تأصيلا للتسامح.. في ضرورة التأسيس للوازع

تأصيلا للتسامح.. في ضرورة التأسيس للوازع

د. محسن العوني

نقرأ في المعجم: تسامح: تساهل، إغضاء، حلم، تحمل، تقبل، «Ce n’est pas un droit, c’est une tolérance »

"ليس هذا حقا، بل هو سماح" يرتبط التسامح بالتعصّب من خلال جدلية الأضداد فيستدعي أحدهما الآخر وإن كان ينفيه، غير أن نفي الواحد تأكيد للآخر، فمن يقول تسامح يقول رفض التعصّب، ومن يقول تعصّب يقول رفض التسامح. المتعصّب شخص ينعت بالتعصّب وهو ذاك الذي لديه اعتقاد راسخ في إلهام ووحي إلهي تغذيه غيرة مبالغ فيها على الدين وأخيرا بطريق التوسع ذاك المولع إلى حد الإفراط برأي أو مذهب أو فريق..
المتعصب شخص يحرّكه نحو دين أو مذهب أو شخص إيمان واعتقاد شرس متطلب وغيرة عمياء ملهمة متحمّسة
مهووسة مستنيرة أو هي أقرب إلى الهذيان..

في ضرورة التأسيس للتّسامح:
حتى لا يبدو التسامح موقفا ذاتيا مثاليا طوباويا مفارقا لشرطه الموضوعي الواقعي المستمر الدائم والمتواتر..لابدّ من التأسيس للوازع حماية للإنسان من حصار الخطيئة الذي من شأنه أن يقلّص بقعة الضوء فيه إلى الحد الذي يعدمها.. أثبتت التجربة أن الإنسان يصبح أحسن عندما تجعله يرى ويسمع ما يحب كما قال أحد الأدباء الرّوس وذلك ينسجم تمام الانسجام مع نصوصنا التأسيسية الإسلامية "إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصّالـــــــــح يرفعــــــه" 10 فاطر "وقولوا للناس حسنا" البقرة 83 "وهدوا إلى الطيّب من القول وهدوا إلى صراط الحميد" 24 الحج "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصّبر" العصر. من هنا ينبع واجب التأسيس والاشتغال والعمل لأجل التسامح وتغذيته ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وفصلا بعد فصل وعاما بعد عام وجيلا بعد جيل.
الإنسان يحب من يستفزّه إيجابا بأن يحرّك ويغذّي فيه الحب والفكر والرفق والتسامح والتعقّل والسويّة الإنسانية والرّحمة كما يكره ذاك الذي يستفزّه سلبا بأن يحرّك فيه الأحقاد والضغائن وما يدخل ضمن هذه القائمة الرّهيبة الفظيعة التي تشي بالمرض والخلل وانعدام السويّة الإنسانية المتجاوزة المتسامية المترفّعة ..

•فولتير في باقياته الصّالحات:
فولتير واحد من أعظم الفلاسفة والمفكرين المؤسّسين للتّسامح..فمنذ أكثر من قرنين تولّدت في ذهنه فكرة "موسوعة جيب" Encyclopédie de poche " ونشر عام 1764 بجنيف "المعجم الفلسفي" "المحمول" « Dictionnaire philosophique portatif »ليستعرض جميع معارف وأحلام وهواجس
الإنسانية « Pour faire le tour de toutes les connaissances et rêveries de l’humanité»
إن النجاح الذي أحرزته وحقّقته الكتب الضخمة الموسوعية لم تمنع "المحمول" وكأن فولتير كان يرغب أن يكون هذا المعجم الفلسفي المحمول أشبه شيء بتميمة ضد التعصّب والتزمّت وعدم التسامح والغلوّ. إن عبقريّة فولتير تتمثل في استغلاله هذا الشكل المتمثّل في معاجم الجيب ليواصل كفاحه ونضاله ضد ما يسمّيه (الدّنيء، السّافل، الكريه، المقزّز) من الأفعال والتصرّفات والسّلوك L’«Infâme »أو بعبارة أخرى ضدّ أوهام وخرافات ومبالغات وتجاوزات السلطة الدينيّة وكان يعيب على "الموسوعة" شدّة حذرها وكان يرى في "محموله" Portatif" son كما صار الجمهور بسرعة كبيرة يدعوه.. إمكانية عرض وتوضيح أفكاره الأكثر خصوصيّة وعمقا بلهجة أكثر حدّة. هذا المعجم يرغب أن يكون تأليفا لفكر فولتير السياسي والأخلاقي والفلسفي وقد تناول فيه كنتيجة لذلك مواضيع شديدة الاختلاف والمقالات الأكثر عددا خصّصها للدّين (التعصّب، المعجزات، الأوهام والخرافات، التسامح، التعذيب..) "المعجم الفلسفي" سبّب بكلمة واحدة فضيحة معتبرة ورغم إنكار فولتير أبوّته وتأليفه للكتاب / المعجم فإن إنكاره لم يخدع أحدا واتّهم بالكفر والإلحاد " Accusé d’impiété" وأحرق في الحال في مدن أوروبية عدّة وحرّم الفاتيكان تداولـــــــــــــه (le Vatican le met à l’Index) .
صار المعجم هدفا أساسيا لجميع هؤلاء الذين يريدون الدّفاع عن الدّين وكأن هذا العمل يتركّز فيه وحده ويحتشد فكر الأنوار. إن الضوضاء التي سبّبها وأوجدها (المحمول) لا تنقص بالتأكيد من الدّور الذي لعبته الموسوعة في المعركة الفلسفيّة.
غير أنها تبرهن على ملائمة اختيار فولتير الذي فهم منذ العشرية السابقة نجاعة الأعمال السهلة المرنة ذات السعر المناسب. كتب فولتير بتاريخ 05 أفريل 1756 إلى دالمبير: "عشرون كتابا صادرة عن فوليوFolio لا تصنع أبدا ثورة. إنها تلك الكتب الصغيرة المحمولة التي تباع بثلاثين فلسا هي التي يجب أن تخشى. لو كان سعر الإنجيل 1200 سترس(Sesterce) (عملة رومانية قديمة) لما استقر الدين المسيحي وتوطّد أبدا".
وصدقت في "المعجم الفلسفي" العبارة التي تنسب إلى السيد المسيح عليه وعلى نبينا السلام "الحجر الذي رذله البناءون سيكون حجر الزاوية"
التسامح مرشّح أن يتحوّل إلى ما يشبه البوتقة التي تجمع القيم الثابتة الكبرى كالعدل والحرّية والحق والمساواة والأخوة الإنسانية واحترام الخصوصيات وعدم إساءة فهم الاختلاف والمغايرة والتنوّع.
عدم التسامح يحتاج إلى نفق مظلم معتم يمرّ عبره إلى تبرير أحكامه الجائرة اللاإنسانية الرّامية إلى شيطنة الآخر وتجريده من إنسانيته كخطوة أولى لسحقه وإلغائه وقتله وتصفيته.
من هنا تتجلى ضرورة تجاوز القوالب الجاهزة والأحكام المسبقة الرّاسخة في الذاكرة الجماعية لأنها تقتل في المهد أي مسعى حميد أو نيّة حسنة تتوسّم الخير في الإنسان وتحسن الظن به.. عنصر حسن الظن ضروري ضرورة حيويّة محدّدة لأن الصدق والإخلاص يجعلان حسن الظنّ يصدق دائما أو غالبا..
من يدّعي حبّ الله الذي لا يراه ويكره الإنسان الذي يراه لا يمكن أن يكون إلا كاذبا..لأنه لو كان صادقا في حبّه لله لأحبّ الناس لأنهم عباده وقد جاء في الحديث الشريف "الخلق كلهم عيال الله وأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله".
إن البرّ والإحسان إلى أهل الأديان الأخرى محكّ الإيمان المخلص الصادق الذي ينفع صاحبه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.."لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" 8 الممتحنة.
كان فيلسوف الفريكة أمين الريحاني يحب هذه الآية القرآنية ويعلّقها في مكتبه "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنّصارى والصّابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" 62 البقرة.
يقول ميخائيل نعيمة "قلّ من آمن بالله ولم ينصّب نفسه وصيّا عليه"
إبراهيم الخليل عليه وعلى نبيّنا السّلام كان من تلك الأقلية الهائلة وقدّم أروع مثال في السّماحة والتزام الأدب مع الخالق والمخلوق على السّواء وهو من قبل "أمّة" وذلك في ما أورده القرآن الكريم على لسانه:" فمن تبعني فإنه منّي ومن عصاني فإنك غفور رحيم" 36 إبراهيم.
"وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربّه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" 111-112 البقرة.

أهمية الوعي بالتاريخ:
"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" 111 يوسف. ليس مكتوبا على الإنسان أن يظل محكوما بعجزه الفكري وقصوره سجين نزعاته وأوهامه وهو الكائن المكرّم بالعقل والوعي وقابليّة التعلّم والتّجاوز.. التّاريخ مجال واسع لا يحدّ للتفكير والاعتبار وفي هذا السياق تحل القاعدة الخلدونية الماثلة: "التاريخ في ظاهر لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق" إن النظر والتحقيق مما يقتضي من الإنسان كائنا مفكّرا مدركا عدم تكرار الخطأ القاتل..
يقول شوبنهاور (1788 – 1860) "إن التاريخ وحده يمنح شعبا وعيا كاملا بذاته، فالتاريخ يمكن النظر إليه إذن من جهة أنه الوعي العقلاني للنوع البشري. التاريخ بالنسبة إلى الإنسانية مثل الوعي القائم على العقل بالنسبة إلى الفرد. إنه وعي متبصّر ومنسجم حيث حكم غيابه على الحيوان بالبقاء سجين المجال الضيّق للحاضر الحدسي" "العالم بما هو إرادة وبما هو تمثّل".

ثالوث لافت دال:
من اللافت والدّال أن فولتير في "المعجم الفلسفي" رتّب التّسامح بين "اللاهوتي" و "التعذيب" وكأنه يحيل على العلاقة الوثيقة بين اللاهوتيين ورجال الدين والأئمة ورؤساء الدين و "التسامح" و "التعذيب" فمسؤوليتهم جسيمة في تغليب كفّة الأول أو الثاني ولا مجال إلى إنكار دورهم أو التقليل منه ومسؤوليتهم في ذلك لا غبار عليها.. وكأني بفولتير يغري اللاهوتيين والأئمة في جميع الأديان أن يكونوا على مثال وطراز ومنوال اللاهوتي الذي عرفه ويعاودوا المحاولة التي بدأها.. لعل وعسى.. لأنهم إن لم يكونوا كذلك فإن الخيار الثالث (التعذيب) يغدو ثابتا ولا مفرّ منه. (فما أصبرهم على النار).

•لا هوتيّ « THÉOLOGIEN »
"عرفت لاهوتيا حقيقيا أصيلا، إنه يمتلك لغات الشرق وكان عالما بطقوس الأمم كأحسن ما يكون العلم بها...
كانت دروس ومواعظ الكتاب المقدّس المتنوّعة مألوفة لديه.. حاول لمدّة ثلاثين سنة أن يوفّق بين الأناجيل واجتهد في تحقيق التفاهم بين الآباء... كانت صعوبة ترتيب هذا الكم من الأشياء في رأسه.. الأشياء التي من طبيعتها أن تكون مختلطة متداخلة وأن يلقي قليلا من الضوء على هذا القدر من الغيوم ..تحبطه وتصدّه في الغالب. ولأن هذه البحوث كانت تمثّل واجب مهنته فقد نذر نفسه لها رغم كرهه ونفوره واشمئزازه. وأخيرا انتهى إلى معارف مجهولة لدى أكثر زملائه. وكان كلما ازداد علما حقيقة ازداد حذرا من جميع ما كان قد علم. وكان على مدى حياته متسامحا متساهلا وعند موته أقرّ واعترف أنه أتلف حياته وبدّدها دونما فائدة".
فولتير "المعجم الفلسفي"
•التسامح (TOLÉRANCE)

"ما التّسامح؟ إنه نصيب الإنسانية.. نحن جميعا مجبولون على أنواع الضّعف والأخطاء. فلنغفر لبعضنا البعض حماقاتنا.. إنه القانون الأول للطبيعة..... إنهم لا ينزعون الخنجر عن بعضهم البعض ليكسبوا أرواحا إلى دينهم.. لماذا إذن نحن نُذبح دون انقطاع منذ المجمع الديني الأول؟ إنه من الواضح أن كل فرد يضطهد إنسانا -هو أخ له- لأنه ليس على رأيه هو.. وحش.
أحمق أخرق هو ذاك الذي لا يملك القدرة أن يؤدّي عبادة خالصة لله الذي خلقه وسوّاه.
مؤسف أنّ مثال المثقفين الصينيين.....وجميع الحكماء لم يقدر أبدا أن يقود ويُقرّر.. وحش هو كل من يحتاج الأوهام والخرافات كما تحتاج حوصلة الغراب إلى الجيف ! سبق أن قلناها وليس لدينا ما نضيف: إذا كان لديك في بيتك دينان فسيذبح أحدهما الآخر.. وإذا كان لديك ثلاثون ستتعايش وتحيا في سلام..
من بين جميع الأديان تعتبر المسيحيّة بغير شكّ تلك التي يجب أن تستلهم التسامح أكثر.. مع أن المسيحيّين إلى الآن كانوا الأقل تسامحا من البشر جميعا....
هذا الشقاق الرّهيب الذي استمرّ قرونا عدّة يعدّ درسا مؤثرا جدا على أننا يجب أن نغفر لبعضنا البعض أخطاءنا. الشّقاق هو أعظم شر للنوع البشري والتسامح هو الدواء الوحيد. ليس ثمة من لا تدعوه هذه الحقيقة سواء تفكّر وتأمّل بجمجمة باردة في مكتبه أو فحص وبحث الحقيقة مع أصدقائه. فلماذا إذن يقبل نفس الرّجال التسامح والتساهل والمعروف والعدل منفردين ويقومون ويثورون أمام الجمهور بهذا القدر من الحنق والهيجان ضدّ هذه الفضائل ؟ لماذا ؟ لأن مصلحتهم و منفعتهم هي إلاههم. لأنهم يضحّون بكل شيء لهذا الوحش الذي يعبدون.
أملك مقاما وشرفا وقوّة أسّسها وشيّدها الجهل والسذاجة. أمشي فوق رؤوس الرّجال السّاجدين عند قدميّ: لو نهضوا ونظروا إليّ وجها لوجه، فأنا ضائع لا محالة. يجب إذن إبقاؤهم مقيّدين إلى الأرض بسلاسل الحديد. هكذا فكّر واستدلّ رجال جعلتهم قرون التعصّب أقوياء ولديهم أقوياء آخرين تحتهم وهؤلاء لديهم آخرين أيضا.. وجميعهم يثرون ويغتنون من جلود الفقراء ويسمنون من دمائهم ويضحكون من حماقتهم وغباوتهم. إنهم يكرهون ويبغضون التّسامح كما يخشي كلّ متحزّب موال أثرى على حساب الجمهور تقديم كشف حساب.
إنهم هكذا يصنعون ويفعلون زمانا طويلا في قسم كبير من الأرض................................................
..............................................
إنه من الواضح أكثر أنه يجب أن يسامح بعضنا البعض لأننا جميعا ضعفاء متناقضون متعارضون محلاّ للتحوّل والتّبدّل وعدم الاستقرار والخطأ. عود قصب مائل في الوحل بفعل الريح .. هل يقول لعود قصب مجاور مائل في اتّجاه معاكس:"تمرّغ على طريقتي أيها الشقيّ البائس أو سأتقدّم بطلب حتى تُقتلع وتُحرق؟".
فولتير "المعجم الفلسفي"

•التعذيب(Torture)
"إنها طريقة غريبة في طرح الأسئلة على الرّجال والذين ابتكروها لم يكونوا مجرّد فضوليين. جميع الآثار تدل على أن هذا القسم من تشريعنا يعود في أصله الأول إلى لصّ صاحب مسيرة طويلة حافلة. أغلب هؤلاء السادة قيد الممارسة والاستخدام من شدّ الأصابع وحرق الأقدام واستجواب هؤلاء الذين يرفضون الاعتراف أين وضعوا أموالهم باستعمال أساليب أخرى في التعذيب. بعد أن خلف الغزاة هؤلاء اللصوص وجدوا ذلك الابتكار جدّ صالح لخدمة مصالحهم..........................................................
كان الرّوس ينظر إليهم كبرابرة خلال 1700 أما نحن فلم نصبح كذلك إلا خلال 1769. جاءت إمبراطورة لتهب هذه الدولة المترامية الشاسعة قوانين أسعدت.. أبرزها وأجدرها بالملاحظة التسامح العام الشّامل وإلغاء التعذيب. العدل والإنسانية قادا ريشتها.. لقد أصلحت كل شيء. أسفي على أمّة وإن كانت متمدّنة متحضّرة منذ زمان طويل إلا أنّها محكومة بعد بممارسات قديمة فظيعة.."
فولتير "المعجم الفلسفي"

•الأخوّة وحدها لا تمنع العدوان
" يا يحيى خذ الكتاب بقوّة" 12 مريم
عجائب القرآن الكريم لا تنقضي وجواهره لا تكفّ عن التوهّج.. هذه الآيات البيّنات الكريمات المتوهجة بالحكمة والصّدق التي جاءت تقصّ قصة أول جريمة ترتكب في التاريخ.. قتل قابيل لأخيه هابيل..تضمّنت ضمن ما تضمّنت إشارة لافتة دالة إلى أهمية وحيويّة الوازع ووجوب التأسيس له في نفس الإنسان وفي المجتمع في إطار التأسيس لإنسانية الإنسان وإنسانية المجتمع ومدنيّته..
هابيل في تحاوره مع أخيه قابيل الذي سبق وأن هدّده بالقتل لم يعلّل امتناعه عن قتله بالإخوة التي تجمعهما فهي لم تمنع قابيل من قتله بعد أن هدّده ولم تكن وحدها كافية أن تمنع عدوان الأخ على أخيه.. وإنما علّل ذلك بتقوى الله عزّ وجل ومخافته "إني أخاف الله ربّ العالمين" .
الوازع قد يكون إيمانيا (التقوى) كما هو الحال مع هابيل وهو الأقوى والأبقى وقد يكون قانونيا "فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" والناس معادن.. وقد يكون ذوقيا جماليا وقد يكون فكريا فلسفيا مبنيا على قناعة راسخة.. وقد يكون جميع ذلك وأكثر من ذلك.. من هنا ضرورة التربية والتنشئة والتنمية فتكون بمثابة بقعة الضوء التي تتوسّع وتتوسّع لتشمل المجتمع وتنير زواياه المظلمة وما أكثرها وجحوره الممتدة وما أطولها.. عبارة دالة لمحمد مستجاب:"ليس في العالم سرداب أطول وأكثر غورا من الجحور الممتدّة في الجماجم".

"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحقّ إذ قرّبا قربانا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر قال لأقتلنّك قال إنما يتقبّل الله من المتّقين* لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين* إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظّالمين* فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين* فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين* من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون" المائدة 27/32.

التسامح .. مقاربات مفهوميّة ومتعلّقات
•أبيقو:(Epicure)
1-"كما أننا نحترم تقاليدنا الخاصة ونعتبرها حسنة وجديرة بالثناء من قبل الناس أو غير جديرة بذلك، فإنه يجب علينا أيضا أن نحترم تقاليد الآخرين إن كانت أخلاقهم سويّة".
2-"عندما يناقش بعضنا بعضا، يخرج المهزوم مستفيدا أكثر من غيره، لأنه تعلّم ما لم يكن يعلمه".
•سبينوزا(Spinoza)
-3"إني أدع كل واحد يحيا وفق طبعه الخاص، ولا أرى مانعا في أن يرغب بعضهم في الموت من أجل ما يعتقدونه خيرا لهم، شريطة أن يسمح لي بالحياة من أجل الحقيقة".
•دالمبير ((D’Alembert
4- "يجب أن نميّز بين روح التسامح الذي يدعو إلى أن لا نضطهد أحدا، وعدم الانحياز الذي يتمثل في النظر إلى جميع الأديان على أنها متساوية"

•لميتر:(J. Lemaître)
5- "إننا لا نتسامح مع من يتهجّم على الآراء التي ورثناها أو قبلناها شعارا من شعارات الحزب الذي ننتمي إليه، في حين أننا نتسامح مع من يتهجّم على آرائنا الشخصية التي أنشأناها بأنفسنا، إذ لدينا معرفة وخبرة بما يشوبها من شكّ واحتمال".
•ســاد:(Le Marquis de Sade)
6- "التسامح فضيلة الضعيف".
• جان رستان:(J. Rostand)
7- "دأبنا على معرفة أنفسنا يجعلنا أكثر تسامحا مع غيرنا، ودأبنا على معرفة غيرنا يجعلنا أكثر تسامحا مع أنفسنا".
8- "قد يصل التسامح إلى الدرجة التي يصبح معها متاخما للإهانة"
•آلان:(Alain)
9- "لا شيء يفوق الفكرة خطرا، لا سيّما إذا كنّا لا نملك غير فكرة واحدة".
10- "ألاّ نرغب إلاّ في الاجتماع مع أولئك الذين نتّفق معهم في جميع الأمور: إنّ ذلك من قبيل الخيال، بل ذلك هو التعصّب عينه".
•غوبلو:(Goblot)
11- "لا يتمثل التسامح في تنازل المرء عن قناعاته الشخصية أو في الإمساك عنها، ولا في الذّود عنها أو في نشرها، وإنّما في الامتناع عن استعمال كلّ وسائل العنف والاهانة والخداع، وهو، بعبارة واحدة، في عرض المرء لآرائه دونما فرضها".
•غوته
-"لا ينبغي أن يكون التسامح سوى حالة انتقالية.. فهو يجب أن يؤدّي إلى الاحترام..أن تُسامح يعني أن تُهين وتجرح"
•جورج كورتلين
-"إذا كان السماح للآخرين بجميع ما نسمح به لأنفسنا واجبا تغدو الحياة غير محتملة"
•هلفيتيوس
-"يمكن أن يكون التسامح مهلكا مميتا لأمّة من الأمم حينما تسامح دينا غير متسامح كالكاثوليكيّة"
•شوبنهاور
-"التسامح الذي نلحظه ونثني عليه غالبا لدى عظماء الرّجال لم يكن سوى نتيجة أعمق مشاعر الاحتقار والازدراء لباقي البشر.. حينما يقتنع عقل كبير تمام الاقتناع بهذا الاحتقار.. يكفّ عن اعتبار البشر كأشباه له وبالتالي يكفّ عن تطلّب ما يقتضيه من أشباهه ونظرائه"
•تذكّرنا عبارة شوبنهاور ببيت المتنبي:
وصرت أشكّ في من أصطفيه لعلمي أنّه بعض الأنام
•محمد مستجاب
-"في كل حوار عنيد لا يدافع المتحاورون عن الحقيقة وإنما عن إيمانهم بعصمتهم عن الخطأ"
-"ليس في العالم سرداب أطول وأكثر غورا من الجحور الممتدّة في الجماجم"
-
•حدود التّسامح
إذا كانت الطوائف الدينيّة متعايشة خلال القرن الثاني عشر وخاصة في شبه جزيرة إيبيريا « Péninsule Ibérique »فإن الحديث عن التسامح على المعنى الذي نسمعه اليوم يعدّ من الإفراط في القول والمبالغة، فعلا كان المسيحيّون والمسلمون واليهود على قناعة تامّة بأنّ كلّ واحد منهم يملك الحقيقة وأنّ إيمانه واعتقاده هو وحده المؤدّي إلى النجاة والفوز في اليوم الآخر.. يوم الحساب.. وإذا كانوا يظهرون التسامح والتساهل فلأنهم لا يستطيعون غير ذلك..
أن تسامح – فعلا – هو أن تتحمّل ما لا طاقة لك على تغييره ولا وسيلة إلى منعه ويظلّ اللقاء واقتسام العلم والمعرفة في هذا الإطار الاستثناء الذي لا ينفي القاعدة..
لدينا في تونس عادة متبعة يوجد ما يشبهها في البلاد العربية والإسلامية.. بعد أن يدفن الميّت ويوارى التراب.. ينادي مناد بأعلى صوته بنبرة مؤثرة: سامحوا أخاكم..؟!!. فيقول الجميع بصوت واحد: السماح..!!؟ لعل بعضهم لم يقلها ؟!!.

•من "محمول" فولتير إلى "محمول" الوزير
"المعجم الفلسفي" "المحمول" لفولتير أعادني إلى ذلك الكتاب المميّز الذي هو أشبه بعلامة من نور على طريق الإنسانية وهي تكدح نحو إنسانيتها بدمها ودموعها وأصابعها المحترقة وعيونها الشاخصة وغناء فرحها ووجعها وحزنها ولحن انتصارها وانكسارها وأحلامها وكوابيسها وأناشيد أملها وقلبها النابض بمستقبلها المنشود.. أعني ذلك الكتاب الذي اقتنيته أثناء بعض جولاتي ونزهاتي في محلات بيع الكتب القديمة المستعملة بباريس وإن كان الكتاب جديدا يشبه في جدّته تلك الأوراق النقدية حديثة الخروج من آلة طبعها.. هو من تلك الكتب والمطبوعات ذات الجودة العالية التي تعتبر مرونتها وشكلها سرّ قوّتها وكأنها من تلك المطبوعات التي يحملها أهل السفر والرّحلة – وهل الحياة إلا سفر ورحلة وإقامة في الرحيل والعبور.. ؟!– يستهدون بها ويستعينون في دروب سيرهم نحو المنشود.. كتاب يحمل بين صفحاته بطاقة كتبت عليها العبارة التالية: "هدية من وزير الداخلية إلى موظفي الوزارة". وتضمن نصوصا ومنتخبات لأبرز مفكري وفلاسفة الثورة الفرنسية ونصوصا قانونية تتحدث عن الجمهورية والمواطنة وتجرّم التعذيب والظلم والتجاوز مبادئ وقيم هي قاسم مشترك بين جميع الفرنسيين ومصدر فخرهم ونخوتهم.. وشدتني العبارة التالية:" مبادئ الجمهورية تجعل المواطن في فرنسا أفضل من باشا في غيرها..".
بين "محمول" فولتير و "محمول" الوزير مسيرة من النضال والتراكم الحضاري وديوان عبر ومبتدأ وخبر.. ومن هنا تنبع الضرورة الملحة: تنوير رجل الشارع وطلاب المدارس أجيال المستقبل ومدهم بالجرعة الواقية من التعصب والغلو والتطرف وتأهيل المجتمع المدني وتنميته حتى يحسن الدفاع عن كيانه ومواطنته بعد أن يسحب استقالته.. فأين هم أبناء النور.. أحفاد فولتير؟!.

محسن العوني

26-5-2010

المصدر: http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=1...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك