إشكالية التعايش بين الثوابت والخصوصيات

إشكالية التعايش بين الثوابت والخصوصيات
الأستاذة نوال السباعي

1-تحديد المصطلحات
تحديد المصطلح هو الخطوة الاولى للانطلاق نحو فهم العلاقة بينه وبين المصطلحات الاخرى , ومن ثم فهم طبيعة الموضوع الذي نحن بصدده .
إننا أمام ثلاثة كلمات مختلفة على الرغم من تعلقها ببعضها في موضوع بحثنا , تستعمل اليوم كاصطلاحات ثقافية وفكرية وسياسية , وهي على غاية من الاهمية والخطورة , يستعملها جميع جميع المشتغلين _ ادعاء أو خبرة_ بالفكر والثقافة والسياسة باعتبارنا نعيش في عصر العولمة في مطلع القرن الواحد والعشرين , الذي برزت فيه قضايا "إعلامية " في غاية من الاهمية والخطورة لتكون مادة حوار اعلامي عالمي , من ذلك حوار وصدام الحضارات , الحرب والسلم , الثوابت والخصوصيات , وبالطبع الاندماج والتعايش .
وحتى لايختلط الحابل بالنابل كما هو الحال في معظم ماكتب حول هذه الموضوعات فان مهمتي في هذا البحث ستتحدد في ثلاثة محاور لنسج خطته أولها اعادة انتاج المادة ذاتها التي قيل فيها الكثير جدا وصياغتها بحيث تخدم توجها فكريا واضحا وصريحا , وثانيها محاولة تحديد المصطلحات بشكل لايقبل اللبس , وثالثها طرح الاسئلة واستثارة الفكر للبحث عن الاجوبة الضائعة في مئات من البحوث والمقالات والكتب التي تزخر بها المكتبات والشبكة العنكبوتية والتي تشكل باللغة العربية متاهة لاتزيد طالب العلم الا ضياعا وتخبطا في هذا المجال .
لكي نستطيع بناء جدل بنّاء في بحثنا هذا لابد من البحث عن تعريف دقيق علمي واضح يقبله المختصون لكل من الكلمات الثلاث التي يدور عليها بحثنا, خاصة وأن (المصطلح الاسلامي شكل ودائما أحد الرموز الثقافية المهمة الدالة على خصوصية هذه الامة , وكان دائما أحد الدلالات الاساسية لهويتها الحضارية) "حسين محمد تقي الدين /فقه المصطلحات في الاسلام –بتصرف- ".
يعرف المصطلح بأنه الكلمة أو الكلمات التي يتفق أهل الاختصاص على ضرورتها لأداء مدلول معين في بنية النسق المعرفي المميز لعلم من العلوم أو ثقافة من الثقافات , ويعتبر المصطلح الخطوة الهامة الاولى لوضع منهج جديد في الفكر الاجتماعي , وهو النواة والبذرة للمنهج " نفس المصدر السابق".
التعايش :
جاء في القاموس الموسوعي الاسباني أوثيانو طبعة 1996 , التعايش من العيش , والتعايش هو العيش برفقة آخر أو آخرين , العيش مع بعض , صناعة الحياة الزوجية بين رجل وامرأة.
أما في المعجم الوسيط : تعايشوا عاشوا على الالفة والمودة , وعايشه عاش معه , والعيش معناه الحياة وماتكون به من المطعم والمشرب والدخل.
يقول "د.عبد الرحمن التويجري /السلام والتعايش مع الاديان" : اذا دققنا في مدلولات مصطلح التعايش CIEXISTENCE الشائع هذا العصر , والذي ابتدأ رواجه مع ظهور الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية اللتين كانتا تقسمان العالم الى معسكرين متناحرين قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين , فان البحث في مدلول هذا المصطلح يقودنا الى جملة من المعاني المتضاربة التي يمكن تصنيفها في ثلاثة مستويات:
** سياسي فكري : يحمل معنى الحد من الصراع
أو ترويض الخلاف
أو العمل على احتوائه
أو التحكم في ادارة الصراع بما يفتح قنوات للاتصال
والتعامل الذي تقتضيه ضرورات الحياة المدنية والعسكرية
وهذا أول معنى عرف به التعايش كمصطلح , وربما يكون أكثر التعريفات دقة وموضوعية وواقعية.
**اقتصادي : تعايش يتعلق بعلاقات التعاون بين الحكومات والشعوب فيم يتصل بالمسائل القانونية والاقتصادية والتجارية.
**ديني , ثقافي , حضاري: وهو الاحدث , المراد به أن تلتقي إرادة أهل الرسالات السماوية , والحضارات المختلفة في العالم من أجل السلام والامن "المصدر السابق بتصرف".
الثوابت :
ثبت "في القاموس المحيط" هو المشدود الذي لاحراك به, وليثبتوك أي ليجرحوك جراحة لاتقوم معها , ثم جاء في الحاشية ماهو أهم مما جاء في المتن في هذا الباب: ثبت من الاثبات هو الحجة الثقة في روايته , وفي المصباح : رجل ثبت : متثبت في أموره , وفي حديث قتادة ابن النعمان "بغير بينة ولاثبت" وفي حديث صوم يوم الشك"ثم جاء الثبت أنه من رمضان" والثبت بالتحريك "الحجة والبينة"."القاموس المحيط ص191".
نجد أن تعريف هذا المصطلح بالذات بل تحديد تعريفه أمر على غاية من الاهمية لأن هذا المصطلح من بين المصطلحات كلها أمر يتوقف عليه فهمنا لمصطلح الحضارة والثقافة والخصوصية , كما يتوقف عليه سير بحثنا هذا وفهمنا لطبيعة التعايش والمفاهيم المتعلقة به, ونجد كذلك لدى تعرضنا لهذا المصطلح أننا أمام معضلات فكرية اصطلاحية فقهية حقيقية , ليست مهمتنا ولااحتصاصنا الخوض فيها , لكن واجبنا ومهمتنا يجب أن يتوجها نحو طرح الاسئلة الضرورية في هذا الاتجاه :
** مالمراد بالضبط من هذا المصطلح في الاسلام
**من "هو" أو "هم" الذين يحق لهم , ويجب عليهم تحديد هذا المصطلح.
**ماهي العلاقة "الثابتة" بين "ثوابت الامة" , وأسس بنائها "الحضاري " من جهة , وبينها وبين الوضع "الثقافي " الراهن الذي تعيشه في هذا الزمان بالذات من جهة أخرى.
أمرٌ آخر على غاية قصوى من الاهمية يثيره الاجتهاد في تحديد مصطلح "الثوابت " , ونطرحه هنا على شكل سؤال أيضا: هل يدخل القياس والاجماع في أطار الثوابت كما هو الحال في القرآن الكريم والسنة المطهرة , وكيف يكون هذان المصدران من مصادر التشريع منأو ماينتج عنهما من فكر واجتهاد من الثوابت وهما خاضعان للطاقة الانسانية المحصورة في مكان ما وزمان ما ؟؟.
وقد سئل الشيخ الدكتور ناصر العمر : كثيرا ما نسمع مصطلح " الأمة" فما ثوابتها وما متغيراتها؟ فقال: ثوابت الامة هي النصوص القطعية الثابتة في الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة، أما غيرها فينظر فيها. والثوابت إما أن تكون مطلقة وهي الثابتة في الكتاب والسنة أو الإجماع، أو أن تكون نسبية فقد يكون الامر ثابتا عند المجتهد ما لا يثبت عند غيره.
أما المتغيرات فهي الوسائل، وهي ما تصح اليوم ولا تصح غدا، هذه من الأمور التي يجوز أن تتغير نظرا لتغير الزمان أو المكان أو الحال أو العوائد أو غيرها، هذه المتغيرات، أما الثوابت فلا تتغير منذ محمد (صلى الله عليه وسلم) وإلى أن يأتي عيسى عليه السلام قائما بشريعة محمد (صلى الله عليه وسلم)، أما الثوابت النسبية فأمرها يسير، وتبقى الوسائل هي التي تعد من المتغيرات والمشكلة أننا نخلط بين الثوابت المطلقة والثوابت النسبية ونخلط بين الثوابت والمتغيرات، فحدث الانقسام الذي وقع. "صحيفة الرأي العام الكويتية /الجمعة الموافق 13/10/142".
الخصوصية :
*تتعلق كلمة "الخصوصية" ودائما بكلمة "الثقافة " والتي يشيع فهمها العلمي على أنها "مجموع نظم التصرفات الاجتماعية والاخلاقية التي أوجدها شعب أثناء تاريخه "فتح الله كولن /حضارتنا ونحن نبني " –بتصرف- , وجعلها بعدا من أبعاد الوجود "القومي " أو "الملي " –الديني - , فتحولت مع الثبات وعدم القدرة أو الرغبة على التطوير الى مكتسبات في اللاشعور أو الضمير الجماعي لهذا الشعب.
ولكل مجتمع في "جغرافية اجتماعية " معينة "ثقافة سائدة " معينة . إن الخصوصية الثقافية هي عنصر مؤثر وقوي في النظم الفكرية , وكل فكر مرتبط بثقافة معينة عند فرد من الأفراد يُعتبر الشكل الواضح للتعبير عن ذاته في إطار المرجعية المعنية"المرجع السابق بتصرف".
*وتعرف الثقافة "وبالتالي الخصوصية الثقافية " عند شعب من الشعوب بأنها جميع الاحوال أو معظم السلوكيات الفردية والجماعية التي يعبر بها هذا الشعب عن :قيمه الاخلاقية , وملاحظاته العقائدية , وأفكاره عن الوجود والانسان والمخلوقات . أو بمعنى آخر : إن الخصوصية الثقافية لشعب من الشعوب هي المجموع العام لنتاج الفكر والفن والعرف والعادة والتعامل المستحصل على مرّ التاريخ في اطار الالتزام بالحس القومي أو الملي –الديني- "المرجع السابق بتصرف-
*ويعتبر مصطلح "الخصوصية " من أكثر المصطلحات والكلمات الاصطلاحية التي يساء استخدامها وفق الهوى في أيامنا , حيث تستخدمها السلطات السياسية وكذلك الدينية والجماعات الفكرية والثقافية بكل توجهاتها والاحزاب والقوى المدنية بكل أطيافها , يستخدمونها جميعا بأشكال متعارضة متضاربة لتبرير سلوكياتها السياسية والاجتماعية التي تريد أن تفرضها في المجتمع , كما تستخدم لتبرير كل الاراء التي تتبناها في الحياة
*من اللافت جدا للنظر أن هذا الاستخدام الأناني لهذا المصطلح كان حكرا على المتنفذين في المنطقة العربية , فاذا بنا اليوم نجده وقد أصبح متداولا كذلك في أروقة السياسة والاعلام الغربيين في محاولة لصد مايدعي القوم أنه غزو إنساني منظم لأوربة عن طريق الهجرة .
* يعتبر مصطلح الخصوصية وعلى الرغم من الملاحظات السابقة أفضل كلمة معبرة عن "التنوع " الذي هو شرط التفاعل "التعايش" مع الذات ومع الآخر "حسام الدين السيد /كل التراث الثقافي ومنظومته القيم والأعراف السائدة- بتصرف- " , وعلى أساس هذا التنوع يصبح للحقوق معنى , وللواجبات مكان , وهما أصلان رئيسيان من أصول قواعد التعامل في اطار التعايش . فابراز الخصوصية والحرص عليها يعني الرغبة في الحوار والتعاون أكثر مما يعني التقوقع والانعزال " المصدر السابق بتصرف" .
2-بين الثوابت والخصوصيات وفهمنا للثوابت والخصوصيات
"الجاليات المسلمة في أوربة مثلاً"
هذه الاشكالية تتضح بجلاء بشكلها الخطير في رقعتين جغرافيتين في عالم اليوم , الخليج العربي وأوربة , لدى رصد انفجار هذا الكم الهائل من الامراض الاجتماعية التي استشرت في منطقة الخليج العربي في الاعوام الاخيرة , وهو أمر يحتاج الى كثير دراسة وبحث من قبل المقيمين في المنطقة المعانيين هذه الظواهر عن كثب , ولدى رصد طبيعة العلاقة اليوم بين "الجاليات المسلمة المهاجرة " وبين "المجتمعات الاوربية التي تمت الهجرة اليها" ولم أسميها "المجتمعات المستقبلة للهجرة " لأنها لاتتصف بهذه الصفة بل هي على العكس من ذلك تكره هذه الهجرة وترفضها ولاتعترف بفضلها في بناء البلدان والعمران بل والحضارة الانسانية في المناطق المعنية.وهذا ماسيركز عليه بحثنا كمثال للدراسة .
لقد عاشت هذه الجاليات حقبة من الزمان تمتد من منتصف القرن العشرين وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر في شيء من "السلام الاجتماعي " و"التعايش " مع المجتمعات الغربية التي تواجدت فيها , تعايشا ناقصا لانه كان يراد له ان يكون اندماجا تذوب فيه الشخصية والخصوصية والهوية , كان هذا التعايش قسريا أسسه الرئيسية صبر الجاليات المسلمة على الاذى والاهانات الفردية اليومية والاهمال على كل الاصعدة وخاصة في مجال الاعلام الغربي الذي تناسى تقريبا وجود هذه الجاليات على هامش وجوده وكأنها طفيليات تنمو على حدود مدنه دون أن يعيرها اي اهتمام ولااي عرفان بالجميل .
موضوعات كالامتناع عن شرب الخمر , وصوم رمضان , وعدم أكل لحم الخنزير , والحجاب , لم تكن تشكل مادة خطيرة تشجع أحداً على الحديث عن صدام الحضارات , كانت هذه مسائل تستدعي التندر من قبل الاوربيين في محافلهم ونواديهم والمرات النادرة التي كان يثار فيها موضوع الاسلام في وسائل اعلامهم .هذه الثوابت الدينية لم تشكل قط معول هدم في جسر التعايش بين الحضارتين الاسلامية والغربية , بل أكثر من ذلك كان الاوربيين في عامتهم وكذلك معظم وسائل اعلامهم تُكن احتراما كبيرا لنضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرر من الاستيطان الاسرائيلي , وكان لأحداث البوسنة والهرسك أكبر الأثر في استيقاظ مشاعر التعاون والتضامن الانساني من قبل الأوربيين نحو ذلك الشعب المسلم .
هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001, ثم ماتلاها من الاعتداآت على قطارات مدريد يوم الحادي عشر من آذار 2004, وبعدها تفجيرات لندن 2005, قلبت المٍجن بالنسبة للجاليات المسلمة المقيمة في الغرب , بدا العرب "أي المسلمون" معتدين على الآخر , وتحلت المجتمعات الاوربية بالصبر في التعامل الجماعي القانونيمع المسلمين وذلك على الرغم من القهر النفسي الخطير الذي بدا يعانيه المسلمون في أوربة على المستوى الفردي والاعلامي , وبينما كان المسلمون يرتكزون الى شعورهم بالصبر على الاذى في تعايشهم مع الاوربي انقلب الامر فأصبح الاوربي هو الذي يرتكز الى شعوره بتفوقه في التزام الصبر وضبط النفس في التعامل مع المسلم, وهنا برز تيار مأجور وبالغ الخطورة في وسائل الاعلام الغربية سَبَر أعماق الجاليات المسلمة المقيمة في اوربة , وبدأ يخرج كل مافيها من عادات وتقاليد وعجائب اجتماعية ومآس إنسانية مما تمّ استعماله معولا جبارا في هدم كل شيء بدأ بالقضاء على رغبة أي أوربي في وجود أي عربي في أوربة , وانتهاء بتأكيد مقولة صدام الحضارات التي اعتُبر فيها كل عربي – "أي مسلم" ,الكلمتان متطابقتان في الضمير الاوربي – مشروع ارهاب ينتمي الى الطابور الخامس المقيم بين ظهراني القوم .
مسائل كختان الاناث , والبرقع الافغاني , وطرق ووسائل تطبيق الحدود بصورة وحشية غير انسانية , منع البنات من اكمال تعليمهن , ارغام الفتيات على الزواج , منع الاناث من ممارسة الرياضة في المدارس , المبالغة في سوء معاملة الزوجات والاولاد الى درجة تلغى فيها انسانيتهم وحريتهم الشخصية , عرقلة زواج الشباب وجعل الزواج طقسا اجتماعيا عائليا تعجيزيا من جهة , واستخدام قضية الزواج بالاخرى لاذلال الزوجة الاولى من جهة ثانية , مسائل كثيرة وشائكة لاعلاقة لها بثوابت الامة بل هي من موروثات عادات وتقاليد الشعوب الاسلامية على اختلاف مشاربها قد حملتها الجاليات التي تنتمي الى هذه الشعوب معها الى اوربة , مسائل مثل هذه أصبحت مبررات أساسية لدى المنظرين لمقولة الصدام بين الثقافات السائدة في أوربة وبين الثقافات العربية والاسلامية المهاجرة مع من هاجر الى أوربة.ناهيك عن موضوع "الارهاب " ومافتحه من أبواب تشخيص كل من هب ودب للامراض الاجتماعية التي تفتك بالمجتمعات العربية "الاسلامية " وعلى رأسها العنف السائد سياسيا واجتماعيا وأسريا وفرديا.
أمور تنبثق بمجملها عن ثقافة المجتمعات الاسلامية عربية كانت أو غير عربية , عادات وتقاليد ورثتها غابرا عن غابر وخلطت بها فهمها لثوابت الاسلام وجعلتها دينا من دون الدين والدين منها براء , لو أننا عرضنا مجمل تلك العادات والتقاليد التي تشكل لحمة هذه الثقافات على ثوابتنا الاسلامية لأسقطنا الغالبية العظمى منها في هذا العصر الذي بدت فيه الامة الاسلامية عاجزة عن تشذيب ميراثها الثقافي ورده الى أصوله الحضارية الاسلامية ومنابعه الصافية .
هذه السلوكيات الثقافية الشاذة في معظمها والعاجزة عن التطور في اطار الثوابت وضرورات الزمان والمكان وحاجة إنسانهما , شكلت وتشكل أخطر وأهم عائق من عوائق التعايش بين الاوربيين والجاليات الاسلامية المقيمة في اوربة – التي استخدمنا العلاقة بين الطرفين فيها مجالا ومثالا لبحث قضية التعايش بين الثوابت والخصوصيات- , وقد أدت الحوادث الارهابية الضخمة التي ضربت كلا من واشنطن ونيويورك ومدريد ولندن الى تعميق هذا العائق , فعلى الرغم من تضارب النظريات والنظرات السياسية حول حقيقة الجهات التي تقف وراء هذه الهجمات , فان الجميع يعرف أن الايدي التي نفذتها يحمل أصحابها أسماء وسحنات اسلامية , وسواء كانوا قد قاموا بهذه الهجمات من عند أنفسهم أم مدفوعين بطريق التغرير من قبل جهات عالمية ضاق صدرها بتنام الوجود الاسلامي في كل من الولايات المتحدة الامريكية وأوربة , فأرادت أن تفجر هذا الوجود وتزلزل أية امكانية مستقبلية للتعايش , مهما كانت الجهة التي تقف وراء هذه الهجمات والخطط الجهنمية التي أعدت بها والنتائج الوخيمة التي ترتبت عنها فانه مما لايقبل الشك ان هذه الاعمال دلت على أن اللغة الوحيدة التي يتقنها الشباب المسلم اليوم هي لغة العنف , هذا العنف الذي توراثوه عن ثقافة تمتد كالاخطبوط في أحشاء المجتمعات الاسلامية أقبح مافيها أنها تدعي أنما تستمد مفاهيمها من القرآن والسنة ثوابتنا الاصيلة والاصلية , بينما هما منها براء . أخطر مافي الأمر على الاطلاق أن المهيمنين على الاعلام الاوربي – ولايوجد من لايعرف من هو المهيمن على هذا الاعلام! – استخدموا هذه الخصوصيات الثقافية التي يجملها المهاجرون المسلمون المتواجدون في أوربة لدك كل حصون هذا الدين مدّعين أن هذه الخصوصيات الثقافية ليست إلا ثوابت حضارية في هذا الدين الذي ملؤوا الآفاق صراخا وهم يرددون أنه يغزو اليوم حضارتهم وأرضهم وخصوصياتهم بهمجية سلوكية غير مسبوقة.
إننا ولاشك أمام إشكالية أقل مايقال فيها أنها خطيرة , يزيد من خطورتها عجز الجاليات المسلمة المقيمة في أوربة عن رد هذه الادعاآت وهذا العدوان الاعلامي المزلزل عليها , ويعود هذا العجز الى سببين رئيسيين :أولهما قلة وندرة الكوادر الانسانية الموجودة في هذه الجاليات القادرة على الرد بالطرق السليمة والقنوات المتعارف عليها ثقافيا وفكريا واعلاميا , وثانيهما : عجز معظم المسلمين اليوم عن فهم هذه الاشكالية أصلا , فمعظم الناس يخلط بين الثوابت والخصوصيات , ومعظمهم لايتجرأ على مناقشة الخصوصيات باعتبارها دين من الدين أو باعتبارها ذات مرجع اسلامي ثابت يربأ بنفسه عن التشكيك فيه أو مناقشته..وكأننا في زمن هيمنة الكنيسة التي كانت تمنع العلماء والمفكرين والمخترعين من الكشف عن تلك الحقائق الكونية التي يتوصلون لكشفها خوفا من تعارضها مع مايكتظ به "كتابهم المقدس في طبعته الاخيرة من أمور لم يكونوا يريدوا لها أن يأتيها الباطل من بين يديها ولامن خلفها , شتان شتان بين هذا الوضع الذي أدى الى انهيار سلطة الكنيسة في القرن التاسع عشر وبين ثوابت الاسلام التي تدعم العلم وترفده بالبراهين بل وتقدم له الارهاصات , إلا أن هذا الانجازات الهائلة في مجال تلاقح الدين الاسلامي والعلم قابلتها في الآونة الاخيرة إخفاقات هائلة اجتماعيا وإنسانيا في مجال المواءمة بين ثوابت الاسلام وثقافات أهله السائدة اليوم.
إن الاسلام كدين وحضارة لايشكل ولم يشكل أبدا على مرّ التاريخ أي عائق في وجه التعايش الانساني مع الآخرين , إلا أن الثقافات العربية والاسلامية المعاصرة والسائدة اليوم هي التي تشكل هذا العائق ليس في وجه التعايش مع الآخر فحسب بل في صميم تعايشها مع بعضها البعض من جهة ومع قيم حضارتها نفسها من جهة أخرى , هذا العائق الذي تجلى في انهيار كل نظرياتنا التربوية وقد تجلى ذلك في ردود أفعال صبيانية – سواء على مستوى الدول "العراق" مثلا , أو على مستوى الجماعات والافراد"القاعدة " مثلا - بررت للآخر تهافته العسكري المعاصر علينا في زمن بين زمنين بدا فيه وكأننا نتخبط على مفترق طرق الاستيقاظ والنهوض فقدمت تلك الهجمات المنعطف الممتاز لزلزلة الامة ومعها العالم كله , وكان هذا السبب الرئيس في هذا الحجم الهائل من الضغوط الاجنبية على العرب خاصة لتغيير مناهجهم التعليمية وأساليبهم التربوية . ثقافاتنا السائدة اليوم أصبحت أخيرا -ولله الحمد- موضع شك واختبار ومساءلة , وهي مسألة ليس فيها كثير سوء إلا بقدر جعل هذه المساءلة مبررا لمزيد من التدخل الاجنبي والضغط على أعناق دول المنطقة العربية , وليس فيها مايدعو الى الخجل غير أنها أتت من جهات أجنبية خارجية ولم تنبت من داخل المجتمعات الناطقة بالعربية.
إذا تركنا جانبا في هذا البحث قضية الاحقاد المتوارثة المتبادلة بين أوربة والمسلمين بسبب الاستعمار والغزو الثقافي وقضية فلسطين –وهو أمر يصعب جدا على الباحث أي باحث أن يتركه جانبا – فاننا يمكن أن نتحدث عن الثقافات السائدة في مجمل البلدان العربية ثم الاسلامية بأنها أصبحت اليوم وتشكل عائقا – من طرفنا على الاقل بمعنى نصيبنا من المسؤولية - في وجه نمو عملية التعايش مع الآخر لأنها وبكل بساطة تصطدم ومباشرة بقناعات هذا الاخر "الاوربي" وتصوراته الاساسية عن الانسان والحياة , دليل ذلك أن الناس في أوربة وفي غير أوربة يدخلون في دين الله أفواجا , ولكن وعلى الرغم من كونهم أفواج إلا أن تشكل كل فوج منهم تمّ بصورة فردية بحتة , عن طريق قناعات فردية , واجتهاد شخصي فردي , وعلاقات انسانية فردية , مع جهات أو أفراد أو مصادر يمكنهم أن يقدموا للآخر صورة الاسلام الصحيحة دين الله الحنيف كما نزل, وهذا الدين بأصوله وثوابته العقائدية والحضارية والانسانية هو دين الله الذي يقدم كل الاجوبة اللازمة لكل الاسئلة التي يمكن أن تطرأ على العقل الانساني في أي زمان ومكان على وجه هذه الارض وعلى مر العصور والتاريخ , وهو أمر لايحتاج الا برهان حيث أن استمرار وجود الامة الاسلامية بقيمها الحضارية حية فاعلة شابة حتى اليوم هو أكبر دليل على ذلك , ولكنه قبل هذا وبعده دليل لايقبل الشك على القدرة الخارقة لهذا الدين على التعايش مع كل الشعوب والاقوام والحضارات والرسالات السماوية على هذه الارض.
ثقافاتنا اليوم بمجملها ليست الا النموذج الواضح على تقهقر التزام الامة بدينها وثوابته , كما هو دليل على تنكبها عن النمو وعجزها عن مواكبة دينها الذي نزل لكل انسان وزمان ومكان , أي اغلاق باب الاجتهاد وتعطيل باب بذل الجهد .لقد تقهقرت القيم الاخلاقية الاسلامية الانسانية في حياتنا لتحل مكانها أخلاقيات غير انسانية غير حضارية غير اسلامية , وتشوه فهمنا للانسان والحياة , وفقدنا الشعور بقيم إنسانية أساسية كالحرية ليس بسبب الاستبداد السياسي الذي يعم أطراف المنطقة العربية فحسب , بل بسبب من استسلامنا لثقافة غير اسلامية تستمرئ استعباد الاباء للابناء باسم البر , والكبار للصغار باسم الاحترام والتوقير , والقوي للضعيف باسم الولاء القبلي والطائفي ..وديننا هو الذي قال قولته الانسانية العظيمة تلك: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) ..ديننا هو الذي علم الانسان أن يبر أبيه دون أن يلغي شخصيته , وأن يحترم معلمه دون أن يكون له عبدا , وأن يوقر الولي دون أن ينبطح بين يديه ذلا.شتان شتان بين النور والظلم , بين الثوابت الحضارية لديننا ومواريث الجاهليات المتراكب بعضها فوق بعضها الاخر مما يسمى اليوم خصوصياتنا الثقافية , مما جعل الاخر "مجتمعات وإنسان" ينفر من الاسلام عندما قدمنا له الاسلام على أنه مجموعة من الاوامر والنواهي والواجبات الاجتماعية المنافية للعقل والمنطق السليم والتي جعلت التعايش مع المسلمين يبدو مستحيلا .
حملت الجاليات المسلمة معها من بلادها هذه المفاهيم الثقافية البعيدة كل البعد عن الاسلام , ولم تطورها ولم تشذبها ولم تعرضها على الاسلام في كل مرة اصطدمت بها مع النظم الاجتماعية والانسانية السائدة في اوربة , وقدمت للغرب هذا العجز والجهل وكأنه الاسلام ( انظر الى أحدهم في مخفر الشرطة الذي سيق اليه في مدريد لانه ضرب زوجته حتى كادت تموت , انظر اليه وهو يقول للشرطية ديننا أمرنا أن نضرب النساء وإتيني بالقرآن لأريك الاية التي أمر الله فيها الرجال بضرب النساء , ثم انظر الى آخر وهو يبرر هذا الموضوع وقد وصل وسائل الاعلام ويكرر ماقاله ذلك المجرم بقوله انه الاسلوب القرآني في تربية النساء ) ان الامر لايتوقف على تمرير عاداتنا العنيفة من اطار الشرع , وطبع أخلاقنا الرذيلة بطابع الاوامر الالهية ولكنه تجاوز ذلك الى غباء مابعده غباء في مخاطبة الاخر على قدر عقله وفهمه ونظرته الى الامور , وهذه مسألة اساسية كذلك في اطار التعايش , ان الاخر لايحتاج الى لغتك لكي يعيش معك ولكنه يحتاج الى الشعور بأنك إنسان مثله, وهو أمر ثبت فيه عجزنا بامتياز , بسبب سقوطنا في هذه العثرة الحضارية التي طال أمدها مائة عام جلسنا في ظلامها مائة عام نجتر أحزاننا دون أن نبذل جهدا لحفر الصخر بأظافرنا في محاولة للصعود والقيام والبحث عن مخرج.
المشكلة لم تكن قط في ديننا وثوابته , المشكلة هي خصوصياتنا الثقافية الزاخرة بعادات وتقاليد كل الاقوام الذين دخلوا في الاسلام , والتي لم تشذب وتهذب لتصبح خاضعة للاسلام بل ان الاسلام في عصور انحطاط دولته هو الذي أصبح وللأسف رهين لهذه الثقافات مرغم على المرور من ثقب إبرها التي لم تفلح في أزمان الوهن في غزل نسيج يسر الناظرين.
في ضوء هذا العرض عن العلاقة بين الثوابت والخصوصيات , وبين الجاليات المسلمة والدول الاوربية , يمكننا أن نتساءل هل ماندافع عنه مما ندعوه خصوصياتنا الثقافية هو العائق الرئيسي في وجه تعايشنا مع أننفسنا ومع الآخر ين , أم أن هذه الخصوصيات ليست الا الاستجابة السلوكية الفردية والاجتماعية لفهمنا الشخصي المكاني والزماني لبعض أمور الدين التي لن نحسن تطوير نظرتنا الانسانية لها بتطور الزمان والمكان , (مثال مواقف العراق وسورية من الديمقراطية واحاديثهما المكرورة عن الخصوصية).
لقد اخترعنا على مر عصور الانحطاط قوانين اجتماعية لحماية المجتمع من انتشار الحطيئة أدت مع الزمان الى استفحال الخطيئة وبكل الاتجاهات والاشكال بسبب عجزنا عن إخضاعها الى المنظور الشرعي , الشيء الذي جعل من حياة الانسان في المنطقة العربية –وماجاورها مثل أفغانستان وايران وباكستان ومناطق الهند المسلمة _ ضربا من ضروب العذاب المستمر من المهد الى اللحد , حرمان الانسان رجلا كان أم امرأة من حريته الشخصية , سرقة قدرته على النمو وحقه في تقرير مصيره واختيار مستقبله , سلبه أبسط حقوقه الانسانية , هذه الخصوصيات المحلية في أرض المسلمين جعلت أعداءهم "أو الآخرين" يأتونهم بخيلهم وركابهم مطبلين مزمرين بحقوق إنسان لاينتمي الى هذه المنطقة , إنسان منبت من الزمان والمكان والثوابت .(مثال الحرمان من الزواج ممن تحب وتختار لايرفض أن تقدم له حقوق الانسان حقا كلاميا مجانيا في ممارسة الرذيلة مع من شاء وكيفما يشاء).
ليس مكان بحثنا الحديث عن الثابت والمتحول في إطار الاسلام , ولكن ..نعم ..استنهاض الهمم للعمل الحثيث لرد ثقافتنا الى حضارتنا , عرض خصوصياتنا الثقافية على ثوابتنا الحضارية , رد الأمور الى نصابها , خاصة فيم يتعلق بموضوع المرأة والتربية والحريات. إنني لاأتكلم عن فتح باب الجهاد على مصراعيه للمختصين المجتهدين العلماء العارفين العاملين فحسب , ولكنني أخص بالبحث مجمل الاسلاميين في مختلف جماعاتهم ومشاربهم وتوجهاتهم كي يقوموا بقراءة ناقدة للاوضاع الاجتماعية التي تحكمها العادات والتقاليد في بلادنا , نظرة نقدية من منظور اسلامي لاتدخل فيه الاهواء , ولا المصالح الشخصية أو السياسية , ولاالعادات والتقاليد المحسوبة على الاسلام , وانه لعمري لعمل ضخم هائل فيه يكمن تجديد أمر هذا الدين في هذا العصر. ولايخافن هؤلاء من الوقوع فيم يظنونه مصيدة التعارض مع النص , لأنهم عندما يتحلون بهذه الشجاعة سيكتشفون أن كل مشاكلنا الداخلية والخارجية في مجال التعايش مع أنفسنا ومع الآخر إنما نشأت من سوء الفهم وليست من ثبات النصوص.إن نصوص ثوابتنا صممت لحياة الانسان حرا سعيدا في ظل طاعة الله أما ثقافاتنا اليوم فلقد صارت الى قتل حرية وسعادة الانسان ورغبته أصلا في الحياة.لاينبغي لنا نحن الاسلاميين كقيادات فكرية اجتماعية وربما سياسية في بعض بلدان المنطقة العربية على وجه الخصوص , وكطلائع فكرية اجتماعية للجاليات المسلمة الموجودة في اوربة (مدار المثل الذي نحن بصدده).
للأسف الشديد لقد أصبحت مقولة التمسك بالخصوصيات مرادفا للافراط في الحديث عن الذات بطريقة مغايرة للواقع المعاش , كما مرادفا لتعطيل النقد الذاتي , لكنها قبل ذلك وبعده استعملت هذه المقولة سوطا بيد أصحاب السلطات جميعها , تستعمله كيفما شاءت ومتى شاءت لوأد أي فكر سليم يهدف الى التغيير والاصلاح وماذلك الا لحماية مصالح ذاتية ترسخت وتجذرت في النفوس "محمد علي النهاري /سياحة في المشروع الرابطي للاصلاحات الشاملة_بتصرف_ ".
3- نحن؟!
"وضع المرأة المسلمة اليوم مثلا"
لدى الحديث عن موضوع "التعايش" يتبادر الى الذهن طبقات شتى من التعايش , هل هو التعايش مع الذات , التعايش بين فئات المجتمع المختلفة ؟التعايش مع الاخرين الذين ينتمون الى شعوب وقبائل أخرى؟ .
وعندما نقول "نحن" فماالذي نقصده بهذه "الكلمة" ؟ أم أنه "اصطلاح" ؟ هل المقصود ب"نحن" مجموعة شعوب المنطقة العربية و الدول الاسلامية والتي بلغ تعدادها ربع سكان المعمورة؟. وإذا كان المقصود بكلمة "نحن " مجموع شعوب المنطقة العربية من المحيط الى الخليج فينبغي أن نعرف ونعترف بأننا في هذه المنطقة بالذات نفتقد إلى أبسط عناصر السلام الداخلي , وإذا حصرنا حديثنا في المسالة الاجتماعية وجدنا أنه لا الانسان متعايش مع نفسه يشعر بالرضى والطمأنينة والحرية , ولا المجتمعات تتمتع بسلام اجتماعي يقوم على أساس استقرار السلوكيات الاخلاقية الاجتماعية الاسلامية .
كذلك فان النخب العلمية والثقافية والفكرية والسياسية لاتخضع لشبكة علاقات متأصلة في ضمير المجتمع يلتزمها الجميع باحترام وحرية .
وإذا استثنينا من هذا البحث موضوع القضية الفلسطينية والصراع الاسرائيلي العربي الاسلامي خلال القرن المنصرم يبرز هذا الواقع جلياً في ظل صراع مرير وبالغ العنف عانت منه المنطقة العربية بين التيار الاسلامي والتيار القومي , الاول في مقام المعارضة الشعبية والفكرية والثقافية والمقاومة المسلحة في كثير من الأحيان , والآخر في موقع السلطة السياسية والعسكرية والاعلامية , وقد تمخض هذا الصراع كما يعرف الجميع عن خسائر قليل في حقها أن نصفها بالفادحة ماديا وإنسانيا وثقافيا وفكريا .
لكن الانتفاضة الفلسطينية التي شهدها العالم بين قرنين , والاحداث الموازية بالغة الأسف التي عانتها المنطقة بدءاً بغزو الكويت وانتهاءاً بدخول الجيوش الغربية المنطقة العربية بعد أربعين عاما من الاستقلال عن المستعمر , أدت إلى انعكاسات جذرية في صياغة الشخصية "العربية" الحديثة , أهم تجليات هذه التغييرات سقوط النظرية القومية العربية , على الأقل في ميزان النظريات السياسية الحية الفاعلة في تاريخ البشرية والشعوب , وتجلى ذلك في ظواهر وملامح هامة ملفتة:
انبعاث النعرات القومية المتعددة على امتداد المنطقة العربية بدعم حثيث من الدول الغربية التي تبنت قضايا هذه الاقليات العرقية في إطار المطالبة بحقوق الانسان في دول لاشيء فيها يعتبر للانسانية أي ميزة , وحق تقرير المصير في منطقة تمور بالصراعات السياسية الاقتصادية المزلزلة.
وفقدان الدولة القطرية هيبتها على هامش التدخلات والضغوط الاجنبية الهائلة على حكومات المنطقة.
تجاوز الشعوب في المنطقة العربية على وجه الخصوص للحركات الاسلامية (ماعدا الكويت , وفلسطين , والمغرب ) بسبب من عجز هذه عن تلبية حاجات الناس الاجتماعية على أقل تقدير , كما عجزها عن النمو والتطور في عالم يسير بسرعة خارقة نحو تغيير الاشياء والافكار والخصوصيات (وليس الثوابت).
بروز عنصر ماتواضع العالم على تسميته "الارهاب الاسلامي" كمؤثر شديد الأهمية والخطورة على الساحة الدولية , مع التشديد على انبعاث نظرية المؤامرة من مرقدها لتكون أقوى منها الان من اي وقت مضى , ناهيك عن الصمت العام فيم يتعلق بأسباب بروز هذه الظاهرة وتحليل أبعادها الاجتماعية والسياسية والفكرية , واعتبارها من قبل الجميع مجرد ظاهرة اجرامية يجب محاربتها والقضاء على أصحابها ومهما كان الثمن.
الا أن أهم ملامح هذه الفترة كان ودون أدنى شك بروز تيارات فكر جديد في المنطقة العربية هو نتيجة تلاقح الفكر الاسلامي والفكر القومي الذين كانا من ألد الأعداء بالامس القريب جدا, لكن الصراع بين الطرفين ذاب في أتون الانتفاضة الفلسطينية الشريفة وانمحى تحت تأثير أصوات الانفجارات والعويل ومناظر الحرائق والدماء في بغداد , وانقلب ذلك الصراع التاريخي بين عشية وضحاها وبما تفرضه ضرورات المرحلة التاريخية الخطيرة التي تعيشها الأمة الى صراع ثقافي واضح المعالم بين تيارين جديدين قديمين هما تيار الأصالة والحداثة , مع معطى بارز وبامتياز يتجلى في نأي السلطة السياسية والعسكرية هذه المرة عن هذا الصراع , لسبب واحد هو أن السلطات السياسية في معظم البلدان العربية ماعادت تشغلها القضايا العقائدية لأنها منشغلة اليوم بهدف واحد فقط وهو الحفاظ على مقاعدها ومكاسبها الشخصية.
بدت الأمة العربية كما لم تبد منذ زمن بعيد , بدت وكأنها هيكلا من ورق تلاشى واحترق وسقطت كل الشعارات , فلا وحدة , ولاحرية ولانصرة للقضية التي ظهر للجميع أنها بعدها العربي لم يكن يعني أي شيء على الاطلاق إلا حصر الشعب الفلسطيني ووقف التمدد الاسرائيلي نحو العواصم العربية المجاورة , وقد أيقظت الانتفاضة الاخيرة المارد الاسلامي من هجعته وساهمت في إعادة القضية الى بعدها الاسلامي الذي كانت قد غيبت عنه خلال قرن كامل من الزمان.
على الرغم من سرعتها الفائقة تركت هذه التغييرات العميقة سلبا وايجابا بصماتها على الضمير الجماعي للأمة , مما جعل الحاجة تبدو ماسة لفتح ملف "تحديد الهوية" من جديد , وتأكيد انتماء "المنطقة العربية" الى هذه الامة أصبح حيويا تلبية لمطالب الجماهير التي وجدت نفسها في مواجهة "آخر" يطالبها بالانفتاح والحوار والتعايش في نفس الوقت الذي تقوم فيه جيوشه بغزو أرضها واغتصاب سجنائها وإهانة ثوابتها , كل هذا الزلزال جعل الشعوب تعود إلى هويتها الاسلامية , وتتمسك بثوابتها بشكل لم نشهد له مثيلا خلال الاعوام الخمسين الماضية على الاقل , إنه يستحيل على قوم أن يتعايشوا مع آخرين مالم يكونوا يعرفون هم أنفسهم من هم, هذا البحر الهائج المائج من الأحداث التي كانت تفكك الواقع والأفكار والماضي والحاضر وتعيد تركيب عناصرها بسرعة البرق التاريخي , لم تترك كثير مجال للوعي الفردي للناس أن يدرك حقائقها المرعبة المفرحة في آن , لكنه استطاع أن يؤثر على صياغة الحس الجماعي الذي يصنع ضمير الأمة ويمضي بها وبخطى متعثرة جدا نحو مستقبل آخر كان الى وقت قريب يبدو بعيدا .
أول خطوة إذا للحديث عن التعايش مع الآخر هي تحديد الهوية في إطار الثوابت الحضارية للأمة و والاعتراف بها على هامش التاريخ الذي حاول أن يسلبها منا أو يسلبنا منها, أو يسلخنا عنها أو يسلخنا عنها.
اعترافنا بهذه الهوية يحدد ثوابت الامة , ويعيننا على تشذيب خصوصياتنا وتطهيرها من أدران التاريخ , ويوضح لنا سبل التعايش الحر المتوازن الكريم مع الآخر. هذا الآخر ذي الثوابت التي تنطلق من منطق الفكر الاوربي الحديث القائم على ميراث يوناني بحت يربط كل فلسفته (بالانسان والاشياء والحوادث ) , والذي يجد نفسه مهددا من قبل أمة "نحن" تستند كل مقومات وجودها الحضاري و"الثقافي" –على الرغم من عصر الانحطاط الذي تعيشه- على موروث أسلامي ترتبط فلسفته (بالعلاقة بين الخالق والمخلوق) .
ثوابت الآخر على الرغم من خلوها من هذه الدعامة بالغة الاهمية في وجودنا "نحن" لاتصطدم مع ثوابتنا , لسبب بسيط جدا وهو أن هذا الاخر بنسيجه الانساني متعطش الى هذا العالم الروحاني الثابت الواضح البسيط الذي يقدم عنه الاسلام صورة فريدة عالميا لايأتيها الباطل من بين يديها ولامن خلفها , الآخر مقبل على ثوابتنا راض بها خاصة وهو يختنق في عالمه المادي الذي يلهث فيه باحثا عن مخرج .
لكن خصوصيات الآخر الثقافية تصطدم ومباشرة بخصوصياتنا الثقافية التي ندّعي أنها تستند الى ثوابتنا الاسلامية وأنها على علاقة بعالمنا الروحي , بينما هي بعيدة كل البعد عن الاسلام وعن العوالم الروحية , بل ان عرضها على الاسلام يعريها من كل نسب به وصلة اللهم إلا المحاكاة والنحت من النصوص بأفهام عقيمة وأهواء شاذة (أمثلة من الفقه والحياة:المهر بدل استئجار رحم المرأة / حق الاخ والوالد في قتل المرأة الزانية في العائلة / حرمان الشباب والبنات في الزواج ممن يحبون بسبب عدم التكافؤ في النسب/ حرمان المرأة من قيادة السيارة /حرمان المراة من أهليتها المالية في كل العالم العربي ماعدا دول الخليج/ إرغام البنات الصغيرات جدا على التزام الحجاب /ختان النساء في محفل عام /إثبات عذرية العروس في محفل عام / حق الزوج في ضرب الزوجة بشكل دوري دائم خلال كل سني عمرها وكأنها دابة /استعمال العنف في التعامل مع الآخرين /امتهان أهل الكتاب واعتبارهم كفارا / الاعتقاد بأن العنف وسيلة اسلامية لحل المشكلات / التنطع في التحريم والتحليل استنادا الى الاراء الفقهية الفردية الشاذة/ جعل الموضوع الجنسي أساسا في التعامل مع شبكة العلاقات الاجتماعية / التربية بالاهانة والضرب /التسلط على الابناء والنساء وحرمانهم من أي حق في تقرير مصائرهم أو ممارسة حرياتهم حتى في اطر الشريعة والثوابت ....... ) هذا الشقاق النكد بين ثوابتنا الحضارية وخصوصياتنا الثقافية هو الذي يشكل العائق الأكبر في هذا الشعور بالصدمة لدى "الآخر" بكل تعدداته الفكرية والثقافية ويجعله في موقع الصدام الاجتماعي معنا "نحن" لأن خصوصياتنا الثقافية الحالية المرحلية تبدو بالنسبة إليه وإلى كل عاقل مجموعة من السلوكيات المتخلفة غير الانسانية وغير المنطقية وغير الاخلاقية وغير الدينية , إن بعض سلوكياتنا تبدو من وجهة نظر علم الاجتماع والتربية والاخلاق وكأنها سلوكيات جماعية مغرقة في التخلف الانساني والحضاري المخزي.
يمكننا أن نعتبر في بحثنا هذا أن "الآخر " إنما هو "الغربي" بشقيه الأوربي والأمريكي , باعتباره الحضارة والقوة الغالبة في عالم اليوم ماديا وعسكريا واقتصاديا , وأننا "نحن" هم مواطنوا المنطقة العربية " و "الجاليات الاسلامية المهاجرة الى الغرب" الذين يحملون حضارة هي الأعظم في تاريخ البشرية من حيث قدرتها على انقاذ الانسان من التخبط في عوالمه المادية وصراعاته النفسية ومع الآخرين , لكننا وعلى الرغم من كوننا حملة هذه الحضارة نبدو عاجزين حاليا على الاقل عن تمثلها بكل عظمتها وروعتها , ولكنها وعلى الرغم من عجزنا قادرة وحدها على اختراق الحدود والحواجز والعوائق والوصول الى الانسان في كل زمان ومكان غير عابئة بأولئك الذين يحاربونها أو هؤلاء الذين شوهوها الى درجة أن النبي الذي جاء بها يقول –بالمعنى- " انه يعرض عن أتباعه لشدة مايجد أنهم غيروا وبدلوا من بعده حتى يكاد النبي نفسه لايعرف هذه الشريعة التي نحتوها من الاسلام والاسلام منها براء".
عندما يستعرض " الآخر " خصوصياتنا الثقافية يجد نفسه عاجزا عن فهمها , كما يجد نفسه في موقف أخلاقي يمنعه من القبول بنا , (مثال :امتهان المرأة ووضع المرأة المسلمة اليوم الذي يتنافي تماما مع الاسلام) /(مثلا هذا القتل العشوائي بهذه الدرجة من الاجرام وشهوة الانتقام وسفك الدماء كما حدث في قطارات مدريد) ذلك أن قبول "الآخر " بنا بثقافتنا وخصوصياتنا وسلوكياتنا الحالية السائدة اليوم يعني أنه تخلى عن "تحضره" وعن كل القيم الانسانية التي وصل اليها بجهده ودمه وجهاده قرونا طويلة ,( عندما ينبري أحدهم ليشرح للغربي أن المرأة يجب أن تضرب لتتحسن أخلاقها وتطيع زوجها فانه يتكلم عن وجهة نظره الشخصية في تطبيق آية من القرآن الكريم لم يكن الهدف منها اذلال النساء ولااخضاعهن ولاجعل هذه العقوبة التي شرعت قبل الف وأربعمائة عام لحل الخلافات الزوجية -أي بمعنى قانون طواريء – سلوكا ثابتا في معاملة كل النساء المسلمات –لان نفس الرجل الذي يضرب امرأته لايتجرأ على ضرب زوجة ثانية من جنسية أجنبية !! , كما لم يكن الهدف من الاية أن يصبح ضرب المرأة وامتهانها نظاما ثايتا في حياتنا الاجتماعية خاصة في عصور الانحطاط التي نعيشها هذه , عندما يفعل المسلم ذلك فانه يشرح للاوربي مدى انحطاطه وتخلفه وارتكاسه خاصة أن كل القوانين الاوربية كانت قد سنت لحماية الانسان من التعذيب الجسدي والاهانة النفسية وخاصة المرأة باعتبارها انسانة وأما ) .
وعلى الرغم من أن هذا الاخر يعاني في مجتمعه من مشكلات خطيرة ناتجة عن تعثر القوانين في ضبط العلاقات الانسانية , (حيث نجد جرائم قتل النساء يومية / الاجهاض بالملاين / المواليد الملقون في علب القمامة بالعشرات) ولكن وعلى الرغم من ذلك فان الجميع ..الجميع لدى هذا "الآخر" يُجَرمون هذه الاعمال ويدينونها ويسنون القوانين لنصرة الضعيف وحمايته من اعتداء القوي عليه , الاعلام والسياسة ومنظمات المجتمع المدني تعمل كلها في اتجاه تجريم المعتدي , أما "نحن" فان الجميع..الجميع يقف مع المعتدي ويبرر له جريمته ويجد له مايجعلها قضية دينية وأوامر إلهية تمنحه الحماية والعصمة . هذه النقطة بالذات هي من أهم معاول الهدم في وجه تعايشنا مع الغرب في اطار الانسان والمجتمع.
لانريد هنا أن نغفل سوء نية "الآخر" في التعامل معنا "نحن" , ولارغبته في السيطرة علينا , ولااستكباره واستعلاءه في سلوكه وفكره وثقافته واعلامه وبالطبع سياساته العسكرية والاقتصادية , ولا اعلانه أن حضارته هي الافضل والاعلى والاكمل والتي يجب أن تفرض نفسها على كل حضارات العالم , لانغفل هذا ولم ننساه , كما لم ننس أن هذا "الآخر" موجود الان بخيله ورجله في عقر دارنا يعيث فيها فسادا , ولكننا وعلى الرغم من ذلك كله يجب أن نعرف وأن نعترف أن هذا "الآخر " ودائما احتكم الى العقل والمنطق في مواجهة أناس يحتكمون الى العقل والمنطق , وأن جزءا كبيرا جدا من المجتمعات الغربية وعلى الرغم من خصوصياتنا الثقافية المعيبة كانت لديه الرغبة الكريمة الصادقة للتعامل معنا باعتبارنا أهل ثقافة بشرية يجب احترامنا وليس احترامها "بالشكل الذي نقدمه " , دائما وفي كل مرة استطاع المسلمون فيها تقديم دينهم بثوابته الحضارية وقيمه الانسانية وعقيدته الالهية الفريدة , دائما كان نصيبهم القبول والاحترام والتقدير .
تحديدنا لهويتنا كأبناء أمة مسلمة ينتمون الى أعراق وأقوام مختلفة يحل نصف المشكلة , اعترافنا بقصور ثقافتنا اليوم عن بلوغ مرامي حضارتنا وثوابتنا وبعدها الشاسع عن روح الشريعة وأهداف الاسلام العظيم هو نصف الطريق الآخر , ويبقى أن نقوم بجهود جبارة في مجال الاعلام والتربية لاعادة ثقافتنا الى حضن ثوابتنا :
**نحن لا نحارب "الحرية الجنسية" لأن الاسلام قرر للانسان حقه في اشباع غرائزه كلها بالطرق السليمة السهلة الطيبة .و لايجب أن نحارب ممارسة الجنس ولكننا نحارب جعل الجنس عهرا أخلاقيا يدمر الانسان والمجتمعات
**نحن لايجب أن نحارب منح المرأة حريتها الكاملة فهذا حق اسلامي منحها اياه الاسلام ولكن يجب أن نحارب كل من يجعلها سلعة ممتهنة أو أمة مستعبدة في بيتها أو خارج بيتها.
**نحن لايجب أن نحارب حقوق الانسان فالاسلام أول من دعى اليها ولكن نحارب الدجل والكذب والكيل بمكيالين في هذا المجال وإخراج الانسان من إطار فطرته الانسانية ليصبح حيوانا.
**نحن لاندعم ولانرضى إرهاب وترويع الامنين لأن هذا أمر لايرضاه ديننا ويمنعه ويشدد على عقوبته ولكننا ندعم ونشجع ونقف مع المجاهدين في سبيل تحرير أرضهم وصيانة عرضهم .
**نحن لانعترف بمصطلح الجهاد المقدس , ولكن ثوابتنا تدعونا وتحملنا وتشجعنا على نشر الدعوة الى الله والقيام بأعبائها حتى يصل هذا النور الالهي قلب كل انسان متعطش اليه في ارجاء الارض بالحكمة والمحبة والموعظة الحسنة .
**نحن ضد الصدام والحرب والغزو والاعتداء والاحتلال والارهاب والعنف لكننا مع الحوار والتعايش والتفاهم بين الافراد والمجتمعات والشعوب والقبائل.
وإذا كنا نحن أنفسنا بمجموعنا "سكان المنطقة العربية" و"الجاليات المسلمة المهاجرة الى الغرب" عاجزين عن تحديد هويتنا بثوابتها الاسلامية وخصوصياتها القومية والجغرافية التي لاتتناقض مع تلك الثوابت , ولم نبد أي رغبة بعد في تشذيب خصوصياتنا مما علق بها من مواريث الجاهليات المتراكمة "العادات والتقاليد" , عاجزون عن تشذيب حضارتنا اليوم مما أثقل كاهلها من شوائب ثقافاتنا الراكدة المتحجرة الكسيحة ترفض التغيير والنمو , فكيف نريد للآخر أن يفهمنا ؟؟! وأن يتعايش معنا؟! حملنا معنا الى أوربة كل أمراضنا الاجتماعية والانسانية والثقافية , أمراض عصر انحطاط عربي مريض بالقهر والاستبداد والتخلف والعجز عن الخلاص ويممنا بها شطر أوربة وقلنا للقوم هذا هو اسلامنا , فماذا ننتظر بعد هذا من هذا "الآخر"؟ الذي بدأ يسن قوانين تسمح للمدرسين في مدارسه أن يضربوا أبناء المسلمين فقط لان أولاد المسلمين معتادون على الضرب ولايفهمون لغة الحوار !!!!!!!!!!!!!!!! هذا "الآخر " ذاته هو الذي لم يأت بلادنا بمشروع "مارشال" يبني ويعمر ويربي ويحل الامن والسلام ولكنه أتانا بمشروع "ابو غريب " يعذب ويغتصب ويذل ويستعبد , هُنّا على أنفسنا فهُنّا على الآخرين.
الخطوة الأولى اذا من طرفنا نحو التعايش مع الاخر تكمن في تحديد هويتنا , من نحن وماذا نريد , وماهي الاصلاحات اللازمة والضرورية في حياتنا وثقافتنا ووسائل نهوضنا بهذه الثقافة لتصبح جديرة بالحضارة التي تنتمي اليها.
4-هل كونك مسلماً اليوم هو مشكلة؟!
هل نحن فعلا المسؤولون عن انتكاس التعايش بيننا وبين الآخر؟!
"أحداث اسبانية مثلا"
سؤال على غاية من الأهمية يطرح اليوم في المحافل الأكاديمية الغربية المعنية بدراسة الاسلام وأهله , هل ثوابت هذه الأمة وخصوصيات شعوبها تشكل "اليوم" عائقا في وجه التعايش مع الأمم الأخرى ؟
كانت هذه احدى أهم الاقتراحات لاجراء البحوث لاعداد دراسة للدكتوراه في احدى كليات الاستشراق في مدريد , الهدف من هذا الاقتراح كما نفهمه نحن كان استعراض الاسباب التي تقف وراء مايبدو من أنه رفض قطاع واسع جدا من المجتمع الاسباني للعرب "المسلمين , وهذه الكراهية التي تتمدد شيئا فشيئا وبسرعة تنذر بأخطار حقيقية تهدد حياة الافراد وسلامة الجاليات المسلمة في اسبانية .هذا الوضع كان قائما منذ بدء تدفق الجاليات العربية طالمسلمة ط على هذا البلد لكنه ازداد سوءا الى درجة بالغة الخطورة منذ أتى حزب الشعب الحاكم الى السلطة , أي قبيل تفجيرات قطارات مدريد ببسبعة أعوام ونصف , حيث بدأت حملات اعلامية منظمة غير مسبوقة ضد العرب "المسلمين " –الكلمتان في أذهان القوم متساويتان- حملات من الهجوم والتشويه والكذب والاجحاف , لكن أهمها على الاطلاق كان ذلك المتعلق بالاوضاع الثقافية للمهاجرين التي أسهبنا في الحديث عنها في بداية هذا البحث .
أكثر من ذلك لقد ذهب كثيرون (مستندون إلى دلائل تكاد تكون يقينية ) إلى أن تفجيرات مدريد لم تكن لتقع لولا أن حكومة "أثنار " لم تكن قد أغضت الطلرف عن عمد عن تلك المجموعات من الشباب المجنون المتهور الذي قام بتلك التفجيرات بعد أن ملأ الدنيا بنيته بالقيام بها حتى أن سجلا الشرطة والمخابرات العامة كانت ملأى بالبلاغات شبه اليومية من مسلمين وإسبان عن تحركات تلك المجموعة تحت سمع وبصر المخابرات الاسبانية ووزارة الداخلية الاسبانية , حتى أن أئمة بعض مساجد مدريد كانوا قد قدموا تقارير مفصلة عن خطط زعيم تلك المجموعة القاضية بالقيام بتفجير قطارات مدريد!!.
الأمر المثير للدهشة والاستغراب أن حكومة "أثنار " لجأت الى الكذب في الايام الثلاثة التي تلت هذه التفجيرات قبيل الانتخابات العامة فسقطت شر سقطة في الانتخابات , لم تسقطها التفجيرات التي هدفت الى اسقاطها ولكن أسقطها كذبها على الجمهور الجريح , لكنها بعد سقوطها لجأت الى اتهام الحكومة الاشتراكية بأنها كانت ضليعة في التفجيرات بشكل أو بآخر في محاولة اسقاط حكومة أثنار , وذهبت بعيدا جدا عندما راح "أثنار يجوب أوربة والولايات المتحدة الأمريكية ملقيا محاضرات شارحا فيها نظريته الخاصة عن صراع الحضارات مدعيا أن ماحدث في مدريد لم يكن له أي علاقة بحرب العراق , ولكنه "مخطط إسلامي " لضرب الحضارة الغربية بأسسها وقيمها وإحلال الحضارة الغربية مكانها , وإعادة احتلال الاندلس _هكذا بالحرف – ( راجع محاضرات حوسه ماريا أثنار في جامعة جورج تاون 2005الأمريكية ).
أوردت هذا التحليل دون تعليق في هذا البحث ليستخلص المراقب وحده الدور الذي تقوم به بعض الشخصيات والاحزاب الغربية لهدم جسور التعايش مهنا "نحن" العرب " أي الآتون من المنطقة العربية والاسلامية .
***
سؤال آخر يهمنا إيراده هنا لاستكمال بحثنا هذا , لأنه يلقي بظلال كثيفة على الموضوع الذي أشبعناه شرحا فيم سبق من نقاط , هذا السؤال طرحه صحفي فرنسي إثر تفجيرات قطارات مدريد عام 2003 على أحد الباحثين من الشباب المغاربة من حملة أكثر من درجة من درجات الدكتوراه في كلية الدراسات الاستشراقية في جامعة الاوتونوما في مدريد :هل تعتقد أن شباب الامة الاسلامية يعانون من معضلة حقيقية ويعيشون ويتحركون في إطارها؟!.
هذان السؤالان من الأهمية والخطورة بمكان يجب فيه على كل واحد منا أن يفكر في الاجوبة اللازمة عليهما بكثير من الدقة والصدق والاخلاص لانه في الجواب عليهما تكمن الاجابة على موضوع هذا البحث .
إننا نعاني من مشكلات خطيرة تتعلق بجيل كامل من الشباب العربي "المسلم" , لقد ربي هؤلاء الشباب في بلادنا في أجواء القهر السياسي والظلم الاجتماعي والحرمان من الحريات وانعدام الامن والطمأنينة وأعظم مافي ذلك كله انعدام الشعور لدى الشاب بالكرامة كإنسان وكمواطن بالنسبة للرجال , إضافة الى انعدام الشعور بالفردية للمرأة كذلك .
وسائل التربية المتبعة في بلادنا من أقصاها الى أقصاها تكرس هذه الجرائم الفردية والجماعية بحق الأجيال , وسائل الاعلام عاجزة أو أنها لاتريد أو لاتنتبه الى هذه المعضلات الخطيرة المدمرة في حياة الشبيبة , والانسان الذي لم يُربّ أن يحترم إنسانيته لايمكنه أن يحترم إنسانية الآخرين , الفرد الذي لايعرف لنفسه أي قيمة في أسرته لايستطيع أن يربي أبناء يعرفون قيمة أنفسهم وقيمة الآخرين كأعضاء يتمتعون ببالغ الأهمية في الاسرة والمجتمع , التربية بالاهانة والضرب لايمكن أن تنتجا جيلا سويا , الاولاد الذين اعتادوا على الضرب يفتقدون لدى الحوار مع الآخر أي لغة إلا لغة العنف , يستوي في ذلك حوارهم مع الزوجة أو الأبناء أو الاخوة الاقرباء أو الجيران أو الآخرين كلما اتسعت دوائر الانتماء الاجتماعي .
التلاميذ الذين يعتادون سماع الشتيمة بال"كلب " لن ينتجوا إلا ثقافة شخصية تتلخص في الرغبة في النباح في وجه كل من يقترب منهم , وأولئك الذين اعتادوا أن يناديهم آباؤهم بال "حمير " سيكون "الرفس" وسيلتهم الوحيدة للتخاطب والتفاعل مع "الآخر" .
ماهو السبب الرئيسي -"من طرفنا"- للاشكاليات الناشئة بيننا وبين الآخر لدى الحديث عن التعايش , إنها "من طرفنا" إشكالية تربية , فشلت وسائل ومناهج التربية في المنطقة العربية في تخريج أناس يحترمون إنسانيتهم وكرامتهم وحرياتهم , لأن وسائل التربية والاعلام كانت خاضعة ومسيرة من قبل الانظمة السياسية الحريصة على تخريج العبيد , بينما انشغلت الجماعات الاسلامية "في معظم دول المنطقة " خلال نصف قرن كما أسلفنا في صراعاتها السياسية والثورية مع تلك الأنظمة والوصول الى السلطة بأي ثمن إلى درجة أنها نسيت تماما القضية الاجتماعية , بينما غيبت قضية البحث في تغيير أوضاع المرأة لأسباب تتعلق بارتباط الثقافة في أذهان الخاصة والعامة بالثوابت الى درجة الخلط بين النصوص وماورثناه من عادات وتقاليد , الدين منها براء .
***
أسئلة يجب إثارتها في نهاية البحث الذي يصعب أن ينتهي عند هذه النقاط , نتركها لتثير التفكير على هامش ماقدمناه من حقائق أو ومضات:
*ماهو الثابت والمتحول في حياة الأمم والأفراد ؟
*لماذا ومتى وكيف تحولت كلمة "اندماج" الى كلمة "تعايش " في وضع الجاليات الالمسلمة المقيمة في الغرب ؟
*ماهو سبب الاشكاليات الناشئة بين الأقليات الدينية والعرقية في بلادنا وبين "السلطات السياسية في البلاد" , هل هذه الاشكاليات موجودة بين الاقليات وبين المواطنين ؟
*هل قصد القرآن التفريق بين "الشعوب " والقبائل" عندما تحدث عن "التعارف " بينها بمعنى "التعايش " في مفهومنا المعاصر ؟, "الشعوب " هي الأمم فيم بينها من علائق وصلات , والقبائل هي المجموعات البشرية التي تتحرك نحو غيرها في المكان والزمان عن طريق الهجرة ؟.
بعنى أنه يوجد اتجاهين للتعايش "التعايش بين الشعوب " , و"التعايش بين المجموعات البشرية التي تهاجر " , دقة قرآنية مذهلة في توصيف العلائق بين المجموعات البشرية .
*هل قدرتنا على التعايش منوطة بالضرورة الحيوية للتغيير ؟ أي تغيير نقصد المفروض علينا من قبل الآخر ؟ أم الذي يجب أن ينبع من ذواتنا ومن قراءتنا النقدية الموضوعية الصادقة لأوضاعنا الانسانية والاجتماعية ؟ماهي الوسائل الكفيلة باحداث هذا التغيير ؟
*هل نعيش اليوم حالة "صدام حقيقي بين الحضارات " كما تدعي القوى المبالغة في التطرف بين الشرق والغرب , أي "بيننا " وبين "الآخر" , أم أننه "حوار " عنيف لن يخرج عن كونه حوارا مادام هناك قوى اجتماعية وسياسية وثقافية وفكرية تدعمه وتدفع باتجاهه ؟ أم أننا على مستوى العالم اليوم نشهد مجرد "مسرحية "اعلامية عالمية تساق فيها قطعان البشر بسطوة الاعلام في الغرب , كما يساقون في الشرق بسلطة الالاستبداد السياسي والاجتماعي العاطفي نحو ماتريدهخ مصانع انتاج الاسلحة وشركات انتاج البترول ؟
الخاتمة
لكي نركز كل بحثنا في عبارات قليلة قصيرة هادفة نقول :
*أننا في كل الابحاث التي نقوم بها في هذا الموضوع لانأتي بجديد إننا نحاول إعادة إنتاج المادة التي تختنق بها صفحات المطابع والانترنيت , نعيد انتاجها مؤكدين على التخبط الهائل الذي يقع فيه الباحثون العرب في هذه الفوضى العارمة من استعمال المصطلحات دون تحديد معانيهاالعلمية الدقيقة , لقد أصبح استعمال هذه المصطلحات _مع الاعتذار للكلمة_ مجرد اجترار كلمات لانعرف لها مدلولا نركبها ونفككها دون أية صلة منطقية تربط بينها .
*لابد من ايضاح الفرق الهائل والشاسع والخطير بين موضوع "الثوابت " , و"الخصوصيات" بشكل لايقبل اللبس ولا الخلط , وبشكل يضع كل منهما في مكانه الصحيح في حياتنا وفي علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين.
*ولتوضيح المصطلحين السابقين ينبغي توضيح مصطلحي "الحضارة" و"الثقافة" بسبب علاقتهما الوثيقة بهذه البحوث التي لن تجدي أي نفع مادمنا لانفهم ولانحدد ومعاني المصطلحات الدقيقة التي نستخدمها لفهم بحوثنا فيها , وبالتالي فإن المشاكل لايمكن أن تحل دون تحديدها وتحديد وسائل حلها.
*لابد كذلك من الحديث بوضوح جلي وبموضوعية وتجرد عن مشكلاتنا العالقة بين قضيتي الأصالة والحداثة .
*الاعلام والتربية هما الجناحان الأساسيان والرئيسيا للنهوض من هذا المأزق الحضاري الذي نعيشه اليوم
*ينبغي إعادة قراءة أوضاعنا الاجتماعية المأزومة قراءة نقدية واعية صادقة متجردة عن الأهواء , لأن الخروج من هذه البؤر التي سقطت فيها مجتمعاتنا هي الخطوة الاولى لنهوض الانسان والمجتمعات
*التعايش بحاجة الى ثلاثة دعائم أساسية أولها الاحترام المتبادل , وثانيها معرفة الآخر معرفة علمية حقيقية , لكن أهمها على الاطلاق هو معرفة أنفسنا "نحن" لان الذي يجهل نفسه ويعيش في غيبوبة اجتماعية انسانية حضارية لايستطيع أن يحترم نفسه وبالتالي يمد يده نحو الآخرين ليحترموه.
*يجب فهم ملابسات العلاقات الدولية اليوم حتى لايكون الحديث عن التعايش حديثا عن الخضوع , وحتى نفهم طبيعة التعددية السائدة في المجتمعات الغربية لابد من تربية جيل "من أبناء الجاليات الاسلامية " في الخارج قادر على القيام بهذه المهمة لأنه الأقدر والأفهم على مخاطبة الآخر والتعايش معه وفهم عقليته وملابسات خطابه لنا وعلى كل المستويات, جيل يستطيع أن يتعايش لاأن يذوب , ويتمكن من الحوار دون شعور بالدونية , ويرغب في التفاهم ويصبر على ايصال الفكرة بالوسائل التربوية التي يفهمها الآخر خاصة في هذه المرحلة من التاريخ التي غلبنا فيها الآخر بقوته لكن حضارتنا مازالت تشكل بالنسبة إليه تهديدا حضاريا ثقافيا فكريا دينيا إنسانيا مبررا عبر كل أحقاب التاريخ بقوة هذه الحضارة وقدرتها على الوصول الى كل انسان في كل زمان ومكان , وذلك على الرغم من اعترافنا ومعرفة الآخر اليقينية أن العنصر الانساني الذي يحمل هذه الحضارة يبدو اليوم –وأقول يبدو – غير قادر على حملها كما يجب بالصورة النقية الطاهرة البارزة التي أرادها الله لعباده.

المصدر: http://www.islam.gov.kw/site/books_lib/open.php?cat=8&book=99

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك