماثيل لأنها لا تتفق مع واقع الإنسان وطبيعته ، حيث إن التماثيل تُهدد تصوره وتخرجه عن معتقده السليم ، ويصبح الإنسان حينئذ أسيرًا لكتلة من الحجارة أو الطين ، وسابحا في بحر من الأوهام و الخيالات ([4]).
3 ـ التحرر من الخرافات والأساطير التي تعتبر المادة الأساسية للفنون غير الإسلامية وذلك لأن التصور الإسلامي حارب الخرافات وحرر العقول من الأساطير وهذه الخرافات لا تتفق مع التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة بل تعتبر لوناً من ألوان الوثنية وإن كانت تسمى فناً .([5])
4. والفن في التصور الإسلامي وسيلة لا غاية والوسيلة تشرف بشرف الغاية التي تؤدي إليها فلذا ليس الفن للفن وإنما الفن في خدمة الحق والفضيلة والعدالة وفي سبيل الخير والجمال .
5. وللفن في التصور الإسلامي غاية وهدف إذ كل أمر يخلو من ذلك فهو عبث وباطل والفن الإسلامي فوق العبث والباطل فحياة الإنسان ووقته أثمن من أن يكون طعمة للعبث الذي لا طائل تحته .
6. إن الغاية التي يهدف الفن الإسلامي إلى تحقيقها هي إيصال الجمال إلى حس المشاهد [ المتلقي ] وهي ارتقاء به نحو الأسمى والأعلى والأحسن أي نحو الأجمل فهي اتجاه نحو السمو في المشاعر والتطبيق والإنتاج ورفض للهبوط ([6]).
7. استقلالية الفن وتميزه نظراً لاستقلالية التصور الإسلامي من كل الضغوطات الاجتماعية وغير الاجتماعية التي كانت تؤثر على الفنون في العصور القديمة ونظراً لتميزه عن كل التصورات فإن فنه يستقل ويتميز عن كل الفنون سواء كان هذا الفن شعراً أو قصة أو تصويراً أو تمثيلاً ويكفي أن الفن الإسلامي متحرر من القيود الوثنية التي أحاطت بالفنون خاصة في القرون القديمة والوسطى عند الفراعنة واليونان وأوروبا الكنسية وسيبقى متميزاً عن غيره ، بينما بقية الفنون تتداخل كلية ، وقد تتلاشى أفكارها وخصائصها في مرحلة من التاريخ([7]).
8 ـ التجريد والموسيقية: وهما من أبرز صفات الفن الإسلامي فالقيمة الجوهرية الكامنة في الفن الإسلامي هي إيقاعه وتجريده وما يصاحب ذلك من إحساس موسيقي رائع لا يجاريه فيه أي فن آخر، ولا شك أن هذا الاتجاه مرده إلى التصور الإسلامي للعالم والإنسان والله ومن أجل ذلك لم تكن وظيفة الفن الإسلامي نقل المرئي بل إظهار ما هو غير مرئي، ومحاولة الإحساس بالقوانين الرياضية التي تحكم هذا الوجود. وقد وصلت قمة الإيقاع الموسيقي في الفنون الإسلامية ذروتها في العمارة الأندلسية المغربية حيث تتجاوب أقواس العقود مع سائر العناصر المعمارية، وأحواض المياه والأشجار والمناظر التي تحيط بالمكان حيث يصبح المبنى وكأنه نبت من الأرض كما ينبت الشجر والنخيل.
9 ـ تحويل الخسيس إلى نفيس: من المسلمات في العقيدة الإسلامية العزوف عن الإسراف في بهرج الحياة باعتبار ذلك عرضا زائلا وما عند الله خير وأبقى، وإلى جانب ذلك فقد وصل ازدهار الحضارة الإسلامية في كثير من العصور إلى درجة عظيمة كما وصل الثراء إلى حد يفوق كل تصور، وكان في استطاعة المسلمين لو أرادوا أن يزينوا الأجزاء المهمة في المساجد بالأحجار نصف الكريمة واستعمال الذهب والفضة في الحياة اليومية، وهنا نجد ظاهرة إجماعية اقتصادية تحتاج إلى حل يحقق المواءمة والتوافق بين روح العقيدة وسلوك السلف الصالح، بين إمكانيات المجتمع وقدراته الاقتصادية العالية، وهكذا كان على الفنان أن يحقق هذه المواءمة، وأن يبتكر أسلوبا جديدا لحل هذه المعادلة الصعبة، وقد نجح الفنان المسلم في تحقيق هذه الغاية بابتكار الخزف ذي البريق المعدني ( وهو نوع من الخزف لم يُعرف إلا في الفن الإسلامي في ذلك الوقت، ويتيح الحصول على أوانٍ خزفية تصلح بديلا لأواني الذهب والفضة) ويذخر المتحف الإسلامي بمصر بالكثير من نماذج ذلك الخزف ذي البريق المعدني، والذي يعتبر من أرقى أنواع الخزف في العالم، ومن الحلول الابتكارية التي كان للفنان المسلم الفضل في تحقيقها المواءمة بين استيفاء المسجد للعظمة والفخامة، وهو ما تتيحه الثروة المتزايدة في المجتمع وبين ما يتطلبه الفكر الإسلامي في الالتزام بأسلوب السلف الصالح في الحياة البسيطة التي تقوم على صدق الإنسان مع ربه.
فاستطاع الفنان المسلم باستعمال أرخص الخامات إطلاقا كالطين والخشب أن يصنع محاريب المساجد من الخزف أو الخشب أو الجص بعد أن أثراها بالزخرفة والنقش، مما جعل هذه المحاريب قمة في الجمال والجلال. ومن أمثلة المحاريب الإسلامية الرائعة محراب السيدة رقية بالمتحف المصري الإسلامي ( العصر الفاطمي - القرن الثاني عشر).
وقد خلَّفت الحضارة الإسلامية نماذج عظيمة القيمة من التحف المعدنية والأثاث وبخاصة من البرونز المكفت والمشغول بالزخارف الدقيقة التي تبلغ حد الإعجاز وقيمة هذه التحف لا تعود إلى الخامات التي صنعت منها ولكن مردها إلى قدرات الفنان في الإنجاز ودقته البالغة في التنفيذ .
4 ـ الفنان المسلم ...صفات لا بد منها :
المنهج الإسلامي في بناء الشخصية يقوم على الشمول و التكامل ، و الملاحظ أن لدى الإنسان قابلية عجيبة للانجذاب نحو محور من المحاور ، وترك باقيها غُفلا دون أدنى اهتمام . فلا ينصرف جهد الفنان إلى فن ، ويترك مواهب أخرى تضمُر في نفسه وتتلاشى من اهتماماته .
" إن المرء ينتزع الإعجاب عندما تجتمع فيه ما تفرق في غيره ، وإن العناية الزائدة بجانب من الجوانب على حساب جانب آخر هو نوع من التنمية المشوهة . ..كما لو كان لأحد الناس يد طولها خمسة أذرع ، فمع أن ذلك لا يخلو من بعض الميزات إلا أنه بعيد عن الكمال و الجمال " ([8]).
وامتداد صفات على حساب أخرى يصيب الجسم بأورام سرطانية على حساب بقية الخلايا فيهلك الجسم كله.
وهذا " التورم " هو سرٌّ وراء فنانين لهم مواهب خارقة ، ولكن باعهم في ميدان القيم والأخلاق الفاضلة قصير ، لهم مشاعر ملتاعة ومع ذلك لا تخدم مشاعرهم قضية ، ولا تُسند موقفا شريفا ، ولا تخدم خلقا عفيفا .
و الفنان المسلم ـ وخاصة المنشد ـ هو الأنموذج الماثل للشخصية الإسلامية المتكاملة ، وفقا لصفات ضرورية لا بد منها ، فهو :
1 ـ الإنسان الموهوب : و الموهبة منحة من الله لإنسان من الناس ، بحيث يرهف حِسُّه وترقّ مشاعره ، وتنفذ بصيرته، إنها قضية غير مكتسبة ولكنها هبة . يقول الأستاذ محمد قطب :" والفنان شخص موهوب ذو حساسية خاصة تستطيع أن تلتقط الإيقاعات الخفية اللطيفة التي لا تدركها الأجهزة الأخرى في الناس العاديين، وذو قدرة تعبيرية خاصة تستطيع أن تحول هذه الإيقاعات - التي يتلقاها حسه مكبرة مضخمة - إلى لون من الأداء الجميل يثير في النفس الانفعال ويحرك فيها حاسة الجمال ، إنه كجهاز الاستقبال اللاسلكي الدقيق ، الذي تحس صماماته بالموجات الدقيقة الخفية فتلتقطها وتكبرها ، ثم تحولها إلى صوت ونغم صاف وجميل يهزُّ الأسماع" ([9]).
وإذا كانت هذه الموهبة هي السمة المميزة للفنان فلا بد حتى تؤتي ثمارها أن تستند إلى أرض صالحة ثابتة ، تأخذ طريقها سوية مستقيمة منتجة للظل الوارف والثمر الطيب وهذه هي السمة الثانية .
2 ـ الإنسان السوي : إنه الإنسان المتوازن الذي توفرت له الصحة النفسية الكامنة وهذه السمة هي نتيجة تلقائية عادية للتربية الإسلامية التي يسهم فيها البيت المسلم والمدرسة والمجتمع المسلم .و التوازن يجعل الفرد ذا عطاء إيجابي في جميع الميادين ، وفي كا الاتجاهات ، ذلك أن الوئام يخيم على حياته ، إذ كل من عقله وجسمه وروحه يعمل بتناسق تام بحيث لا يطغى جانب على آخر ، والفرد في مجتمعه كل منهما يكمل الآخر ..
إن الفنان قبل أن يكون موهوباً ينبغي أن يكون إنساناً سوياً يأخذ التوازن أبعاداً في كيانه له تصور كامل عن الكون والإنسان والحياة ، يدري غايته وهدفه في هذه الحياة، فهو واضح في كل شيء من وضوح منهجه وهو الإسلام ، تلك هي النفس التي يهيئها الإسلام في الإنسان، وحين تظهر الموهبة على هذا السطح الثابت الأركان يمكن أن تكون إيجابية فعالة معطاءة في سبيل الخير والجمال، ذلك أن ثقلها وضغطها لن يؤثر على ثبات القاعدة فلن يختل توازنها وتعاليم الإسلام ومنهجه يكفلان هذا الثبات المتوازن ([10]).
ولا يمكن أن يتحقق هذا التوازن في شخصية الفنان إلا بطاقة روحية تغمر كيانه ، وتملأ أقطار نفسه ، وتنقله من حيّز الانتماء العقلي أو الشعور الوجداني إلأى سلوك يتحرك ، وحركة دؤوب منضبطة بوحي السماء .
إنه الإيمان الحي المتدفق الذي نحتاجه دوما عبر مراحل الإبداع الفني ..مما يولد نهضة فنية ، ترقى بالإنسانية إلى تحقيق سنة الاستخلاف في الأرض .
وقد ينطبع هذا الإيمان على مظهر الفنان ، الذي وقر في أذهان الكثيرين أن مظهره ينبغي أن يخالف المألوف ، ويشذ عن القاعدة ، في طريقة حياته ، من ملبسه ، وتسريحة شعره ، واختيار ألوان وأماكن لهوه ،وديكور غرفته...إلأى غير ذلك مما يعمد الشواذ إلى فعله ، حتى يشعرون ويُشعرون غيرهم بالتميز والاستعلاء عن الجماهير الدنيا التي لا ترقى إلى تذوق فنهم ، وفهم سر حياتهم !.
ولا شك أن عصرنا هو عصر الصورة و الأشكال و الألوان و النظر الجمعي للعمل الفني يدخل في المعايرة " المظهر " بل يعطي له النسبة العظمى في التقييم .
وعلى هذا الأساس فالفنان الملتزم مُطالب إلى حد بعيد بالاهتمام بمظهره ، ويدخل ذلك يقينا في إحساسه بنفع الناس و الإحسان إليهم ، وعدم جرح الذائقة الجمالية لديهم .
يقول مالك بن نبي رحمه الله : " لا يمكن لصورة قبيحة ([11])أن ت توحي بالخيال الجميل أو بالأفكار الكبيرة ، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالا أقبح ، والمجتمع الذي ينطوي على صُور قبيحة لا بد أن يظهر أثر هذه الصورة في أفكاره وأعماله ومساعيه ..فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد يجد الإنسان في نفسه نزوعا إلى الإحسان في العمل وتوخيا للكريم من العادات " ([12]).
أما الفنان في الغرب فإنسان غير سوي ، فيرى فرويد أن الانحراف هو العلة في إبداع الفنان بينما يرى عالم النفس يونج أن الانحراف ما هو إلا نتيجة للإبداع فالفنان عندهم إنسان غير سوي([13]).
3 ـ الإنسان الملتزم بالإسلام تصوراً وسلوكاً ومنهاج حياة:
لا يظنّن أحد أن الحرية تفقد وجودها في ظل الإلتزام، فالفنان المسلم في حرية كاملة تأخذ أبعادها في مشاعره وتصوراته ، كما تأخذه في حياته العملية وفي تطبيقاته ذلك أنه قد طرح من حسابه ما وراء القيد الذي يفرضه الإسلام، إذ الإسلام حرية القيد لا حرية الحرية والمثال يوضح ذلك فالخمر محرمة في الإسلام فالفنان المسلم - وكل مسلم - يخرج الخمر من حياته فلا يعود لها وجود فيها، فبذلك لا يشعر أن حريته قد تأثرت بمنع الاقتراب منها وكذلك جميع الممنوعات الأخرى، وإذا بقي لها من وجود فهو وجود الشر الذي يحذره ويبتعد عنه بدافع القناعة الكاملة والحرية الكاملة ... إن الالتزام لا يخدش كرامة الحرية لكنه يبعثها من منطلقات صحيحة ويحلها بمكانها اللائق بها بعيداً عن منحدرات الإسفاف والرذيلة([14]).
وهناك فرق كبير بين الالتزام والإلزام. فالأول فعل واعي طوعي نابع من مبادئ الفنان ورغبته في التعبير عن حضوره الفاعل في واقعه والتأثير في مجرى أحداثه. كما أنه يمثل إفصاحا عن إحساس الفنان بمسؤوليته تجاه جمهوره وإدراكه لطبيعتها وحجمها ثم تصرفه تبعا لذلك. أما الإلزام فإكراه وإجبار للفنان على توجيه إبداعه لخدمة قضية قد لا يؤمن بها أو يتفق مع أسلوب معالجتها وهنا حدث ولا حرج عن قهر حرية التعبير وخنق الإبداع وإشاعة الإسفاف.
5 ـ هل الالتزام داخلي أم خارجي؟
إنه هذا وذاك، بل الأصح أن نقول: إن التصور الإِسلامي، يجعل من الاثنين شيئاً واحداً، إنه الكل في واحد، أو وحدة الصفاء والتآلف والتحاب، فما في نفس المؤمن أو قلبه، ينسكب حباً وعدلاً وهداية، ويضيء جنبات الحياة، وما في الوجود من صور وحياة وكائنات، يتحول عبر التأمل والنظر الفاحص ترجمة صادقة لنعم الله وإبداعه وحكمته، إن منافذ الحواس تتداخل مع بصيرة المؤمن، فتعطي للوجود كماله وروعته، وتؤكد معنى الإِيمان بالله.
والالتزام ليس نقيض الحرية بمعناها الأصيل، إن مفهوم الحرية يختلف من فلسفة إلى أخرى، فالحرية في الدول الشيوعية ترتبط بلقمة العيش، ولا مجال لرأي أو فكر يضاد الفلسفة الماركسية أو يخرج على نظام الدولة، والحرية في أوروبا الغربية وأمريكا وغيرها لها مفهومها في حرية رأس المال، وفي التعبير الفردي مهما أضر بالقيم، أو جانب الطبيعة الإِنسانية السوية، ويبقى الإِنسان مع ذلك مقهوراً تحت وطأة الحياة الآلية، والعزلة القاتلة، والتمزق الاجتماعي، والتسيب الخلقي، ولا بأس أن يتمرد أو يقتل أو ينتحر أو يغرق نفسه في خضم المخدرات والمسكرات والجنس.. فهذا حقه.. أعني حريته..
وفي الإسلام هناك ضوابط لم يخترعها فرد، وموازين لم ينصبها حاكم بمحض فكره وإرادته، إن تلك الضوابط والموازين من صنع الخالق جل وعلا، وهي أحكام ليست مجال تحيز أو افتئات أو نزوات، روعيت فيها طبيعة الإِنسان وإمكاناته وقدراته النفسية والعقلية والبدنية، أحكام لم تنبع من موقف آني سرعان ما يزول، أو ارتبطت بإنسان خاضع لسنة الموت والحياة، أو تصاعدت من رغبة طبقة دون أخرى، أو ارتبطت بقهر الإنسان وتطويعه وإهدار كرامته وإنسانيته، هذه الضوابط والموازين أو الأحكام هي من صنع الخالق الرحيم العادل الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدورُ}(غافر: 19)، وهي في جملتها وحي {إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيّ يُوحَى}(النجم: 4)، والمسلم خاضع لحساب الدنيا _ وفق الحدود والعقوبات الشرعية _ ولحساب الآخرة عند من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وحرية المسلم في هذا الإِطار، حق القوي والضعيف، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والمالك والأجير، ولك مطلق الحرية في مالك بشرط أن تكتسبه من حلال، وتنفقه في حلال، وتعطي كل ذي حق حقه {... وآتُوهُم مِّن مِّالِ اللهِ الَّذِي آتاكُم}(النور: 33).
والمعاشرة الجنسية حق في إطار المشروع، والسلطة حق في نطاق العدل الإِلهي، ومراعاة حقوق العباد، والامتلاك حق دون اغتصاب أو استغلال أو جور، والاستمتاع والرفاهية حق دون رذيلة أو وزر أو فساد، وهكذا نستطيع أن نسرد الاحتياجات والطموحات الإنسانية، فنجدها حلالاً طالما لم تهدر حقوق الله أو العباد.
فالالتزام في فكر المؤمن وقلبه ليس نقيضاً للحرية، فكيف يكون الالتزام الإِسلامي نقيضاً للحرية وهي جزء منه؟
والالتزام الإسلامي ليس جموداً وتحجراً.وذلك لأنه التزام بالثوابت والأصول التي لا تتغير أبد الدهر، فالتوحيد عقيدة مستقرة لا تغيير فيها، والعبودية لله صدق وحق، وفروض العبادة لمن وهبك الحياة، وأنعم عليك بمالا يحصى من النعم لا جدال فيها، والشورى أصل من أصول الحكم، والعدل عماده، والصدق أمانة _ كما قال أبو بكر رضي الله عنه _ والكذب خيانة، وهكذا تبقى القيم الخالدة ما بقى الدهر، ويبقى الالتزام بها حفاظاً على الحياة، وحماية لها من الزيغ والفساد والانحراف والظلم والفتن.
الحرية تكون حقيقة عندما يتحرر الإنسان من قيود الخوف وشهوة المال والجسد، وعندما ينطلق من سجن المادة وبطش السلطة، وأطماع الحياة، وعندما ينتصر على الأنانية المريضة، ويفك عن روحه وفكره وجسده حبائل الشيطان.. تلك هي الحرية.
والالتزام _ في نطاق الحرية الإسلامية _ لا يضع قيداً على فكر، ولا يعطل مسيرة أي جهد علمي، ولا يصادر إبداعاً فنياً، إنه تحرير للطاقات الإنسانية كي تؤدي دورها، وتحقق ذاتها، ولا يحد من طبيعة التفاعل الإنساني الخلاق، وإذا كان التفاعل الكيميائي _ بلغة العلم _ له اشتراطاته وضوابطه حتى يتم وينجلي عن مركب جديد، فإن الحرية _ إن صح التعبير _ تحوطها اشتراطات وضوابط تجعلها تفعل فعلها على النحو الأمثل، فيتشكل الإنسان على هيئة كيان معبر عن قيم الحضارة الإسلامية، وبذلك يؤدي دوره الأمثل في الحياة، ويوصل الرسالة الخالدة بالصورة الصحيحة، دون تحريف أو تبديل، ومن ثم يقوم مجتمع متآخ متناغم، ينطبق عليه قول الرسول (ص) "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
والالتزام الأمثل انبثاق تلقائي من قلب المؤمن وفكره ونفسه، وهو ليس تصوراً هلاميَّا، وهم ينافحون عن الدعوة، ويدفعون هجمات الشرك والوثنية عن رسول الله (ص)، ويسفهون أحلام الجاهلية والضلال، ويرسمون المنهج السليم لحركة الإنسان المؤمن في الحياة.
وعاش حكام المسلمين الأوائل أيضاً في إطار هذا النظام أو هذا الالتزام، كما عاش الجندي في معارك الجهاد، والقاضي على منصة القضاء وصاحب رأس المال وهو ينمي تجارته، أو يطور صناعته، كذلك عاشه الفقيه واللغوي والطبيب والمؤرخ والجغرافي والرياضي وغيرهم.
الالتزام فن وفكر وسلوك وعلم، ومن هذا المنطلق يصبح للفن رسالة شامخة، وعطاء متجدد، يحقق المتعة والفائدة معاً.
6 ـ هل يمكن أدلجة الفن؟
لقد تعاظم الأثر المباشر للاتجاه الرافض لأي نوع من الأدلجة للفن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بعد بروز الاتجاهات النقدية الجديدة مثل البنيوية، وما بعد البنيوية، والتفكيكية التي دأبت تشكك في إمكانية طرح أية رؤية موضوعية للفن الإسلامي. وإحقاقًا للحق فليس اللوم كل اللوم يقع على الإسلاميين المتشددين الذين يرفضون الحديث عن أي علاقة للفن بالدين وحدهم؛ لأن أي حديث للإسلاميين الأكثر وعيًا بالدور المفاهيمي والقيمي لعلاقة الفن بالمجتمع يحاول العلمانيون تشويهه عمدًا؛ للتدليل من خلاله على التناقض الحتمي بين الدين والفن. وفي ظل السيطرة العلمانية على أجهزة الإعلام في الدول العربية والإسلامية فإن المحاولات الإبداعية التي تتم في اتجاه الفن الإسلامي يتم إجهاضها من المهد، في الوقت الذي يتساءلون فيه عن النماذج الدالة على وجود مثل هذا الفن.
وعلينا أن نقول بداية، وانطلاقًا من قاعدة كون الفن يرتبط أساسًا بالوجدان: "إن المعيار الأساسي في اعتبار العمل الإبداعي فنًا هو في قدرته على استثارة وجدان الآخرين، ومن ثَم فالفن يستقل بذاته في كونه فنًا؛ سواء ارتبط بالأخلاق أم لم يرتبط بها. وغاية ما نستطيعه حيال علاقته بالأخلاق هو أن نقبله أو نرفضه، دون أن يحق لنا أن نجرد هذا العمل من صفته الفنية بحسب موقفنا الأخلاقي أو الأيدلوجي منه".
أما القول بإمكانية أدلجة الفن إسلاميًا فليس بدعًا من الإسلاميين؛ فهناك الفن الاشتراكي الذي تُعد أعمال جوركي نموذجه الأمثل، وكذلك أعمال محمود درويش وأمل دنقل الأولى في العربية، والفن الوجودي الذي يمثله أدب سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامو (عند من يعدونه وجوديًا)، والفن المسيحي كما تراه في أدب فيكتور هوجو ودوستويفسكي (لاحظ التأثير الأدبي لعقيدة الفداء في رواياته: الجريمة والعقاب، والأبله، والإخوة كرامازوف)، وكذلك الشاعر الكبير أونامونو، والفن العبثي لدى كافكا وصمويل بيكيت ويونسكو. بل إن الفيلسوف العالمي جارودي قد ذهب في كتابه "وعود الإسلام" (أي قبل إعلانه الإسلام) إلى أن الإنتاج الشعري الإسلامي الذي أبدعه الرومي و الجامي والشيرازي هو أعظم شعر في التاريخ، وكان الشاعر الهندي العالمي طاغور يرى أن مواطنه الشاعر الإسلامي محمد إقبال واحد من أعظم الشعراء في العالم.
فادعاء الحيدة التامة للأفكار هو نوع من الدجل؛ فمجرد صدور سلوك ما عن الإنسان يعني موقفًا ما من الحياة، حتى العبث ذاته ناتج عن موقف ما. فسواء نتج عن العمل الإبداعي رؤية ما أو انعدمت هذه الرؤية؛ فإن ذلك تابع لموقف ما من الحياة. ويقول الفيلسوف الوجودي جان بول ساتر في هذا السياق: "ما دام الكاتب قد أخذ على نفسه أن يعمل عن طريق اللغة؛ فليس له بعد ذلك أن يتقاصر بهمته عن البيان، إذا اخترت لنفسك عالم الألفاظ ودلالتها فلا سبيل لك بعد ذلك إلى الخروج، دع الكلمات تنتظم حرة في سلك الجمل؛ فستحوي كل كلمة اللغة كلها، بل سيتحدد الصمت نفسه بالإضافة للكلمات، كما تأخذ السكتة في الموسيقى معناها من أصناف ما يجاورها من ألحان؛ فهذا الصمت لحظة من لحظات الكلام.
فليس السكوت بكمًا، ولكنه رفض للتكلم، إذن فهو نوع من الكلام. فإذا اختار كاتب أن يُمسك عن الكلام عن مظهر من مظاهر العالم، أو بالأحرى إذا اختار أن يمر به في صمت؛ فلنا الحق أن نضع له السؤال: لماذا فضلت الكلام في هذا الأمر دون ذاك؟ وبما أنك تتكلم قاصدًا التغيير؛ فلماذا تريد تغيير هذا دون ذاك؟. ويقول في موضع آخر: "يدرك الكاتب الملتزم أن الكلام عمل، ويعلم أن الكشف نوع من التغيير، وأنه لا يستطيع الكشف عن شيء إلا حين يقصد إلى تغييره، وقد تخلى عن ذلك الحلم المتعذر التحقيق مَن رسم صورة للمجتمع أو للحالة الإنسانية دون تحيز فيها؛ فالإنسان هو المخلوق الذي لا يحتفظ حيال موجود ما بالحيدة، والإنسان كذلك هو المخلوق الذي لا يمكن أن يرى حالة دون أن يغيرها؛ لأن نظرته تسجل، أو تهدم، أو تصور، أو تفعل فعل الأبدية في تمثيل الأشياء، إما بالحب، أو البغض، أو الغضب، أو الخوف، أو السرور، أو الحنق، أو الإعجاب، أو الأمل، أو اليأس، فبهذه المشاعر يتكشف الإنسان والعالم.