الاندماج وحرية التعبير

إبراهيم المطرودي

 

المجتمعات اليوم مندمجة سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياحيا؛ ففي السياسة هناك اندماج، يهدف إلى تحقيق المصالح، ونيل الأماني، وفي الثقافة مثل ذلك، وغايته التبادل المعرفي والنشاط الفكري، وفي الاجتماع اندماج بين مختلف الأعراق والجنسيات، فالطبيب أوروبي والمهندس الكهربائي هندي وكوري، وفي الاقتصاد ينمو رأس المال، وتعظم الثروة، بالخبرات الأممية المختلفة، وفي السياحة تداخل وتلاق، يذهب المواطنون من بلادنا إلى أطراف الدنيا، يعيشون حريتهم، ولا يُصادر منهم حق التعبير؛ فحال العالم التي نشاهدها، وننتفع منها، ونعُدّ أنفسنا جزءا منها، ما كان لها أن تكون لولا حرية التعبير، وضمان حق الإنسان المختلف فيها.

ولا ننسى دور العِلْم، ولا ينبغي لمثلنا أن يخفى دوره عنه، فما كان لهذه الاندماجات المذكورة سلفا أن تكون لولاه، ولولا رجال دفعوا ثمنه من أعمارهم، وقضوا في دفع عجلته أوقاتهم؛ فالعلم وأهله هم الذين صنعوا فكرة الاندماج، واضطرونا إليها، ودفعوا بنا إلى قبولها والاستحسان لها، وهم الذين كشفوا لنا عن حاجتنا إليهم وإلى ما بين أيديهم، ومعظم ما أراه في عالمنا هذه الأيام من اندماجات ولقاءات يعود الفضل فيه إليهم، ويرجع إليهم السبق فيها، هذه فضيلة للعلم وأهله، يجب أن نذكرها ونُعيد ذكرها، ونُخلّد له ولأهله يوما أسوة بأمور هي أقل شأنا منه، وأضعف دورا في حياتنا منه، فالعلم فُتُوحه هي التي أخرجت الناس، المسلمين وغير المسلمين، من ظلمات المذهبيات، وضيق الانغلاق، إلى فسحة الاندماج مع الآخرين، وتبادل الخبرات معهم، العلم كان يرصف لبنات الاندماج بين الأمم، ويُعلي بناءها، وكان الناس قبل ذلك يعيشون على خداع المذهبيات الدينية التي تُظهر أنهم عن الناس مستغنون، وفي الحاجة إليهم مُبتَلون، وتبذل جهدها في كتم أصوات العلم إبّان بداياته المتواضعة، وتضع أمام أهله التحديات، لعلها أن تثنيهم عن التقدم، وتعوقهم عن المواصلة.

انتصر العلم، وتغلّب أهله، وهكذا هو العلم دوما، وجرّ انتصاره للأمم ما نراه من اندماج وانفتاح وتعاون، هم يندمجون باسمه، وينفتحون بحثا عنه، ويتعاونون تحت رايته، هذه هي سيرة العلم والعلماء مع المجتمعات البشرية والأمم الإنسانية؛ فأي سيرة هي أحق بالثناء من هذه؟ وأي عمل في نظركم أولى من هذا بالمديح والتقريظ؟ كانت البشرية تخضع للمذهبيات الدينية، وتقودها رجالها، وتقوم تلك القيادة على فكرة الانغلاق والانزواء؛ خوفا على هذه الفكرة المركزية، والقضية الوحيدة، وحين نشط العلم، وقويت حجته، لم يخف على قضاياه، ولم يخش على مسائله، ورأى إشراك العالم جزءا من تقدمه، وسببا من أسبابه استمرار عطائه؛ فهلّا اعتبرت المذهبيات من حال العلم وأهله، وانتفعت مما ترى من جمعه بين المختلفين، واحتفائه بهم جميعا، فحاله وحال أصحابه تنسجمان مع قول الحق سبحانه: “فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؛ كذلك يضرب الله الأمثال”، وأمّا حالها وحال أهلها؛ فهما أبعد الناس عن هذه الآية الكريمة، وهذه الحالة التي تعيش فيها المذهبيات تُبعد الانتخاب عنها، وتجعل أخطاءها تخلد فيها، وتدوم في أبنائها، يتقدّم الناس من حولها، ويتخلّصون من عيوبهم، وتظل عيوبها في أجيالها متوارثة، وسيئاتها في المنتمين إليها باقية.

الانتخاب، بمعناه الواسع، لا يكون ولا يوجد دون اندماج بين المختلفين الذين يتغالبون، وعلى فكرة فمن يخاف المغالبة عليه أن يقف جانبا، ويتوقّى وعورة الطريق، وحسبنا من فضيلة العلم وأهله؛ أن فكرة الانتخاب أوضح ما تكون فيهم، وأبرز ما تكون في علومهم، وإليها يرجع ما نراه من سباق علمي حميم، جعل حياتنا مظهرا عجيبا من مظاهر الانتخاب، وصورة صادقة من صوره، فمتى تُصبح المذهبيات جزءا من هذا الواقع الضارب، ويُصيبها من الانتخاب الإصلاحي ما أصاب كل جوانب حياتنا؟ متى يفطن المسلمون إلى أن الانتخاب يجب أن يعمل في مذهبياتهم، ويُعيد ترتيب أبياتها؛ كما عمل في حياتهم، وردم كثيرا من هفواتها وخللها؟

وتفطّن أهل العلم للاندماج ودوره، وأكثر بعضهم من الحديث عنه، وكان الفيلسوف البريطاني وايتهد، وهو الرياضي الشهير، أحد الذين أبرزوا قيمته، وتحدّثوا عن ضرورته للأمم التي تنشد الذكاء، وتحرص على أن تكون مدنيتها من أفضل المدنيات، واخترته لأن حديثه عن قيمة الاندماج يُظهر أثر العلم فيه، ويكشف لنا عن دور العلم في تنبيه أصحابه، والعاملين في سلكه، ولعلنا بهذا نعود إلى أنفسنا ونُقارن بين سادة العلم في حياة البشر وبين رجال المذهبيات في الأديان، فالأولون يرون ازدهار ما معهم بالاندماج والانفتاح، ويراه الآخرون في ضدهما.

يقول وايتهد، وهو أستاذ برتراند رسل وصديقه، في محاوراته: “إن العصور الهادئة قلما تُولّد الأعمال المبتكرة؛ فإن إثارة الإنسانية أمر لا بد منه” (219)، ويقول: “إن أحسن المدنيات هو مع ما نشأ عن الامتزاج العنصري…، وإذا كان العنصر نقي الدماء؛ فالأرجح أن يكون الشعب غبيا حتى تختلط دماؤه بدماء أخرى أشد حيوية” (228). العصور الهادئة هي التي تفقد الاندماج والامتزاج، وتختفي فيها تبعا لهما حرية التعبير، وتقل الحاجة إليها، ونحن اليوم وإن لم نفقدهما، بضغط الحياة وضروراتها، فقد فقدنا حرية التعبير التي تسمح للانتخاب أن يُرمم تصوراتنا، ويُصلح بعض ما فيها، ولعل خير ختام لهذا المقال هذه الآية الكريمة “نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون”.

المصدر: http://hewarpost.com/?p=3360

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك