مكة ورسالتها الإنسانية اليوم: من عبقرية المكان إلى حرمة الإنسان
احميدة النيفر
-1- البلد الأمين : الظرف والمظروف :
تستعمل النصوص المؤسسة الإسلامية عبارات مميزة تنعت بها بعض الأماكن التي تحمل معنى القداسة و التمجيد كــ "المقدس" والمحرم " و" المبارك". نجد لذلك أمثلة عديدة في القرآن الكريم كقوله تعالى :
- -" يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"(1).
- " إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى " (2).
- " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد "(3).
- " إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرّمها وله كل شيء وأُمرتُ أن أكون من المسلمين" (4).
- " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعلمين"(5).
- " فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين" (6).
ما يقدمه عموم المفسرين في خصوص هذه العبارات يؤكد أنها مواقع شرّفها الله لطهارتها التي نتجت عن محايثتها المطهَّرينَ من الأنبياء أو لنفعها الكثير وفائدتها الجمة فهي محرمة " صلاحا ومعاشا لقيام أمر الدين والدنيا عليها".
يتأكد هذا المعنى و يتعمق أكثر عندما نعرض هذه العبارات على الوجهة التوحيدية للنص القرآني وهي أساس بنائه والمنهج الذي ينبغي اعتماده في تمحيص كل القضايا المتعلقة بدلالاته ومفاهيمه.
من هذه الناحية الأولى لا بد من اعتبار أن "التوحيد" يمثل قاعدة البناء العقائدي والفكري للتصور الإسلامي، فهو الأساس الذي يحدد النظرة للكون والحياة والإنسان وهو المنطلق الذي تقرَّرُ عليه المفاهيم والأحكام، فالمؤمن الذي يُفرد الله بالعبادة والاستعلاء لا يستطيع أن يهمل التلازم المكين بين قاعدة التوحيد والقيم الخلقية و السلوكيات الاجتماعية المنصوص عليها. من ثم يكون التوحيد ليس فكرة مجردة إنما هو معتقد ينبني عليه فهم خاص للواقع الماثل والماضي المنصرم فضلا عن ملامح المستقبل المشرف.لذلك فإن المتأمِّل في النصوص القرآنية في وحدتها وتكاملها يقف بيسر على مدى التداخل بين هذين البعدين، نجد هذا في الآية 25 من سورة الحديد حيث نقرأ: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقومَ الناس بالقسط". نفس هذا التوجه يؤكده الرسول عليه السلام في أكثر من مناسبة وخاصة في آخر خطبة له عندما قال: "أيها الناس ألا إن ربكم واحدٌ وإن أباكم واحد" ٌ. ثم عقّب مباشرة "ألا لا فضلَ لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى"(7).
وإذا كان القرآن الكريم قد نزل دعوة للناس على اختلاف حظوظهم الفردية وأوضاعهم الاجتماعية فإن ترتيب أجزائه لم يكن حسب محاور منفصلة عن بعضها بل كانت الاهتمامات فيه متشابكة بين القضايا والمجالات التي يعالجها والقاعدة التوحيدية التي تظل مركزية يستوي في ذلك تعلّقه بمجال الكون والعالم و الخلق والآخرة و النظم الخلقية والتعبدية والتشريعية. كل هذه المجالات المختلفة وردت في النص متلاقية حول محور تصوري للإنسان في صلته بالله الواحد. بهذا تكون إحدى دلالات التوحيد الكبرى هي إعادة صياغة فهم المؤمن للكون والاجتماع وكذلك لنفسه ولعلاقاته مع الآخرين.
نفس هذه القاعدة تظل مرعية عندما تتحدث الآيات الكريمة عن أماكن معينة خصها القرآن بالتشريف. نجد هذا في دعاء إبراهيم عليه السلام :
-" وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " (8).
كما نجد هذا التلازم الغائي والمستمر في قوله تعالى :
- "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم " (9).
لكن التمعّن في عموم الآيات القرآنية المتعلقة بالعالَم يؤدي إلى التوصل إلى خطاب قرآني خاص بــ " المكان" تحدده ثلاثة عناصر تتضافر عدة آيات على إبرازها. هذه العناصر هي:
-أ- تَشْيِئَة العالَم : نعني به أن العالم بسمائه وأرضه، بجباله وأوديته وأنهاره وبحاره وما سواها من المفردات هي مخلوقة لله خاضعة لسلطانه مسخرة بأمره. هذه التشيئة تنفي أي قدرة أو فاعلية ذاتية لكل تلك الأجزاء وهذا ما جاءت تؤكده أكثر من آية مثل:
-" لله ملك السماوت والأرض يخلق ما يشاء " (10).
-" ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال " (11).
مؤدى هذا العنصر الأول في المجال الفكري والحضاري هو إقامة علائق موضوعية بين العالم والإنسان فبه تتراجع العقلية الأسطورية التي كانت تصوغ العالم صياغة سحرية. يتم ذلك عبر تحييده وانسحاب كل القوى الروحية الفاعلة منه وهو الانسحاب الضروري لميلاد معرفة جديدة. من هذه الجهة تعتبر العقيدة التوحيدية قطيعة معرفية مع الشرك وكل المعتقدات الإحيائية التي سادت البلاد العربية وغيرها. إنه تحوّل ضخم بالنسبة إلى الإنسان إذ أن تشيئة العالم تعتبر وسيطا لإنسانية الإنسان فبها وفيها يتعرف الإنسان على خصوصيته الإنسانية وتعدد أبعادها ومن ثم تبرز مكانته في هذا العالم الذي يصبح موضوعا للبحث ومجالا للفعل.
- ب- الزيادة المطّردة للكون: تُبرِز الآياتُ القرآنية العديدة عنصرا ثانيا متعلقا بالعالم وخصائصه داحضة به ما كان معتمدا من معتقدات لدى طائفة من العرب كانت لا ترى سببا لوجود هذا العالم إلا " الطبع المحيي والدهر المفني" أو ما يسميه مؤرخو العقائد " معطلة العرب". هؤلاء لم تهدهم عقولهم إلى الإقرار بالخالق والدار الآخرة فكأنهم عطلوا هذه المعتقدات ولم يروا فيها أية جدوى.
عن هؤلاء يقول القرآن الكريم:
- " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون" (12).
من ثم جاء الرد القرآني على هذا العقلية الثبوتية والقارّة مثبتا رؤية مغايرة تقوم على خلق لا يتوقف للعالم و مسيرة منفتحة لا تفتأ تنمو و تزيد.
يقول تعالى :
-" يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير " (13).
-" والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون" (14).
-" يسأله من في السماوات والأرض كلَّ يوم هو في شأن" (15).
هذه الآيات وغيرها حين تعرض صورة لعالمٍ بعيدٍ عن الجمود والتوقف إنما تفعل ذلك لتقر في الإنسان المؤمن من خلال حقيقة العالم المادي معنى لا يتأتى له إن أراد النجاة لنفسه أن يتجاهله. إنه قانون الحياة :
-" يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه" (16).
- ج- غائية العالم وآفاق الإنسان: من تركيب العنصرين الماضيين تتضح مكانة جديدة للإنسان في الخطاب القرآني ضمن حركية العالم المادي التي لا تتوقف؛ فمن التأسيس الضروري للتسخير المتيح للتمكين من موقع الخلافة في عالم تمسك به القدرة الإلهية الواحدة يحتلّ الإنسان موقع الاستخلاف فتتجاوز علاقته بالعالم الحدود الضيقة والمهينة التي انساقت فيها بعض الأوضاع القديمة من خلال نظرتها إلى العالم المادي. عبر هذه البنية التي تتيح سيادة على عالم يسبح لله يشرف الإنسان على أفق طالما حالت دونه الحواجز : أفق العالمية.
من هذا الترابط بين مجالي عالم لا يحمل قداسة ذاتية و عقيدة التوحيد التي تحقق انضباطا شاملا للكون وحركية دائمة يبرز إنسان جديد يتجاوز الانبهار بتعدد مظاهر الحياة وتشابك قواها واختلاف خصوصياتها. هذا الإنسان يصبح بمعارفه الجديدة والمتجددة قطب الرحى وبؤرة تفاعلات عالم لم يعد سوى معبر لإنسانية الإنسان يكتشف به نفسه ويصوغ من خلاله استقلالا واستيعابا لا يتوقفان. بذلك يكون مقصود العالم وغائيته، في التصور الإسلامي، هو بالدرجة الأولى أنسنة الإنسان وتحرره.
هذا ما تهدينا إليه آيتان تتناولان قضية المكان من زاويتين مختلفتين ، تقول الأولى :
"ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" (17 ).
بينما تؤكد الثانية في نفس السورة رؤية مغايرة إذ تقول:
- " ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " (18).
المكان في الآية الأولى متعلق بالله وبوجوده المتعالي وقدرته الشاملة، كل الأماكن تصبح من هذه الزاوية متساوية من حيث خضوعها للإرادة والعلم الإلهيين. بينما يصبح نفس المكان ذا أهمية ومكانة في الآية الثانية لتعلقه بالإنسان ووجهته إذ من خلال الإحالة على إحداثيات ذلك العالم المادي ينمو معنى الحياة الإنسانية وتزدهر.
باعتماد هذه العناصر الثلاثة يتضح أن الخطاب القرآني حين يعلي من شأن أماكن معينة فليس في ذلك إلا تركيز لعقيدة التوحيد ومبدأ الاستخلاف. عبر المكان يتاح للإنسان ارتقاء لا يتوقف بل يتحول بالإيمان والعمل إلى معنى لا ينضب وصيرورة واعية لا تتوقف.
بهذا ندرك ما يمكن أن تدل عليه الآيتان الأوليان من سورة البلد:
- " لا أقسم بهذا البلد وأنت حِلُّ بهذا البلد " (19).
لقد أقسم الله سبحانه بمكة البلد الحرام الذي شرفه بالبيت العتيق وقيده بحلول الرسول عليه السلام فيه لأن المكان يتحقق بشرف الإنسان وعظم قدره. إنه الظرف الذي يطيب بالمظروف. هي أم القرى، قبلة الشرق والغرب ومهبط الرحمات تعلمنا أن قدسيتها مرتبطة بقدر الإنسان الحال فيها لأنه يضيف بإيمانه وسعيه معنى جديدا للمحل الذي يكون فيه.
***
▀-2- البلد الحرام في المسيرة الإبراهيمية:
إذا كانت المواد اللغوية التي تعبّر عن معنى المقدس في مدونة الحديث النبوي قليلة لا تتجاوز تقريبا جذورا ثلاثة هي : ق دس /- /ع ظّ م / -/ح رم فإنها تتيح رغم ذلك تعميق الرؤية التي يمدنا بها الخطاب القرآني في نفس الموضوع.
أول ما يلاحظ أن النص النبوي يكثّف من استخدام مفهوم المقدس إما لوصف الذات الإلهية أو التنويه بالقيمة الدينية لبعض المواقع و الأماكن.
يمكن أن نذكر مثالا أولا فيه تمجيد للذات الإلهية وتنزيه لها :
-من رواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال .... ألا وإني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل "(20) .
نجد في خصوص الأماكن أحاديث تتعلق بمكة والمدينة وبيت المقدس (21). ما يستفاد من هذه الأحاديث توقير هذه الأماكن وتخصيصها بالفضل والتشريف. ولعل أشهرها هو حديث فتح مكة:
- عن أبي شُريْح الخزاعي أن رسول الله لما فتح مكة حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرّمها الله ولم يحرّمها الناس فلا يحِلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد تَرَخَّصَ لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذِن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حُرمتها اليوم كحُرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائبَ"(22).
هذان الصنفان من الأحاديث وإن كانا مرتبطين بسجلين مختلفين إذ أن أحدهما وهو الأول ذو طبيعة عقدية مرجعية بينما يحيل الثاني على مفهوم شعائري تثبت به قيمة دينية خاصة، هذان الصنفان يحيلان على نوع الثالث من الاستعمال لهذه المادة اللغوية و هو مجال يستخدم فيه معنى المقدس متعلقا بالإنسان.
نلاحظ في هذا المجال عدة أحاديث نختار منها اثنين ينسب أولهما القداسة للإنسان مما يفيد تشريفه لمناقبه ويوازن الثاني بين حرمة المؤمن وغيرها من الحرمات مقدما حرمة المؤمن على ما عداها.
نقرأ في الحديث الأول :
-" عن أبي سعيد الخدري: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه فاشتد عليه ....فانتهره أصحابه وقالوا ويحك!تدري من تكلم؟ قال إني أطلب حقي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هلاّ مع صاحب الحق كنتم؟! ثم أرسل إلى خولة بنت قيس ...فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه فقال أوفيتَ أوفى الله لك فقال عليه السلام: أولئك خيار الناس، إنه لا قُدِّستْ أمةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقّه غير متعتع "(23).
يدعم الحديث الثاني الأول من حيث تكريمه للإنسان والتشديد على عصمته ذاتا وحقوقا.
-" عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا ، ألا وإن أحرم الشهور شهركم هذا ألا و إن أحرم البلد بلدكم هذا ، ألا وإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا."(24).
ما يلفت النظر في هذا السجل الثالث من الأحاديث ذات المفهوم الأخلاقي والحقوقي أنها تشرف الإنسان وتربط الحرمات الأخرى بحرمته. يتضح ذلك من ربط تشريف الأمة وتقديسها بطبيعة فعلها وسلوكها ويظهر أكثر في الحديث الثاني الذي يقرن حرمة الأماكن والأوقات بحرمة الدماء والأموال أي بحرمة الإنسان: ألا وإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا.
ما يمكن أن يفيده مثل هذا التلازم هو الجانب التصوري والإجرائي الذي يريد أن يتميز به الخطاب الإسلامي في خصوص قضية القداسة سواء أتعلقت بالذات الإلهية أم بالقيمة الدينية لبعض المواقع و الأماكن، فالمعنى المستفاد من تعظيم الله والتأكيد على حرمته هو الاتباع والالتزام أما المعنى المقصود من توقير بعض الأماكن وتعظيمها فهو إثبات قيم دينية خاصة تكون تلك المواقع بمثابة الرمز الحي الحافز عليها للإنسان أيضا. في كلتا الحالتين ، حالة الإطار العقدي والإطار الشعائري التعبدي، فإن المركز المقصود في النهاية هو الإنسان.
هذا التلازم نقف عليه بوضوح في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين نظر إلى الكعبة وقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك" (25).
كما نجده أيضا فيما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من خطبته يوم بيعته إذ قال : "إن الله حرّم حرما غير مجهولة وفضلُ حرمة المسلم على الحرم كلها". (26).
ما يمكن أن تفيدنا به هذه القراءة لنصوص الأحاديث النبوية المتعلقة بالأماكن المقدسة وبالعناصر الثلاثة التي ينتظمها الخطاب القرآني في نفس الموضوع هو أن جوهر هذه القضية -إذا نظرنا إليها من خلال عقيدة التوحيد- يرتبط بالشرط الإنساني فهو مناط تعظيم بعض الأماكن وغاية تشريفها. لقد قطع التوحيد مع المفاهيم الجاهلية ومعتقداتها التي تنسب إلى بعض المخلوقات كالجن أو بعض الكائنات أو الأماكن مثل الأشجار أو الآبار أو الأودية أو الأوثان فاعلية ما. كذلك رفض الخطاب القرآني اعتبار الوجود ثابتا بل اعتبره خاضعا لله الواحد ولفاعليته التي لا تتوقف معاكسا بذلك القول بقدم العالم الذي كانت تعتمده بعض المعتقدات الجاهلية.
ضمن هذا الفهم التوحيدي و مواجهة لمعتقدات لا تفضي إلا إلى تفكك العالم وتهميش الإنسان برزت مسؤولية الإنسان في الوجود التي تقتضي التكريم والاعتراف له بالسيادة إزاء الموجودات الأخرى ومن ثم إثبات أهمية عمله في تحقيق الإرادة الإلهية. لكن نفس النظرة التوحيدية وإن هدمت الأوثان واقتلعت"ذات أنواط" وجعلت كل الكائنات مسلمة لله فإنها تميزت بنظرة للعالم المادي ذات صلة وثيقة بتكريم الإنسان وتحقيق مبدأ استخلافه.
من خلال هذه النظرة لا يكون المكان مقدّسا بتضاريسه ومناخه ومعطياته الجغرافية، بل بما يحصل فيه من تفاعل بين خصائصه المختلفة وبين الطاقات الإنسانية المادية والروحية التي تنسج حوله. بذلك يتولد للمكان وهج تاريخي ومقومات اجتماعية وثقافية لا تتوفر لغيره. إن عناصر التنوع والثراء الكامنة التي تتوفر لمكان ما لا يمكن أن تتحوّل إلى حراك وطاقة فعل بصفة آلية بل هي تتطلب قوة تركيب تتمثل في الإنسان الموحّد لها والمخرج لها من حالة الكمون إلى حالة الظهور والمشاهدة.
ولعل هذا ما يفسر تأكيد بعض الآيات القرآنية المتعلقة ببعض الأماكن المشرفة على هذا العنصر التركيبي للسعي البشري في إبراز ما هو موجود بالقوة في تلك المواقع. وذلك مثل إخبار الله تعالى عن البيت الحرام أنه مثابة للناس :
-" وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا "(27).
ما يمكن أن تفيده هذه الآية التي تنوه بإقبال الناس على البيت العتيق هو أثر سعي المؤمنين في علو شأن المكان وشخوص شمائله.
إن حركة المؤمن في توجهه إلى الله سبحانه وما يُبذَل في سعي لا ينقطع من جهد ومال ومواجهة المخاطر والمتالف، كل هذه المكابدة لا يمكن أن تضيع. لقد وعد الله عباده في سياق وثيق الصلة بالمكان و بتوجه المؤمنين إليه، أنه لا يستقيم أن تذهب جهودهم سدى (28).
مثل هذا الموضوع عالجه بعض العلماء القدامى فاعتبروا أن القول بمساواة ذوات الأماكن مردود (29).
ما نسعى إلى تأكيده فيما يلي ليس إثارة لخلاف قديم نشأ بين علماء بعض طوائف الأمة الإسلامية حول مسألة تشريف بعض الأماكن أهو لصفات قائمة بها أم أن كل ذوات الأماكن متساوية؟ ما نبغي الوصول إليه يتجاوز السعي لمجرد الانتصار لهذا الشق أو ذاك. إنه الحرص على طرح الموضوع باستيعاب تلك المناظرات ولكن ضمن اللحظة التاريخية التي نحياها اليوم وضمن ما يبدو لنا من متطلباتها الحضارية المتأكدة.
للوصول إلى هذا الغرض فإننا نعتبر أن ما نجده في مدونة الحديث النبوي حول أفضلية بعض الأماكن ثابت (30) وأن تعليل تلك الأفضلية ينبغي أن يستفاد من دلالات تلك المدونة في الموضوع ومن الخطاب القرآني في تكامله ومن خلال المسيرة الإبراهيمية بالذات.
ما تفيدنا به جملة هذه العناصر أن قدسية المكان لا تقتصر على شيء منحصر في المكان ذاته بل تتعداه لإنسان ذلك المكان الذي يوحّد أبعاده فيفتح بها آفاقا جديدة تظل كامنة أو ضامرة لولا المسعى التوحيدي للإنسان.
إذا تأملنا النصوص القرآنية ومدونة الحديث النبوي في خصوص موضوعنا تبين لنا أن أبرز من يقدم لنا ما يمكن أن يكون تعليلا لتفاوت الأماكن في الشرف والفضل هو إبراهيم الخليل في مسيرته التأسيسية الكبرى.
في هذه المسيرة نجد أنه اعتزل قومه وما يعبدون من دون الله وواجه طغيانهم وكيدهم إلى أن استحالت الإقامة بينهم فغادرهم :
-" فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين" ( 31).
انتقل من أرضه التي ضاقت به وساح في أرض الله الواسعة: من العراق رحل إلى أور ثم حران ثم فلسطين ليس معه في غربته سوى سارة زوجته وابن أخيه لوط :
- " فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم " (32)
ثم كانت مرحلة مصر ودخول إبراهيم بهاجر إلى أن يصل به الترحال إلى مرحلة وادي مكة مع إسماعيل وأمه :
-" ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم " (33).
لابد لنا من أن نلاحظ أن القرآن الذي لا يبدي اهتماما خاصا و تفصيليا بحياة إبراهيم في كامل مراحلها يتميز بمسلك انتقائي واعتباري للأحداث؛ ففي خصوص ما يتعلق بدعوته وصلتها بالمكان يبرز معنيان أساسيان :
-1- التوحيد رسالة تتجاوز حدود الأهل والقوم والأرض لكنها تظل مع ذلك تسعى إلى أرض طاهرة.
-2- رسالة المكان مرتبطة بحال أهله فلقد غادر إبراهيم أرضه رغم تعلقه بها لأنها ضاقت به ثم هو حين أراد أن يستقر دعا الله أن يصلح حال المكان بأن يجنب ناسه الشرك والبؤس.
لذلك فإننا إذا نظرنا إلى السعي الإبراهيمي ومدلوله بالنسبة إلى مسألة المكان لم نتردد في القول إن حرمة المكان لا تنفك عن حال من يقوم عليها فكأن بين الجانبين وثاقا لا يمكن أن ينفصم.
***
▀-3- مكة ورسالة الاستخلاف:
ترك الرسول صلى الله عليه وسلم مكة رغم تعلقه بها كما هاجر من قبله إبراهيم عليه السلام من أرضه لما ضاقت به أو ضاق به أهلها. ثم عاد الرسول الخاتم إلى مكة فاتحا مطهرا المكان الذي كان الخليل من قبله قد وضع قواعده ليكون بلدا آمنا. كان فتحا ولم يكن غزوا لثأر أو انتقام فعفا عن الأعداء والخصوم واعتبرهم طلقاء و فرض تكريما لمكة أن لا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها ( 34). فعل ذلك ثم عاد ليستقر في المدينة المنورة التي طابت له مقاما وأهلا ثم منها انتقل إلى الرفيق الأعلى فعادت روضة تشد إلى مسجدها الرحال. قال عنها عليه الصلاة والسلام :
-"إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة ودعوت لها في مُدّها وصاعها مثلما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة"(35).
يتبين أن مكة المكرمة هي مجال نموذجي تتجلى فيه قدسية المكان في أصدق تعبيراتها وذلك بالحراك الذي تكتنزه تلك البقاع. هذا الحراك الذي أتاحه سياق تاريخي ممتد ركّزته الرسالة الخاتمة بفضل عقيدة التوحيد و بفضل المسعى الإبراهيمي المؤسس. إذا أمكن لنا أن نقتبس عبارة بعض علماء الجغرافيا المعاصرين (36) قلنا إن ما أتاح لذلك الوادي القفر أن يسفر عن "عبقريته" الخاصة هو هذا الامتداد التاريخي المؤسس الذي بدأته المسيرة الإبراهيمية وتوّجته الرسالة الخاتمة. هي صيرورة ظلت توحّد عناصر شتى مركزة على عنصر قار ومتواصل هو عنصر الأمن. ذلك العنصر الذي تعبر عنه قيمة "حرمة الإنسان" والتي بدونها تتراجع عبقرية المكان وتخبو.
سرّ المكان لا ينفصل إذن عن حرمة إنسانه وإذا كانت مكة المكرمة قد عرفت تحوّلا ضخما في العصر النبوي فإن ما زاد من أهميتها إتاحتها لأماكن أخرى في الجزيرة العربية وخارجها أن تفتّق طاقاتها وتشخَصَ بــ " عبقريتها " أمام أعين التاريخ. لقد أنجزت بذلك بُعدا إنسانيا متجاوزة حتى حدود ذات الإنسان لتشمل مكونات البيئة بحيوانها ونباتها. هي –ما يمكن أن نطلق عليها- دائرة القداسة التي يتفاعل فيها الإنسان والمكان حول مركز التوحيد بأبعاده العقدية و المعرفية والحضارية. هي دائرة تصوغ معنى الاستخلاف الذي لا يقف عند مكان أو مجال.
لكن السؤال الذي لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان هو كيف يمكن أن نقرأ رسالة المكان اليوم على مسامع إنسانية قلقة تبحث عن المعنى وعن الإبداع؟ كيف يتأتى لمعنى الاستخلاف أن يتنزل في واقع بشري معاصر وهل يمكن أن يساهم في تغيير عالم اقتربت في جانب شعوبه وثقافاته دون أن يؤدي ذلك في الغالب إلا إلى مضاعفة الحواجز وتزايد التناكر؟
لا نتردد في القول إن الرسالة الاستخلافية التي ترمز إليها الأماكن المقدسة و التي تعبر عنها الرسالة الخاتمة ليست متعلقة بماض مثالي فقط (37) بل هي موصولة بمقتضيات الوجود البشري اليوم ورهانه الحضاري الخاص، بالإنسان وما يتطلبه ذلك الوجود وهذا الرهان من استعادة الفاعلية الفكرية والروحية للمسلمين. إن تفعيل العقول وإحياء الحياة الدينية هو أول شروط استعادة الرسالة الاستخلافية كامل عافيتها بحيث تصبح قادرة على ملاحقة الواقع في جميع مواقعه ومختلف تطلعاته.
وإذا كانت لمناسك الحج أكثر من دلالة فإن أشدّها تعبيرا عن البعد الإنساني الكامن في قدسية المكان هي تمكينها من اكتشاف حقيقة الأمة في واقعها وفي صيرورتها. إن اقتران الحج بمكة وبالمشاعر المقدسة وفي زمن محدد ومحرم هو الآخر ، مثل هذا الاقتران يجعل المؤمن في مواجهة فريدة من نوعها. ذلك أنها تؤدي إلى ولوج مستوى مختلف من الحياة مغاير لما عرفه في سالف أيامه عبر حياة تُعتقه من ضغوط متنوعة وجاذبيات قاهرة. فمنذ الإحرام و حتى طواف الوداع يواجه الحاج في مكان وزمان واقعيين ضربا من التجربة المنتمية إلى ما فوق الواقع أو ما وراء الجغرافيا. هي مواجهة متعبة لكنها فريدة لأنه يكتشف فيها نفسه وواقعه وما يمكن أن يؤول إليه ذلك الواقع في مستقبل قريب. من ثم يتحول الحج إلى اكتشاف وكشف أي إلى علاقة نادرة يقف فيها المرؤ أمام ذاته وإزاء من يشاركونه توقه ليتلمّس الوجهة التي ينبغي أن تتخذها " راحلته" في رحلة الوجود المضنية و ليعي جانبا من موكب الأمة في مسيرتها الصعبة. هكذا يصبح المكان المقدس معبرا ينخرط فيه الإنسان مكثفا رؤيته لنفسه ولموقعه المجتمعي ومطلعا على ذات أمته في علاقتها بمنابعها و عمق اهتماماتها وفي مواكبتها للسير الذي دشّنه إبراهيم الخليل حين أذّن في الناس بالحج.
تلك هي مكة في قدسيتها : مكان هو مهبط الوحي لذلك فلا يستقيم وجود الجماعة المؤمنة إلاّ به وهو محل التحوّل الذي ينكشف فيه ما يكون وراء عالم العيش من وجهة في مجال الحياة. هي المدينة التي تتيح للمؤمن أن يهاجر إلى مختلف أبعاد " الداخل" ليكتشف عالما مثيرا ومتشابك الأبعاد،فيقف على ذاته وأمته والحراك الذي ينتظمهما. ذلك ما عبّر عنه الأثر بقوله عن الحج : "هلمّ إلى جهاد لا شوكة فيه"، ففي تلك المحال ومنها يتبيّن المؤمن كما يتبدّى للمجاهد قوة التغيير الشخصي عنده والآفاق المدخرة لدى جماعته ، لذلك فهو يتطلّب جهدا حضاريا و استشرافا مستقبليا يظل الحاج بعد إنهائه المناسك ومغادرته البقاع المقدسة يجني ثماره حسب طاقته ودرجة إيمانه.
ضمن هذه الرؤية يصبح تصورنا للعالَم وللأماكن المقدسة فيه مدخلا لمزيد إثراء الحياة الإنسانية وبذلك تستوعب "دائرةُ القداسة" أحدَ الأبعاد الكبرى للرسالة الخاتمة ولأمة الإسلام وهو البعد الذي لا يقتصر على أمجاد سالفة و عصور ماضية بل هو استعادة للفعل الذي يتغلغل في مستجدات الأمور المستعصية ليجلّي الرحمة الإلهية أملا تراه أعين التاريخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-1-( المائدة 5/21) .
-2-(النازعات 79/16 ).
-3-( الحج 22/25).
-4-( النمل 27/91).
-5-( آل عمران3/96).
-6- ( القصص28/30) .
-7- مسند أحمد، كتاب باقي مسند الأنصار ، رقم الحديث 22391.
-8- (إبراهيم 14/35 ).
-9- (المائدة 5/97).
-10- ( الشورى 42/49).
-11-( الرعد13/ 15).
-12- ( الجاثية 45/24).
-13- ( فاطر35/1).
-14- (النحل16/8).
-15- ( الرحمان 55/29).
-16- ( الانشقاق 84/6).
- 17- (البقرة 2/115 ).
-18- ( البقرة2/150).
-19- ( البلد 90/1-2).
-20-من صحيح مسلم كتاب الصلاة باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود الحديث رقم 207
-21- وضعت أحاديث في فضل مدن عديدة مثل فضل البصرة وجدة وقزوين وعبدان وبطن الأردن وغيرها ويفسر بعض المؤرخين ظهور هذا الوضع مع تراجع الشعور بالانتماء إلى القبائل الذي حلت مكانه العصبية لحاضرة أو جنس أو شخص، انظر ابن عراق، كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة.
–22- صحيح البخاري كتاب العلم باب وليبلغ العلمَ الشاهد الغائب حديث رقم 104َ.
–23- متعتع أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه ؛ الحديث أخرجه ابن ماجه في كتاب الصدقات(17) باب لصاحب الحق سلطان ،حديث رقم 2426.
–24- أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن (2) باب حرمة دم المؤمن وماله . حديث رقم 3931.
–25- سنن الترمذي4/378 رقم 2032وصحيح ابن حبان13/75 رقم 5763.
–26- تاريخ الطبري ج2 ، ص 701.
–27- البقرة 2/125
-28- انظر الآية 143 من سورة البقرة 2.
-29- انظر ابن قيم الجوزية ، زاد المعاد في هدي خير العباد ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ط 27، 1415/1994، ج1 ص 53.
-30- انظر مثلا حديث أفضلية المدينة المنورة :
" عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم إن إبراهيم خليلك ونبيك وإنك حرّمت مكة على لسان إبراهيم ، اللهم وأنا عبدك ونبيك وإني أحرّم مابين لابتيها" :اللابتان هما حرَّتا المدينة . الحديث أخرجه ابن ماجه كتاب المناسك (104) باب فضل المدينة حديث رقم 3113.
–31- الصافات 37 /98-99.
–32- العنكبوت 29 /26.
–33- إبراهيم 14/37.
- 34- البخاري كتاب الحج ، 43 باب فضل الحرم ح 1587.
–35- صحيح البخاري كتاب البيوع ، 53باب بركة صاعه النبي ح 2129.
-36-د.جمال حمدان . شخصية مصر : عبقرية المكان . القاهرة 1980
-37- د جيفري لانغ ، حتى الملائكة تسأل ، دار الفكر ، دمشق 2001.