مأساة العراق العظيم
محمد الطميحي
على أطراف مدينة الموصل، وغير بعيد عن المعارك الدائرة في المدينة، تنتشر مخيمات الإيواء لاستيعاب الهاربين من جحيم تنظيم (داعش)، الأعداد بمئات الآلاف ما يجعل استيعابهم مهمة شبه مستحيلة، في ظل ارتفاع وتيرة النزوح اليومية من محافظة يقدر سكانها بالملايين.
قادتني مهمة صحفية إلى أحد تلك المخيمات، وبالتحديد مخيم حسن شامي الواقع بالقرب من قرية معروفة تحمل الاسم ذاته، كانت القرية ميداناً لإحدى المواجهات الفاصلة بين قوات البيشمركة وعناصر التنظيم المتطرف.
الوصول إلى المكان ليس بالأمر السهل فبعد المرور بعدة نقاط تفتيش أو سيطرات -كما يطلق عليها العراقيون- توقفنا أمام ما تبقى من جسر الخازر الشهير الذي يربط بين أربيل والموصل، هو الآخر لم يسلم من التدمير والتخريب، عبرنا النهر فوق جسر حديدي مؤقت أقيم لتسهيل عبور قوافل الإغاثة للمناطق المنكوبة، وما إن تجاوزنا الجسر حتى وجدنا أنفسنا وسط سهل غطت خضرته الطبيعية آلاف الخيم البيضاء التي تراصت على امتداد البصر دون انقطاع.
كان علينا استعادة ما حدث هنا قبل أشهر من خلال السير وسط ما تبقى من القرى المدمرة بالكامل.
هناك.. غاب صوت المآذن، واختفى الأطفال من ساحات اللعب والفصول الدراسية، فيما بقيت البيوت التي هجرها أهلها على عجل بانتظار عودتهم ولو بعد حين.
قادنا الطريق إلى بوابة المخيم الذي يشبه بما بني حوله من سياج وأسوار معتقلاً كبيراً يجمع ما تبقى من شتات العائلات العراقية التي وجدت في مكان كهذا الخيار الوحيد للبقاء بعد أن عاشت لأشهر تحت الحصار والقصف، وأيام وأسابيع في العراء في رحلة الهرب نحو المجهول.
أول ما يلفت انتباهك هذا الكم الهائل من الأطفال الذين تقرأ في ملامحهم مأساة شعب بأكمله دون الحاجة للغوص في التفاصيل، فهم عندما يحاول الكبار تحريف القصة خوفاً من تداعياتها، الأقدر على فضح ما جرى على واقعهم ومستقبلهم من مؤامرة.
رغم ما يقوله البالغون لم تمنعهم براءة الطفولة من خلق وطنهم الخاص من خلال ساحات اللعب التي التقى فيها أطفال العراق بكل طوائفهم وأعراقهم ومذاهبهم دون تصنيف أو تقسيم.. فكلهم ضحية.
بجانب كل خيمة وعند كل مكتب إغاثة وفي الممرات التي بينها تلاحقك نظرات هؤلاء الأطفال الذين ولدوا في زمن الاحتلال والحرب والتشرد، فلم يعرفوا يوماً معنى الاستقرار، وفيما يتباكى العالم على تاريخ العراق الذي دمرته يد الإرهاب والتخريب، تبقى المأساة الحقيقية ماثلة في تدمير مستقبله من خلال حرمان جيل بأكمله من ممارسة حقه الطبيعي في العيش بأمان، والإصرار على تشريده بين مخيمات النزوح وميادين الحرب والحصار على يد حفنة من الخونة والعملاء الذين سلموا الموصل لداعش كما باعوا العراق لإيران.