ثوابت المحافظين ومتغيّرات المجدّدين.. التاريخ الصعب لعهد الملالى
أ.د. سيّار الجَميل
معنى الانقسام
إن إيران غنية بتراثها السياسي والحضاري منذ آلاف السنين ، وهي باقية منذ التواريخ الكلاسيكية بلادا موحدة تجمع العديد من الأقاليم حول إقليم بارس (= بلاد فارس ) ، وكانت تشكّلت العديد من الأنظمة السياسية، والدول ، والحكومات السلالية فيها ، وكانت تجدد نفسها في كل مرحلة زمنية.. اليوم ، إيران تعيش مشكلة التغيير بين محافظين وإصلاحيين ، وان التباينات ليست بسيطة كما يتخيّل البعض ، بل هي عميقة وتتجّذر في انقسام اجتماعي واضح .. إن المجتمع الإيراني اليوم لا يحتمل نسيجه أي وجود للمحافظين ، خصوصا ، أولئك الذين أداروا رؤوسهم صوب المجهول ، وانغلقوا على أنفسهم ، وجعلوا إيران تنغلق معهم منذ ثلاثين سنة .. إن الإصلاحيين يطالبون بالمساواة في الحقوق بين الناس من جميع الأديان.. ويتطلعون للانفتاح على العالم .
حصاد ثمار المناضلين
مضى على الثورة الإيرانية ضد الشاه محمد رضا بهلوي أكثر من ثلاثين سنة ، فلقد نزل الإمام آية الله الخميني الذي عدّ قائدا للثورة الإسلامية ، ارض طهران يوم 1 فبراير 1979 ، وكنس بقايا نظام الشاه متحديا كل القوى السياسية التي ساهمت في صناعة الثورة ضد نظام الشاه السابق .. ونجح في تأسيس نظام الجمهورية الإيرانية الإسلامية ، وكان الديمقراطيون قد استشعروا خطورة هذا المارد الجديد الذي حرك المشاعر ، وأيقظ العواطف ، وبدأ مسيرة الإسلام السياسي لأول مرة بعد أن خابت حركات وأحزاب وقوى دينية في المنطقة قرابة خمسين سنة ، أي منذ تأسيس الإمام حسن البنا جماعته التي دعاها بالإخوان المسلمين .. نعم بعد شهر واحد فقط ، وجد الديمقراطيون عند أوائل شهر مارس 1979 ، أن الماء قد جرفهم وقذفهم بعيدا ، بكل آمالهم المنتظرة ، وخصوصا عندما أعلن آية الله الخميني قوله : “لا تستخدموا هذا المصطلح (= الديمقراطية)، إنها مفهوم غربي” ! وهكذا ، ومع موجات المتعاطفين وملايين الناس الذين وجدوا لأول مرة أنفسهم أمام رجل دين يحكم ، ويتحدث باسم المقدس الإلهي ، وقد استقطب اهتمام شاشات التلفزيون واجهزة الاعلام في كل العالم .. رجل خضّ العالم الإسلامي خضّا مبرحا .. في منتصف شهر أغسطس 1979 ، تم في إيران إغلاق عشرات الصحف والمجلات المعارضة لفكرة الحكومة الإسلامية، وخرج الخميني مستنكرا غاضبا تلك الاحتجاجات ضد إغلاق الصحافة، وقال : “كنا نظن أننا نتعامل مع بشر، من الواضح أن الأمر ليس كذلك” !! بعد نصف سنة ، بدأ قمع المعارضة الإسلامية المعتدلة المتمثلة في حزب الشعب الجمهوري، واضطهد العديد من كبارها، ورموزها منهم آية الله العظمى شريعتمداري الذي وضع تحت الإقامة الجبرية. وفي مارس 1980 ، بدأت فوضى “الثورة الثقافية”، إذ أغلقت الجامعات الإيرانية التي كانت معاقل حصينة لليسار وللماركسيين ، وبقيت موصدة لمدة سنتين من اجل تنقيتها من معارضي النظام الديني. في تموز/يوليو فصلت الدولة الثيوقراطية الجديدة 20.000 من المعلمين و 8.000 تقريبا من الضباط باعتبارهم “متغربين” أكثر مما يجب ! إن العدو الحقيقي للنظام الإسلامي سواء في إيران أو في غيرها ، هو ” التغريب ” ، وهو ببساطة صفة أخذت تطلق على كل من لم يؤيد النظام الديني ، أو بصراحة ، من يعارض الإسلام السياسي !
الايديولوجية : مشروع ولاية الفقيه
ومضى النظام الإيراني يرسّخ نفسه طارحا مشروع ” تصدير الثورة ” للعالمين العربي والإسلامي ، وما زال يعمل بهذا ” المشروع ” حتى وان اختفت تسمية ” التصدير ” .. لقد خاض الحرب العراقية الإيرانية ، وبقي صامدا ولم يسقط ، وعاش أزمات داخلية مريرة في داخله ، ولم يسقط .. وشهد سقوط أنظمة قوية من حوله بدءا بالاتحاد السوفييتي والباكستان وأفغانستان والعراق ولم يسقط .. فما السر في بقائه حتى يومنا هذا ؟ انه مالك لأيديولوجية دينية ، ولأول مرة في تاريخ الإسلام ، يخرج احد رجال الدين عن صومعته ليغدو قائدا لثورة ، ولأول مرة يحكم رجل دين دولة باسم الإسلام معتبرا إياها ( جمهورية ) ! ولأول مرة يتبلور نظام حكم ديني على يد الإمام الخميني يسميه بـ ” ولاية الفقيه ” ويمنح نفسه سمات مقدسة وليا فقيها فوق جميع السلطات باسم الحكم الإلهي ! وبالرغم من تضمينها الدستور ، وقبولها من قبل عموم الإيرانيين ، ولكن النخب المثقفة والفئات السياسية الإيرانية ، لم تقبلها أبدا ، إذ وجدت أن الموت سيلحق بكل من يقف إزاء هذه ” الإيديولوجية ” التي قالوا بأنها مستمدة من صلب الفقه الجعفري في الإسلام ، علما بأن الامام السيستاني في حوزة النجف الاشرف بالعراق لم يقّرها أبدا .
وعي الجيل الجديد
اليوم ، يمضي أكثر من ثلاثين سنة على ولادة هذه ” الإيديولوجية ” التي خلقت تناقضات واسعة في إيران وعموم الشرق الأوسط .. بل وأحيت الانقسام المذهبي للإسلام كالذي عاشه العالم الإسلام إبان القرن السادس عشر .. اليوم ، يمضي جيل الثورة الإيرانية الإسلامية في طريقه المحفوف بالأشواك ، والمزدحم بالأعاصير .. ثلاثون سنة مضت ، بمعنى آن جيلا جديدا قد أصبح مؤهلا لتسلم دفة البلاد ، خصوصا ، وانه وجد نفسه على امتداد ثلاثين سنة مكبلا بالأصفاد ، وان ثمة ديمقراطية مزيفة استعارت إيران صناديق اقتراع من دون أن تمنح الحريات السياسية لأية أحزاب يمينية أو يسارية .. قبة البرلمان تذهب مجادلاتها هباء عندما يقول الولي الفقيه كلمته ! أما المرأة ، فلقد وجدت نفسها حبيسة في أكفان سوداء ! لقد اكتشف الإيرانيون بأنفسهم أن ثرواتهم تتبعثر على مشروعات لا نفع لها على الناس .. كما وتصرف المليارات على من يؤيد إيران سياسيا وإعلاميا في العالم كله .. ناهيكم عما يصرف على أحزاب زرعتها إيران لأداء أدوارها بالنيابة عنها .. لقد انتبه الجيل الجديد إلى استعارة لا أخلاقية للديمقراطية ، وان الديمقراطية الحقيقية هي بمنح الحريات الشخصية والفكرية والسياسية والاجتماعية .. وهذا لم يحدث أبدا .. لقد استبدل الإيرانيون نظاما ثيوقراطيا مستبدا بعد أن أزالوا نظام دكتاتوري مستبد من قبله ! المشكلة في النظام الإيراني الحالي ليس كونه محسوبا على المحافظين حسب ، بل لأنه يعتبر الإصلاح والإصلاحيين دق إسفين لإزالة النظام الديني من جذوره ، علما بأن الإصلاحيين لم يعترضوا حتى يومنا على مبادئ الجمهورية ، ولكنهم يوصفون من قبل المحافظين أنهم نبت أمريكا في إيران ..
تطلعات جديدة
لقد أثبتت الأحداث بشوارع طهران ، والقلاقل التي لم تزل تحدث في مدن إيرانية أخرى ، أن الجيل الجديد وجد الفرصة مهيأة أمامه للتعبير عن نقمته من النظام السياسي الحاكم منذ ثلاثين سنة باسم الإسلام .. وان الإصلاح ، مبدأ أساسي ، ينبغي أن يطال كل المؤسسات الإيرانية قاطبة . إن الجيل الجديد بدا يتطلع إلى متغيرات العالم اليوم ، وتطوراته ، فضلا عن كونه يطالب بإصلاحات كبرى في مؤسسات التربية والتعليم والجامعات التي أصبحت لا تعبّر إلا عما يريده النظام الحاكم .. ناهيكم عن اعتراضات الملايين على السياسة التي يتبعها محمود احمدي نجاد رئيس الجمهورية.
ليس كل معارض أو إصلاحي هو أمريكي التوجه ، كما تلقى اليوم التهم جزافا .. إن الإصلاحيين لا ينفذون مشروعا أمريكيا ، علما بأن أمريكا لا يمكنها أن تكون بعيدة عن مجريات ألأحداث . إن آلاف الإيرانيين بعد أن كانوا يؤيدون السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية في الماضي. أن على أمريكا وبريطانيا أن لا تتدخلا في الشأن الإيراني ، واعتقد انه طالما استمرت إيران تواجه التشوهات والتهديدات ، فسوف لن تجد الولايات المتحدة بغيتها في تغيير حقيقي بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وإيران بشكل خاص !
هل تنطلق الحياة المدنية في ايران ؟
إن إيران اليوم تعيش قلقا سياسيا يعّبر عن واقع اجتماعي ملئ بالتناقضات .. نتمنى وجود بدائل حقيقية للإصلاح والتغيير معا على أيدي الجيل الجديد الذي يتطلع بحيوية إلى متغيرات الحياة ، وإتاحة الحريات الفكرية والسياسية ، وان تصنع إيران طريقها نحو المستقبل بأيديها .. وان يتعلم من تجربتها وإخفاقاتها كل العالم الإسلامي . إن العالم اليوم لا يعرف إلا لغة المعرفة والمعلومات ، الميديا والاتصالات .. إن انطلاق الحياة المدنية في إيران ، سيمنح منطقة الشرق الأوسط أمانا أكثر ، وتستقر المجتمعات من التناقضات والخلافات التي أحدثتها إيديولوجية ولاية الفقيه ، ناهيكم عن الانقسامات المذهبية التي فات زمنها اليوم منذ تواريخ مضت . فهل سيحقق الجيل الجديد أهدافه وتطلعاته في إيران ؟ أم انه سينتظر مرحلة قادمة لإجراء التغييرات الحاسمة ؟ هذا ما ستسفر عنه الاوضاع الحالية .