الرئاسة الأمريكية؛ سرديات التاريخ وأوهام المتحف
الرئاسات الأمريكية تكشف، دائمًا، عن عقدة السلطة، وعن لذة صناعتها، وعن شراهة نمطها، وسحرية استعراضها؛ لأنها تعكس الطبيعة الرمزية للقوة؛ التي أراد أن يصنعها المهاجر البروتستانتي القديم، وأنْ يُكرس أنموذجها، بوصفه تعويضًا عن الخلاص، وتعبيرًا عن التطهير، وعن السحر الذي يمثله الإنسان الأبيض، وفكرة امتداد (الأوربية) الشاملة للجغرافيا، والمكان، والأفكار، وأنماط المعيش، والتي تحدّث عنها كانط في نظرته للأنوار.
الطرائق التي يتم بها إخراج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تعكس الكثير من تقاليد الاستعراض، ومثيولوجيا القوة التي تتجوهر حول فكرة (أمريكا الأمّة)، وأمريكا القوة؛ فهذه الانتخابات تجري ببطء شديد، وبطريقة تشبه عروض الأزياء؛ حيث تتجسد سينوغرافيا العرض، وحيث استدعاء القوة واللذة والعارضين، وفي الختام؛ تبدأ الخيارات على أساس جحم حيازة القوة والتأثير، وطبيعة المزاج العام، أو ربما البحث عن صدمة العرض، تلك التي تُحيل إلى الغامض، وإلى الخوف، وهو ما حدث مع اختيار الرئيس الخامس والأربعين (رونالد ترامب)؛ الذي يعكس جوهر الصدمة والمفارقة، والخروج عن البداهة.
1- صناعة الفضاء الرئاسي:
كل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، جرت عند حوادث أو صراعات كبرى، توجهها أمريكا، وكأنّ الرئيس السابق يترك، عن قصد، هذه الحوادث دون حلول ناجزة، ولكي يمارس الرئيس الجديد سلطته في الاستعراض، والقوة، والخطاب، والجمهرة، لاقتراح خرائط طرق سحرية لحلّها تحت يافطة الدولة الأمة، والدولة القوة.
وعبر تداولية متعالية للخطاب السياسي، أو عبر الميديا، والتي يتراءى عبرها نص الفرجة، ونص المتعة، ونص التماهي مع فكرة القوة، تلك التي تمنح المواطن/ المتفرج/ المستنمي إيهامًا بسطوتها، وجسدانيتها وشغفها، وحتى وعدها السيطرة والخلاص.
فوز رونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، في نسختها الخامسة والأربعين، له الكثير من تمثلاته، السيميائية والنفسية؛ إذ تحمل معها شفرة العودة إلى قوة الرأسمال، وليس قوة العائلة، كما عند آل كنيدي، أو آل بوش، وليس عقدة الاستعراض، والأدلجة الكبرى، والحروب الباردة، كما عند الرئيس ريغان، أو المرحلة الشعرية كما عند الرئيس كارتر، أو قوة اللون كما عند الرئيس أوباما، أو حتى قوة العسكرة كما عند رزوفلت، وترومان، وأيزنهور.
وهذا ما يثير حوله الكثير من الجدل والشكوك، التي هي جزء من سيناريو الاستعراض، ولكن رسوخ قيم النظام الحاكم؛ هو ما يبدو أكثر تعبيرًا عن فكرة القوة في الدولة، وفي مؤسستها، تلك التي تتجوهر حول مفهوم وخطاب السلطة؛ إذ لا يمكن للتاريخ إلا أن يكون سلطة؛ حيث تتبدى مظاهرها من خلال امتلاك حق التدوين، والتأويل، والرقابة، وامتلاك الثروة والقوة، في الوقت الذي يكتفي المتحف بأوهام السلطة والبطولة.
العقل الأمريكي عقل بروتستناني؛ أي يؤمن بمبدأ الشخصانية التي تصنع المقدس، وتمارس معه، وعبره، الصيانة والحماية، وعبر صناعات مجاورة ذات بعد أرضي، تقوم مركزيته على قوة ما يصنعه (اللوثري)، من خلال الكنيسة الواقعية الخالية من صكوك الغفران، ومن خلال السوق، والمؤسسة، والبنك، وجهاز الشرطة، والميديا، وكلها أجهزة تحكّم، وسطوة، وإخضاع، وهذا هو جوهر الأنموذج الذي يسوّقه نمط الحياة الأمريكية عن طريق السينما، أو خطاب الرفاهية، والحرية، والجنس، أو عن طريق البنك الدولي، وصندوق النقد، أو عن طريق مثيولوجيا نيويورك، أو عن طريق القوة، بوصفها رمزًا ترانستادلي للخلاص البروتستنانتي.
2- صناعة العدو:
قراءة خطب الرئيس ترامب النارية، تعكس طبيعة الأفكار التي يحملها، مثل؛ هوية الحزب الجمهوري اليميني، لكنها، أيضًا، تعكس نزوعًا نحو (فكرة العدو)، تلك التي تُعطي للخطاب مذاقه الحار، وتُلهب حماس الكثيرين من الجمهور، الذي صنعت مخيلته سينما هوليود؛ حيث يجد، هذا الجمهور، عبر صورة (العدو)، فكرته الجوهرية حول الخلاص، والتطهير، والإثم.
يقول برنارد لويس: "بعد سقوط الرايخ الثالث، وانتهاء التأثير الألماني المؤقت، حلت فلسفة أخرى، أكثر عداء للأمريكانية، محله؛ إنها النسخة السوفيتية من الماركسية، والتي تشجب الرأسمالية الغربية، وخاصة الأمريكية، التي تشكل الصورة الأكثر تقدمًا وخطرًا"[1].
وهو ما يعني؛ البحث عن عدو أكثر شراهة، غير السوفييت والشيوعية، ولعل (الإسلاموية الراديكالية)، وحتى (دول المسيحية الكاثوليكية)، تمثل الحيّز الأكثر إثارة؛ فحديثه عن داعش، يتقابل مع حديثه عن المهاجرين من أمريكا اللاتينية، ومن الدول ذات الأغلبية الكاثوليكية، وذات الألوان الخلاسية، وكأنّ المدة الرئاسية للرئيس الأسود أوباما، قد أعادت العقل العنصري الأمريكي إلى ذات الأسئلة، مع نشوء الدولة الأمريكية.
لذ ذهب الرئيس أوباما إلى المتحف، وجاء الرئيس ترامب إلى التاريخ؛ حيث يملك السلطة، والعنف، والثروة، وهي المصادر الحقيقية والواقعية للتدوين، ولصناعة الرأي العام، ولإعلان الحروب.
ما بين المتحف والتاريخ، ثمة الكثير من القراءات والاجتهادات، والتي تنطلق، أغلبها، من زاوية نظر غير واضحة؛ إذ تتشكّل عند البعض، وممن يبحثون عن اليانكي الأمريكي القديم، أوهامًا تتمثلها فكرة البحث عن (الحارس)، وعن (صاحب الشركة العابرة للقارات)، أو (الجنرال)، مثلما تتمثلها أوهام الإيديولوجيا، تلك التي تنطلق من (صناديق البندورة) القديمة، والفاقدة لصلاحيتها، الواقعية والأسطورية؛ حيث التاريخ غير التداولي لفوبيا الحرب الباردة، وحروب النفط، وحروب المستعمرات.
تداول هذه الأوهام، له مرجعيات رومانسية وانفعالية، وهي، كما يبدو لي، كانت مدفوعة الثمن، وبعيدة عن فهم طبيعة العقل الأمريكي؛ حيث إنّ العقل الأمريكي المؤسسي، قد أخضع الكثير من المرجعيات، الليبرالية والبرغماتية، إلى المراجعة؛ فبقدر النظر إلى المصالح السياسية، باتت إعادة الاعتبار لقوة رأس المال، وللشركات العابرة للقارات، والوظائفية المخابراتية أهمية كبرى، لاسيما، وأنّ هناك الكثير من المؤشرات، لها علاقة بفشل الكثير من السياسات الأمنية السابقة؛ إذ كلّفت أمريكا الآلاف القتلى والمعوقين، ومليارات الدولارات، مع تاريخ أكثر بشاعة، في سجل صناعة الأعداء، والمؤامرات، وحقوق الانسان.
3- بروبغاندا الرئاسة:
الرئاسة الأمريكية نسق حاكم، وهذا النسق تحكمه، دائمًا، بروبغاندا مثيرة للجدل، وكثيرًا ما تحضر في السينما، وفي الاجتماع، وفي الصراعات الدولية، أو حتى النظر إلى مفاهيم قلقة، مثل؛ الحرية، والديمقراطية، والسلم الأهلي، والعدل، والمساواة، والمجتمع الدولي، مقابل مفاهيم غامرة بالنقائض، مثل؛ العنصرية، والكولينيالية، والشركات، والإرهاب، وغيرها، والتي كثيرًا ما ترتبط بالعقل المخابراتي الأمريكي، وبسلطة الرئيس الأمريكي مباشرة، فمثلما هو متواتر عن دور الرئيس الأمريكي ريغان ومؤسسته، في صناعة القاعدة، وكذلك؛ الحديث عن دور الرئيس أوباما، في إنشاء داعش.
بات الخطاب الأول للرئيس ترامب؛ هو القضاء على داعش، وعلى الإسلام الراديكالي، كما سمّاه، وهي كناية عن سياسات أكثر عنفًا في التعاطي مع أزمات الشرق الأوسط، وربما مع الصين، بوصفها المنافس الاقتصادي الأشد خطورة مع النمط الرأسمالي، الذي يمثله ترامب.
هذه الصراعات تتطلب بروبغاندا غير تقليدية، وعبر مجموعة من الإجراءات، التي تنزع عن مؤسسة الرئاسة الأمريكية أوهامها، وباتجاه عقلانية، تنظر إلى العالم، بوصفه؛ سوقًا تتحدد علائقه عبر منطق الربح والخسارة، وليس عبر مفاهيم العسكرة، القائمة على الهزيمة والانتصار؛ فشعار عودة أمريكا إلى المنطقة، كما قال ترامب: هي للسيطرة على مواردها الاقتصادية، على وفق سياق السيطرة على مصادر السوق، ومواجهة الصين، من منطلق تضخيم أسواق الشرق الأوسط، بوصفها المستورد الرئيس للبضاعة الصينية، رخيصة الثمن.
لعبة البروبغنادا، والإشهار، والميديا: هي وسائط الرئاسة الأمريكية القادمة، وهي المجال الذي يتطلب من اللاعبين الصغار، التخلّص من أوهامهم، بما فيها أوهام السلطة، والإيديولوجيا، والمقدّس، للتعاطي مع إغواءات ما تقترحه الرئاسة الأمريكية، التي سنعيش مع سنواتها الأربع القادمة، أفقًا غير مألوف من؛ الصراعات، والحروب، والمواجهات، والانقلابات، وربما الاصطفافات؛ التي ستنعكس على منظومات عمل الدول، التي ظلت تعيش لعقود، في أوهام الحماية الأمريكية المجانية.
[1]- برنارد لويس- إدوارد سعيد، الإسلام الأصولي في وسائل الإعلام الغربية من وجهة نظر أمريكية، دار الجيل، بيروت، 1994م، ص 18.