حوار الثقافة العربية مع الثقافات الأخرى
حوار الثقافة العربية مع الثقافات الأخرى :
في ظلّ غبار هذا المعترك الثقافي الذي يفرض الصراع فرضاً، والذي يقهر في أعماق الإنسان إرادةَ الخير والمحبّة والجمال، تتجلّي ضرورة تعزيز علاقات الحوار والتواصل بين الثقافات والحضارات والأديان السماوية، حفاظاً على البقاء والتعايش بين شعوب العالم.
ففي الوقت الذي تهيمن فيه ثقافةُ السوق والسلع والاستهلاك المادّي، يتوجّب على المجتمع الدولي أن يتحرّر من قيود ما يعرف بالامبريالية الثقافية التي يفرضها النظام العالمي الجديد بقيادة محورٍِ قوةٍ واحدة. يقول أدوارد سعيد: >يتوجّب أن لا تغيب عن بصرنا الحقيقةُ الساطعةُ بأن الولايات المتحدة تُحكم رباطاً متيناً حول العالم، وأن المسألة لا تعود إلى ريغان (أو كلينتون اليوم) ونفر من شاكلة (كيركباترك) فقط، بل تعتمد كثيراً على الخطاب الثقافي وعلى صناعة المعرفة وإنتاج النصوص وتسويقها. إنها باختصار لا تعتمد على "الثقافة" كميدان أنثروبولوجي عام يُنَاقَش ويُحلَّل روتينياً في دراسات ثقافية، بل على ثقافتنا نحن بوجه الحصر<.
ولكننا على الرغم من ذلك كلِّه يمكن أن نستخلص من التجارب المريرة التي عاشتها البشرية، أن العلاقة المتحضّرة التي ينبغي أن تسود بين الثقافات المعاصرة، هي علاقة الحوار بكل الدلالات التي ينطوي عليها. والحوار هو نقيضُ الصراع، لأن العلاقة الأولى تهدف إلى فهم الجانب الآخر، والتفاهم معه على أسس ثقافية أخلاقية منطقية، أما العلاقة الثانية فهي تتغيَّا الاقتحام والاكتساح والغزو وإلحاق الهزيمة بالجانب الآخر للهيمنة عليه.
إنّ الحوار بين الثقافات لا تكتمل عناصره إلاَّ إذا توفَّرت له شروط التكافؤ والندية والإرادة المشتركة والاحترام المتبادل، فالحوار على أي مستوى وحول أي موضوع كان، لا يكون من طرف واحد، وإنما الحوارُ يتمّ بين طرفين يملك كلاهما إرادة الحوار، وإلاَّ كان فرضاً للهيمنة وممارسة للسيطرة التي هي المدخل إلى الغزو الثقافي.
ولقد راج في الآونة الأخيرة القول بأن الغزو الثقافي وَهْمٌ من الأوهام. ونعتقد أن هذا الزعم جاء ردَّ فعلٍ على الغلوِّ في افتراض الغزو الثقافي والمبالغة في الحديث عن محاذيره ومخاطره.
والحقيقة التي نستخلصها من تحليلنا لطبيعة العلاقات التي تسود الأمم والشعوب والثقافات والحضارات في هذا العصر، وفي العصور السابقة، تؤكّد لنا أن الغزو الثقافي، بشقَيْهِ الإيجابي والسلبي، هو مظهرٌ من مظاهر هذه العلاقات لا سبيل إلى إنكاره.
ولكن دعونا نُمعن النظر في دلالات هذا المصطلح (الغزو الثقافي والفكري). هل الغزو، من حيث هو غزو، فعلُ شرٍّ دائماً ؟، أم يكون فعلَ خير في بعض الأحايين ؟. هل الغزو الثقافي والفكري مطبوعٌ بالطابع السلبي على الدوام، أم يا تراه ينطبع أحياناً بالطابع الإيجابي ؟.
إنَّ القضية ـ في رأينا ـ نسبيةٌ، يمكن أن تُفهم من عدة وجوه، بحسب زاوية النظر إليها. ألم تمارس الثقافة العربية الإسلامية في أوج تألّقها وازدهارها، غزواً ثقافياً على العالم القديم ؟. ألم يكن هذا الغزوُ الثقافيُّ العربيُّ الإسلامي غزواً مشروعاً، وإيجابياً يخدم الأهداف الإنسانية النبيلة ؟.
لقد تراجع الغزوُ الثقافيُّ الإيجابيُّ الذي قام به العرب والمسلمون، بعدما ضعفوا وانعزلوا وانكفأوا على ذواتهم، ولم يعد لهم نفوذ من أي نوع كان في واقع الحال، فتعرضوا للغزو الثقافي الغربي الذي اختلف في منطلقاته وأدواته وأهدافه عمّا كان يتميّز به الغزوُ الثقافيُّ العربي الإسلامي من روح إنسانية وسماحة وسعة أفق.
إن الثقافة القوية هي التي تغزو الثقافات الضعيفة. والقوّة هنا ليست قوّة مادية فحسب تستمدّها الثقافة من القدرات والإمكانات المادية التي تتوفّر للمجتمع الذي تمثّله، وإنما هي، إلى ذلك، قوّة المصدر والدافع الرُّوحي للثقافة، وقوّة الأفكار التي تعبّر عنها، وقوّة الغايات التي تسعى إليها.
وهكذا تبدو لنا قضية الغزو الثقافي في نسبيتها. إن الغزو ليس دائماً شرّاً، إن من الغزو الثقافي ما فيه الخير، والثقافة العربية الإسلامية في هذا العصر، تُوَاجَهُ بضروب من الغزو، وما ينبغي أن يخيفنا هذا الوضع، أو يبثّ اليأس في نفوسنا. ولكن يتوجّب علينا أن نعي طبيعة العصر، وأن نعدّ العدّة للدفاع عن ثقافتنا بالعمل الجادّ المتحضّر الهادف، وبالقدوة والمثال والأسوة الحسنة من أعمالنا ومواقفنا، وبتغيير ما بأنفسنا، بالعلم والعمل والإيمان وبالوعي الحضاري الراقي، وبالانخراط في العصر فاعلين ومؤثّرين، متجاوبين ومتحاورين، فبذلك نبثّ الحياة في الثقافة العربية الإسلامية، ونجدّد شبابها، ونُوجد لها الوسائلَ للتنافس في المعترك الثقافي العالمي.
يقول المفكر المسلم رجاء جارودي : >في زماننا الذي يمكن فيه للبشر، من الناحية العملية، أن يقوموا بتدمير البشرية، لم يعد أمامنا من خيّار سوى بين (التدمير المتبادل المحقق) وبين (الحوار). ولا يمكن أن يقوم الحوار حقيقة إلاَّ إذا اقتنع الجميعُ بأن هناك ما يمكن أن يتعلّموه من الآخرين<.
إن الثقافات المعاصرة محكومٌ عليها بالحوار، بل إن مستقبل البشرية مرهونٌ بإقامة حوارٍٍ متحضّرٍ وعاقلٍ ورشيد بين الحضارات والأديان.
ولذلك فإن العلاقة بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى، لابدّ وأن تقوم على أساسٍ متينٍ من الحوار والتعايش الحضاري والثقافي، والإفادة من كلّ جديد نافع.
إن الحوار بين الثقافات إذا قام على هذه الأسس أدَّى إلى ما أصبح يعرف اليوم بالتثاقف، الذي هو في أدقّ تعريفاته، ضربٌ من التعايش الثقافي الراقي. وهو إحدى ثمار الحوار البنّاء بين البشر لتجنّب وقوع الكارثة.
والحوار مسؤولية كل مثقفٍ عاقل في هذا العصر، وفي كل عصر.يقول الكاتب مايكل كاريذرس - (Michael Carrithers) إن الناس يعيشون بفضل العلاقات والثقافة القائمة بينهم حياةً وجدانيةً وفكرية، والثقافةُ التي تعني هنا تماماً العناصرَ الذهنيةَ في الأساس وأشكالَ المعارف والقيم التي نعيش بها وعليها أو التي تعلمناها أو ابتدعناها، لا نعقلها إلا حين يستخدمها الناس، وبالنسبة للآخرين، فالثقافات، بعبارة أخرى، تفترض مسبقاً وجودَ العلاقات.
إن التنوّعَ الثقافيَّ في ظل الوحدة الإنسانية، يحكم على البشر بالتعايش الثقافي، ويعمّق مفهوم التثاقف لدرجة أصبح معها عنصراً رئيساً من عناصر المجتمع الدولي المتحضّر. وإن تنوّع الثقافات ضرورةٌ اجتماعية تاريخية، وضمانٌ للنهوض، وإن ارتقاء حياة الإنسانية في شتى المجتمعات، وعلى مدى التاريخ، رهنٌ بتنوّع الثقافات وتفاعلها، وبتباين الرؤى، وباختلاف الآراء، وبتوافر آليةٍ اجتماعية تكفل التفاعل الإيجابي الحر.
فالإقرار بالتنوّع الثقافي وكفالةَ حمايته صارا اليوم من مبادىء القانون الدولي، فقد جاء في المادة الأولى من إعلان مبادىء التعاون الثقافي الدولي، أن لكل ثقافة كرامة وقيمة يجب احترامُهما والمحافظةُ عليهما، وأن من حق كل شعب ومن واجبه أن ينمّي ثقافتَه، وأن جميع الثقافات تشكّل بما فيها من تنوّع خصب، وتأثيرٍ متبادل، جزءاً من التراث الذي يشترك في ملكيته البشرُ جميعاً.
فإذا أراد المجتمع الدوليُّ أن يحافظ على شرعية القانون الذي يحكم علاقات الأفراد والجماعات والحكومات، فإن ضرورة الحياة فوق هذه الأرض، وضرورةَ العيش في أمن وسلام، تفرضان تعايش الثقافات والحضارات والأديان وإقامة حوار جدّي وهادف فيما بينها. ولا مستقبل للبشرية إذا سارت في اتجاه معاكس لذلك كلِّه.
وفي هذا الإطار، ومن هذا المنظور، يتحتّم على الثقافة العربية اليوم أن تتجانس في مضامينها، وتتكامل في مواقفها ورؤاها، وتتحرك من منطلق هويتها المعبّرة عن حقيقة انتمائها ونبل مقاصدها، لتتمكّن من الصمود في ميدان التنافس الثقافي الدولي، وتتفاعل مع ثقافات العصر، من موقع النّدية والاقتدار لا من موقع التبعية والانبهار.
المصدر: http://www.isesco.org.ma/arabe/publications/Takafarabia/page8.php