التنمية والتعليم والتفكير الناقد ضد التطرف
ثقافة التعليم المجالات في دول الشرق الأوسط لا تعتمد على التفكير الناقد المستقل بقدر ما تعتمد على تحصيل الدرجات !!
قبل عدة أسابيع صدر كتاب إنجليزي بعنوان: «مهندسو الجهاد: العلاقة بين التعليم والتطرف» من تأليف الباحثين جامبيتا وهيرتوج. وقد تفضل أحد المؤلفين بتزويدي بنسخة من الكتاب بعد مراسلة دارت بيني وبينه. وسبب مراسلتي للمؤلف هي أنني قرأت مقالاً عربياً «يزعم» أن تلك الدراسة توصلت إلى أن المتخصصين في المجالات العلمية وتحديداً الهندسة قابلين للتطرف وذلك لأن طبيعة المنهج العلمي وهذه التخصصات تجعل المتخصص فيها يرى الأشياء بمعيار الصح والخطأ والأبيض والأسود وإقصاء الرأي الآخر.
طبعا هذا الفهم خاطئ وليس هو محور الدراسة، إذ لم تقل إن المنهج العلمي سبب في التطرف. بل إن الدراسة نفسها قائمة على المنهج العلمي في كل استنتاجاتها!
محور الدراسة هو محاولة تفسير سبب وجود عدد كبير من المهندسين في الجماعات المتطرفة العنيفة. علما بأن الدراسة بينت أن السعودية كانت استثناء، ففي العينات التي دُرست لم يكن هناك وجود يذكر لمهندسين سعوديين متطرفين، وأرجعت السبب إلى التنمية ووجود الفرص في السعودية منذ فترة الثمانينات -حيث إن أكثر العينة المدروسة هي لأشخاص تخرجوا في الثمانينات-.
وفي سياق الدراسة، وضّح الباحثان أن المهندس في بعض الدول يبدأ مشواره -قبل الدراسة- بطموحات وآمال عالية بسبب الهالة التي تحيط مجال الهندسة، ثم يصطدم بواقع مرير، فلا يجد وظيفة مناسبة ولا يتاح له المجال للتطوير، وذلك بسبب فشل بعض الدول في التنمية الاقتصادية، وعدم توفر فرص لأولئك المهندسين خارج دولهم. وذكر الباحثان أن اجتماع هذين العاملين (الطموح ثم الصدمة) قد يكون أحد شرارات التطرف.
وهناك عوامل أخرى يرى الباحثان أنها ينبغي أن تجتمع مع ما سبق ذكره لكي يكتمل تفسيرهم لكثرة المهندسين في الجماعات المتطرفة العنيفة. وسأترك مناقشتها للمتخصصين في هذا المجال. ما يهمني الآن هو أن وجود التنمية والفرص هما من العوامل المساعدة على الحصانة ضد التطرف.
بالإضافة لهذه الدراسة، هناك تقرير إنجليزي كتبه البريطاني مارتن روز بعنوان: «تحصين العقل»، تطرق فيه إلى أن «ثقافة تعليم» المجالات العلمية في معظم دول الشرق الأوسط لا تعتمد على التفكير الناقد المستقل بقدر ما تعتمد على تحصيل الدرجات (أو التعليم بالتعليب كما وسمها الزميل الكاتب عادل الحربي). ويرى الباحث أن ذلك من الأمور التي تسهل التحول إلى التطرف. وعليه فإن تطوير «ثقافة التعليم» هو من الأمور التي قد تسهم في التحصين من التطرف.
من المهم أن نؤكد على أن قضية التطرف واسعة، وهي ظاهرة موجودة منذ قديم الأزل، وتعاني منها المجتمعات بدرجات متفاوتة، وقد ترتبط بظروف خاصة بكل مجتمع. وهذا بالضبط ما وجدته الدراسة الأولى التي وجدت أن السعودية كانت استثناء في علاقة المتخصصين في المجالات العلمية بالتطرف.
صحيح أنه يوجد لدينا تطرف، ولكنها تظل فئة قليلة. ومن ينظر إلى مجتمعنا يجد أننا نسير في رحلة تقوم -من ضمن ما تقوم عليه- على التنمية والتعليم، وهي رحلة انطلقت منذ سنوات عديدة، وتجددت ملامحها مع الإعلان الأخير عن الرؤية السعودية 2030م.
كل ذلك يدعونا للتفاؤل بأننا إذا واصلنا المسيرة على هذا النهج التنموي والتطويري في كل المجالات؛ فإننا سنكون مجتمعاً غير قابل للتطرف في يوم من الأيام، إضافة إلى أننا سنكون مجتمعاً أكثر إبداعاً وإنجازاً وقوة، وسيكون اقتصادنا أكثر قوة باستقلاله عن النفط. ومجتمع كهذا يستحق أن يبذل له كل واحد منا أقصى الجهد، كل في مجاله.