الدجالون وبائعو الأوهام يتاجرون بآلام المرضى

حسناء القنيعير

 

إن بعض الرقاة هم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلًا، ويأكلون أموال المرضى بالباطل، وسلاحهم الدجل بصفته نوعاً من الوهم ينتج عن الجهل، وقدرته على التمدد والاتساع دليل صارخ على عجزنا..

نشر أحد مشاهير (السناب شات) مقطعاً تحدث فيه عن الرقاة الذين يبيعون الوهم ويتاجرون بآلام المرضى، وذكر أن أحدهم طلب منه أن يعلن له مقابل 50 ألف ريال، ما جعله يتساءل عن دخله من تلك التجارة التي تجعله يدفع لإعلان واحد هذا المبلغ؟ وكم المبالغ التي يدفعها لغيره من المشاهير مقابل إعلاناته؟ وتضمن المقطع مكالمة هاتفية مع راقٍ (شرعي) أحد الذين امتهنوا القراءة على خزانات مياه السذج والبسطاء! (يلحظ أن خزان المياه يستوعب في المتوسط ما يعادل حمولة صهريج سعة 12 طناً) فكم نفثة ينفثها ذاك الراقي في الخزان لكي تؤدي مفعولها؟ ومما يثير العجب أنه يسعر النفث حسب حجم الخزان، فإن كان خزان (دبلكس) فالمبلغ 900 ريال، ولأن التدليس بلغ أوجه، فقد أعطاه موعداً بعد أسبوعين نظراً لكثرة طالبي الخدمة، الأمر الذي أثار سؤالا عن المبالغ التي يجنيها من هذا الدجل؟ فهو لو قرأ على خزان واحد فقط في اليوم، فإنه سيكسب في الشهر ما مقداره 27000 ريالٍ، وما يزيد على الثلاثة ملايين في السنة، لكن تخيلوا لو قرأ مرتين أو ثلاث مرات في اليوم على خزانات قصور وفلل كبيرة وربما عمارات عالية، حتما سيبلغ عائده مليار ريال في غضون سنوات قليلة!

وعرض صاحب المقطع بعضا من بضاعة مقروء عليها وأسعارها بالريال (عسل 200، زيت زيتون عصرة أولى 50، بخاخ ماء لبخ البيت 50، فازلين 40، مرهم 30) كل هذه المنتجات تباع دون رقابة في أكثر من 30 منفذًا داخل الوطن وخارجه، فمن المسؤول عن هذا الانفلات والاستهتار والإثراء غير المشروع، لا شك أن المسؤولية الأولى تقع على وزارتي الصحة والتجارة.. ألا تعلمان بهذا العبث؟

ومما يؤكد استهانة ذلك الراقي وغيره بأنظمة الدولة، وبصحة المرضى واستغلالهم ماديًا، ما زعمه ذلك الراقي من أنه يشفي كل الأمراض، ويساعد في إزالة الهم والقلق وجلب الحبيب، بالإضافة إلى إخراج الجن وتفسير الأحلام، وتبعا لهذا الادعاء فقد وردته مكالمات بلغت 17 ألف مكالمة ورسالة، يطلب مرسلوها التواصل مع الراقي! تخيلوا لو اشترى من بضاعته المغشوشة عشرة آلاف شخص، فكم سيجني من هذا التدليس؟ وكم مريضاً قد يموت؛ لأن الراقي أوهمه بالشفاء، وحال بكذبه بينه وبين التداوي في المستشفيات؟

وهنا نتساءل بكثير من المرارة أين وزارة الصحة من العبث بصحة المرضى؟ بل أين الوزارة عن ذلك الراقي الذي قال بالحرف الواحد: "اللي أبي أوصله، المستشفيات اتركوها، خلاص يكفي، خذوا العلاج (يقصد علاجه) بإذن الله تشوفون خير".. إن الاطمئنان إلى عدم المراقبة والمحاسبة، جرّأ هؤلاء المشعوذون على التوسع في الدجل والاستغلال، ولهذا لا نعجب عندما نسمع عن مرضى تردت حالهم الصحية، لأنهم تركوا العلاج في المستشفيات، واستسلموا لدجل هؤلاء.

إن هؤلاء الذين يتاجرون بصحة المرضى ويستنزفون أموالهم، يتكئون على الدين وآيات القرآن الكريم، لكنّ الدين نفسه يحذر مما يفعل بعضهم من دجل واستغلال وتغرير بالمرضى وتحريضهم على عدم العلاج في المستشفيات، (كالمعالج بالكي الذي زعم أنه يشفي من الجلطة) مع أن الرسول حذر من الكي، وجعله آخر العلاج، إني على يقين بأن الطب لو كان متقدمًا في عصر النبوة، لما نهى الرسول المسلمين عن التماس العلاج لدى الأطباء؟

هؤلاء المدعون يتجاهلون قول الله تعالى: (وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ). قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في اليهود ومعناها: لا تأخذوا عليه أجراً، وقيل: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيس وعرض من الدنيا قليل. وبيعهم إياه تركهم إبانة ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس.. وهذه الآيات وإن كانت في اليهود فإن معناها يعم كل من فعل فعلهم.. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في علم الأصول.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرحْ عرْف الجنة يوم القيامة).

فهذا وعيد شديد يدل على أن هذا الفعل إثم؛ وذلك لأنه بتعلمه القرآن الذي هو من أجل الطاعات وأفضل القربات، قصد الدنيا، ويعني ما يأخذه من الناس من أموال مبالغ فيها، علاوة على التدليس والغش والخداع، إذ كيف نجحوا في جعل فكرة النفث في كوب من الماء، نفثًا في خزان ماء؟ أليس هذا تدليساً؟ ثم ماذا يعتبر بيع تلك المنتجات بأضعاف أثمانها في الأسواق، ممزوجة بعدة أنفاس ينفثها الراقي فيها؟ مع ما في هذا من نقل للبكتريا والجراثيم، لاسيما للماء الذي يشربه المرضى، كيف يستقيم هذا؟ وأي عقل يقبله في هذا الزمن؟

لمال المسلم حرمة في الإسلام، وفي الحديث "كلُ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه"، أوَليست المبالغة في تقاضي أموال طائلة من المرضى حرامًا؟ وحسب بعض الفقهاء، فإن كلّ مال حازه المسلم سواء بالسّرقة أو الغصب أو النّهب أو الاختلاس أو الاحتيال أو الغش، ونحو ذلك، يعد من أكل مال الغير بغير حقّ. وفي هذا يقول الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ). يقول ابن كثير: "نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل، أي: بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية، كأنواع الربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل"، فلا حيل أعظم مما يفعلون، وهو أكلٌ لأموال الناس بالباطل، لما فيها من تدليس وخداع واحتيال، ولو قال قائل إن ما يفعلونه تجارة بين بائع ومشترٍ، تكون بالتراضي بينهما، فهذا لا يجوز لأمرين، أولهما المتاجرة بالدين واعتبار القرآن سلعة تباع وتشترى، وثانيهما ما في هذه التجارة من استغلال حاجة المريض الذي يريد الشفاء، ولولا ذلك لما ذهب إليهم.

عندما نهى القرآن المسلمين عن أكل أموال بعضهم بالباطل، فإنه كان يؤسس مبدأ عامًا وشاملًا في الاقتصاد، بأن تكون التجارة عن تراضٍ، وألا تُبنى على استغلال أو استئثار أو احتكار أو إكراه أو ضغط من طرف على طرف آخر، أو جهل أو ظلم أو غش أو غير ذلك.

ختاماً؛ إن بعض الرقاة هم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلًا، ويأكلون أموال المرضى بالباطل، وسلاحهم الدجل بصفته نوعاً من الوهم ينتج عن الجهل، وقدرته على التمدد والاتساع دليل صارخ على عجزنا، إذ لا يقف في وجهه وازع ديني، ولا يحول دون انتشاره منطق، أو سلطة تمنع تجّاره من التغلغل في أوساط الناس، فتروج تجارتهم عبر وسائل الاتصال، مما يجعلهم يحكمون سيطرتهم على العقول التي تنقاد طوعاً لهم.

لهذا يجب إنشاء حملة توعية تشارك فيها وزارات الصحة والتجارة والإعلام، لمحاربة هذا الوباء الذي استشرى في بلادنا بسبب الجهل، فلا بدّ من محاربته كما تحارب المخدرات ومروجوها، فكلهم يتكسبون بأرواح الناس، ويسلبون أموالهم. فلقد كثروا وانتشروا في الأرض والفضاء، انتشار النار في الهشيم، إذ لا تلزمهم شهادة أو خبرة، وكل عدتهم آيات وأدعية يحفظونها، ومنتجات يروجونها ويزعمون أنها أدوية، لا يُعرف مصدرها ولا ماهية مكوناتها، وربما سببت أذى كبيرًا لمتعاطيها.

http://www.alriyadh.com/1585923

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك