من أجل التعايش والعفو والتسامح كقيمة سلوكية بين الثقافات
من أجل التعايش والعفو والتسامح كقيمة سلوكية بين الثقافات
عوض عثمان محمد نور فقير
Gofso19902008_(at)_hltmail.co
قد لا نكون بحاجة إلى التذكير بأن السودان يتكون من ست وعشرين ولاية ، وتحتوي هذه الولايات على أربعمائة وثلاثين قبيلة ومائة وثلاثين لغة . حضارات اندثرت وأخرى في طور النشوء . ثقافات تعاقبت وتداخلت وانصهرت لتكون تراكمات حضارية تشكل رصيد البشرية جمعاء ، ساهمت فيها كل قبيلة أو اثنيه بحصة قد تتفاوت حسب مكوناتها ومميزاتها وخصائصها في هذه الحقبة أو تلك .
صراعات ونزاعات تشب بين الفينة والأخرى حول المصالح والثروات ، لا تلغيان الأصل الذي هو المحبة والتعاون والتعايش بين القبائل والاثنيات .
هذا التعايش لا يمكن أن يتم بالتأكيد بدون آليات للضبط ذات طابع قانوني أو ثقافي أو قهري حتى . ما يهمنا في هذا السياق ،هو الجانب الثقافي والذي يعتمد على ترسانة القيم والأعراف والتقاليد . هناك ثقافات منغلقة على ذاتها ، خائفة ومفزوعة ، تهاب كل شيء خارجي وتعتبره خطرا سيفكك أوصالها . وهناك ثقافات تعتمد على منطق الانفتاح ولا ترى ضررا في التعايش مع الآخرين مهما تفاوتت طباعها وخصائصها لأنها واثقة من نفسها ومن قدراتها ... وهناك في المقابل ثقافات تنحو للهيمنة على الآخر ولا تنفتح إلا على من هو مستعد للتنازل والاحتواء لأنها تعتبر نفسها مالكة للحقيقة المطلقة و قد تفرض حقيقتها المفترضة هذه بقوة الحديد والنار. هكذا يختلف ميزان الانفتاح والتعايش أو الإقصاء والتهميش حسب محددات كل ثقافة أو حتى حضارة ومكوناتها الفكرية والاقتصادية والسياسية ... قد تختلف المساحيق الخارجية لكل حضارة أو ثقافة لتخفي وراءها العديد من أشكال الإقصاء والاحتقار للآخرين . علما بأن العديد من القيم هي منتوج قد يتأثر بميزان القوى الذي تحركه آليات الاقتصاد والسياسة هنا والآن. فالانتماءات ألوان وأشكال تتغير بتغير المساحيق ، وتوجد في كل مكان وزمان كعائق حقيقي للتواصل البناء بين البشر . حسب اعتقادي المتواضع لم يخلق الله البشر بما يميزهم من خصائص عقلية وروحية وجسدية وثقافية جد راقية ومبهرة كي يتعادوا فيما بينهم بدون رحمة ...لا شك ان كل أشكال العداء ... هي هدر وضياع في الأرواح والمنشآت المادية والمعنوية مهما خلقت لنفسها من بطولات . لا شك أن العنف والحرب والدمار هو اختيار كبار الجهلاء في اتجاه التخريب حفاظا على مصالحهم الضيقة جدا،جدا، جدا. وحسب نفس المنطق ، فإن أي شكل من أشكال العنصرية والنبذ والإقصاء للآخر هو هدر وضياع . ذلك أن لكل قبيلة مقومات تميزها عن الآخري ... ولكل ثقافة خصوصيات قد تغني رصيد الحضارة البشرية جمعاء ... في هذا السياق يمكن أن ندرج أهمية القدرة على التسامح كقيمة أخلاقية وفعل سلوكي له بالتأكيد فوائد اجتماعية غنية عن البرهان . بل كإحدى أدوات تدبير الخلافات والنزاعات الملازمة لمختلف تفاعلاتنا، وبالتالي هناك ضرورة ملحة من اجل التكامل والتعاون ضد آفات الطبيعة وأضرار الكائنات المضرة حتى وإن اتخذت طابع البشر. قد لا نضيف جديدا بتأكيدنا أن العيش على إيقاع الحقد والكراهية يعمل على تسميم الحياة اليومية ويبعث على الكآبة والحزن وبالتالي يشل كل إمكانية للشعور بالاستقرار مهما توفرت الشروط لذلك. قد يبدو هذا المنطق ساذجا في ظل العداءات الهوجاء التي هي مشتعلة في مناطق متعددة هنا وهناك ...وأنا لا أعني فقط العداءات االذاتية بل أيضا الرمزية . كل حوار يأخذ طابع العنف هو هدر وضياع وقيادة لدفة الشعب نحو الخلف . وحسب رأيي الساذج جدا، لن يستكمل الشعب إنسانيته إلا عبر تحقيق سلم شامل على هذه البلد الحبيبة وتعزيز سبل التعايش ما بين القبائل والثقافات والحضارات انطلاقا من منطق الاحترام والتقدير.فهل يتضدى عقلاء شعبنا من أجل هذه الأهداف ؟ ذلك أن تنشئتنا الاجتماعية في ظل هيمنة قيم ذات طابع إطلاقي بل تسلطي في الكثير من الأحيان قلما تؤهلنا للتعايش مع الآخر بشكل يضمن احترام خصوصياته واختياراته. علما بأن التسلط الاجتماعي هو أحد أشكال التسلط السياسي وربما الأكثر إيلاما وقدرة على تحجيم الناس وتكبيل انطلاقهم وتحويلهم إلى ركائز مسلوبة الإرادة رغما عنهم. ولعل فشلنا في تحقيق أنظمة ديمقراطية حقيقية يجد أحد أسبابه الأكثر عمقا في أنظمتنا الشمولية التي لا تعترف بحق الفرد وحاجياته النفسية خارج ترسانة التحريم والتجريم والتقزيم . لا شك أن هناك الكثير من أشكال الغوغائية هنا وهناك تعوق لحد الآن تعايشا حقيقيا بين الشعب، لكن تحديات العيش على أرضنا الطيبة ما فتئت تزداد تعقيدا وتفرض بالتالي ضرورة تعايش حضاري بين مختلف القبائل والاثنيات . ولا شك أيضا بأن ذلك لن يتحقق إلا عبر تطبيق مبادئ العدالة والمساواة وإنعاش قيم الحب والتآزر التي تحث عليها كل المعتقدات والأديان ذات المنحى السليم والبناء . أليس ذلك عين العقل ؟ لكن هل نستطيع جميعنا استبطان هذه القيمة الأخلاقية الكبرى وتحويلها إلى سلوك يسهم في سلاسة علاقاتنا الاجتماعية ؟ لا شك أن ذلك يتطلب مجهودا كبيرا من طرف كل واحد منا ، ولعل أول مجهود يبدأ بالاقتناع بأهمية هذه القيمة الأخلاقية وتحويلها إلى سلوك عملي يحضر باستمرار وتواتر في مختلف تفاعلاتنا . ولتسهيل هذه المهمة أورد فيما يلي المراحل التي يجب التمرن عليها بنوع من التصرف : المرحلة الأولي : أن نقبل بمراجعة الوضع حيث نبدأ باتخاذ مسافة تمكننا من رؤية الأمور بموضوعية أكثر....لاشك أن هذه المسافة ستجعلنا نحلل الأمور بطريقة مختلفة عن تلك التي باشرنا بها الأمور و نحن مقتنعون بأننا مجرد ضحايا للآخر الذي نعتقد جازمين في اعتدائه علينا بشكل من الأشكال , المرحلة الثانية : الاستعداد لإقرار العفو والتهيئة النفسية لاتخاذ هذا الموقف. المرحلة الثالثة : نحاول استشعار نوع من التعاطف مع المذنب أو المعتدي أو من أخطأ في حقنا ونغير موقعنا من موقف الضحية إلى موقع المتفرج أو الفاعل . لاشك أن هذه المرحلة تجسد نقلة نوعية في عملية التغيير المراد إنجازه . فمن الضروري محاولة تفهم سلوك الآخر من خلال تحليل مختلف حيثياته وقد يفضي بنا ذلك إلى الشعور بنوع من التعاطف والتعاضد . عندما نتوصل لتحقيق ذلك ننتقل للمرحلة التالية : المرحلة الربعة : التخلص النهائي من مشاعر العداء أو الكراهية التي تجعلنا نتألم كلما تذكرنا الواقعة , وهي مرحلة تشبه عملية التقيؤ حيث تتخلص المعدة من المواد غير المرغوبة فكذلك على المستوى النفسي يمكن أن نقوم بنفس الشيء لتطهير المشاعر وتحويلها نحو ما هو إيجابي ولا بد من التذكير بأن العفو أو التسامح ليس هو النسيان . ولا يمحو الواقعة بشكل نهائي .مالا نستطيع تجاوزه يتحدد حسب الوعي الخاص لكل منا للحادث أو الواقعة ، مع ذلك فإن القدرة على التسامح لها فوائده ، وبالتالي ففعل السماح ينبئ عن نبل السلوك والشخصية ويؤهلنا لعلاقات اجتماعية أكثر سلاسة ونجاحا . فلنقاوم هذه الهمجية الرعناء بكل ما أوتينا من عقلانية لكل منا حسب موقعه، من أجل التعايش والعفو والتسامح .
المصدر: http://ajrasalhurriya.net/ar/news.php?action=view&id=20164