القيم في القرآن و السنة: المحددات المرجعية و منهج القراءة
مصطفى بوكرن
مقدمة:
شهد العالم في السنين الأخيرة تحولا قيميا نوعيا على المستوى المحلي و العالمي، إثر الثورة الإعلامية و التكنولوجية التي جعلت من العالم "قرية صغيرة" بقيم و مبادئ موحدة، كادت أن تفتت الهويات القيمية الخصوصية للشعوب و الأمم، فتصاعدت أصوات في الملتقيات و المؤتمرات العلمية[3]، تنادي بالعمل على احترام و الحفاظ على القيم الخصوصية، و العمل على صياغة أرضية مشتركة للقيم الإنسانية جمعاء، لكن و بالرغم من كل هذا؛ فإن الخلاف يشتد حينما يتعلق الأمر بمفاهيم هذه القيم الإنسانية، من مثل الحرية و العدل و غيرها، و مرد هذا الخلاف يرجع إلى المرجعية المتبناة، لأن مفاهيم القيم تتحدد بمرجعياتها سواء كانت مرجعيات دينية أو مرجعيات مادية.
و إسهاما في تحديد المرجعية المفهومية للقيم الإسلامية، يأتي كتاب مدونة القيم في الكتاب والسنة للدكتور محمد بلبشير الحسني، و الذي يهدف إلى بيان شبكة القيم الإسلامية من خلال الوحي.
إذن ؛ ما هي المرجعية المفهومية للقيم الإسلامية ؟ وكيف قرأ الأستاذ محمد بلبشير الحسني القرآن و السنة لتبيان هذه المرجعية ؟
1- المرجعية المفهومية للقيم الإسلامية
يدل عنوان الكتاب " مدونة القيم في القرآن و السنة " دلالة واضحة على أن الكاتب تناول القيم انطلاقا من المرجعية الإسلامية المتمثلة في مصدر الوحي قرآنا و سنة، و وضع انطلاقا منهما شبكة قيم ترتكز على ثلاثة قيم رئيسة؛ قيم في كيان الإنسان وطبيعته، وقيم مكتسبة عن طريق العقائد و التربية و الحياة المجتمعية، و قيم محسوسة و معنوية.
من خلال القراءة الأولية للكتاب، يتضح أن أول خصيصة تتصف بها المرجعية القيمية الإسلامية و تفترق بها عن باقي المرجعيات القيمية الأخرى، هي خصيصة ربانية المصدر وربانية الوجهة؛ و المقصود بربانية المصدر، أن هذه القيم مصدرها من الله عز وجل، و هو سبحانه و تعالى أمر الناس جميعا بالامتثال لها، و نهاهم عن اجتناب سيئها، وفي هذا يقول الكاتب: »الله تعالى واضع القيم و مصدرها الأعلى « [4] ، و هذه المصدرية نابعة من كونه سبحانه و تعالى يتصف بصفات الكمال و منها كما ذكر الكاتب؛ الخلق و الإرادة و الملك و العلم و العدل و القدرة و الخلود و الرحمة، و المقصود بربانية الوجهة، أن امتثال المسلم للقيم هو لله سبحانه لا لغيره و في هذا يقول تعالى:{قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له}[5] ، و في هذا السياق يتحدث الكاتب عن أن: »الجهاد بالمال و النفس يكون في سبيل الله و يعد تضحية وعد الله الجزاء عليها بالأجر الجزيل [6]« .
و إضافة إلى هذه الخصيصة المركزية، التي تمتاز بها مرجعية القيم الإسلامية عن باقي المرجعيات الأخرى ، هناك خصيصة ثانية مركزية أشار إليها الكاتب تعتبر ميزة رئيسة لمرجعية القيم الإسلامية، و تختلف بها عن باقي المرجعيات الدينية و المادية، أنها قيم تشمل جميع مناحي الحياة التعبدية و السياسية و الاجتماعية والاقتصادية و البيئية ..، عكس بعض المرجعيات الدينية التي تحصر قيمها الدينية في العلاقة بالخالق، أو المرجعيات المادية التي تتبنى "العلمانية الشاملة" و تنزع كل القيم عن الحياة، ولهذا نرى الكاتب يبين أن مرجعية القيم الإسلامية تخاطب كل دوائر الحياة الخاصة و العامة، و منها كما يشير الكاتب إلى القيم الذاتية و الاجتماعية ، قيم الحياة و الزمان و المكان في الحياة الدنيوية و الأخروية، قيم بين الإنسان و المخلوقات الأخرى " المحيط، الموارد الطبيعية"[7] و غيرها من القيم .
إن حديث الأستاذ بلبشير الحسني عن القيم من خلال القرآن و السنة، يبدو لي هو حديث في أهم خصائص مرجعية القيم الإسلامية، و التي منها على سبيل المثال لا حصر، أنها قيم ربانية المصدر و ربانية الوجهة ، كما أنها قيم شاملة، وهذا ما يجعلها متمايزة عن باقي المرجعيات القيمية.
2- القرآن و السنة : في منهجية القراءة
مما لاشك فيه أن عمق هذا المشروع الذي يتناوله الكتاب، هو في منهجية قراءة القرآن و السنة المساعدة على استنباط القيم الإسلامية من خلالهما، بل بمزيد من التحديد، هو في المنهجية الخاصة بالقرآن و المنهجية الخاصة بالسنة ، مما يجعل الباحث أمام تساؤلات ملحة:
- هل يمكن قراءة القرآن و السنة قراءة جديدة، تستند إلى أدوات منهجية جديدة، تسهم في استخرج منظومة القيم الإسلامية من خلال القرآن و السنة؟
- هل يمكن أن نكتفي بدراسة منهجية القرآن القيمية و استخراجها، و أن تكون هذه المنهجية حاكمة على السنة ؟
- هل المقاربة القيمية للقرآن و السنة يمكن أن تصيغ خطابا عالميا إنسانيا؟
برجوعي إلى مقدمة الكتاب يشير محمد بلبشير الحسني موضحا سبب تأليفه للكتاب و منهجية قراءته حيث يقول: »إن المثابرة على تلاوة القرآن و تدبره دفعا بي إلى القيام بمحاولة، ربما كانت هي الأولى من نوعها: محاولة وضع "شبكة قيم" تتجلى بارزة في ثنايا آيات الذكر الحكيم وبعض مجالات السنة النبوية المطهرة، على أنني أعترف أنها مجرد محاولة، إذ أن موضوعنا كهذا يحتاج لا إلى مجهود فردي، بل مجهودات جماعية و دراسات معمقة و طويلة النفس [8]«
من خلال هذا يتضح أن منهج قراءة الكاتب للقرآن و السنة، يستند إلى التلاوة و التدبر الشخصي المستمر في موضوع القيم ، وكأن قراءته تقترب من التفسير الموضوعي للقرآن و السنة، غير أن الأستاذ في قراءته يبتعد عن منهجية التفسير كما هي واردة في كتب المفسرين، من توظيف للتفسير اللغوي و البياني أو التفسير الفقهي التشريعي ، كما أنه في محاولته هذه بعيد كل بعد عن ما يسمى بالقراءات الجديدة للقرآن التي تتوسل بالأدوات المنهجية لدراسة النص الأدبي.
إذن؛ فالكاتب يقدم خلاصة تجربته التدبرية التأملية في كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ، و يمكن كذلك أن أشير- ارتباطا بهذه المنهجية- إلى أنه قدم مادة كتابه بطريقة واضحة لا تعقيد فيها تنحو منحى البيان و الإفهام بطريقة تربوية تعليمية ، ومرد هذا يرجع إلى طبيعة الكتاب التطبيقية بأمثلة مستقرأة من الكتاب و السنة، و نشير هنا إلى فهرس الآيات القرآنية[9] و الأحاديث القدسية و النبوية[10] المعروض في الصفحات الأخيرة من الكتاب.
خاتمة:
بعد هذه القراءة الأولية لكتاب مدونة القيم في القرآن و السنة للدكتور الجليل محمد بلبشير الحسني حفظه الله وأطل عمره ، أصل إلى ما يلي:
- إن مقام به الدكتور محمد بلبشير الحسني هو إضافة نوعية في المحاور التي يتضمنها القرآن الكريم ، فإن كان البعض حدد محاوره في علوم الآخرة، و الحلال و الحرام، و أخبار الماضيين، فإن الدراسة التي بين أيدينا تؤكد بجلاء محور القيم كأهم محور من محاور القرآن.
- إن دراسة محمد بلبشير الحسني التطبيقية- يبدو لي– أنها خطوة أولية في أفق العمل على صياغة منهجية القرآن القيمية تماثل مشروع منهجية القرآن المعرفية[11].
هذه الدراسة: مداخلة في يوم دراسي حول القيم الإسلامية بالمدرسة العليا للأساتذة –مارتيل/ تطوان- 19 يناير 2009
[3] - القيم الإسلامية في المنظومة التربوية دراسة القيم الإسلامية وآليات تعزيزها، الدكتور خالد الصمدي ، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية و العلوم و الثقافة- إيسيسكو- 1429هـ/2009مـ ص: 14
[4] - مدونة القيم في القرآن وسنة محمد بلبشير الحسني ص: 32
[5] - الأنعام:164/165
[6] - مدونة القيم ص:58
[7] - المرجع نفسه ص: 22/23
[8] - مدونة القيم ص:9
[9] - مدونة القيم ص:142
[10] - المرجع نفسه ص:150
[11] - منهجية القرآن المعرفية أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية و الإنسانية محمد أبو القاسم حاج حمد طبعة أولى 1424/2003