الإسلاميون وهدر دم الكفار في التراث الفقهي
عبد الرحمن الحاج
يستند منظرو الحركات الإسلامية الراديكالية ـ بشكل خاص تلك التي انتقلت من "الجهاد" المحلي (في دار الإسلام) إلى الجهاد العالمي (دار الكفر أو الحرب) ـ إلى التراث الفقهي لتسويغ عملياتهم العسكرية التي قد يذهب ضحيتها العديد من المدنين، وثمة أصول فقهية تبدو أكثر أهمية من غيرها لتسويغ "اجتهاداتهم" تلك، يأتي في مقدمتها مبدأ "هدر دم الكافر"، وبالقدر الذي يبدو فيه هذا المبدأ مثار اعتراض كثير من المسلمين وعلمائهم اليوم؛ فإنه كان مبدءاً فقهياً ـ حسب خطاب الحركات الراديكالية على الأقل ـ سلم به المسلمون في كل اجتهاداتهم إبان العمر المديد للخلافة الإسلامية المجيدة.
وقبل أن أعرض ما يقال في التراث الفقهي أنوه إلى أن العديد من القراء والأصدقاء لم يرق لهم ما قلته (في مقال صحيفة الحياة (12 أيلول 2007) عن "الجدل الفقهي حول أسلحة الدمار الشامل") بأنه ثمة إجماع لدى فقهاء المسلمين على أن دم الكافر مهدور، وبالتأكيد لم أكن أرغب بأن يكون في الفقه الإسلامي إجماعاً من هذا القبيل ـ كما لا أحب كثير من الاجتهادات الفقهية أن تكون موجودة في تراثنا الفقهي، خصوصاً في الأحكام السلطانية والسير ـ إلا أن الأمر ليس اجتهاداً لي ولا رأياً ارتأيته، ولكن التراث الفقهي يمثل ـ مبدئياً ـ دعماً للقول بهدر دم الكافر إلى الحد الذي قال فيه العلامة الزركشي: " هدر دمه من المعلوم من الدين بالضرورة"! (البحر المحيط في أصول الفقه)، ولعل هذا المعلوم من الدين بالضرورة هو معنى ما عبر عنه الصحابي الجليل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الذي قال ـ فيما روي عنه ـ لأبي جندل حينما ردَُّه الرسول صلى الله عليه وسلم لأبيه سهيل بن عمر: "إن دم الكافر عند الله كدم الكلب"! وحسب الإمام الشافعي (رحمه الله) في كتابه (الأم) فإنه "إنما يحرم الدم بالإيمان، [سواء] كان المؤمن في دار حرب أو دار إسلام ... فالمسلم حرام الدم حيث كان"، وأما الكافر فإنه "من لزمه اسم الكفر؛ فهو كالزاني والقاتل، ولا يحقن دم الكافر حتى يسلم"، فالله تعالى "أباح دم الكافر وماله إلاّ بأن يؤدي الجزية أو يستأمن إلى مدة"، وبما أن وصف "الحربي" جزء من مفهوم "الكافر" ـ فكل حربي كافر بالضرورة، والحربي هو كل من ليس بمسلم ولا ذمي ـ فإن "الأصل إباحة دم الحربي" (كما يقول ابن قدامة المقدسي وغيره).
لا داعي للإسهاب في سرد النصوص التي تصرح أن دم الكافر هدر فهي أكثر من أن تحصى؛ ومراجعة التراث الفقهي تثبت أنه ثمة اتفاق لا خلاف فيه وإجماع لا لبس فيه على أن دم الكافر هدر، غير أن الخلط يحصل عادة في الفرق بين "هدر الدم" للكافر و"إباحة القتل"، هدر الدم يقصد به فقهياً بالضبط أن المسلم لا يطالب بعقوبة قانونية "دنيوية" من العقوبات الثلاث (القوت أو القصاص، الدية، الكفارة) وهي جملة العقوبات المنصوصة لمرتكب جريمة القتل (عمداً أو خطأً)، لكن ذلك لا يعني أبداً سقوط التعذير (عقوبة تقديرية)، كما أن هدر الدم لا يعني على الإطلاق إباحة القتل، ذلك أن من يطلق عليهم مهدوري الدم يشمل أشخاصاً لا يجوز قتلهم بالاتفاق (الطفل والمرأة والشيخ العاجز وكل من ليس قادراً على القتال لا بالرأي ولا بالمال)، وإنما يباح قتل الكافر المقاتل لدفع ضرره؛ فإباحة قتله لا تعني البتة أن قتله جائز إذا أمكن رد عدوانه دونه. المشكلة أن التراث الفقهي يساعد على ذلك، فكثيراً ما يتم استخدام تعبير الإباحة بدل تعبير الهدر، فيقال مثلاً "الكفر مبيح للدم"، أو "الأصل أن دم الكافر هدر" غير أن الأحكام المذكورة فضلاً عن السياق توضح بشكل لا لبس فيه أن المقصود هو هدر الدم وليس الإباحة.
ولكن ماذا يترتب على قتل من لا يجوز قتله من الكفار مهدوري الدم؟ يجيب الفقهاء بأنه "لو قتل من لا يحل قتله (من الكفار مهدوري الدم) فلا شيء فيه من دية ولا كفارة إلا التوبة والاستغفار؛ لأن دم الكافر لا يُتقوم إلا بالأمان؛ ولم يوجد" (أي: الأمان) على حد تعبير الكاساني فقيه الحنفية المعروف في كتابه (بدائع الصنائع).
علينا هنا أن ننتبه جيداً إلى أن المقصود بالكافر هنا هو كل من ليس مسلماً ولا ذمياً (في دار الإسلام) ولا مستأمناً ولا معاهداً، فالمستأمن والمعاهد (ولا يجوز عند الفقهاء عهد الأمان المطلق غير المحدد بأجل، ولا عقد عهد مطلق بدون أجل)، ذلك أن العهد يحقن الدم لكن هذا الحقن ليس مؤبداً (فالمعاهد المستأمن) ـ بتعبير أبي بكر الجصاص ـ "مباح الدم إباحة مؤجلة ... والتأجيل لا يزيل عنه حكم الإباحة كالثمن المؤجل لا يخرجه التأجيل عن وجوبه".
((لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد بعهده))، حديث شريف روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان مثار جدل واسع لدى الفقهاء، وقد فهم بعض الإسلاميين من الجدل الفقهي فيه أن ثمة خلاف حول مَنْ يدخل تحت وصف "مهدور الدم"، إلا أن التدقيق في النقاش الفقهي المنبثق عن هذا الحديث الشريف لا يدل على خلاف حول ذلك، وإنما يدور حول إمكانية تطبيق عقوبة "القصاص" فيمن قتل ذمياً أو مستأمناً أو معاهداً، وليس في إسقاط كل العقوبات المترتبة عن جريمة القتل، فثمة إجماع على أن كلاً من المعاهد والمستأمن والذمي محقونو الدم، والخلاف هو في رأي الحنفية الذين يعتبرون أن حقن الدم هنا مساوٍ لحقن دم المسلم على أساس مساواة النفس الإنسانية التي تدل عليها آيات القرآن الكريم وآية القصاص على وجه الخصوص، وذلك في مقابل رأي جمهور الفقهاء الذي يقضي بأن تطبيق عقوبة القصاص غير ممكن في الحالات المذكورة؛ إلا أنه لا يسقط عقوبتي الدية والكفارة.
دقة هذا المبدأ الفقهي وتشابكه مع العديد من القضايا والاجتهادات الفقهية جعلت كثير من الباحثين يخلط بين "علة الجهاد" و"علة إباحة دم الكافر"، وبين "علة إباحة دم الكافر" و"علة هدر دمه"، وبشكل مختصر فإن علة الجهاد في التراث الفقهي ـ كما تبدو لي ـ ليست "الحربية" أو العدوان على دار الإسلام وحسب (كما يقول الدكتور محمد سعيد البوطي مثلاً)، وإنما هي فوق ذلك لنشر الإسلام ورفع الظلم عن المستضعفين في الأرض أيضاً، ولهذا السبب فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، كما أن علة الجهاد ليست هي ذاتها علة هدر الدم، فعلة هدر الدم علة قانونية أكثر منها عقدية لها علاقة بالخضوع لأحكام دار الإسلام، وإباحة دم الكافر علتها الضرورة متمثلة بدفع عدوان المقاتلين حيث لا يكون ثمة سبيل آخر سوى قتله، ومتى زالت الضرورة زالت الإباحة قطعاً.
لا يبدو أن هناك تدقيقاً كبيراً في مفاهيم التراث الفقهي لدى كثير من "فقهاء" الحركات الراديكالية الإسلامية، فهناك تداخل كبير لديهم بين مفهوم "الهدر" ومفهوم "الإباحة"، شأن مفاهيم فقهية عديدة يمكن أن يلاحظها المرء في خطابهم الفقهي، صحيح أن التراث الفقهي يستند بشكل كلي على مبدأ هدر دم الكافر، لكنه لا يستند على الإطلاق على مساواة الهدر بالإباحة، ولا يقوم بتعميم الإباحة على كل كافر، وإذا لم تكن عقوبة قاتل مهدور الدم من الكفار الذين لا يجوز إباحة دمهم غير منصوص عليها في القرآن الكريم والسنة الشريفة فإن ذلك لا يسقط الإثم الكبير في قتل النفس التي حرمها الله ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾، و﴿من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً﴾.