اليسار والسلطة والديمقراطية: مراجعة فكرية لقضايا جدلية
د.مصطفى عطية جمعة
ن الاعتقاد الشائع أن اليسار دال على الفكر الماركسي ، وهذا خطأ ، فالنظرية الشيوعية تأتي ضمن تيارات الفكر الاشتراكي ، فالشيوعية Communism هي إحدى نظريات الفكر الاشتراكي ، في تطوراته الفلسفية والعقائدية .
إن مذهب الــ “شيوعية” من أكثر المذاهب ثورية وراديكالية ، لأنه هو يقوم أساسا على : القضاء على الملكية الفردية ، وتدخّل الدولة الفعّال في حياة الأفراد ، وإخضاعهم لإشرافها وتوجيههم ماديا وفكريا ، وهو يستخدم غالبا للإشارة إلى الاشتراكية الثورية ، أي تلك التي تحققت عن طريق الثورة ، بدلا من التطور التدريجي ، وتقوم بصورة خاصة على كتابات ماركس([1]) .
وكما نرى فإن رؤية الماركسية تنطلق من تحكم الدولة بشكل كامل في حياة الأفراد ، من أجل نشر مبادئ المساواة ، والعدالة في الدخل الذي سيكون على قدر الاحتياجات المادية الأساسية للناس ، وهي رؤية أساسها الفلسفة المادية . لذا ، فهو يلاقي مصطلح اليسار في الطبيعة الثورية التي تنطوي عليها الشيوعية في سعيها إلى التغيير المجتمعي والسياسي والاقتصادي .
فالمتأمل في التجربة الشيوعية – في بعديها الثوري والتطبيقي في مختلف بلاد العالم ، مثلما كانت في الاتحاد السوفيتي سابقا ، وفي تجربة ماوتس تونج الصينية– يجد أن التغيير يحتّم وجود حزب على رأسه شيوعيون ثوريون ، يقودون صراع “البروليتاريا ” إلى النصر . فمفهوم الحزب الشيوعي : يعني حتمية وجود من يقود الثورة ، ويعني أيضا حتمية وجود من يحمي مصالح الطبقة العاملة ، ويواجه البرجوازية وتحكماتها ، ومن ثم يدافع عن المكتسبات الشيوعية .
فكل تجارب الشيوعية التي أثمرت في النهاية دولا تحمل الشيوعية مذهبا وتخطيطا وسلطة كان نهجها ثوريا ، أي عسكريا دمويا في أحايين كثيرة . ذلك أن وصول الحزب إلى السلطة بالطريق الثوري يتيح تدريب العمال ، وتنظيمهم ، وتحقيق أهداف الثورة ، بعيدا عن فلسفة الأـحزاب الاشتراكية الديمقراطية في التجربة الغربية التي سلكت النهج السلمي القائم على تداول السلطة، مما يجعلها معرضة لمغادرة السلطة في أية لحظة ، فتفقد بالتالي مكتسباتها . أما الأحزاب الشيوعية فهي تحكم بما يسمى ديكتاتورية البروليتاريا، أي جعل السلطة كلها في أيدي البروليتاريا ومن يمثلونها، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الأكيدة والسريعة لها([2]).
أيضا ، فقد اعتبر الفكرُ الماركسي الديمقراطيةَ من الإرث البرجوازي الذي يمثل الرأسمالية ، بل إن الديمقراطية كانت وسيلة الرأسمالية لتجديد المجتمعات التقليدية (الملكية) ، وتجديد بنيتها السياسية والاجتماعية وعمل علاقات جديدة في تلك المجتمعات . وهذا لا يقدح بالطبع في مبادئ الديمقراطية الداعمة للحريات والتداول السلمي للسلطة وسعيها إلى خير الشعوب، ولكنهم يرون أن الديمقراطيات الغربية لا تزال داعمة للنظام الرأسمالي ، ولقوى البرجوازية ([3]).
ويثور السؤال : هل يؤمن الفكر الماركسي بالديمقراطية ؟ ويأتي الجواب ، بأن الماركسية تؤمن في جوهرها بالديمقراطية ، ولكنها تقرأها قراءة خاصة به بعيدا عن الممارسة السياسية الحالية ، القائمة على تداول السلطة على نحو ما نرى في الديموقراطيات الغربية ، حيث يرى الفكر الماركسي أن ” الديمقراطية الاشتراكية ” هي أعلى نمط للديمقراطية السياسية لأنها تضمن الإدارة الذاتية الاشتراكية للشعب وللحقوق والحريات السياسية الحقيقية للمواطنين ، ومساواتهم أمام القانون ووحدة الحقوق والواجبات . وهي تضمن جذب العمال / الشغيلة إلى إدارة شؤون المجتمع والدولة . والتطور الشامل للديمقراطية الاشتراكية يؤدي في ظل الشيوعية إلى حلول الإدارة الذاتية الاجتماعية الشيوعية مكان الدولة ” ([4]).
تلك هي رؤية الماركسية للديمقراطية فكرا ، وإن لم تقدم آليات وإجراءات لضمان التحول التجربة الاشتراكية إلى الإدارة الذاتية الاجتماعية ، وهي رؤية أقرب إلى الطوباوية المثالية ، أما واقع التطبيق فكان ديكتاتورية واستبدادا وتسلطا . وربما يعود هذا ، إلى اقتصار المنظور على الأبعاد المادية فقط أي الجانب الاقتصادي ، أما الأبعاد النفسية والقيمية للفرد فغابت كثيرا ، فالإنسان لديه رغبات عديدة وكثيرة ، منها التملك الفردي، والرغبة في الاستعلاء والقوة والنفوذ والهيمنة ، بجانب السعي لتحقيق طموحات شخصية ، وكلها أشياء لا يمكن مقاومة إغراءاتها النفسية خصوصا إذا غابت القيم عن أصحابها ، وتلبّسهم حب المناصب والصراعات على النفوذ .
على صعيد آخر ، انطلقت قراءة الفكر الماركسي للسلطة السياسية من بعدين: نبذ الطبقية ، وربط الاقتصاد بالسياسة ، وأن ” الدولة في أنماط الحكم المختلفة (الملكية والجمهورية الرأسمالية ) أداة للسيطرة الطبقية بل هي في خدمة الطبقات المسيطرة، ولا ينبغي خضوع الدولة / السلطة لإيديولوجية الطبقة السائدة ( أي الطبقة المنتفعة من السلطة والمساندة لها في آن ) ، وإنما يجب تبنّيّ إيديولوجية ثورية ، تغير الفكر والممارسة والطبقية في الدولة ذاتها ، بدلا من الطبقات المستغلة للسلطة والمال، والتي تخضع لطبقات أخرى ، ومن ثم إزاحة هذه الطبقة ، واستبدالها بقوى الإنتاج الحقيقية المهمشة والمنبوذة ، وهذا عبر إجراءات ثورية وليس تغييرا سياسيا فقط ([5]).
فالمفكرون الماركسيون يرفضون نظرية نخبة السلطة ، التي ترى بأن السلطة تتحكم فيها هيئات ثلاثة : اقتصادية وسياسية وعسكرية ، وهؤلاء لا يعطون كثيرا من المجال للسياسيين المحترفين لأن الهيئات الثلاثة هي صانعة القرار السياسي في النهاية لأنها تملك القوة ، ويرد الماركسيون على ذلك بأن السلطة يتولاها من يمسك وسائل الإنتاج بشكل فعلي ، بعيدا عن النخبويين المتعطلين . أما نظرية التعدد ، التي ترى أن السلطة تتولاها مجموعات قائدة وليس هيئات ، تتصارع فيما بينها أو تنسق مواقفها، وتمثل مجموعات ضغط في صناعة القرار السياسي ، ومن هذه المجموعات : قادة الفكر والجيش وأصحاب المصانع والملاك وكبار الموظفين في الإدارة وغيرهم . فإن الماركسيين يردون عليهم بأن تلك النظرية تخفي الطبقات المتحكمة في طياتها ، وتقبل بوجودها وتعطيها دورا في السلطة ، وبالتالي لا استقلال حقيقيا للدولة ([6]) ولا وجود لحياة اشتراكية آمنة ، تحمي الطبقات الفقيرة .
إن النظرية الماركسية تقرأ السلطة في ضوء مرجعيتها الفلسفية الاجتماعية التي لا تعترف بالواقع وجماعات المصالح والملاك وأصحاب المصانع ، وما ينتج عن ذلك من طبقات واحتكارات وتحكمات ، وإنما تعيد ترتيب المجتمع ، وفق مبادئ المساواة الاجتماعية والاقتصادية ، ومن ثم تتكون السلطة السياسية الضابطة لذلك.
ولكن واقع التجربة بكافة تطبيقاتها كان سيئا ، وهذا ما رصدته كثير من الدراسات، ويكفي سقوط الاتحاد السوفيتي ذاته ، وانتهاج الصين نهجا رأسماليا مع بقاء الحزب الشيوعي على رأس السلطة . فقد كان النظام المطبق في غالبية الدول الاشتراكية كان أقرب إلى النظام الأوتوقراطي الحربي ، لأنه يحكم بواسطة حزب وحيد ومنظم تنظيما صارما ، ولا يسمح بحرية الإعلام ، بل هو يشارك الفاشية في إحدى سماتها وهي الطريقة السياسية الاحتكارية للحكم والتوجيه([7]) .
إذن ، فاليسار مصطلح يمثل تيارا فكريا وسياسيا يتراوح من الليبرالية ذات التوجهات الاجتماعية ، وبين الاشتراكية إلى الشيوعية مرورا بالديمقراطية الاجتماعية والليبرالية الاشتراكية . بمرور الوقت تغيرت وتعقدت وتشعبت استعمالات مفهوم اليسار بحيث أصبح من الصعوبة – بل من المستحيل – استعماله كمفهوم موحد لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسار. فاليسار في الغرب يشير إلى الاشتراكية أو الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا والليبرالية ذات التوجهات الاجتماعية في الولايات المتحدة الرافضة للاستغلال وهيمنة القوى الرأسمالية . ومن جهة أخرى فإن اليسار في الأنظمة الشيوعية يطلق على الحركات التي لا تتبع المسار المركزي للحزب الشيوعي وتطالب بالديمقراطية في جميع مجالات الحياة” ([8]) .
ذلك هو واقع اليسار الجديد في العالم ، حيث ينشط في مجالات تعبر عن فكره وتوجهاته ، ويتعاطى بالإيجاب مع التجارب الديمقراطية وتداول السلطة ، خاصة في أوروبا، وانقسم اليسار نفسه إلى يسار اليسار ، ويمين اليسار ، ووسط اليسار .
وكثير من الأحزاب اليسارية في أوروبا – بعد الحرب العالمية الثانية – أعادت النظر في قناعاتها الفكرية وقبل التعاطي الإيجابي مع الرأسمالية الوطنية ورفضت الاستقلال التام للسوق ؛ في ضوء صعود فكر اقتصادي جديد يتمثل في ضم شرائح كبيرة من القوى العاملة ومرؤوسيهم من خلال عمليات إعادة توزيع الثروة ، كما عُرّف العقد الاجتماعي المواطنةَ ذاتها من حيث الحد الأدنى المعقول من العدالة الاقتصادية في سوق منظم . وقد تم كل هذا ، مع بقاء أحزاب يسارية صغيرة في دائرة الانتخابات الديمقراطية الغربية ، مع معاناتها من انهيار النموذج الاشتراكي في الكتلة الشرقية ، وبالطبع بقيت جماعات من المتعنتين الثوريين([9]) .
ويرى اليسار الجديد أنه يمكن الوصول إلى السلطة وتغيير منظومة الحكم ذاتها عبر الطرق الديمقراطية ، بشرط أن تلتزم أكثرية الشعب بقواعد الديمقراطية ، وتكون البيروقراطية المتنفذة في الدولة ناضجة وقادرة على العمل بشكل جديّ مع التغيرات الحادثة في السلطة ، والتي تنتج فلسفات قد تغاير مصالحها أو رؤاها ([10]) ، فالاشتراكية على قناعة أنها لا تمتلك حلولا لمشكلات صنعتها طبقات برجوازية لها مصالحها الخاصة ، وتسعى إلى البقاء والحفاظ على هذه المصالح ([11])، فإصلاحها يحتاج وقتا طويلا ، لأن الإصلاحات الاشتراكية تفيد طبقات وتخسر طبقات أخرى.
أيضا ، فإن الأجيال الجديدة من اليسار يرون أن ماركس وكثيرا من أتباعه قد ارتكبوا خطأ شنيعا ، يتمثل في أن تغيير ملكية وسائل الإنتاج مفتاح لا غنى عنه لتغيير اجتماعي راديكالي ، والتجربة السوفيتية أثبتت فشل هذا الأمر . لذا فإن اليسار الجديد يؤكدون على أولوية السياسة على أولوية الملكية ، بمعنى أن المفتاح لتغيير اجتماعي راديكالي هو استخدام سياسة ديمقراطية مع قوة الدولة في آن ، للحد من التفاوتات في الدخل والثروة والسلطة التي تنتج عن التملك غير المتكافئ للممتلكات. فالمشكلة في الصيغة الماركسية أنها تتصور أن تغيير علاقات الملكية سيثمر مكاسب دائمة في هدم التراتب الطبقي ، وهي تتجاهل أساسا إمكانية نشوء محاور جديدة لعدم التكافؤ والتراتب ، حيث تسعى جماعات جديدة ( وهذا حدث بالفعل ) إلى ترسيخ مواقعها في التمايز والسلطة .
لذا ، فإن اليسار الجديد (الديمقراطية الاجتماعية ) يستطيعون – بشكل تقدمي – تضييق وتقليل مصادر النفوذ ، فالملكية في واقع الأمر حزمة من حقوق وأشكال مختلفة من النفوذ السياسي، وكل هذا يتم عبر السيطرة الديموقراطية على الاقتصاد ، بمزيد من قواعد المساواة و وقوانين العدالة الاجتماعية والحرية الإنسانية مع تقييد الملكية الخاصة ، مما يؤدي في النهاية إلى تأسيس مجتمعات عالية من المساواة والشمول الاجتماعي والقوة النقابية ([12]). وجدير بالذكر ، أن توجهات الديمقراطية الاجتماعية في هذا الصدد بدأت في العقد الثاني من القرن العشرين ، ونمت مع تطبيقاتها الفاعلة في الدول الاسكندنافية ، فيما يسمونه ” التاريخ الديمقراطي الاجتماعي ” ، والذي تم عبر نقابات عمالية فاعلة ، واستخدام ماهر للسلطة الحكومية ، ضد النظم التقليدية المتمثلة في التنميط والمركزية والسعي للنمو الاقتصادي الكمي لإنجاز تغيير اجتماعي مهم ، دون مراعاة الفروق الفردية ، فالنظم التقليدية تعاملت مع الناس على أنهم في حاجة إلى مسارات /احتياجات واحدة وهي : العمل والزواج وإنجاب الأطفال ثم التقاعد الآمن ، ولكن طرأت تحديات جديدة تتمثل في الهجرة والتعدديات الثقافية والحركات النسوية واختلاف القناعات والآمال والرغبات ، مما دفع الديمقراطية الاجتماعية إلى التفكير جديا بتغيير تلك السياسات ، عبر تبني اللامركزية ، والتنوع الثري في الاختيارات الحياتية ([13]).
ولكن بلا شك فإن هناك تجارب يسارية في العالم ، شيوعية كانت أو اشتراكية، ارتبطت بالنظم الشمولية / المستبدة ، على نحو ما رأينا في الاتحاد السوفيتي سابقا، والصين الشعبية حاليا ، ومعروف أن النظام الشـــــــــمولي Totalitarianism قائم على : “إخضاع الفرد للدولة ، وعلى السيطرة المطلقة على جميع مظاهر حياة الأمة وطاقاتها المنتجة ، على أساس افتراضات إيديولوجية تحكمية ، تعلنها الزعامة في جو من الإجماع المفروض إكراها، وهذا كان موجودا في النظام النازي والفاشي والشيوعي ” ([14]) .
التجربة اليسارية العالمية : السقوط والمراجعة :
كان النقد الموجه للتجربة الاشتراكية السوفيتية موجعا ، وقد جاء إجابة عن السؤال القائم حول أسباب فشل النموذج السوفيتي ، فالأسباب الجوهرية للفشل تتمثل في هلاك الطبقة العمالية المناضلة في الحروب التي واجهت روسيا ، ومن ثم لجأت الدولة إلى الموظفين البيروقراطيين الذين تزعمهم ” ستالين ” السكرتير العام للحزب الشيوعي ، والذي بسط نفوذه على كافة أجهزة الدولة والبيروقراطية العتيقة فيها ، ونادى بشعار “الاشتراكية في بلد واحد” ألا وهو الاتحاد السوفيتي ، في رد على فشل الثورات الاشتراكية الموازية في البلدان الغربية الأخرى ، فتحولت التجربة بمرور الوقن إلى بيروقراطية مقيتة ، أضاعت قيم الاشتراكية . فعلى مستوى الصعيد الداخلي ، قام ستالين بتأميم الأراضي الزراعية كلها، من أجل السيطرة على إنتاج الحبوب وتصديره للخارج ، ولجلب المزيد من المال لإقامة حياة صناعية كاملة ، وبالفعل تم هذا ، ولكن على حساب هلاك ملايين المزارعين الذين لم يجدوا الطعام الكافي ، ولا المال الذي يعيشون عليه ، ونفس الأمر حدث في الصناعة ، حيث أقيمت مصانع كثيرة ، اعتمدت على إعطاء العمال الأجر الأساسي فقط مقابل تشغيلهم فترات طويلة ، أي تم استغلالهم ببشاعة من قبل بيروقراطية الدولة السوفيتية، والتي سيطرت أيضا على النقابات العمالية . وكم كانت التركة الأليمة التي ورثها خروشوف وتحدث عنها علانية متمثلة في : مقتل اثني عشر مليون إنسان ، منهم غالبية الحزب الشيوعي السوفيتي ( الحزب البلشفي ) ، الذين هلكوا خلال التطهير العرقي في العام 1936م ، بجانب الملايين الذين قبضت عليهم الشرطة السوفيتية وأودعتهم في معسكرات اعتقال في سيبيريا ولم يعد معظمهم ثانية إلى قراهم. أما رجال البيروقراطية السوفيتية فقد استفادوا من مناصبهم في الدولة ، والتي جعلت منهم ومن أسرهم نخبة في المجتمع ، يتمتعون بعيش مرفه ، وحياة مخملية ؛ فلهم مستشفياتهم ومدارسهم الخاصة ، وأرصدتهم في بنوك سويسرا ، وتم كل هذا من أجل تغييب قيم الاشتراكية عن الموظفين ، وانغماسهم في التنافس على المناصب والثروات والمزايا . أيضا ، فإن 15 % من الدخل خُصَّصَ لوزارة الدفاع ، فتمت التضحية بمتطلبات كثيرة من أجل السباق العسكري مع الغرب ، مما أدى لتدني الخدمات . فمجمل القول حول ما حدث في الاتحاد السوفيتي هو تحوله إلى رأسمالية الدولة بما تعنيه الكلمة ، فرأسماليوها هم الموظفون الكبار .
والكارثة ، أن المثقفين الحقيقيين أعضاء الحزب البلشفي ، فيما أسموه المعارضة اليسارية ، تمت محاربتهم وإقصاؤهم عن الحزب والحياة السياسية بسجنهم أو نفيهم ، فغاب الصوت الثوري العاقل ، لصالح دولة الاستبداد التي أقامها ستالين .
وهو نفس ما حدث للتجربة الصينية ، ذلك أن الخطأ الذي سقط فيه الحزب الاشتراكي الصيني هو تأييده لقيادة الكومينتانج التي كانت تقاتل القوى الأجنبية المحتلة و وتسعى في الوقت نفسه إلى إقامة حكومة رأسمالية على النمط الغربي وليست حكومة اشتراكية ؛ وقد أدى هذا التأييد إلى ذبح زعيم الكومينتانج للفلاحين والعمال الذين أيدوه في الحرب وكانوا من مؤيدي الشيوعيين ، ومن ثم تحولت البلاد للحكم الديكتاتوري تحت قيادة الحزب الشيوعي عندما تسلم السلطة ، وناصرته طبقة الموظفين ، وسائر المنتفعين ، وغاب الاشتراكيون المخلصون ([15])
وقد جاءت التجربة الاشتراكية في دول العالم الثالث وفي الدول العربية مشابهة لتجربة المنظومة الاشتراكية قبل سقوطها المدوي ، من حيث الاستبداد ، وسيطرة طبقة البيروقراطية الوظيفية ، واحتكارها للمناصب والمزايا ، واستعلائها على الشعب، بجانب محاربتها للجادين ، فهكذا الاستبداد – بغض النظر عن إيديولوجيته – يقتل قتلا أعمى من يشتم فيه رائحة المنافسة له على السلطة ، وفي نفس الوقت يحيط نفسه بالمنتفعين المنافقين في حلقات سلطوية مترابطة ومحمية بالمنظومة المخابراتية الأمنية ، ويسيطر عليه هاجس الخوف من كل من يمتلك تأييدا شعبيا ما .
أما عن التيارات اليسارية الجديدة في العالم العربي عامة ، وفي مصر خاصة ؛ فقد استوعبت الدرس ، وراجعت التجارب العالمية والعربية ، وانتقدتها بشدة . ومن ثم باتت تنتهج نهوجا جديدة تتعاطى بها مع مساحات الحريات المتاحة في المجتمعات. وهذا ما حدث أيضا ، مع الشخصيات التاريخية المحسوبة على الفكر اليساري والتي دعّمت وساندت الأنظمة الشمولية أو غير الديمقراطية التي حكمت ؛ فجاءت مراجعتها لأنفسهم وأيضا للتجارب السابقة ، لتؤكد لهم أن عليهم تبني سبل جديدة، تواصل بها نشر رسالة اليسار الأساسية وقيمه الإنسانية .
ويمكن القول إن أبرز الإنجازات الحقيقية للاشتراكية في دول العالم الثالث ، أنها كافحت بإخلاص في حقب الاستعمار ، فكانت أوعية ومنظمات للحركات الوطنية التحررية، حيث تضافرت هذه الحركات وتوحدت توجهاتها لطرد المستعمر الأجنبي وتحقيق الاستقلال الوطني ، ومن ثم كانت ثوراتها رافعة لشعارات تقدمية اشتراكية ، إلا أنها لم تكن ثورات اشتراكية بالمعنى المقصود ، ولم يكن للطبقة العمالية نضال واضح فيها ، بل كانت على هامش الحركة السياسية ، بل إن العمال الثوريين كانوا أقلية لا تكون تنظيمات ثورية يسارية حقيقية ، فلما تم الاستقلال الوطني ، لجأت الحكومات إلى الطبقة المتوسطة المتعلمة التي شكلت التكنوقراط ، فظهرت السلطة البيروقراطية التي نالت المناصب في الحكومة والأحزاب الحاكمة لتتحول في النهاية إلى ما نخبة الموظفين المتمتعين بالامتيازات ([16])، ولا عزاء للثوار اليساريين ، ولا إعداد لأجيال يسارية جديدة ، تخلص للفكرة بعيدا عن الدولة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) الشامل : قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية ، د.مصلح الصالح ، دار عالم الكتب للطباعة والنشر ، الرياض ، ط1 ، 1999م، ص103
[2] ) الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية ، جوزيف أ. شوبيتر ، ترجمة : حيدر حاج إسماعيل ، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت، ط1 ، 2011م ، ص558 -560 ، وانظر أيضا : ما هي المنظومة الاشتراكية العالمية ؟ ، بيرغوف ، ترجمة : طارق معصراني ، دار التقدم ، موسكو، 19888م ، ص190 .
[3] ) ما هي المنظومة الاشتراكية العالمية ؟ ، ص190 .
[4] ) ما هي المنظومة الاشتراكية العالمية ؟ ، ص190 .
[5] ) مدخل إلى الاشتراكية العلمية ، أرنست ماندل ، بدون مترجم ، منشورات : اليسار الثوري المصري ، ط1 ، 1974م ، ص22-30 .
[6] ) النظم السياسية في العالم المعاصر ، د. سعاد الشرقاوي ، نشر مركز الدراسات السياسية ، جامعة القاهرة ، 2007م ، ص259-262
[7] ) الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية ، ص737 .
[8] ) تعريف المعهد العربي للبحوث والدراسات السياسية والاستراتيجية، http://www.airss.net/site/page/
[9] ) هل ماتت الديمقراطية الاشتراكية ؟ أزمة الرأسمالية في أوروبا ، نورمان بيرنبوم ، ترجمة : نورة إبراهيم البلوشي ، مجلة الثقافة العالمية ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت، مايو2013م ، صص29
[10] ) الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية ، ص566
[11] ) السابق ، ص567
[12] ) إعادة اكتشاف الديمقراطية الاجتماعية في القرن الواحد والعشرين ، فريد بلوك ، ترجمة : حمدي أبو كيلة ، مجلة الثقافة العالمية ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت، مايو2013م ، ص41 ، 422 .
[13] ) السابق ، ص47 ، 48
[14] ) ) معجم العلوم السياسية الدولية ، د. أحمد زكي بدوي ، دار الكتاب المصري ، دار الكتاب اللبناني ، القاهرة ، 1989م ، ص150 .
[15] ) لماذا الدول الاشتراكية لم تكن اشتراكية ؟ ضمن سلسلة مبادئ وخبرات ثورية (أوراق تثقيفية)، يصدرها مركز الدراسات الاشتراكية ، القاهرة ، العدد 3 ، مارس 2006 م ، س9--17
[16] ) السابق ، ص21 ، 22