ديناميكية التصوف

نهيميا ليفتزيون

ترجمة: إبراهيم محسن

 

الشريعة و التصوف في الحياة العامة

إن الشريعة الإسلامية هي مجموعة من الأوامر الإلهية التي تنظم حياة المسلم بكافة جوانبها، وهي جوهر الإسلام، و الوجه الأبرز لطريقة الحياة الإسلامية. على مر التاريخ الإسلامي لم يستطع “علم الكلام” الحصول على أهمية تعادل ما حصلت عليه الشريعة، ولم يكن هناك من استطاع تحدي سلطان الشريعة سوى المدرسة “الصوفية”، التي أظهرت تقدمها في الغالب.1

لقد استحكمت وتجذّرت الشريعة، وهي قانون مفروض إلهيًا، بشكل عميق في وجدان العامة، وأخذت تُشكّل جزءًا من أساس التنظيم الاجتماعي الإسلامي. شكل هذا التجّر للقانون الديني سببا من أسباب تكوين الرأي المسلم العام، والذي أعطى للشريعة والعلماء القدرة على احتكار التشريع القانوني والأخلاقي، و كما منح “القاضي” درجة من الاستقلالية في مقابل الحكام. لقد تطورت الشريعة كنظام تشريعي حر من قبل “الفقهاء” الذين اعطوا أنفسهم دور المفسر الوحيد للتراث النبوي.

لم تشكل المدارس التشريعية المختلقة منذ تأسيسها في القرنين الثامن و التاسع، تفسيرات مختلفة للشريعة فقط بل كانت متضامنة فيما بينها، لم تستطع سوى المدرسة الحنبلية المحافظة على هذه الصفات لفترة طويلة، فسرعان ما فقدت المدارس الأخرى وظيفتها بصفتها في تعبئة وحشد الحركات الاجتماعية بعد القرن الثاني عشر، ثم أُخذت الصوفية والتنظيمات المشابهة لها هذا الدور.

لقد أبرزت “الأرثوذكسية” الإسلامية المسافة بين الله و الإنسان، و جعلتها شبيهة بالعلاقة بين العبد وسيده، وهو كالعبد، فالإنسان قادر على إرضاء الله من خلال تنفيذ أوامره بحذافيرها. وفي المقابل، طور “الصوفيون” طرقا أخرى للإقتراب من الله من خلال طقوس روحية و مادية. و لذلك لم يكن للصوفيين أن يتبعوا تعاليم “الشريعة” كما يفعل الأخرون.

لقد بدأ التصوف الإسلامي كحركة سرية هامشية، توصف من قبل “الفقهاء” بالزندقة، لقد وصل التصدع ما بين المجموعتين أقصاه مع إعدام “الحلاج” في عام 922م، الذي كان قد ادعى أنه وصل للاتحاد التام مع الله. لقد تقبل عدد أكبر من الصوفيين الشريعة كأمر إلزامي مع حلول القرنين العاشر و الحادي عشر. مع الوقت، اندمجت الصوفية مع الإتجاه السائد للإسلام و سبق ذلك أمثلة لعلماء كانوا شيوخ للصوفية و مشرعين في الوقت ذاته.

بنية وتنظيم الفرق الصوفية المتقدمة

تكونت مع مرور الوقت جماعات صوفية صغيرة تتمثل بمعلم و أتباع (مريدون)، الأمر الذي حل محل العلاقة الرخوة بين المعلم و أتباعه التي ميزت المراحل المتقدمة للصوفية، سميت كل مجموعة من هذه الجماعات “طريقة”، إلا أن المعنى الحرفي للـ”الطريق تعبدي” أعطى سبيلا لاستخدام مصطلحات مثل فرق أو تنظيمات.

لم يكن لهذه الفرق -قبل القرن الثامن عشر- أي تنظيم مركزي، ولم تكن تنظيمات قائمة بذاتها2، ومع ذلك استطاعت هذه الفرق ضعيفة التنظيم أن تكون نشيطة في الحياة العامة، عن طريق الاتحاف مع تنظيمات اجتماعية ذات بنية أفضل. لقد استطاع الصوفيون الاندماج في المناطق الريفية مع التنظيم القبائلي والمحلي لتلك المجتمعات، عن طريق “الشيوخ ذوو الكاريزما” الذين استطاعوا التأثير على تلك المجتمعات، وبالمقابل ارتبطت الفرق الصوفية داخل المدن بتنظيمات طوعية كـ”الفتوة” و هي حراك مدني شبابي.  لحق ذلك خلال أيام الدولة العثمانية تحالفات مع جماعات كـ: رابطة “أخي” للشباب و النقابات المهنية و  “الغزاة”و “الإنكشاريون”.

لقد كانت علاقة غالب المسلمين بالصوفية قائمة من خلال مجموعة من “الأولياء”، التي شكلت من القرن الثاني عشر جوهرا للتجربة الدينية لدى المسلمين. لقد وصل الإسلام للعامة عن طريق “الشيوخ و “الأضرحة” لا عن طريق العلماء و المساجد، فقد كان الشخص يكبر حول أضرحة الأولياء و “البركة” المنبثقة عنها، فكان لكل قرية أو بلدة أو قبيلة ضريح لوليها. مثلت الزيارات التي كان يقوم بها الناس لأضرحة الشيوخ جزء مهم من حياتهم الدينية، و خاصة للنساء، اللاتي كنا يزرن تلك الأضرحة أيام الجمعة في أثناء خروج الرجال للصلاة.3 لقد استطاع الأولياء من خلال تمائمهم إعطاء الثقة للأفراد و المحافظة على الإستقرار الإجتماعي.4   بالإضافة إلى ذلك، فقد اهتم الصوفيون كثيرا ًبحياة المجتمع، فقد عبر الشيوخ عن تظلمات و شكاوى العامة و استنكروا الظلم و الإستبداد، لقد لعب الشيوخ دورا في الصلح و التحكيم حتى غدت منازلهم مرجعا للناس.5

تأرجحت الفرق الصوفية ما بين عالم فرداني تعبدي و آخر مُوجّه للمجتمع، وكان الثاني أكثر قانونيةً.  لقد تميزت الفرق الصوفية الأكثر شعبية و أقل “أرثوذكسية” بابتعادها التنسكي عن الدنيا مقابل الفرق التي كانت أقرب للشريعة وبالتالي أكثر قربًا للأمور الدنيوية، هذا القرب شكل فيما بعد الإطار الذي أصبحت فيه المشاركة السياسية شرعية و مقبولة كجزء من الممارسة الدينية.

الصوفية و الدولة

اعتمد “العلماء” في الغالب على الدولة، فإما أن يتبوّأ أحدهم منصبًا رسميًا، أو يرتبط بجهات تتلقى دعمًل من الدولة، بالمقابل لم يعتمد “شيوخ الصوفية” إقتصاديا على الحكام، فقد كانوا يتسلمون هدايا و أعطيات من الناس. عدم اعتماد شيوخ الصوفية على الحكام جعلهم قادرين على العمل خارج حدود “دار الإسلام”، لقد عاش شيوخ الصوفية من القرن العاشر مع بدو السهول الأتراك الذين استطاعوا إدخالهم للإسلام، ومع الغزو المغولي ودمار الدولة الإسلامية، استطاع شيوخ الصوفية لعب دور القيادة للمجتمعات الإسلامية، و قد استطعوا أيضا الإقتراب من حكام المغول و إدخالهم للإسلام بحلول القرن الثالث عشر.

بدأت المؤسسة الصوفية بالتطور حينما وهب الحكام مأوى “الخانقاه” لهم. وضعت “الخانقاه” الصوفيين تحت سلطة الدولة التي هدفت لتشجيع الصوفية المتأقلمة مع تعاليم الشريعة.وبجانب “الخانقاه” المدعومة من قبل الدولة، كان هنالك بيوت دينية متواضعة  للشيوخ ذات استقلال كامل عن الدولة، و كانت تسمى “الزاوية” أو “الرباط”. لقد  كانت “الزوايا” تستخدم لمعيشة الشيوخ و أيضا كمقر لاجتماعات أتباع “الطريقة”، و كان كل شيخ يدفن في زاويته التي كانت تصبح مع مرور الوقت مكانا للحج و الإحتفالات السنوية. استطاعت هذه البيوت الصوفية بفضل تواجدها بأماكن استراتيجية أن تساعد في توسيع العلاقات التجارية داخل و خارج دار الإسلام. انتشر في القرنين الخامس عشر و السادس عشر في الشوارع الرئيسية للبلقان عدد من البيوت التي سميت بـ”التكية”. لقد استخدمت “التكية”كنزل للدراسين الفقراء و المقاتلين و ابناء السبيل، و قد حصلت هذه البيوت على الدعم المالي من الحكومة المركزية.8

كان الحكام المسلمون يطلبون خدمات الشيوخ و يبنون لهم البيوت و الأضرحة و يجعلون العامة تحج لأضرحتهم. و كان الصوفيون يبررون هذا التأييد بمهتهم بتقديم النصح و المشورى للحكام9، حتى كان هنالك من السلاطين من أصبح “مريداً” لشيخ معين و الذي كان معناه الإستسلام الروحي لذاك الشيخ. و من أمثلة ذلك ما كتبه السلطان المملوكي بيبرس (1260-1277) حين توفي الشيخ عزالدين بن عبدالسلام، فقد قال: ” والله ما استقر ملكي إلا بعد أن مات العز بن عبد السلام الأمر الذي يدل على التأثير الكبير لهذا الشيخ على السلطان. لقد كان الصوفيون يرون أن لا قوة للحكام إلامن خلال بركة الشيوخ، وبالفعل فقد كان بعض الشيوخ الأقوياء يؤثرون على إختيار الحاكم من عدمه.11

كانت العلاقة مع الحكم سببا جعل بعض الفرق الصوفية الشاذة تقترب أكثر لـ”أرثوذكسية” الإعتقاد و الممارسة12. فمقارنة بالطريقة الشيستية التي كان يشوب علاقتها بحكام الهند المشاكل ، كان زعماء الطريقة السهروردية متحمسين لعلاقتهم بالحكام، الأمر الذي جعلهم قادرين على الحصول على كثير من الثروة و المصالح.13

حينما غزا المسيحيون “دار الإسلام”، كان للصوفيون الدور في تشجيع الحكام للجهاد، و كانت هذه حالة عبدلله اليونيني (أسد الشام) الذي إنضم لحملة صلاح الدين و كذلك أحمد البدوي الذي دعا للجهاد أثناء الحملة الصليبية لـ”لويس العاشر”، و في القرن الخامس عشر إنضم الجزولي و أتباعه للجهاد ضد البرتغاليين في المغرب. أما في النصف الأول من القرن الرابع عشر، إنضم الصوفيون لجيوش المسلمين في تقدمهم بإتجاه شبه القارة الهندية. 14 بالإضافة لذلك إستطاع الدراويش  الفقراء في أسيا الوسطى، الذين كانوا المرشدين الروحيين لـ”الغزاة الأتراك” في القرنين الثالث و الرابع عشر، أن يكرسوهم كمقاتلين للإسلام.15

في مرحلةٍ ما، أظهر بعض السلاطين العثمانيين القبول لوجود بعض الدراويش الشاذين عن المجتمع و الذين كان لديهم اعتقادات وممارسات ذات طابع شيعي، الأمر الذي تغير في بدايات القرن السادس عشر بسبب الحملة الشيعية الصفوية. لقد كان هذا سبباً في زيادة الضغط السياسي على الدراويش، ما جعل الدراويش ينضمون للطريقة البكتاشية حتى يحصلوا على الإحترام، وقد أصبحت هذه الطريقة مع الوقت أكثر “أرثوذكسية” ظاهريا على الأقل.16

مع نهاية القرن السادس عشر أصبح الإنكشاريون مرتبطين بـ”البكتاشيين”، حتى أصبح الشيخ الأعلى للباكتشية قائداً لأحد الوحدات الإنكشارية، فيما أصبح ثمانية من دراويش الباكتشية مرجعا دينيا لوحدات الباكتشية. حتى كان شيخ الباكتشية يسير مقابل “آغا” الإنكشارية في الإستعراضات الرسمية. لقد اتخذت الإنكشارية زي البكتاشينية زيا لها و أصبحوا يشاركوهم في إحتفالتهم، حتى أسموهم أبناء “الحاج بكتاش”.17

دُعي شيوخ الخلوتية في القرن السادس عشر إلى اسطنبول حتى يشاركوا في الحرب ضد الزنادقة خصوصًا على حدود البلقان الغربية، و قد استمرت هذه العلاقة القريبة بين شيوخ الخلوتية و السلاطين حتى منتصف القرن السابع عشر و لتقريبا قرنين، كان للخلوتية العدد الأكبر من التكيات و المنضمين لها في عاصمة الدولة العثمانية.18

تحول الكاريزما إلى القوة الإقتصادية و السياسية 

في القرن السابع عشر، أخذت قوة الدولة العثمانية تضعف في الأناضول، فتحول الناس للدين بحثاً عن الإستقرار، في هذه الحالات أصبح شيوخ الصوفية مؤثرين بشكل أكبر بتحويل الكاريزما التي يمتلكونها إلى قوة إقتصادية و سياسية. و لكن لم تضعف الدول العثمانية إلى حدود تسمح لشيوخ الصوفية الوصول لمناصب أقوى كما حدث في بعض المناطق كالمغرب.19

أما في المغرب ، فقد لعب رجال الدين -الذين كانوا يسكنون بجانب أضرحة السلف المقدسين- دوراً كبيراً في استدامة و إستقرار بنية النظام السياسي فيها، حيث كان النظام و الإجتماعي قطعيا بسبب بعده الكبير عن سلطة الدولة. كفلت سلطتهم الأخلاقية أن يكون النظام السياسي و القانوني و البيئي من خلال أحكامهم، لقد لعبوا أيضا دوراً مهم من خلال تثبيت المجتمع المحلي في النظام الإسلامي الأوسع. بالإضافة لذلك فقد مثلوا لرجال القبائل الدين التقليدي و كفلوا شملهم فيه. 20

لقد كان الوضع في بلاد السند شبيهاً بذلك الذي كان في المغرب، فالسلطة كانت قوة بعيدة و التواصل معها قليل. اتبعت القبائل المحلية في السند الأولياء الصوفيين، التي كانت لديهم سلطة خارج المدينة. لقد كان الأولياء المرتبطين بالأضرحة المهمة يمتلكون الكثير من الأراضي و السلطة السياسية و التأثير على حياة الناس. و كما كان شيوخ الأطلسي في المغرب، لعب “البير” دور المحايدين حتى يحافظوا على التوازن بين المصالح المختلفة. لقد اعتمد النظام الإجتماعي فعلا على العلاقة ما بين “البير” و “المريدين” حيث كان الناس يشعرون بطمأنينة أكبر تحت حماية “البير” الأكثر قوى. لقد كانت في المغرب و الهند السلطة في يد الشيوخ كأفراد و لم تكن للفرق المختلفة.

في سمرقند كان شيخ النقشبندية عبيد الله الأحرار (1404-1490)  شخصًا قوي النفوذ، وكان أول من حول كاريزما الصوفية إلى قوة إقتصادية و سياسية، فقد استغل تراجع سلطة سلاطين التيموريين و كان له سلطة كاملة على السلطان أبو سعيد (1451-1468) الذي كان أحد مريديه. لقد حصل عبيد الله أحرار أيضا على ملكية أراض كثيرة، فقد كان الفلاحون، يبيعون ممتلكاتهم له مقابل أن يصبحوا أتباعه و أن يصبحوا تحت “حمايته”. لقد حماهم عبيد الله الأحرار من الضرائب و من الأعباء الظالمة التي كانت ضدد المبادى الإسلامية من خلال إخافة السلاطين بقواه الروحية. و كأسلوب النقشبندية الإعتيادي، كان “الأحرار” يصالح تدخلاته الدنيوية بحالة روحية غير مرتبطة بهذه الدنيا. كانت الثروة في إطار عالمه الروحي رمزية لفضل ممنوح من الله.21

الشعائر والذكر

 جذب تجمهر الصوفيون في البيوت الدينية وحول الأضرحة الناس العاديين، و قد أراد الناس الوصول لـ”بركة” الشيخ و المشاركة بحلقات “الذكر”. احتاج هؤلاء المنتسبون إلى أبسط أشكال الأوراد و تدريب صوفي أولي، و كانوا يعطون للشيوخ البيعة و يقبلوهم كمعلمين و قادة مع إكمالهم لحياتهم الطبيعية. و مع توسع دائرة المحبين، تصبح تلك الفرق حركات تنسكية  يجد فيها الناس مكاناً يخفف عنهم الضغوط الدنيوية.22

كان “الذكر” (و هو الذي يعني حرفيا التذكر) أهم شعائر الصوفية، وهو عبارة عن مجموعة من الإبتهالات التي تحتوي على أسماء الله التي يكررها الذاكر بلا تعب. كان للـ”ذكر” نوعين: الذكر الخفي أو القلبي، و الذكر الجهري أو اللساني، و قد كان النوعان مباحين، تقاليدهما أصيلة.23 كان الذكر الخفي أكثر إحتراما و كان ممارسا من قبل من وصلوا مرحلة أكثر  تقدماً في الطريق الروحي، بالمقابل كان الذكر الجهري أكثر شعبية و كان يمارس في الإحتفالات الجماعية، و كان يؤدي إلى  تجربة صوفية سريعة بالنسبة للشخص العادي من خلال ترديد منتظم. كان الذكر الخفي صفة للفرق الأكثر “أرثوذكسية” و قربا من “الشريعة”. في القدس، كان مصطفى البكري (1688-1749)  -و هو من ألهم إصلاح الطريقة الخلواتية في مصر- يستخدم الذكر الجهري و يترأس إحتفالاتها، حيث كان المشاركين يصلون مرحلة الإغماء نتيجة التحمس و التعب، وكان تابعه “الحفني” يدير إحتفالات الذكر الجهري في القاهرة، لقد كانت تلك الإحتفالات ذات شعبية كبيرة حتى احتاج ليقوم بها ليلا نهاراً حتى يستطيع استقبال الألاف التي أرادت المشاركة.24

يستطيع الشخص أن يتوقع الأسباب التي جعلت مصطفى البكري، وهو الذي كان إصلاحه للخلواتية جعلها تقترب للـ”أرثوذكسية”، يستخدم الشكل الأكثر شعبية للـذكر. فالأغلب أن السبب كان أن الذكر الجهري قدم فرصة أكبر لإشراك الناس العاديين في تلك الشعائر و ساعدت في جعل تلك “الطريقة” أكثر شعبية و أن تفوز بمشاركين أكثر. و لعل فهم هذا التحرك قد يكون أفضل لو وضع في السياق العام للتغيرات التي طرأت على التنظيم و البنية و الشعائر التي حدثت للفرق الصوفية في القرن الثامن عشر.

التغيرات التنظمية و البنيوية و الشعائرية في القرن الثامن عشر

 في القرن الثامن عشر،  تحولت الفرق الصوفية من حالة الإنتساب العشوائي اللامركزي، إلى تنظيمات أكبر ذات تماسك و مركزية أكثر، لقد استطاعت هذه الفرق بقيادة الشيوخ ذو الكاريزما أن تتجاوز الحدود العرقية و السياسية و الجغرافية لتوسيع مدى الدعم العام،25 وتضم السلالات المقدسة المحلية. لقد أصبح الشيوخ المحليين ،الذين كانوا فيما قبل يتحكمون في الحياة الروحية للناس، ممثلين محليين يطلق عليهم اسم  “مقدم” أو “خليفة” و يكونوا تابعين لمنظمات ذات بنية هرمية.26

قبل القرن الثامن عشر، كان شيوخ الصوفية يستطيعون الحصول على أوراد “طرق” مختلفة، و غالبا ما كانوا يغيرون ولاءهم الرئيسي من طريقة لأخرى.27 لكن مصطفى البكري أصر على أن يكون أتباعه منتسبين للطريقة الخلواتية فقط و كان يأمرهم بأن ينهوا ولائهم السابق لأي طريقة أو شيوخ أخرين.28 لقد أعطت هذه الحصرية تماسكاً أكبر للطريقة و  جعلت المنتسبين أكثر إلتزاماً.  لقد عملت التيجانية، و هي فرع من الخلواتية، على استخدام الحصرية بإندفاع أكبر. بدورها أثرت التيجانية أيضا على الطرق المنافسة في المغرب و غرب أفريقيا، خصوصا القدرية، التي أصبحت أكثر تماسكاً و جزماً.29 استطاعت هذه الفرق الصوفية الأكثر تنظيماً الوصول للعامة وحشد دعم أكبر، بالتالي ساعدت في وصول تجربة دينية أكثر معنى للطبقات الأقل في المجتمع الإسلامي و انتشارها من المدينة لخارجها.

لقد كان انتشار الإسلام الكبير من القرن السابع عشر سبباً في إيجاد قيادات دينية جديدة في قرى غرب إقريقيا، و على النقيض من القيادات الدينية في المدن التي كانت تتكلم باسم التجار، كانت هذه القيادات تعبر عن أحزان الفلاحين، كانوا ينتقدون الحكام و وكانوامن أسباب إحداث راديكالية في الإسلام، وبالتالي تحضير الأرض لحركات إصلاحية أكبر، تعرف بشكل أفضل بـ”الجهاد”.

الأشعار الصوفية باللغات الدارجة

بالنظر للصفات الأساسية للحركات الصوفية في العالم الإسلامي، لاحظت أن التراث الإسلامي المكتوب باللغات الدارجة قد بدأ بالظهور بالوقت ذاته في أرجاء العالم الإسلامي في القرنين السابع عشر و الثامن عشر، و قد كانت الأشعار الصوفية هي الشكل الطاغي لتلك الكتابات.هذا التطور يفسره التوسع خارج المدينة حيث كان الإسلام ينتشر للفلاحين و الرعاة الأميين باستخدام تلك اللغات الدارجة. لقد دعت الحاجة أيضاً لكتابة الأشعار الصوفية باستخدام التعابير الدارجة مع توسع الفرق، التي احتاج قادتها للتواصل مع المنتسبين في المناطق النائية. كانت هذه الأشعار باللغات الدارجة ،التي كانت في وقت سابق تنتقل و تردد شفهياً، ملتزمة بالنص العربي الذي كان يكتب و يرسل إلى ممثلي الشيخ المتعلمين الذين كانوا يرددوا ما فيها للعامة الأميين.

في الهند، إتجه الصوفيون للغات المحلية كـالآردو و السندية و البنجابية للوعظ و التعليم، الأمر الذي كان سببه عدم فهم العامة للغات المقدسة (العربية و الفارسية).31 استمرت مخاطبة النخبة باللغة العربية و الفارسية -اللغات التقليدية للإسلام- بالمقابل كان استخدام اللغة الدارجة مهم في بناء الجسورمع الأناس العاديين. 32

التراث الإسلامي في الصين ، الذي كان في الغالب ما يكتب بالأحرف الصينية، بدأ في منتصف القرن السابع عشر، لقد كانت الأعمال الصوفية مهمة كما في أي مكان أخر. كتبت هذه الأعمال بأسلوب سهل، يحاكي اللغة المحكية لأنه كان موجهاً للعامة. 33

قيل أيضاً أن دعوة الإمام منصور عام 1785 في القوقاز كانت بلغة بسيطة موجهة للفلاحين.34 في القرن السادس عشر و  السابع عشر ، في فترة إنتكاس علمي في مصر، كانت أعمال اللاهوت والقانون تكتب بلغة منمقة، فيما كانت أعمال الصوفية تكتب بلغة بسيطة قريبة من لغة الناس.35 لقد أخذ الصوفيون في أنحاء العالم على أقلمة تعابيرهم و أساليبهم حتى  يستطيعوا تحقيق تواصل فعال مع الناس الذين أرادوا تحريكهم.

فاعلية الوعظ باستخدام اللغة الدارجة في حشد الدعم العام يظهر في حالة “عثمان دان فوديو”، قائد الجهاد فيما يسمى الأن شمال نيجيريا: “ثم نهضنا مع الشيخ نساعده في عمله للدين، لقد سافر لذلك الهدف للشرق و الغرب، داعياً الناس لدين الله بوعظه و قصائده بالأعجمية”36. و حينما وجد عثمان دان فوديو مجتمعه مستعداً للجهاد : “بدأ بتحفيزهم للتسلح … و جعل هذا في قصيدة أعجمية قدرية.” لقد كان لتلك الأبيات الصوفية أثر المنومات على المحبين في ليالي الجهاد.37

الفرق الصوفية في الحياة العامة

لقد كان من الصعب على الصوفية كطريقة تعبد فردية و باطنية أن تخلق جو اجتماعي. بعد القرن العاشر، تحولت تدريجيًا طريقة التعبد الباطنية النخبوية بطبيعتها إلى أحد أكثر أشكال التعبد شعبية، و كان ذلك بفضل الفرق الصوفية المختلفة. استطاعت هذه الفرق نقل الصوفية من السرية للعلن والحياة العامة حتى تلعب دور في الحياة الإجتماعية و السياسية لتلك المجتمعات، بالإضافة للحياة الدينية للمسلمين لمدة سبع قرون.

قبل القرن السابع عشر، كانت أغلب تلك الفرق ضعيفة التنظيم و متمركزة في أماكن محددة، كما لم تكن تنظيمات قائمة ذاتيًا. وصلت تلك الفرق إلى الطبقات الإجتماعية كافة من خلال الأولياء. كانت “بركة” الأولياء تعطي للأفراد الثقة و تساعد في المحافظة على الإستقرار الاجتماعي.  كانت المعارض التجارية و الإحتفالات الدينية تحدث حول أضرحة الائمة، بالإضافة لذلك قد اعطت الصوفية النساء المساحة الاجتماعية التي جعلتهم قادرين على ممارسة الطقوس الدينية التي كنا لا يستمتعنا بها فيما قبل.

لقد حاولت السلطات السياسية السيطرة على نشاطات الصوفية من خلال إعطائهم “الخانقاه” التي نظمت النشاط الصوفي تحت سيطرة السلطة و دعمت الصوفية الملتزمة بالشريعة. تجنبت بعض الفرق ذلك الرياء و حافظت على مثالية الفقر الزهدي، بالمقابل كانت الفرق الأخرى قريبة من الحكام و استطاعت الحصول على ثروات ضخمة، حتى الدراويش البعيدين عن المجتمع قد جذبتهم دواوين الحكام حيث كانوا يجبرون على التكيف مع الشريعة. حسب النظرة الصوفية للسلطة، كان الحكام يملكون قوة مؤقتة من خلال بركة الائمة، حتى كان بعض الحكام يطلب هذا الفضل و في بعض الأحيان أصبحوا تابعين لهؤلاء الشيوخ.

اختلف الصوفيون عن باقي العلماء، لأنهم استطاعوا العمل خارج حدود الدولة الإسلامية و البيوت الصوفية استطاعت نشر الإسلام حتى في خارج حدود دار الإسلام. و حيث كانت السلطة ضعيفة، كان الناس يطلبون حماية الشيوخ الذين حولوا الكاريزما الخاص بهم إلى قوة سياسية و إقتصادية، حتى حصلوا على ممتلكات كثيرة و كان لهم التأثير الكبير على حياة الناس. لقد كانت الثروة تمثل نعم وهبهم إياها الله، و استطاع هؤلاء الشيوخ مصالحة هذه الممتلكات الدنيوية بعالم روحي خاص منفصل عن هذه الدنيا.

احتاج الانتساب للفرق الصوفية السرية إلى إحتفالية تُلقَّن فيها الأوردة، لكن هذه الطقوس لم تكن مغلقة لمن يريد أن يصبح مريدًا للفرقة فحسب، بل أيضا للبقية الناس الذين رغبوا في الوصول “لبركة” الشيخ. لقد تطورت تجمعات “الذكر” حتى تستطيع إثارة تجربة صوفية للأشخاص العاديين في وقت قياسي، و مع توسع دائرة التابعين، أصبحت تلك الفرق أقرب إلى حركات تعبد منها إلى حركات تصوف.

و بالتالي استطاعت الفرق الصوفية لعب أكثر من دور في المجتمعات المسلمة، منه تقديم الإرشاد الأخلاقي للجهات التطوعية، و كون هذه الفرق ومحافلها بمثابة متنفس للناس من صعوبات الحياة، كما أسهمت هذه الفرق في إعطاء الثقة للناس والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. كما كانت قنوات للتواصل بين الناس العاديين والسلطات.

قبل القرن الثامن عشر، كانت هذه الفرق متمركزة في أماكن معينة، وكانت مؤثرة فقط على المجتمعات القريبة منها، إلى أن حل القرن الثامن عشر، فقد شهدت الفرق الصوفية تغييرات جذرية تحولت فيها من جماعات عشوائية ولامركزية، إلى تنظيمات ذات تماسك و مركزية. عكست التغيرات التي طرأت على الشعائر الصوفية الطبيعة الهرمية والمركزية الجديدة للطرق الصوفية والدور الأوسع للشيوخ. لقد قدمت الفرق الصوفية مدى أوسع لمشاركة العامة في إحتفالاتها، مما سهل إنضمام منتسبين أكثر لها.

خرج قادة إسلاميين جدد، كانوا يعبرون عن أتعاب الناس، ينتقدون الحكام و قد لعبوا دوراً في في خلق راديكالية إسلامية. لقد كان التخاطب مع المجتمع العام يناقش مشاكل اجتماعية و سياسية و حتى يستطيع أن يصل هذا الخطاب للأميين فقد  كان لا بد من كتابته باللغة الدارجة،بالتالي أصبحت الكتابات الإسلامية تكتب باللغة الدارجة في وقت واحد في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، حدث هذا في القرنين السابع عشر و الثامن عشر وقد كانت الأشعار الصوفية الوجه الغالب لتلك الكتابات.

أسفرت الفرق الصوفية الجديدة عن حركات استطاعت نشر خطاب الإصلاح والتجديد في القرن الثامن عشر، مما هيأ جوًا للتخيل بأن هذه الحركات الما قبل الحداثية ستستطيع قيادة المجتمعات الإسلامية إلى الحداثة مع الشعور بالنهضة. لكن هذه العملية سرعان ما توقفت، وانحرفت هذه الحركات من الإصلاحات الذاتية إلى الدفاع عن “دار الإسلام” أمام الغزو الأوروبي، مما أدى بالنهاية إلى تدمير هذه الحركات أمام القوة العسكرية الأوروبية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الملاحظات:

  1. Schacht 1974, 393.
  2. Karamustafa 1994, 88–89; Levtzion 1997.
  3. Trimingham 1971, 232.
  4. Ibid., 220–21, 234; Karamustafa 1994, 87–89.
  5. Trimingham 1971, 27, 230, 237–38.
  6. Algar 1976, 44; 1990, 152.
  7. Fernandes 1988, vol. 1, 24.
  8. Faroqhi 1976, 73-75; 1981, 99–101, 113; Norris 1993, 101–2, 109.
  9. Eaton 1993, 94.
  10. Quoted in Abu Zahra, 1953, 143.
  11. Eaton 1993, 31, 83.
  12. Eaton 1978, 45–48, 50–53; Ernst, 1993, 47.
  13. Ansari 1992, 5, 30.
  14. Eaton 1978, 284.
  15. Trimingham 1971, 83; Faroqhi 1993, 197; Zarcone 1993, 71.
  16. Ocak 1993, 249–51; Trimingham 1971, 83; Faroqhi 1981, 92; Karamustafa

1993, 243; 1994, 83–84, 94–95.

  1. Birge 1937; Zarcone 1993, 71; Goodwin 1994, 148–52.
  2. Trimingham 1971, 75; Zarcone 1993, 80; Clayer 1994, 65–67, 70.
  3. Faroqhi 1993, 197, 205–6.
  4. Gellner 1969, 41ff; 1981, 114–30.
  5. المعطى هنا هو تحليل أولي لدور عبيدالله الأحرار كشيخ صاحب كاريزمابالإعتماد على:

Paul 1991; DeWeese 1993; Gross 1988; 1990.

  1. Trimingham 1971, 27–28, 186, 199–200; Eaton 1978, xxxi.
  2. See Gardet EI2.
  3. al-Jabarti (d. 1240/1825–1826) 1879–1880, vol. 1, 300; Weigert 1989, 109–11.
  4. For a more detailed analysis see Levtzion 1997 and Levtzion and Voll 1987.
  5. Clancey-Smith 1994, 41–45; Karrar 1992, x, 20; Algar 1990; Abu-Manneh

1990, 295; Hofheinz 1990, 28–29; Grandin 1990, 645.

  1. Eaton 1978, xxxi–xxxii, 207; Winter 1982, 92, 97.
  2. al-Jabarti, 1879–80, vol. 1, 295; vol. 2, 61; Weigert 1989.
  3. Abun-Nasr 1965, 15–57; Martin 1969; Brenner 1988.
  4. Levtzion 1987, 23–26.
  5. Schimmel 1975, 131, 135, 163; Shackle 1993, 163, 265, 285–88; Roy 1984,58; Eaton 1978, 91. من المهم الذكر أن في دولة بيجبور المستقلة, التي كانت بعيد عن الحكم المغولي, و كان تأثير الثقافة الفارسية فيها ضعيفاً, بدأت المكتوبات باللغة الدكنية من القرن الخامس عشر أي قبل ما يقارب القرنين من الكتوبات الأوردية.
  6. Schimmel 1973, 48–50; 1976, xi, 11.
  7. Aubin 1990, 496–97.
  8. Bennigsen 1964, 195.
  9. Winter 1982, 27.
  10. Ibn Fudi (d. 1245/1829) 1963, 85.
  11. Ibid., 51; see also Hiskett 1975.
  12. المصدر: http://hekmah.org/%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%83%D9%8A%D8%A9...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك