حتى لا يكون الحوار الحضاري يداً معلقة في الهواء

حتى لا يكون الحوار الحضاري يداً معلقة في الهواء

هذا زمن الحوار بامتياز حوار بين الشرق والغرب، وحوار بين الإسلام والمسيحية، وحوار بين الأنا والآخر، وحوار بين أوروبا وبلدان المتوسط، وحوار بين أميركا والعرب، وحوار بين الأشقاء، وحوار بين الأعداء·
هل يؤمن الحوار الحضاري شروطه أم أنه تحول إلى حوار طرشان؟ وبمعنى آخر كيف ننتقل من الحوار إلى وعي الحوار؟
بعد قصف الأفكار الذي احدثته نظريات فوكوياما وهينتجتون وفؤاد عجمي وبرنارد لويس، وردود الأفعال الغاضبة حوله تبنت الجمعية العامة قراراً بأن تكون سنة 2001 سنة للحوار بين الحضارات، وكلف كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة مجموعة من عشرين شخصية عالمية بارزة لدراسة أوجه الحوار بين الحضارات، صبتها في تقرير بعنوان >عبور الانقسام< أو Crossing the Divide شارك فيه من المفكرين العرب د·أحمد كمال أبو المجد >مصر< ود·حنان عشراوي >فلسطين<·
كان هدف التقرير- وبالتالي الحوار - تخطى الفوارق السياسية والدينية والإثنية والثقافية بين الشعوب، بالتركيز على عناصر التشابه بينها، يعترف التقرير بتقصيد الأجيال الحالية عندما حملت الأجيال القادمة موروث الخوف من الاختلاف الحضاري، ولذا فعلى الأجيال الحالية التفكير عن هذه الخطيئة بالعبور إلى الناحية الأخرى من الحاجز·
ووجهة النظر الرئيسية في هذا التقرير أن نقطة الانطلاق الحقيقية لأي حوار فعلي وبناء بين الحضارات تتمثل في مبدأ الاحترام المتبادل، والتسامح والوعي بالتعداد الهائل للحضارات في عالمنا، وخطورة انفراد إحداها بإدارة العالم، وأكد التقرير بالإضافة على إعلائه من شأن التنوع الثقافي على أن مبدأ التسامح بين البشر هو أساس قيام عملية الحوار وبناء الثقة بين البشر·
هل نقول إنه منذ برج بابل مثل الحوار بين الثقافات المختلفة حلماً بشرياً مجهضاً، وأن الدور الذي قامت به مدرسة الاسكندرية الفلسفية ظل استثناء لم يتكرر!
الدعوة إلى الحوار الثقافي لابد أن تستند إلى أساس أخلاقي: الرغبة في الاعتراف بوجود الآخر وحقه في البقاء·
كما أنه ليس هناك حوار معلق في الهواء، يبقى الحوار عاكساً لموازين القوة الحضارية، وهي غير متكافئة أصلاً، ولذا يفرض الطرف الآخر شروط وتوقيت، ولغة، وبنود الحوار، خذ مثلاً الاضطراب الهائل حول معنى >الإرهاب< والالتباس الناشب بينه وبين مفهوم >المقاومة<، ولذا فإن الجانب المهيمن في الحوار قد يفرض شروطه مقدما طالباً من الآخرين الإذعان لتعريفه ومصطلحاته·
إن هذا التحديد يفرض اختيار الطرف الآخر من الحوار فيستبعد من يستبعد ويختار من يختار·
يرى البعض أن الصراع القائم هو بين العالمية اللاإنسانية والقومية الإنسانية >عبدالله عبد الدايم مثلا<، بينما يذهب فريق آخر إلى أن مستقبل حوار الحضارات سيتوقف على الصراع القائم بين تحالف المثقفين العرب والمسلمين ونظرائهم النقديين في أوروبا وباقي دول العالم لإقامة حلف ثقافي ضد الإمبراطورية الأمريكية الجديدة >السيد ياسين<، بينما يرى البعض الثالث أن الصراع بين مفهوم >صراع الحضارات< الذي يتبناه الغرب ونموذج >حوار الثقافات< الذي يتبناه الشرق القديم، وكان موجوداً لدينا حتى ظهور الحضارة العربية الإسلامية، وعرفته اليابان، والصين القديم، وفارس، وحضارات ما بين النهرين وكنعان ومصر القديمة، وهو النموذج الذي أزدهر وتألق في ذرى الحضارة العربية الإسلامية >حسن حنفي< التأكيد على أن حوار الحضارات، وحوار الثقافات الآن لا يعني بالضرورة لا غالب ولا مغلوب·
ويذهب فريق رابع إلى أن الصراع اليوم ليس بين معسكرات سياسية ولا بين مناطق جغرافية، وليس بين آلهة الخير وشياطين الشر، وليس حتى صراع بين داخل وخارج، وإنما بين ثقافتين تتجسدان في الموطن الواحد، بل وعند الفرد الواحد هما ثقافة الحداثة وثقافة التقليد، ذلك أن مواجهة الآخر غدت اليوم أيضا مواجهة مع الذات >عبدالسلام بنعبد العالي<·
سبق للإسلام أن قرر الاختلاف كحقيقة إنسانية طبيعية حيث خلق الله الناس مختلفين عرقيا لغويا وإن كانوا في الأساس >أمة واحدة< هي أمة الإنسانية الرحبة، وإن هذا التباين لا يلغى آصرة الوحدة الإنسانية، ولذا يشكل احترام ثقافة الآخر، قاعدة أخلاقية إسلامية·
بل يرى الإسلام أن الاختلاف بين البشر، وتدافعهم هو أحد موجبات عدم فساد العالم {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} >البقرة -251<·
صحيح، أن الحوار لا يقوم إلا مع الآخر المختلف، لكننا نستدعي غياب حوار داخلي >حوار عربي - عربي، أو حوار إسلامي إسلامي، أو حوار بين الحاكم والمحكوم<، لكننا سنتخطى هذا البعد موقتا ونركز على الحوار مع الآخر·
يسعى الشرق في حواره إلى تصحيح الصورة المغلوطة التي كونها الغرب عنه، أما الغرب - الأوروبي بالأخص، فسعي إلى تصحيح الصورة السلبية المتكونة عنه في الذهن الإسلامي، وإيجاد حلول لمشاكله مع العالم الإسلامي بقصد إحلال السلام بينهما·
ننبه إلى أن حركة الاحتجاج ضد العولمة، وضد غزو العراق، وضد العدوان الصهيوني على الفلسطينيين، وآخرها المعركة ضد الجدار العازل تمثل بالفعل صورة من صور الحوار الثقافي بين مختلف الأقطار والقوى السياسية، وخصوصا أنها تتم في الشوارع والميادين، أي تلتقط زمام المبادأة العملية، كما تم في التظاهرات المعادية لغزو العراق وشلمت 6000 مدينة في 70 دولة، ومن هنا فأهمية ألا يدور الحوار الثقافي بين الحكومات والدول، على المستوى الرسمي فحسب، بل هناك دور للحوار الشعبي، والحوار بين الجمعيات والنقابات والاتحادات والمؤسسات الدينية، ومن الشروط السابقة لنجاح الحوار الحضاري احترام حق تقرير المصير، وعدم الاعتقاد بتفوق ثقافة على ثقافة لأن أحكام القيم لا تصدق على الثقافات، وهناك شرط الكف عن تزييف ثقافات الأطراف الأخرى وتاريخها، أو تحريفها، وهناك الهدف الكبير لهذا الحوار وهو وضع برنامج عمل مشترك، تسترد الإنسانية وجهها البريء، وتتحقق فيه كرامة المستبعدين والمهمشين والمطرودين من جنة السيد الأبيض، والمهم أن يقوم على قاعدة التساوي بين الأطراف·
وحتى لا يتحول الحوار بين الطرفين الى حوار بين الصم أو تبقى يدنا ممدودة في الهواء، ومعلقة في فراغ فظيع، الحوار الثقافي أكثر من كونه عملية تجميل للماضي العنيف أو الظالم أو العدواني، إنه في الأساس ممارسة تجاه المستقبل وبقدر ما يتخلى الطرف الأقوى عن غروره، وبقدر ما يتخلى الطرف الأضعف عن شعوره بالدونية بقدر مانؤمن للحوار نجاحه من موقع >شركاء وأنداد لا أعداء··· ولسان الحال يقول: الوطنية والإنسانية واحد في نظري، فأنا وطني لأني إنسان·
الدعوة المشتركة لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير ورئيس الوزراء الاسباني ثبايترو حول إطلاق حوار الحضارات من أجل مكافحة الارهاب لا ينبغي أن يمر من دون تعليق·
بح صوت مثقفي العالم الثالث من أجل إحلال حوار الحضارات محل صدامها، ذلك الحوار الذي ينطلق من موقف الاحترام الكامل لتنوع الثقافات، وحق الحضارات المختلفة في التعايش والتفاعل، والتكافؤ بين ثقافات المجتمعات البشرية·
تجئ دعوة بلير وثبايترو لتوظيف هذا المسعى الإنساني من أجل تهديد ظرفي أصاب البعض، لكنه ينطوي على مسلمة لصق الإرهاب بالإسلام، وهو ما جسدته التهديدات أو العمليات الإرهابية ضد البلدين والتي نفذها أفراد مسلمون، بما يعني أن هذه الدعوة في الحقيقة تفترض أن الثقافة الإسلامية وحدها هي التي تهدد الثقافة والمجتمعات الغربية·
سبق أن أوضحنا، وأوضح مثلنا العديد من الكتاب والمفكرين المسلمين موقف الإسلام من الصراع أو التصادم بين الحضارات، حيث يحكم العلاقات بينها مبدأ (توازن المصالح) وليس (توازن القوى) بين الحضارات والأمم والشعوب، وهو عدل متوازن، كما أن الرؤية الإسلامية تستخدم مصطلح (التدافع) لا (الصراع) لوصف طبيعة العلاقات بين الحضارات المتباينة وإن كنا لا نسهب في هذه العجالة الحقل الدلالي لمفهوم (التدافع)·
في حديث أخير لأحد منظري النيوليبرالية الفيكتورية التي توجه أداء الادارة الأمريكية المعبرة عن أجندة المصالح الرأسمالية والاحتكارات الضخمة حدد فرنسيس فوكوياما، القطب الفكري الأمريكي البارز، صياغته للصراع بين الحضارات بقوله بالحرف: إن >الجهاد< Giladism هو التحدي الأساسي لليبرالية، لأنه نوع مغاير من الأيديولوجيا، وربما الأشرس، لكن أظن في النهاية أنه لم يكتب له النجاح، سياسياً على الأقل·
اختزل فوكوياما هينتجتون المسألة الشهيرة حول >صراع الحضارات< بين الإسلام والغرب، إلى دائرة تشريحية وظيفية داخل الثقافة الاسلامية وهي الحركة الجهادية، ولعنا نلاحظ استخدامه للمقطعlsm في مصطلح الجهاد، في إشارة إلى كونها مذهباً فلسفياً وسياسياً، وهو أنه كان يشير إلى الأيديولوجية الصدامية التي يستخدمها الراديكاليون الإسلاميون مثلما تمثله تنظيمات القاعدة، وجماعة الزرقاوي إلا أنه يعبر عن جهل بطبيعة مفهوم الجهاد في الفقه الإسلامي، وهو جهل معرفي يتناقض مع موقف استاذة الانثربولوجيا الإسلامية كارين أرمسترونج، المفكرة الأميركية التي تعبر في كتاباتها وأحاديثها عن فهم دقيق لوظيفة الجهاد في الحقل الإسلامي، أوسع من مستوى العمليات الاستشهادية ومستوعبة أنه نهج حياة، وأسلوب لحياة المسلم يتجاوز مستوى القوة إلى مستوى أوسع من المجاهدة الحياتية المستمرة·
يفسر المفكر المصري المعروف، د· حسن حنفي مفهوم صراع الحضارات بأن الصراع بين الأيديولوجيات والكتل السياسية والاقتصادية المختلفة (اشتراكية ورأسمالية، شمال وجنوب، شرق وغرب، مركز ومحيط)، قد انتهى لصالح طرف واحد هو الطرف الأقوى الغربي (مركز ومحيط المركز/ الشمال)، وعلى الطرف الثاني أن يعترف، بالهزيمة، لأن المتفوق اقتصادياً وسياسياً بالضرورة متفوق حضارياً، ملمحا أن يكون المقصود إشغال شعوب الأطراف (مثلنا) بالدفاع عن هويتها المهدد، حتى تشيح بوجهها عن الصراع الحقيقي وهو الصراع الاقتصادي في عصر العولمة، وكأن العالم قد انقسم قسمين: المركز للاقتصاد، وللأطراف الحضارة·
ثمة تفرقة بين موقفي فوكوياما وهينتجون، لأن الأول يؤمن بأن الرغبة في العيش في مجتمع حديث هي رغبة كونية، في حين أن الثاني لا يؤمن بوجود نوع من القيم الثقافية الكونية المشتركة، وأنه يقول بوجود حضارات متعددة ذات خصائص كاملة هي غالبا متناقضة ومتصارعة ما رؤية المفكر العربي/ الإسلامي لشروط الحوار بين الحضارات، وليست كما طرحها السيدان بلير وثبترول بعد تفجيرات مدريد ولندن الشهيرة؟
الشرط الأهم هو التكافؤ، لكن هل يجري حوار متكافئ بين الحضارات؟ الإجابة بالطبع لا، لأن اختلاف القوى العلمية والتقنية في صالح الغرب، والتي تستبطن قيم الحضارات الغربية المتمثلة في العقلانية والفردية والحداثة والمادية، والوضعية لا الميتافيزيقية، على العكس في بقية العالم، وإن كان هناك >الأستاذ السيد يس< من يعتقد أننا على أعتاب بزوغ نظرية جديدة هي التعايش بين الثقافات باعتبارنا نعيش حضارة واحدة في الواقع، وكون قيم حقوق الإنسان في عالمنا الراهن تعبر عن حضارة عالمية واحدة·
لكي يبقى هذا الرأي مقيداً بظاهرة المركزية الإثنية الغربية، وظاهرة عسكرة العولمة، وتفجير العالم وقنبلته، وتنامي الفجوة بين الغرب والآخرين، وأنانية الغرب الذي تحكمه فلسفة قارب النجاة مما يهدد بإقامة حوار متكافئ، ونبيل، وعادل بين الأطراف المختلفة، ولعل مشروع الامبراطورية الأميركية، كما تبدو في جبال تورا بورا الأفغانية وفي الفلوجة وحديثة العراقيين لا يبشر مثال هذا الحوار الذي يبدو بين خصمين يرتدي كل منهما قناعا للتضليل، وهو ما يجعل من دعوة بلير وثباتيرو حول تحالف الحضارات من أجل الإرهاب تحت سقف الطموح بكثير·

المصدر: http://alwaei.com/topics/view/article_new.php?sdd=1262&issue=487

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك