أطباء الظل: الحرب السورية على الأطباء
أضافه الحوار اليوم في
بين توب
ترجمة: هدى متبولي
في ليلة من ليالي الثلاثاء في لندن, كان الجراح ديفيد نوت حاضراً حفل عشاء أقيم في مطعم بلوبيرد الراقي في تشيلسيا. كانت صالة الطعام مكتظة بالأطباء المتخصصين الذين يشار إليهم بالبنان, والذين قدموا لحضور حفل العشاء السنوي للأطباء الاستشاريين من مستشفى تشيلسيا ووست مينستر, إحدى أبرز المنشآت الصحية في بريطانيا. وبينما كان النادل يرصف أطباق لحم الضأن والريزوتو على المائدة؛ تفقد نوت هاتفه المحمول, وإذا بسلسلة من الرسائل النصية بدأت بـ: مرحبا ديفيد, هذه استشارة عاجلة من داخل سوريا. وكانت الرسائل مرفقة بصورة رجل اخترق الرصاص حنجرته ومعدته.
كانت هذه الرسائل من شاب يعمل في المجال الطبي في حلب, وكان قد قام بإزالة عدة رصاصات من أمعاء الجريح, لكنه كان حائراً فيما يجب عمله بجرح الحنجرة, وقد ظل لساعة ينتظر الإرشادات بشأن ذلك, فيما كان المريض يموت شيئاً فشيئاً على طاولة العمليات.
أجاب نوت من تحت الطاولة: “المعذرة, لم أرَ الرسائل إلا الآن, هل الجهاز العصبي سليم؟” وقد كان… لقد اخترقت الرصاصة القصبة الهوائية والمريء, لكنها لم تصل إلى الحبل الشوكي, فأرشد نوت الشاب لأن يُدخل أنبوبة بلاستيكية في الثقب الذي أحدثته الرصاصة ليتمكن الهواء من الدخول بشكل متساوٍ, ثم ليخيط القناة الهضمية بخيط متين, ثم ليفصل إحدى عضلات الرقبة جزئياً ليغطي بها الجرح؛ كدعامة نهائية لعملية الترميم. لما انتهى نوت من ارسال الإرشادات, عاد لطبقه الذي غدا بارداً.
كانت الغرفة تحوي ما يقارب الخمسين من الأطباء المتخصصين, وهو عدد أكبر بكثير مما هو هناك في نصف حلب الخاضع للمعارضة, حيث قام نوت بين عامي 2013م و 2014م بتدريب طلاب طب, وأطباء مقيمين, وجراحين عامين على جراحات الإصابات؛ والتي كانت أكبر بكثير من مؤهلاتهم. قُتل العديد منهم منذ ذلك الحين, إلا أن نوت بقي يتواصل مع الآخرين, خصوصاً حين تحمل إليه تقارير الأخبارِ أخبارَ الصواريخ السورية والروسية التي تدك المشافي حول المدينة.
في السنوات الخمس الماضية, وبرعاية الحكومة السورية, قضى ما يقارب ال700 عامل طبي نحبهم تحت التعذيب وبالاغتيال أو التفجير وفقاً لمنظمة “أطباء لحقوق الإنسان” التي توثق الإعتداءات على الرعاية الطبية في مناطق الحرب (فيما قتلت المنظمات الأخرى -بما فيها داعش- 27 آخرين), وقد تداولت عناوين الأخبار مؤخراً وفاة آخر طبيب أطفال في حلب, وآخر طبيب قلب في حماة, مما جعل هيئة الأمم المتحدة تَخلُص إلى أنّ “قوات النظام تستهدف العاملين في المجال الطبي لمصلحة عسكرية” كسياسة لمنع علاج المدنيين والمقاتلين الجرحى.
في حلب التي كانت تعد إحدى أكثر المدن السورية ازدحاماً, كان يعمل آلاف الأطباء فيما مضى, ولكن الإعتداءات دفعت ما يقارب ال95% منهم للمهاجرة إلى الدول المجاورة وإلى أوروبا. الملايين من ذوي الأمراض المزمنة في أنحاء سوريا لم يعودوا يستطيعون الوصول إلى الخدمات الطبية, ووزارة الصحة باتت تمنع بشكل روتيني قوافل الامدادات الطبية والجراحية التابعة للأمم المتحدة من الوصول إلى المناطق المحاصرة. في الاجتماعات, يندد مجلس الأمن في الأمم المتحدة بشدة بهذه الخروقات للقانون الدولي لحقوق الإنسان, ولكن عملياً, فأربعة أعضاء من الخمسة الدائمين في المجلس؛ يدعمون التحالفات التي تهاجم المشافي في سوريا واليمن والسودان. لقد نمّت هذه الأوضاع في سوريا الشعور لدى العاملين في المجال الطبي في مناطق النزاع الأخرى بأنهم هم أيضاً قد يكونون مستهدفين.
رغم الهجمات؛ قام أطباء ومنظمات عالمية غير ربحية بخلق شبكة محكمة من المشافي الخفية في أنحاء سوريا, حيث نُصبت الكاميرات في وحدات العناية المركزة, ليتمكن الأطباء في الخارج من متابعة المرضى عبر سكايب, وتوجيه التعليمات للتقنيين في تقديم العلاج المناسب. قاموا أيضاً بتكييف المشافي في المناطق المحاصرة لتعمل بطاقة مستخلصة من مخلفات الحيوانات, أما نوت؛ فقد درب كل جراحي الإصابات تقريباً في الناحية التي تسيطر عليها المعارضة في حلب, كجزء من الجهود الباسلة لنشر المعرفة الطبية من حيث يتحرق النظام السوري لاجتثاثها.
***
في طفولته؛ قام نوت ببناء مئات النماذج من الطائرات الصغيرة ليعلقها في سقف غرفته في وورستور. كان حلمه أن يقود طائرات خاصة, وفي الثانوية؛ حصل على رخصته للطيران بالفعل, ولكن والده الجراح القادم من بورما الهندية والذي تزوج بممرضة بريطانية, أراده أن يصبح طبيباً. أخبرني نوت لما زرته في عيادته الخاصة في لندن “كان معتاداً على الجلوس عندي في الغرفة يدفعني لأن أتعلم”. كان نوت البالغ من العمر تسعة وخمسين عاماً يتحدث بنعومة, ويتعاطى مع الآخرين بهدوء واحترافية. في عام 1978م؛ التحق بكلية الطب في جامعة مانشستر, حيث تفوق في مادة التشريح. يقول:”الكائن البشري هو أكثر آلة مثيرة على الإطلاق, إنه في الحقيقة مثل الطائرة أو المروحية, كلاهما يحتويان على محرك, وكلاهما بحاجة إلى الوقود”
قبل وقت قصير من الكريسماس في عام 1993م, كان نوت يعمل كجراح عام في مستشفى تشارنج كروس في لندن, حين شاهد تقريراً تلفزيونياً من سراييفو, والتي كانت لعشرين شهراً محاصرة من الجيش البوسني الصربي, حيث عرض البرنامج مستشفى ميدانياً بحاجة للعاملين. في اليوم التالي؛ تطوع نوت مع أطباء بلا حدود, وفي ليلة الكريسماس سافر في رحلة لثلاثة أشهر إلى سراييفو, حيث عمل في منشأة تضررت بشدة بالقصف ورصاصات القناصين, حتى أصبح يقال لها الجبنة السويسرية.
بعد تلك الرحلة, صار نوت يأخذ إجازات طويلة غير مدفوعة من عمله في مشافي لندن المختلفة, ليتطوع في وكالات المعونات الإنسانية في مناطق أخرى متأثرة بالحرب أو الكوارث الطبيعية, ليقوم بجراحات لآلاف المرضى في أكثر من عشرين دولة, بما فيها أفغانستان وسيراليون, وهاييتي, ونيبال, غالباً بأدوات بدائية وإمدادات غير كافية من الأدوية وأكياس الدم. دفعته هذه الظروف ليتعلم مجموعة من التقنيات الجراحية التي ما كانت لتتم في لندن إلا بواسطة عدة أشخاص ذوي تخصصات مختلفة.
في عام 2008م, و في إحدى مستشفيات أطباء بلا حدود في رتشورو في جمهورية الكونغو الديموقراطية, وجد صبياً يتيماً يبلغ من العمر ستة عشر عاماً بترت ذراعه بطريقة سيئة. كان الجلد موبوءاَ وملتهباً والعضلات مصابة بالغانغرينا, ومن غير بتر أمامي رباعي؛ كان الموت محتماً على الصبي . هذا البتر يتم بعملية معقدة يزال فيه كل الكتف, وتجرى غالباً كحل أخير لمنع السرطان من الإنتشار. لم يكن نوت قد قام بهذه العملية من قبل قط, لذا فقد أرسل رسالة نصية إلى ميريون توماس, الجراح البارز في مستشفى رويال مارسدن في لندن. وبعد عدة دقائق؛ رد توماس :”ابدأ من الترقوة, أزل الثلث الأوسط….” وأرسل تسع خطوات أخرى, ثم ختم رسائله بـ “سهلة!”….. وتعافى الصبي.
في هذا الوقت، كان الأطباء العسكريون في العراق وأفغانستان قد تبنوا نهجا تحويلياً لأسوأ حالات إصابات الحروب. عادةً, كان يقوم الجراحون بمعالجة النُزُف البطنية الخطيرة الناتجة عن نيران الرصاص وانفجارات القنابل، بشق البطن وفتحه والبحث عن الأعضاء المتضررة والأوعية الدموية التالفة ليصلحوها, ثم يخيطون الجروح. إصلاحات مثل هذه قد تستغرق عدة ساعات، وكثيراً ما مات المريض على طاولة العمليات بعد أن تنخفض حرارته كثيراً.
بدأ الجراحون العسكريون في الجيشين الأمريكي والبريطاني بممارسة “جراحة الحد من الضرر” , وهو مبدأ معتمد, غير أنه لم يكن يتم تطبيقه في مناطق القتال. يقوم الممارسون بعمل أقل ما يمكن به وقف النزيف ومنع انتشار البكتيريا والتسمم في الدم, قبل أن يرسلوا المريض الى وحدة العناية المركزة, للتدفئة وتعويض السوائل والإنعاش, يعاد المريض بعدها إلى غرفة العمليات حين تستقر حالته بما يكفي ليتحمل جسده ساعات تحت مبضع الجراح.
قال لي نوت :”أردت أن أكون جزءاً من هذه الثورة الجراحية, والطريقة الوحيدة التي يتحقق بها ذلك, هو أن تكون هناك لتكون الحالة أمام عينيك, فأنت لا تستطيع أن تقرأ عنها في كتاب” لذا تطوع كجراح مع قوات الطيران الملكية حيث جرى انتدابه سريعاً إلى البصرة في العراق, ولاحقاً إلى كامب باستيون في أفغانستان, حيث وفي عام 2010م كما أخذ يحكي :”جاءتنا ألف وسبع عشرة حالة لإصابات خطيرة في ستة أسابيع, كانت الحالات لأناس فقدوا أذرعهم وأرجلهم بانفجارات القنابل, أناس اخترق الرصاص رؤوسهم, وآخرون اخترق صدورهم, أناس بإصابات شظايا في كل مكان”. وبعد سنتين, منحت الملكة إليزابيث الثانية نوت لقب ضابط رتبة الإمبراطورية البريطانية لجهوده الطبية في مناطق الحرب.
***
في الأسابيع الأولى من مارس 2011م, حيث بدأت الأحداث في سوريا, قامت قوات الأمن التابعة للرئيس بشار الأسد باعتقال وتعذيب مجموعة من الأطفال قاموا برسم شعارات مناهضة لنظام الأسد على جدارٍ في مدينة درعا جنوبي سوريا, مما دفع عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الخروج إلى الشوارع, وفي الثاني والعشرين من مارس؛ اقتحمت قوات الأسد بشكل عاصف مستشفى المدينة ليخرجوا منها أفراد الطواقم الطبية ممن لا يعد وجودهم حرجاً, وقاموا بتنصيب القناصين على سطح المستشفى. في الصباح المبكر من اليوم التالي, قام القناصون بتصويب المتظاهرين, وقتلوا فيمن قتلوا طبيب قلب اسمه علي المحاميد فيما كان يحاول إسعاف الجرحى. آلافٌ من الناس شيعوا جنازته لاحقاً ذلك اليوم, لكنهم أيضاً هوجموا بالرصاص الحي, وطوال السنتين اللاحقتين؛ ظل القناصون على السطح ” يطلقون النار على المرضى والجرحى الذين يحاولون الوصول إلى مدخل المستشفى” وفقاً لهيئة الأمم المتحدة.
بانتشار المظاهرات كالنار في هشيم سوريا, أخذت المستشفيات الحكومية تعمل كأذرع للقوى الأمنية, باستهدافها المعارضين الذين جرؤوا على التماس العلاج. في جمعها لأقوال الشهود, قال أحد الأطباء لمنظمة أطباء بلا حدود:” بعض الأطباء استطاع أن يدبر معالجة الحالات البسيطة وإخراجها من المستشفى من غير أن يتم توثيقها في السجلات أو أن يراها أحد, ولكن إن احتاج المريض إلى التنويم في أجنحة المستشفى؛ فستبلغ إدارة المستشفى وسيصل الأمر بالتالي إلى قوات الأمن”, ومن ناحية أخرى؛ اعتاد الموالون للنظام من الأطباء إجراء عمليات بتر لمعالجة إصابات بسيطة كنوع من التنكيل, فيما أُخذ العديد من جرحى المتظاهرين من أجنحة المستشفيات بواسطة الأمن وعملاء الاستخبارات؛ حتى وهم تحت التخدير أحياناً, بينما لم يبلغ البعض المستشفى أصلاً قبل أن يطوّق عملاء الأمن سيارات الإسعاف ويأخذوا الجرحى إلى فروع الاستخبارات, حيث يتم استجوابهم وغالباً تعذيبهم وقتلهم, مما قاد أطباء بلا حدود لأن تخلُص إلى أن النظام الصحي في سوريا إنما هو “سلاح للاضطهاد” يستخدم ضد هؤلاء الذين يعارضون الرئيس.
في المقابل, قام بعض الأطباء بإنشاء وحدات طبية سرية لمعالجة الجرحى المصابين في عمليات القمع. أحد هؤلاء كان أستاذاً جراحاً في مستشفى جامعة حلب؛ وقد تبنى الاسم الحركي “د.بياض”, حيث قام وبمساعدة 3 من زملاءه باختيار وتجهيز منازل آمنة يمكن أن تجرى فيها العمليات الجراحية الطارئة. وكمحاضر في الجامعة؛ توّسم في سبعة من طلابه الواعدين تعاطفهم مع الثورة الصاعدة, ولاحقاً؛ قام طبيب آخر اسمه نور بتجنيدهم للمهمة, حيث سموا مجموعتهم “نور الحياة”.
في الليل؛ وبوجوه مغطاة وصوت محوّر, كان نور ود.بياض يعطيان الطلاب محاضرات عبر سكايب, يهدفان فيها إلى تعليمهم الإسعافات الأولية, مركزيْن على طرق وقف النزيف الناتج عن طلقات النيران. أثناء التطبيق, كان الطلبة ينتظرون في السيارات وعربات الفان لينقلوا المصابين من المتظاهرين إلى المنازل الآمنة, ثم يختفون. أخبرني د.بياض في مكالمة سكايب من حلب مؤخراً :”كان عليهم أن يغادروا المنزل قبل وصولي, لم يكن لهم ليعرفوا أبداً من هو هذا الرجل”.
شبكات طبية سرية مماثلة بزغت في كل أنحاء سوريا, ولكن المنازل الآمنة لم تكن مجهزة بأكثر كثيراً من الشاش والقطن والمحاليل. أحد الأطباء أخبر أطباء بلا حدود “حين نستقبل إصابات خطيرة تحوج المريض إلى التنويم, فلدينا خيارين: إما أن نتركه يموت, أو أن نبعثه إلى المستشفى غير عارفين بما سيحل به”
في السنة الأولى من الأحداث, وثقت “أطباء لحقوق الإنسان” ستة وخمسين حالة لعاملين طبيين استهدفهم قناصو النظام, أوعذبوا حتى الموت في الإحتجاز, أو أطلق عليهم الرصاص أو أشعلت فيهم النيران وهم يقودون سيارات الإسعاف, أوقتلوا بواسطة ضباط الأمن في نقاط التفتيش وفي عياداتهم أو منازلهم, بينما قتل العديد منهم وهم يداوون المرضى. في يوليو 2012م , سنّ النظام قانوناً جديداً بشأن الإرهاب, مجرّماً عدم التبليغ عن أي نشاطات معارضة للنظام, مما جعل الأمر وفقاً لهيئة الأمم المتحدة “مجرّماً فعلياً الرعاية الطبية للمعارضين”.
في ذاك الصيف, اُختطف نور مؤسس “نور الحياة” من عيادته بواسطة رجال الأمن ثم قتل, واُختطف أيضاً ثلاثة من طلاب د.بياض, حيث وُجدت جثثهم المتفحمة في الأسبوع التالي. قال لي:”منذ ذلك اليوم, غيرت اسمي للمرة الثانية.. أصبحت عبدالعزيز” وهو الاسم الذي يستخدمه اليوم.
***
في يونيو ٢٠١٢م، افتتحت أطباء بلا حدود في الخفاء أول مشافيها الميدانية في سوريا وذلك في أطمة القرية الخاضعة للمعارضة على الحدود التركية, ذلك لأنها ظلت ولسنة كاملة تتطالب نظام الأسد بالسماح لها بالعمل في البلاد، ولكن بلا فائدة. أقيمت المستشفى التي أصبح يرمز إليها ب”ألفا” في فيلا سكنية تبرع بها أحد الأطباء. وفي سبتمبر ٢٠١٢م، سافر نوت إلى ألفا مع آخرين ينتمون لأطباء بلا حدود من حول العالم. كان الأطباء ينامون على الأسطح ليفسحوا مكاناً للمرضى، حيث اعتادوا على سماع الإنفجارات ومشاهدة الطائرات المقاتلة تشق السماء. بعد كل هجمة، كانت سيارات الأجرة وشاحنات النقل تجمع الجرحى وتسرع إلى الفيلا.
كانت طبيبة أطباء بلا حدود من ويلز ناتالي روبرتس تدير غرفة الطوارئ. قالت لي “في الغالب كان يصل الكثير من المرضى مرة واحدة” كانت تقف على البوابة توجه الحالات الأقل عُجالة إلى الأسرّةِ في الفناء المظلل, والحالات الأسوء إلى الداخل. وحين تبدأ بعلاج الطوارئ يأخذ أفراد الطاقم السوريون بالتعامل مع الجمع المتزايد على البوابة، بصرف أصدقاء وعائلات المرضى الذين يريدون الدخول. “دائماً ما يكون المشهد شديد الوطأة ومفعماً بالمشاعر” تقول روبرتس “أحياناً يوصِل المسعفون أجسادً ميتة، ولا نستطيع أن نقول حينها إلا أننا لا نستطيع فعل شيء”.
عملت غرفة الطعام كمنطقة انتظار لأخطر الحالات، تلك التي قيمتها روبرتس بالأحمر أو الأصفر في نموذج تصنيف الحالات. مرضى “الأحمر” كانوا بحاجة لدخول غرفة العمليات (المطبخ) في خلال ساعة واحدة. بينما كان بإمكان مرضى “الأصفر” أن يصمدوا لما يمكن أن يمتد لأربع ساعات بلا جراحة. الجرحى الذين كانوا يستطيعون المشي عُلّموا بالأخضر. بالمقارنة مع منشآت أخرى في سوريا، كانت مستشفى أطباء بلا حدود مجهزة بمخزون جيد من الإمدادات، بلوازم وأدوات جراحية تملأ خزائن المطبخ. ورغم ذلك، أخبرني نوت: “حين يُعلّم أحد باللون الأحمر، لابد للجراح من أن يسأل نفسه: هل لدي من الموارد ما يكفي لأن أجري جراحة له؟ إن لم يكن، فسيذهب المريض للمنطقة السوداء” مما يعني أنه سيموت، فلا فائدة من تبذير الأدوات في محاولة إنقاذه.
كل وحدة للإصابات بحاجة إلى إمدادات كبيرة من الدم. لدى الشخص الواحد من الدم ما يقارب الستة لترات, أخذ نوت يشرح:”إذا فقدت ثلاثة لترات من دمك, لن يحصل قلبك على الأوكسجين الكافي, ثم لن يحصل دماغك على الأوكسجين الكافي, لذا سينهار جسدك وتدخل في غيبوبة”. في أطمة حين ينفد الدم من المنشأة, يذيع المسجد المجاور الحاجة إلى متبرعين, فيصطف طابور من السكان في الخارج, في حين أنه في أماكن أخرى من سوريا يتبرع الأطباء أنفسهم بدمائهم فيما يرقد المريض على طاولة العمليات.
وصل في يوم ما إلى ألفا نصف دزينة من الأشخاص في شاحنة، بعضهم ميتون والبعض الآخر مصابون بجروح بالغة، مما أصاب روبرتس بالحيرة، فقد كانت معتادة على وصول مثل هذه المجموعة الكبيرة من المصابين بعد أن تنفجر البيوت بالقصف وقنابل الطائرات، ولكنها لم تسمع صوت أي طائرة ذلك اليوم. طبقاً لنوت، فقد كان أحد الجرحى ينتمي للمعارضة وكان يصنع قنبلة يدوية في بيته, فانفجرت بغير قصد في زوجته وابنه. قص الأطباء في غرفة العمليات بنطال الرجل لينزعوه، في الوقت الذي أخذ فيه نوت صورة للمشهد, أرانيها الشهر الماضي في لندن، وهو يشير لجيب بنطال الرجل المتخم ويقول “إن نظرت هنا، فسترى القنبلة الأخرى” وجدها الأطباء حين سقطت على الأرض مصدرة تكة مرعبة.
غالباً ما ارتدى نوت كاميرا قو برو في غرفة العمليات، حيث اعتاد على صنع فيديوهات جراحية تعليمية، حيث كان يقوم في العقد الماضي بتدريب الأطباء الذين يعملون في مناطق النزاع. وبعد ستة أسابيع في سوريا عاد الى لندن بآلاف الصور لإصابات مفزعة في ألفا. العديد من الضحايا كانوا شيوخاً ونساءً وأطفالاً, بما فيهم ذلك الصبي الذي التقط قنبلة عنقودية فأطارت يديه، وابنة التاسعة التي تدلت أمعاؤها من بطنها بعد أن أصابتها شظايا قذيفة.
***
كلما سيطر الثوار على منطقة، تبعت روبرتس الصف الأمامي المتوغل إلى داخل سوريا، لتزور المنشئات الطبية السرية وتقيّم احتياجاتها. سيطر مقاتلو المعارضة على أجزاء كبيرة من الشمال السوري بما في ذلك نصف حلب الشرقي والعديد من القرى التي تصلها بالحدود التركية. ساهمت روبرتس في إقامة مستشفى في كهف في إدلب, وفي قبو ما في الباب, بالإضافة الى بنك للدم وبرنامج للتطعيمات في حلب. ولكنها قالت لي أنه على كل حال “لم نستطع إيجاد أطباءٍ مؤهلين” خاصة في المناطق الريفية.
في نهاية ٢٠١٢م، قام عدد من السوريين المقيمين في الخارج بإنشاء جمعيات طبية خيرية. وعلى الرغم من أنهم أرسلوا مساعدات وسيارات إسعاف من تركيا، إلا أنهم نادراً ما تعاونوا في تنظيم جهودهم. قالت روبرتس “كانت فوضى حقيقية، كنت لتزور صيدلية بعلبة مضادات حيوية لتتبرع بها, فتجد أن لديهم بالفعل كميات هائلة من ذات الدواء، ثم تذهب إلى مستشفى آخر لتعي أنهم فعلياً لم يتلقوا أي مساعدة، لأن مدير المستشفى لم يكن ذا خبرة في العمل مع منظمات عالمية” وعند هذه النقطة؛ علقت على أن المنشئات التي تتلقى الدعم “هي التي كانت تصرخ بصوت أعلى”.
لتدبير الأمور اللوجستية، قام عزيز من نور الحياة بإنشاء مجموعة سميت بـ المجلس الطبي لمدينة حلب. كان هناك ثمان منشئات طبية رئيسية، بعشرين طبيب فقط وعدد من مختصي الجراحة يعدون على أصابع اليد في نصف المدينة الخاضع للمعارضة، مما دفع الطاقم لاستخدام الهواتف اللاسلكية لتنسيق توزيع المرضى. وليتفادوا انكشاف أمرهم، قام الأطباء بتوليد مسميات رمزية تراتيبية لكل مستشفى بدءاً من ميم١ وحتى ميم٨. معظم أفراد الطواقم الطبية لم يتلقوا إلا القليل من التدريب الرسمي فقط، إن هم تلقوا أي تدريب رسمي من الأصل.
في النهاية، بنى الأطباء مراكز طبية وأطلقوا عليها أسام عشوائية مثل ميم٢٠ وميم٣٠ لإخفاء العدد الفعلي للمنشئات التي يمكن استهدافها. وفقاً لعزيز، فإن أفضل موقع لمنشأة طبية هو شارع ضيق تحفه مبان طويلة، ليصعب على الطائرات والمروحيات تتبع حركة المدنيين الجرحى بعد شنّ الغارات الجوية. كان عاملو سيارات الإسعاف مستهدفين أيضاً وبشكل روتيني من قِبل القناصين والمروحيات، لذا فقد قام العديد منهم بإزالة الصفارات والشعارات الطبية عن سياراتهم وغطوها بالوحل. وفي الليل، كانوا يقودون السيارات بمصابيح أمامية مطفأة.
بنهاية ٢٠١٢م، كانت القوات السورية قد هاجمت تسع وثمانين مرة على الأقل منشئات طبية في ثمانية أقاليم. قرب دمشق؛ أغاروا على عيادة وثلاث مستشفيات وحرقوها حتى تسوّت بالأرض، قاتلين كل المرضى والعاملين في إحداها. وفي حمص؛ قصفوا مشفى ميدانياً عشرين مرة في يومين. وفي حلب؛ أطلقت طائرات حربية صواريخاً على مستشفى أطفال مما اُضطرهم لإغلاقها, فيما ظلت قوات أرضية تقصف مشفى للأمراض العقلية لأربعة أيام. ميم١ فُجّرت مرتين، وميم٢ مرة، وميم٤ التي هوجمت على الأقل أربع مرات؛ انهارت أخيراً تحت أكوام من الخرسانة وقضبان الحديد الملتوية, لتسحق العديد من المرضى والعاملين حتى الموت.
***
في بدايات ٢٠١٣م، قدم نوت عرضا في المجتمع الملكي الطبي عن عمل أطباء بلا حدود في سوريا. بعد المحاضرة، جلس مع طبيب يدعى منير حكمي، وهو نائب رئيس جمعية خيرية تدعى “إغاثة سوريا” في مانشستر. كان نوت وحكمي قد التقيا مرة من قبل في ألفا في أطمة، حين جاء الطبيب متبرع الفيلا جريحاً إليهم، فعالجه نوت في ما كان من قبل مطبخه الخاص، فجاء حكمي ليأخذه، ولكن لأن حكمي لم يكن مريضاً؛ لم يسمح له نوت بالتواجد في غرفة العمليات, فأخذا بالتشاجر والصراخ. إنما في المحاضرة قال نوت “لقد عرفت الآن أنه شاب لطيف وهادئ”. اقترح حكمي الذي أصبح صديقاً لعزيز على نوت بأن يسافر إلى حلب مع “إغاثة سوريا”.
في أغسطس في لندن، أقام نوت دورة جراحية تدريبية لخمسة أيام, لحوالي ثلاثة وخمسين طبيباً يعملون في “ظروف قاسية” في أنحاء العالم. حضر حكمي الدورة مع عمار درويش، وهو طبيب سوري آخر يعيش في المملكة المتحدة، ثم في الشهر التالي؛ انطلق نوت وحكمي ودرويش إلى حلب.
بجانب مدخل ميم١ كان يوجد خيمة تطهير كبيرة فيها مِرَشّات[1] لشطف أجساد الضحايا بعد الهجمات الكيماوية. قبل عدة أسابيع؛ أطلقت قوات النظام السوري صواريخ غاز السارين[2] في حي مزدحم بالسكان في دمشق، قاتلة ما يقارب ألفاً وأربعمائة من الأشخاص، مما دفع حكومات غربية للإعراب عن نيتها في رد الهجمات على النظام السوري, ولكنها سرعان ما تراجعت. ومنذ ذلك الحين، أخذ النظام وبشكل معتاد يستخدم الكلورين كسلاح. في الطرق المؤدية للمستشفى عُلّقت لوحات إرشادية على أعمدة الإنارة توضّح مجموعة من النصائح والإرشادات للنجاة من الهجمات الكيماوية. أقلّ عزيز نوت إلى حلب وقدمه إلى الطاقم الطبي في ميم١، حيث أقام في الخمسة أسابيع اللاحقة.
كان قسم الطوارئ في ميم١ يدار بواسطة طلاب طب. “قبل أن يصل نوت، لم يكن أحد يعرف كيف يشق صدراً ليفتحه” كما قال لي أبو وسيم، وهو طبيب شاب كان يتخصص في الجراحات التجميلية والترميمية. في اليوم التالي لوصول نوت إلى حلب، حُمل شاب في السادسة عشر من عمره إلى غرفة العمليات بقلب جامد لا ينبض, وفي الوقت الذي كان يحاول فيه طبيب سوري إنعاش قلب الفتى بضغطات صدرية، كان زميله يشق بطنه ليبحث عن نزيف داخلي، ولكن الأمعاء وُجدت سليمة, فأخذ نوت يتأمل الفتى ليعي فجأة أن ثمة شظية اخترقت قلبه، وسرعان ما تحلّق أبو وسيم والآخرون حول طاولة العمليات ليشاهدوا نوت وهو يعمل.
التقط نوت مشرطاً وشق ما بين ضلعين، ثم ادخل مبعاد اضلاع فينوكييتو – وهو ذراع معدني يبدو في عصر جراحات المناظير وكأنه خارج من العصور الوسطى- ليفرّق بين الضلعين ويوسع طريقاً إلى القلب الذي حمل ثقباً في بطينه الأيمن. طلب من أحد السوريين إدخال يديه في فتحة الصدر وضخ القلب بيديه. بعد ذلك بقليل، بدأ القلب يعمل ناثراً الدم في الهواء مع كل انقباضة. خاط نوت القلب بينما هو ينبض… ونجا الفتى.
أخبرني عزيز “كان هناك الكثير من الأمور التي لم نعرف كيف نتعامل معها” “إن كان لدي مريض بإصابة صدرية، فلم أكن أعرف كيف أعالجه لأنني لم أكن جراح صدرية، إن جاءني مريض بإصابات للأوعية الدموية؛ فكنت أرسله إلى مستشفى آخر لديه جراح أوعية دموية” ثم أضاف “معظم حالات الإصابات القلبية ماتت”.
في المساءات وحين تغيب الشمس وتشتعل نيران الرصاص، كان يدرّس نوت دورته عن الجراحة في الظروف القاسية، حيث ترجم درويش المحاضرات للعربية. عرض مئات الصور الجراحية ومقاطع الفيديو التي أخذها في مناطق الحروب والنزاع البعيدة، مضمّنا أمثلة من أخطائه الشخصية القاتلة. كما وزّع نسخاً إليكترونية من عدة مئات من الكتب الطبية، كان قد قام في لندن بقطع حدها الجامع لصفحات الكتاب وتمريرها صفحة صفحة على الماسح الضوئي.
علّم نوت الأطباء كيف يستخدمون رقعاً من العضلات والجلد ليغطوا به العظام المكشوفة والجروح المفتوحة. في يوم ما، رأى رجلاً سُلخت يده بالكامل، وبدلاً من أن يبتر اليد، خاط رقعة مأخوذة من أعلى الفخذ على يده، وشيئا فشيئاً التحم الجلد بعظام اليد تحته. بعد ثلاثة أسابيع؛ أزال أبو وسيم الأنسجة الضامة، مانحاً اليد كتلة كبيرة من اللحم كانت لولاها لتتعفن. في جراحات الأوعية الدموية، يمكن التعامل مع النظام الوعائي كسلسلة من الانابيب التي يمكن استبدال أحدها بالآخر، فحين كان يتلف أحد الاوعية المهمة بطريقة لا يمكن إصلاحه بها،كان يستأصل نوت وريداً سطحياً من أحد الأعضاء السليمة ويستبدله بالشريان، وكذلك كان يفعل بالأعصاب المصابة.
علّم نوت الأطباء كذلك مفاهيم وأساسيات جراحات الحد من الضرر، والتي تعلّمها أصلاً في العراق وأفغانستان. ولأن جراحات حد الضرر تدعو للإصلاحات الجراحية البسيطة فقط كخطوة أولية؛ أتاحت هذه الممارسة للأطباء السوريين رعايةَ عددٍ أكبرٍ من المرضى بعد الهجمات ذات النطاق الواسع. أخبرني عزيز “لقد خلقت ثورة في عملنا” “تحولات حقيقية.. الكثير جداً من المرضى نجوا بهذه التقنيات”.
بعض الجراحين في ميم٢ وميم١٠ كانوا يسافرون إلى ميم١ لحضور محاضرات نوت المسائية. في نهاية كل محاضرة، كان يناقش السوريون الحالات التي حضرت اليوم “أيها عاشت، أيها توفت، ،ولماذا عاش هؤلاء؟ ولما توفي الآخرون؟” أخذ نوت يقول “وبعدها ولأننا نستقبل صواريخ جو-أرض بعد العتمة، كان يظل المرضى يتوافدون علينا، وكنت أستمر في إجراء العمليات حتى منتصف الليل. كان الأمر يتكرر في كل ليلة”.
***
ميم١ تقع في حي بستان القصر، على بعد عدة مئات من الياردات فقط من نقطة العبور بين ناحيتي النظام والمعارضة من المدينة (أغلق الطريق منذ ذلك الحين). في كل يوم، كان آلاف السكان يعبرون من ناحية إلى أخرى للتموين، وزيارة الأقرباء وأداء الامتحانات المدرسية. في ناحية المعارضة، أخذ قطاع الطرق والمرتزقة بابتزاز من يستميتون للمرور، بينما استخدم القناصون في الناحية الموالية للنظام الزقاقَ كمضمارٍ للتصويب على سبيل التدرب. ومن كان يجرؤ من المارّة على استنقاذ الضحايا؛ لم يكن يسلم من التصويب بدوره هو أيضا على الأرجح.
أخبرني نوت “في كل يوم كنا نستقبل من ١٢ إلى ١٥ مصاباً بنيران القنص”. العديد من الضحايا كانوا من الاطفال. الجرحى الذين كانوا يحضرون من نقطة العبور غالباً ما أتوا بإصابات مفزعة. قال نوت “كان الأمر غريباً جداً، كنت لتعرف في بداية اليوم أنك إن استقبلت جريحاً بإصابة طلق ناري في ذراعه اليمنى، فسيصل ستة أو سبعة آخرون بإصابات في أذرعتهم اليمنى، وإن جاءك أحد بإصابة في بطنه، فسيحضر ستة أو سبعة آخرون بإصابات بطنية” شك نوت بأن القناصين كانوا يستهدفون مناطق معينة في الجسم كجزء من لعبة سادية، ولما أخبر عزيز بشكوكه، رد عليه بأن حاملي الأسلحة النارية كانوا يراهنون على من بإمكانهم إصابته؟، وأين؟. أخبرني عزيز “كنا نستمع أحياناً إلى محاورات الأجهزة اللاسلكية للنظام، وكانوا هم يستمعون لنا، وفي يوم ما سمعنا أحدهم يقول ‘أراهن على علبة سجائر…’ “
حتى الحوامل كنّ مستهدفات كما شك الأطباء. أخذ نوت يشرح وهو يمرر على حاسوبه المحمول في لندن سلسلة من الصور المروّعة لامرأة حامل كانت على وشك الولادة “كانت في أسبوعها الأربعين، وكانت على وشك أن تلد ولادة طبيعية مقعدية[3] ولكنها تلقت عيارا نارياً في رحمها” صور طبيب سوري نوت وهو يجري عملية قيصرية طارئة للمرأة، لم يعش فيها إلا الأم. أخذت صورة سينية لاحقة للجنين، فظهر فيها ظل رصاصة غائصة في رأسه.
كان نوت تحت التهديد المستمر بالاختطاف. كانت داعش قد اختطفت بالفعل ستة عشر صحفي ومسعف أجنبي، بينما اعتقل النظام السوري طبيباً بريطانياً آخر في حلب يدعى عباس خان وهو جراح عظام، مات لاحقاً في خلية سجن في دمشق. إن أخلاقيات مهنة الطب الإنسانية توجب على الأطباء معالجة المرضى بغض النظر عن انتمائاتهم وولائهم، لذا وفي يوم ما، كان نوت يخيط شرياناً يصل ما بين قلب مريض ورئتيه، قال “انفتحت أبواب غرفة العمليات فجأة على مصراعيها، واقتحم المكان ما يقارب ٧ من مقاتلي داعش” وقفوا بالباب مشهرين رشاشات الكلاشنكوف, تقدم قائدهم وكان شيشانياً إلى الطاولة, كان المريض فرداً من جماعته. خطا أبو عبدالله -وهو طبيب سوري شاب- إلى الأمام قائلاً للرجل بالانجليزية أنه إن شوّش على الجراح الكبير “فسوف يموت صديقك”. ارتجف نوت في خوف “كنت أحاول التركيز على يديّ جاهداً حتى أنني بالكاد استطعت أن أظل واقفاً” كما قال. كان ثمة اضطراب وجلبة في الخارج اجتذبت الحرس بعيداً عن غرفة العمليات, ولكن قائدهم ظل قاعداً حتى انتهت العملية. بعد شهر من ترك نوت لميم1, عادت ذات مجموعة المقاتلين وخطفوا مريضاً مصاباً في ساقيه, جروه نازلين على الدرج ثم ألقوه في منتصف الشارع وأعدموه.
في يناير ٢٠١٤م، خطفت داعش ثلاثة عشر طبيباً من مستشفى أطباء بلا حدود الميداني في شمال سوريا. ثمانية من المخطوفين كانوا من السوريين، وقد أطلق سراحهم بعد وقت قصير، ولكن الأجانب الخمسة ظلوا أسرى حتى نهاية مايو. أغلقت أطباء بلا حدود عملياتها في مناطق داعش وسحبت أفراد طواقمها من الأجانب من البلاد.
***
عاد نوت ل ميم١ في سبتمبر ٢٠١٤م وكل مستشفى في النصف الشرقي التابع للمعارضة في حلب قد تعرض للهجوم. في ميم١٠ غطى الزجاج وقطع من السقف والخراسانة الأسرة التالفة في ما كان سابقاً جناحاً للتنويم، بينما تدلت بقايا حقيبة محاليل قريباً من منفذ للكهرباء. كدّس الطاقم الطبي في المنشأتين المعدات والمرضى في الأقبية، وكدّسوا أكياس الرمل حول المداخل، بينما هُجرت الأدوار العلوية تماماً لتعمل كدروع ضد القصف المتواصل.
لما يقارب السنة، ظلت مروحيات الحكومة السورية تقذف البراميل المتفجرة المليئة بالتي ان تي[4] والشظايا على الأسواق والعمائر السكنية والمدارس والمستشفيات, وتساعد الزعانف الملتحمة إلى هبوط البراميل على فتيل تأثيرها. أساليب الاستهداف همجية جداً وعشوائية إلى درجة أن الكثير من سكان حلب انتقلوا إلى مكان أقرب من الصفوف الأمامية مخاطرين بتلقي نيران القناصين والقصف, فقط لأن المروحيات لا تسقط البراميل قرب حزب النظام.
حين تنفجر قنبلة كبيرة, فإنها تدمر الأجساد بموجات متوالية. الأولى هي موجة الانفجارالتي تدفع جزيئات الهواء بأسرع من سرعة الصوت, مما باستطاعته أن يتسبب بتلف داخلي للأعضاء لأنه وكما يقول نوت “سينزف السطح الفاصل بين الهواء والأنسجة, لذا ستبدأ الرئتين بالنزيف داخلياً. لن تستطيع أن تتنفس, لن تستطيع أن تسمع شيئاً, لأن طبلتي أذنيك ستكون قد انفجرتا بدورهما”. بعد أجزاء من الثانية؛ تهبّ عاصفة الانفجار, ضغط سالب يقذف بالناس في الهواء ويصفق بهم أي جدران أو أجسام محيطة “رياح الانفجار قوية جداً إلى درجة أنها -في المكان الخطأ- ستنسف رجلك بأكملها” قال نوت. أراني صوراً لرجل على طاولة العمليات تحولت رجله اليسرى إلى فتات متفحم, فُقِد أغلب ما تحت ركبتها. “ستسلخ كل شيء عن رجلك, ولهذا السبب يأتي الناس بإصابات شنيعة. أنها رياح الانفجار التي تفعل كل هذا, ملحوقة بإصابات الشظايا” من جذاذات الشظايا المعدنية التي تخترق اللحم والعظم, ثم مقدمة اللهب[5] التي تحرق الناس حتى الموت.
في أعقاب هجمات البراميل المتفجرة “كلما خطوت درجة إلى الأسفل ناحية قسم الطوارئ، علا الصراخ ولم تسمع غيره” كما عبّر عنه نوت. البراميل المتفجرة تنسف مبان بأكملها، مالئة الجو بالغبار الخراساني، والعديد ممن ينجو من الانفجار الأولي يموت مختنقاً في الدقائق القليلة اللاحقة. في كل يوم، كان يصل المصابون إلى المستشفى مشوهين تغطيهم طبقات من الأتربة التي “لا يمكنك معها أن تعرف إن كنت تنظر إلى وجهه أم إلى ظهره، أو إن كان حياً أم ميتاً” كما قال، ثم أضاف “في كل مرة تلمس فيها أحدهم يتطاير التراب إلى وجهك ويتسرب إلى رئتيك فتجدك تسعل وتبصق فيما أنت تحاول فحص مريضك لتعرف إن كان حياً”
كانت الأرضية المبلطة في قسم الطوارئ السفلي في ميم١ زلقة تغطيها الدماء والسوائل الأخرى. رجال صارخون حملوا أطفالاً بلا رؤوس كما وكأنه بالإمكان إنقاذهم بطريقة ما. لفّ العاملون الجثث في أكفان بيضاء، وأخذوا بتكويم الأرجل المقطوعة التي كان بعضها لايزال في جراباتها وأحذيتها.
حين تسقط القنابل البرميلية على المنازل, فإن العائلة كلها تُرسل إلى الوحدة على الأغلب. قدم مرة خمسة إخوة إلى الوحدة, ولما كان نوت غير قادر على علاج أيهم, أخذ يصور المشهد بالفيديو ليصبح لديه دليل مصور لكم كان الأمر كارثياً. رضيع بلا قدمين أصدر بكاء مخنوقاً ثم أسلم الروح. رقد أخوه الأكبر بهدوء في مكان قريب بينما تخرج أحشاءه من بطنه. في الغرفة المجاورة, صرخ صبي صغير باسم اخيه المحتضر. حمل عاملان طبييان أخاً رابعاً إلى الداخل, كان في الثالثة من عمره.. كان حوضه مفقوداً وكان وجهه وصدره مغطىً بغبار الخراسنة الرمادي, فتح عينيه ونظر حوله في الغرفة ورمش من غير إصدار أي صوت. كان هناك كتل صغيرة من مادة بيضاء لزجة على وجهه مسحها نوت بلطف. ولما أُحضرت الأخت إلى الغرفة, علم أن طوبة خرسانية قد سقطت على رأسها, وأن الكتل اللزجة على وجه أخيها ما كانت في الحقيقة إلا أجزاءً من مخها.
كان الصبي يحتضر, لم يكن هناك علاج.. لقد فقد الكثير جداً من دمه وامتلأت رئتاه بالأتربة الخرسانية. ظل نوت ممسكاً بيده لأربع دقائق عصيبة, أخبرني: “كل ما تستطيع فعله هو تلطيف حالته والتخفيف عنه” سألته ما الذي يعنيه بذلك؟ إن كانت ميم1 قد نفد مخزونها من المورفين بالفعل… فبدأ يبكي وقال “كل ما تستطيع أن تأمله هو أن يموتوا بسرعة”.
***
بعد عدة أسابيع من ترك نوت لحلب, دعي إلى الغداء في قصر باكنجهام, حيث قدم البط البري والخمر المعتق. جلست جانيت اولدرويد هلمي –إحدى أكثر المزارعين البريطانيين انتاجاً للراوند- على يساره بينما جلست الملكة على يمينه. حين التفتت الملكة إليه, ذكر أنه قد عاد للتو من سوريا, فسألت “كيف وجدتها؟” أخبرني “حاولت ألّا أجعل الحديث ثقيل الوطأة, فقلت كانت الأوضاع مروعة تماماً” حاولت الملكة أن تدفعه ليدلي بتفاصيل أكثر, ولكنه لم يستطع أن يتكلم, وبدأت شفته السفلى بالارتعاش. وهناك, “استدعت كلاب الكورجي” كما قال. وللعشرين دقيقة التالية, أخذ نوت والملكة يربتان على الكلاب ويطعمانهم بسكويتاً من تحت الطاولة, ولما شارفت الوليمة على الإنتهاء قال, علقت الملكة “هذا أفضل بكثير من الكلام, أليس كذلك؟”.
منذ رحلة نوت الأخيرة إلى حلب, أسقطت قوات النظام السورية القنابل البرميلية على كل مستشفيات الإصابات الثلاث في المدينة. وفي قصف صواريخ آخر, قتلوا العديد من أصدقاء نوت, بما فيهم فني تخدير ومسعف. صنفت وأثبتت أطباء لحقوق الإنسان ثلاثمائة وخمس وستين هجمة ضد المنشئات الطبية السورية, أكثر من تسعين بالمائة منها ارتكبتها القوات النظامية السورية والروسية. العديد منها كانت غارات “ذات ضربتين”: بعد حوالي عشرين دقيقة من من إسقاط القنبة الأولى, تعود مروحية أو طائرة حربية للمشهد لتفجّر بالمسعفين.
في الأسبوع الأول من يونيو، شنت الطائرات السورية والروسية أكثر من ستمائة غارة جوية على النصف المعارض من حلب، وقد أقسم الأسد على أنه سيسترجع “كل إنش” من سوريا. في اليوم التالي، فجرت طائرات حربية موالية للنظام ثلاث منشآت طبية بما فيها مركز صحي للأطفال المواليد في مدة ٣ ساعات. ميم٢، ميم٣، ميم٤، ميم٦، ميم٧ وميم٩ تم تدميرهم تماماً.
أخبرني عزيز أنه في نصف حلب الذي تسيطر عليه المعارضة, يوجد الآن 5 جراحين عامين, و اثنان أو ثلاث جراحي عظام, وطبيب نساء وولادة واحد, وطبيب تخدير واحد. قال: “أنا جراح عام, أعمل كجراح صدرية, وجراح قلب, وجراح أوعية دموية, وأحيانا أقوم بعمل الأشعة الصوتية, أو الأشعة السينية, وهذا هو حال البقية.. هل هو ممرض؟ لقد صار فني وحدة العناية المركزة, هل هو عامل في المستشفى؟ لقد أصبح فني غرفة العمليات, حيث تعلم كيف يقوم بالتعقيم وكيف يتعاطى مع المعدات الجراحية”.
قال لي عمار درويش :”إذا ذهبت إلى حلب وسألت الأطباء في أي مستشفى, فسيخبرونك أنه ومنذ قدم ديفيد نوت إلى حلب؛ أصبحت هناك قفزة هائلة إلى الأمام في الأداء والممارسة الطبية. إنه لا يزال ينقذ الأرواح هناك, بما علمه لهؤلاء الأطباء من القيام بعمل جيد”.
لا يزال نوت يقدم الإرشادات والاستشارات لطاقم ميم1 عن بعد, وقد قام في بداية هذه السنة هو وزوجته إيلي, الباحثة السابقة في شؤون الشرق الأوسط في المعهد العالمي للدراسات الاستراتيجية, بإقامة منشأة تقدم دورات جراحية تدريبية للأطباء في مناطق الحرب. وفي إبريل, سافر هو ودرويش إلى جنوب تركيا للدورة الأولى, والتي أقيمت في جامعة غازينتاب, وقد حضرها 32 سورياً قادمون من حلب, وإدلب, وحمص, واللاذقية.
أبو وسيم كان أحد أفضل تلاميذ نوت. حين بدأت الحرب, كان أبو وسيم طبيباً مقيماً في جراحة التجميل والترميم في سنته الرابعة, في إحدى المستشفيات الحكومية السورية. أخبرني عزيز مرةً “لقد ضحى بمستقبله” ليواصل معالجة الجرحى في سوريا. “ليس لديه أدنى طريقة ليتخرج, لن يجد طريقة لإكمال سنته الخامسة والسادسة ليصبح مختصاً أبداً” وبينما يأخذ الأطباء الآخرون في حلب إجازات قصيرة بين الحين والآخر لزيارة أهاليهم الذين فروا إلى تركيا, يظل أبو وسيم في ميم1, لأنه لا يملك جوازاً.
دائماً ما يسأل نوت أبا وسيم عن أخباره, رد مرة –وليس من فترة بعيدة- “شكراً يا صديقي, أنا بخير.. لكني حزين جداً” وأرسل صورتين لطفلة صغيرة بإصابات شنيعة “أنظر إلى هذه الطفلة.. إنها إحدى ضحايا التفجيرات الروسية اليوم. لقد فقدت كامل ذراعها ووجهها”.
رد نوت “يا للمأساة. هل ستنجو؟”
“لسوء الحظ… نعم”
المصدر: http://hekmah.org/%D8%A3%D8%B7%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B8%D9%8...
الحوار الخارجي: