التسامح والعقائدية .. دربٌ طويلٌ من التضحيات

التسامح والعقائدية .. دربٌ طويلٌ من التضحيات

ا. د. إنعام الهاشمي

استمعتُ يوماً الى مقولةٍ تقول: "إن أردتَ الاحتفاظَ بأصدقائِك فعليكَ تجنُّب الحديثِ معهم في ثلاثة مواضيع، الدين والسياسة والجنس"،

سمعت المقولة وحفظت الدرس فيها ولم أتطرق بعدها لأيٍّ من هذه المواضيع الثلاثة. وقد سٌئِلتُ مراتٍ ومرات: في أيّ شيءٍ تتحدّثين إذاً؟

واليوم وجدتُ الجواب: أتحدث عن التسامح!

التسامح يعني اتخاذَ موقفٍ عادلٍ موضوعيّ ومتساهلٍ نحو هؤلاء الذين يختلفون عنكَ في الرأي والممارساتِ والعرقِ والدينِ والمذهبِ والإنتماءِ القوميّ والعشائِري والأثَنِي إلى غيرِ ذلكَ من الاختلافات، وذلكَ بالتحرُّر ِمن التعصُّب.، والتسامح يعني الإهتمامَ بالأفكار والآراء والممارسات الغريبة عن افكارك وآرائك وممارساتك ومحاولة تفهُّمِها، أي بمعنى الليبرالية في التفكير والإبتعاد عن وجهات النظر الدوغماتية.

وهذه المواقفُ هي مواقفُ سلوكيّة وتربويّة، كما أنَّ سلوكَ الأفرادِ او الجماعاتِ التي تعتقدُ بعقيدةٍ معيّنةٍ قد يختلفُ حسبَ تفسيراتِهم ، وعلاقةِ هذا السلوكِ بالعقائدِ والتعاليمِ الدينِيّةِ والنظرياتِ التي تقفُ وراءَها هي علاقةٌ غير مباشرة. هذه العلاقةُ تشابِهُ الى حدٍّ ما العلاقةَ بين الهدفِ من ناحيةٍ وطُرُقِ الوصولِ اليه من ناحيةٍ اخرى...

ففي عالمِ الاقتصادِ مثلاً، الربحيةُ وديمومةُ المؤسسةِ يمثلان هدفين من الأهدافِ التي تتطلّعُ اليها المؤسساتُ الاقتصادية ولكنَّ طُرُقَ الوصولِ الى الهدفِ الممثلة بالسِتراتيجيّةِ والتكتيك تختلفُ من مؤسَّسَةٍ إلى أخرى، كما أنَّ التطبيقَ لهذه السِتراتيجيّات والتفاصيلِ التكتيكيّةِ قد لا يأتي بالضرورةِ كما كان عليه اللتخطيط.

العالمُ يصبو إلى الرفاهيةِ والعيشِ بسلام، والأديانُ تصبو الى خلقِ مجتَمَعٍ يتعامَلُ أفرادُه فيما بينهم بالحسنى تبعاً للتعاليمِ الدينيّةِ لكلٍّ منها التي تتفقُ في هدفِها العام وإن اختلفت في تفاصيلِها الفرعيّة. ما يقفُ في طريقِ اتفاقِ أتباعِ هذه الأديانِ في التطبيقِ العملي لتعاليمَ دياناتِهم لا يكمنُ في التعليماتِ بحدِّ ذاتِها قدرما هو في الخروجِ عنها والتمحوُرِ حولَ فكرةٍ معينّةٍ تركِّزُ على الاختلاف، ثم التعصُّبِ لها لتولِّد لديهم الشعورَ بـ "العلوية" على الآخر، ومن ثمَّ محاولة كلٌّ منهم فرضِ اعتقادِه على الآخر تارةً بالاقناعِ والتبشيرِ وتارةً بوسائلَ أخرى ... وإن فشلت المحاولاتُ لجأ القويُّ إلى استخدامِ قوَّتِهِ السلطويةِ او العسكريةِ ولجأ الجانبُ الأضعف إلى العنفِ المتمثلِ بالعمليات الإرهابية للتخلُّصِ من الشعورِ بالضعفِ والدونيّة وتحويله الى الشعورِ بالقوّةِ لاستعادةِ الشعورِ بالعلوية.

لو اتّبَعَ العالمُ المسيحيّ تعليماتِ السيّد المسيح لما كانت هناك حروبٌ صليبية، ولو تُرِكَ الإسلامُ في بدءِ نشأتِه دون العداءِ الذي قوبِلِ به في أرضِ منبَعِهِ ثمّ مِن قِبَلِ العالمِ الصليبيّ لكان ديناً روحيّاً ولما سُمِّيَ بدينِ السيفِ كما يُطلَقُ عليهِ في العالمِ غيرِ الإسلامي. ولولا التناحراتُ والتعصُّباتُ العائلية بعد وفاةِ الرسولِ (ص) حولَ من هو الأحقُّ بقيادةِ الإسلام، تلك التي نسبَّبَت في نكباتٍ وكوارثَ وسفكِ دماءٍ تبعتنا ليومِنا هذا، ربَّما لكان العالمُ الإسلاميّ أكثر تمثيلاً لروحِ الإسلام منه إلى الصورةِ المشوَّهَةِ التي تنعكِسُ في مرايا العالمِ الآخر.

ولا ينحصِرُ موضوعُ التسامحِ في ما يتعلَّقُ بالأديانِ وإنّما يتعدّاها إلى الإختلافاتِ والخلافاتِ الأخرى في العقائِدِ والتَحَزُّباتِ الدنيويّة غيرالدينيّة وكذلك الإختلافاتِ في اللونِ والشكلِ والحضارةِ والتقاليدِ المرتبطةِ بشعوبِ المناطق الجغرافية المختلفة وحتى بين القبائل المختلفة في الشعبِ الواحد في منطقةٍ جغرافيةٍ واحدة.

لا يمكنُ للعالمِ أن يُدينَ بدينٍ واحد، ولا يمكنُ له أن يؤمِنَ بعقيدةٍ واحدةٍ ولا أن يكونَ من لونٍ واحدٍ، فما جدوى محاولة أيّ جهةٍ نشرَ معتقدَها على العالمِ أجمع غير تحقيقَ كونها الأكثرية وبذا يتسنّى لها فرضُ هيمَنَتِها على الأقلية؟ والنتيجة الحتمية لهذه الحالةِ هي تمرُّدُ الأقليةِ على الأكثريةِ وخلقُ صراعاتٍ جديدة. وحتى لو فرضنا جدلاً أنَّ عقيدةً ما تحقَّقَ لها بالإقناعِ أو بالقوَّةِ أن تحيلَ العالمَ إلى عالمِ العقيدةِ الواحدةِ والمذهبِ الواحد، فما الحيلةُ في موضوعِ الأختلافِ باللونِ وغير ذلك من الاختلافاتِ ِالطبيعية والعرقية؟ ولنفرض جدلاً أن العِلمَ قد نجح في إيجادِ طرقٍ لتغييرِ لونِ البشرة والعينين، وإنَّ العرق ذا اللونِ المضطهد قد استخدمَ هذه الطُرُقَ ليتحوَّلَ مظهرياً إلى لونِ العرقِ المهيمِن، هل سيتقبَّل المجتمعُ هذا التغييرَ الظاهريّ؟ وهل سيُعامَلُ الفردَ هذا معاملةَ فردٍ من العرقِ الذي تحوَّلَ اليهِ ظاهريّاً، أم سيبقى محسوباَ على عرقِه الأصليّ؟

لعلَّ مايكل جاكسون، المغني الأمريكيّ الأسوَدَ اللون الذي غيَّرَ لونَ بشرَتِه وملامِحَه ليتخلصَ من اللونِ المضطَهَد، خيرُ مثالٍ على فشلِ مثلِ هذا الاحتمال ... فقد ساءَت معاملةُ جاكسون من قبلِ البيضِ والسودِ على السواء، فلا البيضُ اعتبروهُ ابيضاً ولا السودُ احترموا رغبتَهُ في تغييرِ لونِه وتقاطيعَ وجهِهِ بالجراحَةِ التجميليّة.

هدفي من حديثي هذا هو الوصولُ إلى أنَّ الإختلافات ستبقى موجودةً، ومحاولةُ تغييرِ الآخر ليدينَ بما أدين به ماهي إلا محاولةٌ عبثيةٌ وتخبُّطٌ في اللاجدوى. ومن هنا تأتي أهميةُ التسامح.

فالتسامحٌ لا يعني أن تدينَ بما يدينُ به الآخر، وإنّما أن تتقبّلَ الآخرَ مع المعرفةِ التامةِ بأوجُهِ الإختلاف بينك وبينه ..

التسامحُ لا يعني أن تقتنعَ بقناعاتِ الآخر، وإنَّما أن تفهمَها وتحترمَ وجهةَ نَظَرِهِ كما تودُّ منه أن يحترمَ وجهةَ نظرِك،

التسامحُ يعني أن تحاورَ الآخَرَ بقناعاتِك مع تقبُّلٍك رفضه لها،

التسامحُ يعني ألا تزدرِي الآخرَ لكونٍه لا يدينُ بما تدينُ به أو لأنه لا يشبهك،

التسامحُ يعني ألا تضطهدَ الآخرَ لأنَّه لا يدينُ بما تدينُ به أو لأنَّه يختلفُ عنك في القناعاتِ والممارساتِ أو لأنَّه من عرقٍ غيرِ العرقِ الذي تنتمي إليه،

التسامحُ يعني أنَّ بإمكانِك أن تكونَ صديقاً لمَن اختلفَ عنكَ في الشكلِ وفي الدينِ وفي القناعاتِ التي لا تشكِّلُ اعتداءً مباشراً عليك ضِمنَ القوانينِ المرعية.

والتسامحُ هو ثقافةٌ سلوكيةٌ تتطلَّبُ الكثيرَ من السموِّ والرِفعةِ فوقَ التعصُّبِ الدينيِّ والمذهبي والعقائدي، وهو لا يتحقَّقُ بالخطاباتِ والموعظةِ فقط، إنَّهُ تغييرٌ شاملٌ لِما نشأت عليهِ أجيالٌ من التعصُّبِ القَبَليِّ والدينيّ والمذهبِي والعقائِدي. ومثل هذا التغييرِ يحتاجُ الى آليّاتٍ مدروسةٍ وقيادةٍ حكيمةٍ تتحلّى بسماتِ التسامحِ أو تؤمن بضرورةِ التسامحِ إيماناً تاماً.

أما العفو عند المقدرةِ ومسامحةُ الطرفِ المعادٍي أو المُعتَدِي، فهذا لا يقعُ ضمنَ مفهومِ التسامحِ الذي نتحدَّثُ عنه وإنما يقعُ ضمنَ مفهومِ حلِّ النزاعاتِ والتفاوضِ بإشرافِ طَرَفٍ مستقلٍّ محايد، وهذا يتطلَّبُ من طرفَيّ النزاعِ بعضَ التنازلاتِ للوصولِ إلى حلٍّ سلمي.

التسامحُ هو فعلٌ وقائيّ أما التفاوضُ لحلِّ النزاعاتِ فهو فعلٌ علاجِي.

ثقافةُ التسامحِ تحتاجُ إلى البيئةِ المناسبةِ لتحقيقِها وتنميَتِها ورسوخِ قواعِدِها.

• المجتمعاتُ المغلقةُ هي أقلُّ المجتمعاتِ تأهيلاًً لمثلِ هذا التغيير،

• المجتمعاتُ المتجانسةُ في عضويِّتِها هي أقلُّ حاجةً وأقلُّ تقبُّلاًً للتغيير،

• المجتمعاتُ المستقلَّةُ مادياً واقتصاديا هي أكثرُ مقاومة لتقبل الأخر المختلف او التفكير بالتسامح إلا إذا شعرت بالتهديدِ لاقتصادياتِها أو طريقةِ الحياةِ فيها . فقد تعملُ على تهيئةِ الأجواءِ المناسبةِ لنشرِ ثقافةِ التسامحٍ إن وَجَدَت فيهِ حلا مقنِعا،

• المجتمعاتُ المختلطة المتصِّفة بالتعدُّديةِ وكثرةِ التقسيماتِ العقائديةِ والدينيةِ والأثنيةِ هي الأكثرُ حاجةً للتسامحِ والأكثُرتأهيلاً له، ففيها لا تجدُ أي فئةٍ من الفئاتِ في نفسِها الاكثريةَ الساحقةَ لفرضِ هيمَنتِها على الأقلياتِ الأخرى، غير أنَّها تبقى بحاجة لمن " يعلقُ الجرسَ في رقبةِ القط !"،

• المجتمعاتُ التي خاضت حروباً أهليّةً وصراعاتٍ طائفية أسالت دماءً وخلَّفَت ضحايا، هي الأكثرُ حاجةً للتسامحِ ولكنَّها الاقلُّ تقبُّلاً له، حيثُ أنها بحاجةٍ إلى حلِّ النزاعاتِ والمصالحةِ أولاً وتضميدِ الجراح قبلَ أن تكونَ مهيأةً لخوضِ تجربةِ التسامح.

عمليةُ التغييرِتحتاجُ إلى من يؤمِنُ بها، وكلُّ تغييرٍ يبدأ بحلمٍ، وكلُّ مسيرةٍ تبدأ بخطوة.

التسامحُ على مستوى الدولة ضروريّ لضمانِ التسامحِ على مستوى الأفراد والجماعات،. فدورُ الدولة هو الدورُ الأساسيّ الذي تتمحورُ حولَهُ سلوكياتُ المجتمعِ في حدودِ تلك الدولة.

القوانينُ الوضعيةُ تأتي لتكملةِ ما تعجزُ التعاليمُ الدينيةُ عن فرضِهِ في سلوكياتِ البشر، وبما أنَّ الدولةَ لها السلطةُ لسنِّ القوانين وفرضِ العقوباتِ على مخالفيها فإنَّ قوَّة القانون ِ تفوقُ قوَّةَ الدينِ في توجيهِ سلوكِ الافرادِ والمجموعاتِ ضمنَ حدودِ الدولة. ولهذا فإن على السلطةِ التشريعيةِ والتنفيذيةِ في الدولةِ تقعُ مسؤوليّةِ الحدِّ من الآثارِ المترتِّبَةِ عن اللاتسامحِ والتعصُّبِ والفظائعِ التي تُرتَكَبُ من قِبَلِ مجموعةٍ او طائفةٍ ضدَّ الطوائفِ الأخرى، وذلك بتأسيسِ سياسةٍ قائِمةٍ على عدمِ التفرقةِ على أساسِ الدينِ والمذهبِ والعرقِ والجِنس، ووَضعِ قوانينَ لضمانِ المساواةِ في الحقوقِ والواجباتِ بين كلِّ الطوائِفِ والجماعاتِ والأثنياتِ مع الحرصِ على تطبيقِ هذه القوانين، فلا نفعَ في سنِّ قانونٍ لا تؤمََّن الآليّاتُ الضروريةُ لتطبيقِهِ ومن ضِمنِها السيطرةُ والرقابةُ على سيرِ هذه الاليات.

ومن متطلباتِ الدولةِ التي تضمنُ للتسامحِ البيئةَ المناسبة :

• استقلاليةُ الهيئةِ التشريعية،

• ضمانُ استقلاليةٍ الهيئةِ القضائيةِ ونزاهتِها،

• التزامُ السلطةِ التنفيذيةِ بالقانونِ واحترامُها له،

• وجودُ ما يكفي من ضوابِطِ السيطرةِ لتأمينِ عدمِ مخالفةِ القوانينِ من قِبَلِ القائِمين على تنفيذِها، فليس أسوأ من أن يكونَ المسؤولُ عن الحمايةِ شريكاً في الجريمة،

• ولكي لا يكون َ"حاميها حراميها" على الدولةِ تأمينِ الحدِّ المعقولِ للعيشِ الكريمِ للمواطن.

ولو راجعنا التاريخَ لوجدنا أهميّةَ دورِ الدولةِ في فرضِ سياسة التسامح وتهيئة المناخ الملائِم لها في المجتمعِ المتعدِّدِ الطوائِف. فأولُ قانونٍ سُنَّ في مجالِ التسامحِ كان" مرسوم أشوكا" الصادرعن الإمبراطور أشوكا في إمبراطوريةِ موريا في الهندِ وجنوبِ ووسطِ آسيا ( ق.م.321-185) وفيه أعلنَ التسامحَ العرقيّ والدينيّ والذي على أثرِه اختفى العنفُ و تحقَّقَ الأمنُ والاستقرارُ والازدهارُ الحضاريّ والتجاريّ والاقتصاديّ للامبراطورية.

ومن الناحيةِ الأخرى، وفي القرونِ الوسطى، شهدت أوربا أقسى مراحِلِ اللاتسامحِ متمثّلاً بإجراءاتِ الكنيسة في تكفيرِ الخارجينَ عن سلطتِها والمخالفينَ أو المعارضين لأحكامِها وإعدامِهم بالحرقِ علناً بتهمة الهرطقة.، ولعل أشهر الإعداماتِ هذه كان إعدامُ "جان هاس" المفكِّرُ والأستاذُ بجامعةِ براغ ورئيسُها بسببِ كتاباتِه المعارِضة لسلطةِ الكنيسةِ الكاثوليكيةِ وإصدارِها لصكوكٍ الغفران وأوامرَ هدرِ الدمِ لمن يشكِّلُ خطَراً على سلطتِها. ورغمَ أنه قُدِّمَ للمحاكمةِ أمامَ هيئةٍ كنائسيةٍ عُليا معترفٌ بها أمامَ الكنيسةِ الكاثوليكية، كونستانس كاونسل Council of Constance، إلا أنَّ المحاكمةَ، كما جرى العرفُ آنذاك، تستمعُ لشهودِ الإتهامِ ولا تتيحُ للمتَّهمِ إحضارَ شهودِ دفاع. ورغمَ إعطائه الفرصةََ أكثرَ من مرة ٍ للتراجعِ ونقضِ ما كتَبَهُ في هذا الخصوص، إلا أنَّه أصرَّ على أن تُحاوَر أراؤه ويقدّمُ له الدليلَُ على أنَّها مخالفةٌ لما جاء في الكتابِ المقدَّس لكي يتراجع عنها. وبالنتيجةِ تمَّت إدانتُه بالهرطقة، وتمَّ في 6 يوليو 1415 إعدامُه وحرقُه علناً مع الإهانةِ بنزعِ ملابِسِهِ وتجريدِه من كلِّ مدالياتِ الشرف التي كانت تزيِّنُ اللِّباسَ الكنائسيّ الذي ألبسوه إياه قبيل الإعدام. ولكن ثضحياتَه لم تذهب هباءًً فقد استمرَّ أتباعُة بالتبشير بآرائِه الإصلاحيةِ التي أدَّت بالنتيجةِ إلى إصلاحاتٍ في الكنيسةِ وانشقاقاتٍ فيما بعد عن الكنيسةِ الكاثوليكية..

ورغم هذه الموجةِ من الصراعاتِ فقد كان هناك بصيصٌ من النورِ حين استمَعَ المجلسُ ذاتُه الذي أدانَ جان هاس إلى وجهاتِ نظرٍ تدعو للإعتراف بالأمّةِ الوثنيّةِ وحقِّها في الدفاعِ عن نفسِها، فخلال انعقادِ المجلسِ كانت هناك مناقشةٌ لبعضِ المواضيعِ السياسيّةِ كموضوعِ الصراعِ بين بولندا من جهةٍ وفرسان توتوني من الجِهَةِ الأخرى، حيثُ اتَّهم الفرسانُ بولندا أنَّها كانت تدافعُ عن الوثنيين. ولكنَّ باول فلودكوفيك Paweł Włodkowic ، رئيس جامعة جاغيلونيان Jagiellonian University في كراكوف، بولندا، ومبعوث ملك بولندا، تقدَّمَ هناك بالنظريّةِ التي تقولُ أنَّ جميعَ الأمم، بما في ذلك الوثنية، لها الحقُّ في الحكمِ الذاتِي وتملك الاراضي والعيشِ بسلامٍ، وتُعَدُّ نظريتُه هذه من أوئِلِ التأسيساتِ للقانونِ الدولي، وملخَّصُ فِكرِه كان :

• المجتمعاتُ لها الحقُّ في تحديدِ الأمَّة التي تنتمِي لها،

• الشعوبُ لها الحقُّ في اتّخاذِ القراراتِ بشأنِ مستقبلِها وفي الدفاع عن أوطاِنها،

• لا بدَّ للحُكّامِ من احترامِ المعتقداتِ الدينيةِ الفرديِة لرعاياهم الذين لا يُمكنُ إنكارَ حقوقِهم الطبيعيةِ بسببِ معتقداتِهم،

• التحويلُ (في الدين) من خلالِ استخدامِ القوَّةِ والإكراهِ باطلٌ، خاطئٌ ومَقِيت،

• لا يمكنُ أبدا أن ُيتَخَذَ التحويلُ (في الدين) ذريعةً للحرب،

• الحفاظ ُعلى السلامِ يتطلبُ محكمةً دوليةً للنظرِ في المنازعاتِ و المطالبات. ولا ينبغي لحاكمٍ، ولا حتى البابا أو الإمبراطور، إعلانَ الحربِ دونَ الرجوعِ إلى محاكمةٍ عادلة،

• مبادئُ الحربِ العادلةِ هي دائما المعمولُ بها وملزمةٌ بغضِّ النظر عمّا إذا كانت الدولةُ أو الأمةُ أو الشعبُ المعلنةُ ضدَّهُ الحربُ هو مسيحيّ أم لا،

• الدولُ غيرُ المسيحيةِ وغيرُ الكاثوليكيةِ التي تعيشُ في سلامٍ مع جيرانِها لها الحقُّ في حمايةِ سيادتِها وسلامةِ أراضِيها،

• لا يحقُّ لامبراطورٍ ولا بابا أن يأذنَ بأيِّ شيءٍ يتعارَضُ مع مبادئَ القانونٍ الطبيعيّ،

• بولندا ليست مُلزَمةً تِجاهَ الإمبراطور إلا في حالةِ الدفاعِ عن الإيمان،

• الجبروتُ يقوِّضُ العلاقاتِ الدوليّةِ مثلَ السرطان،

• في ممارسةِ حقِّها في الدفاعِ عن النفس، يحقُّ للدولةِ الكاثوليكيةِ إشراكُ غير المسيحيين أو غير الكاثوليك في صفوفِ قوّاتها.

وكانت هذه خطوةً متقدمةً في سبيلِ التسامحِ ففيها تظهرُ مبادئ التسامحِ واضحةً، ولكن مقابلها برزت وجهاتُ نظرٍ أخرى تُظهِرُ اللاتسامحَ على أشَدِّ صورِهِ في موقفِ جون اوف فالكنبرج John of Falkenberg، الذى يُعتَبََرُ من أوَّل دعاةِ الإبادةِ الجماعية، فقد رأى في استخدامِ بولندا للوثنيين حلفاءَ ضد النظامِ الألماني جريمةً نكراءَ تستحقُّ العقاب، وإنَّ للإمبراطور الحقُّ في قتلِ الكفّارلا لشيء الا لكونِهِم وثنيين، حتى وإن كانوا مسالمين. وإنَّ البولنديين يستحِقّون الموتَ لتحالفِهِم مع الكُفّار ومقاومةِ فرسانِ المسيحية، وينبغي إبادتُهم حتى أكثرَ من الكُفّار، كما ينبغي حرمانُ بولندا من سيادتِها وتخفيضِها إلى منزِلةِ العبودية.

.. وتاريخُ بولندا يشهَدُ على دورِها في إيجادِ أول الأسُسِ للتسامحِ في أوربا حيث أصبَحت ملجأً ليهودِ أوربا الذين اضطهد تهم الدولُ المعاديةُ للساميةِ إضافة إلى موقِفِها هذا من الوثنيين، حتى أنّها أعلنت نفسَها فيما بعد ملجأً للمهرطقين رسمياً في كونفدراليّةِ وارسو لعام 1573 التي تُعتَبَرٌ أولُ قانونٍ للتسامحِ في أوربا.

ولكنَّ صراعَ الأديان، الذي استمرَّت آثارُه حتى يومِنا هذا، يقِفُ في سبيلِ التسامحِ الكامل.

فالدولةُ أو السلطةُ العليا هي التي تقرِّرُ درجةَ التسامحِ وذلك بتحديدِ مَن يشملُه التسامحُ مع استثناءِ بعضِ الطوائف، كما فعلت إنجلترا في القرنِ السابع َعشر في سَنِّها قانون التسامح الذي يتساهلُ مع الخارجينَ عن الكنيسةِ الإنجليزية ولكنَّهُ يستثني الكاثوليك الذين اعتبَرَهم معادين للدولة. وبموجب القانون سُمح لليهودِ بالعودة الى إنجلترا.

السؤالُ المهمُّ الذي يطلُّ من بين طيّات الفكر باحثاً عن جواب هو هل يمكنُ للتسامحِ أن ينمو ويترعرعَ في ظلِّ الايديولوجية أو العقائدية؟

الأيديولوجية أو العقائدية، دينية كانت أم غيرها، إن هي اقتربت من التعصب وافتقدت المرونةَ لإعادةِ النظرِ في منظومةِ الأفكارِ التي تشكِّلُ هذه العقيدة أو الممارسات في ظلّها، يصح وصفها بالدوغماتية، في حين أنَّ التسامحَ يتطلَّبُ التخَلّي عن الدوغماتية أوالتعصب لوجهة النظرِ الخاصة.، إذاً العقائدية تقِفُ بطبيعتِها نقيضاً للتسامح، مالم يكن لديها بعضُ المرونة. وما جاء في كلِّ النقاطِ التي أِورَدُتها أعلاه يُظهِرُ بوضوحٍ أنَّ الحاجةَ للتسامحِ جاءت نتيجةً لصراعاتٍ طويلةٍ بين المعتقداتِ وبعد تضحياتٍ وخسائرَ أدت إلى تمرُّدِ بعضِ الأتباعِ وانشقاقِهم عن الكتلةِ العقائِدية.

هل يمكنُ لمجتمعٍ أو لمجموعةٍ تتمسَّكُ بعقائديتِها الى حدِّ التعصُّب أن تخلقَ الجوَّ الملائمَ للتسامح؟ وهل ممكنٌ إقناعُ فردٍ من أفرادِ هذه المجموعةِ بأهمِيّة ِالتسامحِ إن كان خاضِعاً لقيادةٍ عقائديةٍ متعصبةٍ تؤمنُ بنظريةِ المؤامرة "من لا يعتقدُ ما أعتقدُه فهو عدوٌّ يسعى ألى تحطيمِ كياني وإنَّ العالمَ الذي لا يعتقدُ ما أعتقدُه يتآمرُ ضدّي"؟

الفردُ في مثلِ هذا المجتمع قد يكون من المستطاع جذبُه لفكرةِ التسامحِ مالم يخضع ويأتَمِر بأمرِ القيادةِ إلى حدٍّ يقاربُ غسيلَ الدماغ حيثُ لا يتقبَّلُ أي فِكرةٍ مخالفةٍ لما ترتأيهِ قيادتُه، ففي مثلِ هذه الحالةِ تصبحُ محاولةُ إقناعِه بضرورةِ التسامحِ عمليَّةً عبثية. وعلى الدولةِ تقعُ مسؤوليةُ الحدِّ من الخطاباتِ الديماغوغية التي تؤججُ العواطفَ وتزيدُ من حدّةة التعصُّب والسيرِ الأعمى وراءَ قياداتٍ لا تعِي مسؤوليتَها والتبعاتِ المترتِّبة على مثلِِ هذه الخطاباتِ وآثارَها السلبيةَ على المجتمعِ كَكُل.

تحقُّق التسامحِ يحتاجُ الى الجوِّ المناسبِ لنموِّه. ويمكٍنُ تهيئة الجوِّ المناسِب للتسامحِ بالثقافة، وهذه الثقافةُ لكي تولِّدَ النتائجَِ المرجُوَّةِ منها يجِبُ أن تبدأ في سنٍٍّ مبكِّر، فمِن الصعبِ غرسها وتنميتها فيمن تجاوز عُمرٍ معين.

• هذه الثقافةُ تحتاجُ إلى قيادةٍ مؤهَّلةٍ وتنظيمٍ وخطّةٍ مدروسة،

• تجربةُ نشرِ ثقافةِ التسامحِ من الممكنِ لها أن تُطَبَّقَ في حقولٍ تجريبيةٍ لتكونَ نموذجاً لمراكزٍ ٍأخرى إن حقَّقَت هذه بعضَ النجاح،

• لكي تُوَفَّقَ هذه التجاربُ فهي تحتاج إلى إسنادٍ ماديٍّ ومعنوي من السلطةِ وومن ذوي المشاركين بالتجربةٍ من الصغارِ في العمر،

• نشرُ ثقافةِ التسامحِ يمكِنُ الاضطلاع به من قِبلِ جمعياتٍ ثقافيةٍ أو المدارس بمساندة الدولة،

• تقعُ مسؤوليةُ التحريكِ والتحفيزِلإيجادِ الآليّاتِ لنشرِ ثقافةِ التسامحِ على عاتقِ المثقفين المؤمنين بالتسامح ممَّن استطاعوا التخلّصَ من دوغماتية عقائدِهِم والتعصّثبِ لها، ففاقدُ الشيءِ لايعطيه!

مِن أمثلةِ البرامج التي تُشجِّعُ على تحقيقَ التسامحِ في المجتمعاتِ ذات المزيجِ المتنوِّع تقريرُ مادةِ التسامحِ موضوعاً يُدَرَّس في المدارِسِ وفي الجامعات، . ومثال آخرهو ما طُبِّقَ في الولاياتِ المتحدة لنبذِ التفرِقةِ العنصرية هو أن هُيِأت الوسائلُ اللازمةَ لجعلِ المدارسِ مختلطةً بعد أن كانت مدارسُ السود منفصلةً عن مدارسَ البيض ومنها نقلُ الطلابِ بالباصاتِ المدرسيةِ الى مدارسَ خارجَ مناطقَ سكنِهِم. غير أنَّ وجودَ التلميذ الأسود في نفس ِالمدرسَة مع التلميذ الأبيض لم يقض تماماً على التكتل والإنفصالية وبقيت المشكلةُ قائمةً الى حدٍّ ما. وفيما بعد انعكسَ تزايدُ وتنوعُ الأعراقِ والأثنياتِ في الولاياتِ المتحدة على مزيج التلاميذِ في المدارس فيها وأصبحَ من الضروريّ إيجادُ سبُلٍ للتسامحٍ وتفبُّل التلاميذِ لتلاميذَ آخرين يختلفونَ عنهم في اللونِ والعرقِ والأثنيةِ والدينِ وغيرها من الإختلافات. وقد تكفَّلَت بعضُ الجهاتِ بإيجاد برامجَ لنشرِ التسامحِ بشكلٍ تجريبي، ومن أمثِلةِ النشاطات في هذه البرامجِ أن حُدِّد يومٌ للاختلاط بين التلاميذِ في فترةِ الغداء المدرسية، ويبدو أنَّ المدارسَ التي شاركت في هذا البرنامج أصبحت نموذجاً لمدارسَ أخرى وأشادت بنتائجِ التجربة هذه.

ماذا لو دخلت كلُّ المدارسِ في هذه البرامج؟

ماذا لو أنَّ برامجً مشابهةً تبنَّتها جمعياتٌ للبالغين لنشرِ ثقافةِ التسامح؟

ماذا لو تشكلَّت جمعياتٌ خصّيصاً بهدفِ نشرِ ثقافةِ التسامح؟

ماذا لو أنَّ الشعراءَ والمثقفين كتبوا وتغنَّوا بالتسامح ؟

ماذا لو تجنَّبوا كتابةِ المقالات التي تثيرُ النعرةَ الطائفيةَ والعنصرية؟

أو أكثر من ذلك، أليسَ من واجبِ المثقفينَ والمفكرينَ تكريسُ الجهودِ لدفعِ حكوماتِهم لتبنِّي سياساتِ التسامحِ والتشريع لها؟

فقط تساؤلات ولكني أضبف اليها، في الختام، أمنيتي أن تكون الأجيالُ القادمةُ أكثرَ حظاً وأكثرَ تحضراً من جيلنا والأجيال السابقة!

حرير و ذهب (إنعام)

الولايات المتحدة

http://goldenpoems.wetpaint.com

......................

كتب بناءً على دعوةِ "المثقف" للمساهمةِ في ملف . " التسامح .. مقاربات في المفهوم"

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك