الحيادية في الإعلام العربي بين الوصف والواقع
يروق للكثير من الإعلاميين والصحفيين العرب اعتبار الوسائل الإعلامية، التي يعملون فيها أنها تتسم بالحيادية والصدق والحقيقة في نقل الأحداث والآراء من كل الأطراف، إلى ما إلى ذلك من وصف، كما يروق لغيرهم من ملاك القنوات الخاصة وصف وسائلهم الإعلامية بهذه الأوصاف.
والأعظم من ذلك، أن الحكومات والأحزاب أصبحت هي الأخرى أيضا تصف وسائلها الإعلامية بهذه التوصيفات، بالرغم من أن الإعلام الرسمي والحزبي، هما إعلامان يعبران عن وجهة نظر أحادية الجانب في غالب الأحيان، وهي من أهم وأقوى الأدوات التي تستخدمها الحكومات والأحزاب في الدفاع عن سياساتها في مواجهة خصومهم.
أمام هذه التوصيفات وفي خضم ما يجري في عالمنا العربي من حالة عدم استقرار وأحداث بعد موجة ما يعرف بثورات الربيع العربي التي اجتاحت عددا من الدول العربية، والذي لازال الإعلام يلعب دورا مهما في تحريكها عبر التغطيات الإخبارية، ذات الرسائل والمضامين الموجهة للجمهور بالدرجة الأولى، يتمخض تساؤلين وهما: هل هذه القنوات حيادية فعلا في تغطياتها الإخبارية؟ أم أنها لا تدرك معنى الحيادية في الممارسة الإعلامية.
أعتقد أن كل ما نسمعه في إعلامنا العربي، من توصيف لقنواتهم على أنها حيادية وتتسم بالصدق والحقيقة ما هي إلا شعارات لا تغني ولا تسمن من جوع، وإذا كان فعلا هم يمارسون الحيادية في سياساتهم الإعلامية، وحصل ما حصل في الدول التي شهدت حراك شعبي ضمن ثورات الربيع العربي، فما بالكم لو كانوا يمارسون الانحياز وفق وصفهم، فما الذي يمكن أن يحصل؟!
جوهر الإشكالية التي يعاني منها الإعلام العربي ليست في الوصف، بقدر ما هو انحياز الإعلام إلى سلطة السياسية والمال والمصالح، على حساب القيم الأخلاقية والمهنية والحيادية، من جهة ومن جهة أخرى انسياق بعض وسائل الإعلام لأجندات إيديولوجية سواء في سياسة تغطياتها لملفات الدول التي شهدت حراك شعبي، فضلا عن الدور الذي لعبه انحياز العاملين والطواقم الإْعلامية في بعض القنوات لصالح دون طرف دون طرف أخر.
وفي اعتقادي أن أخطر شي في الانحياز هو عندما يقبل الصحفي أن يسخر نفسه لتنفيذ أجندة الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها، هنا لن يكتفي الصحفي بتنفيذ أجندة الوسيلة بل سيتعدى الأمر وسيصل إلى استغلال هذا التوجه في تنفيذ أهواء شخصية سواء كانت خاصة أو إيدلوجية وبالتالي أستطيع القول أن انحياز الصحفي هو أخطر من انحياز الوسيلة الإعلامية نفسها على اعتبار أن نشاط الصحفي وفق أجندة الوسيلة لن تكون بقوة التأثير إذا لم يكن مقتنعا بانحياز الوسيلة، لكن عندما ينحاز الصحفي سترى في نشاطه الصحفي كل توجهاته وغله وأهواءه وسيبذل قصارى جهده ليخرج عمله الصحفي بصورة قد تكون تحريضية أو توجيهية وتحت تغطية سياسة القناة نفسها.
أما الخطورة الثانية على مستوى القنوات الرسمية أو الخاصة فتتمثل في استقطاب شخصيات ليست لها علاقة بالإعلام، ويفتح لهم الباب أن يقولون ويكتبون ما لا يفقهون، والنتيجة هي المستوى الهابط في القيم والمبادئ الذي وصلت لها القنوات الرسمية أو القريبة من الخط الرسمي، وضعف في المستوي الثقافي والاجتماعي وتفاقم الصراع في القطر العربي.
أسوق هذا الكلام والجميع يعلم ما الذي تسببت به بعض وسائل الإعلام، نتيجة سياسية التحريض وتسطيح العقل العربي ومخاطبة الغرائز، بدلا من مخاطبة العقول والمساهمة من التنوير الحضاري والإنساني، أو يكون معبرا عن الإنسان العربي، لأن الإعلام سلاح ذو حدين، إما أن تستخدمه في بناء المجتمع أو يمكن أن تستخدمه لهدم المجتمع.
لعب الإعلام الرسمي بالبحرين دوار تحريضيا خطيرا وبث الكراهية ضد الذين خرجوا للمطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية خلال حركة الاحتجاجات العارمة التي شهدتها البلاد في ١٤ فبراير شباط ٢٠١١ واستمرت قرابة الشهر قبل إعلان قانون الطوارئ ودخول قوات خليجية لقمع الاحتجاجات، حيث أدت السياسية الإعلامية الرسمية التحريضية ضد الذين شاركوا في الاحتجاجات إلى انقسام مجتمعي ومذهبي لازالت تعاني منه البلاد على كافة المستويات حتي هذا اليوم، ولعب الإعلام في تلك الحقبة دور المحاكم والتحقيقات والتحريض على سجن وفصل الناشطين من أعمالهم.
هذه ليست وجهة نظر تشاؤمية بقدر ما هو وصف لواقع الإعلام العربي، الذي يدخل في منازل ملايين البشر ويتابعه الكبير والصغير، وفي نفس الوقت يرتكب هذا الإعلام الكثير من الأخطاء يوميا من دون حساب ولا رقيب، ولا حتى تقييم المحتوى الإعلامي بسبب غياب هيئات مستقلة تقيم المحتوى الإعلامي
في بريطانيا مثلا استدعى قبل سنوات مجلس تقييم الإعلامي – وهو يعنى بمراقبة حيادية وسائل الإعلام في بريطانيا – أحد مسئولي محطة بي بي سي، ووجه للبي بي سي لفت نظر بسبب انحيازها لليسار البريطاني في تغطية الشأن المحلي، واقتصار نشر إعلانات الوظائف في صحيفة الغارديان بدلا من جميع الصحف. هذه المنظمات لو وجدت في عالمنا العربي يمكن أن تكون عامل مساعد في الحد من انحياز الإعلام لأي طرف.
وبالرغم من كل ذلك أعتقد أن الشباب العربي من خريجي الإعلام قادرون أن يطوروا الإعلام في بلدانهم، على أساس أخلاقي مهني بحيث يجعلوا من هذه المهنة رسالة نبيلة وأخلاقية، بل ممارسة وجدانية في داخل الصحفي والإعلامي.
لأن صحفي الناجح لا يمكن أن يكون ناجحا إلا إذا كان يدرك مبادئه وأخلاقه وفهم مهنته، وأن لكل كلمة يقولها أو يكتبها لها وزن ومعنى يترتب عليها نتائج يجب أن يتوقعها، بينما الصحفي الفاشل هو ذاك الذي يتلقى تعليمات ويحتاج في كل مرة إلى توجيه ولا يدرك معنى ما يقوله من مضامين وهو بذلك يساهم في تسطيح العقل بدلا من تنويره.