ما بين تجريم الاعتداء على المقدَّسات وتجريم التَّكفير
رمضان بن رمضان
منذ الأحداث العنيفة الَّتي هزّت البلاد أيَّام 6 و7 و8 جوان، وذلك على إثر ما تمّ ترويجه خطأ من صوّر مسيئة للمقدَّسات اتّضح فيما بعد أنّ الأمر لا يعدو فبركة لرسوم الغاية منها إدخال البلاد في فتنة تأتي على الأخضر واليابس. هذه الأحداث الَّتي تمّ فيها الاعتداء على مقرّات سياديَّة كالمحاكم ومراكز الأمن وعلى مقرّات الإتّحاد العام التُّونسي للشُّغل، وكذلك مقرّات الأحزاب السّياسيَّة كحركة الوطنيين الدّيمقراطيين والحزب الجمهوري وحزب العمّال التونسي…. جاءت في وقت بدأت فيه البلاد تبصر بصيص أمل ينبلج في آخر النّفق. لقد كشفت هذه الأحداث هشاشة الوضع الأمني والاقتصادي بالبلاد والارتباك الَّذي ميّز ردود فعل الحكومة في تعاطيها مع هذه المستجدّات فكان التّردّد وعدم وضوح الرُّؤية والتَّباطؤ في أخذ القرار ثمّ المؤتمر الصّحفي الَّذي حضره كلّ من وزير الثّقافة ووزير الشُّؤون الدينيَّة والنَّاطق الرَّسمي باسم الحكومة وزير حقوق الإنسان وممثلين عن كلّ من وزارة الدّاخلية ووزارة العدل. تطايرت الإدانات يمينا ويسارا، دون أن يكون أي من الحاضرين على إطلاع كاف على الرُّسوم الَّتي تمّ عرضها بفضاء العبدليّة… أي على مجريات الأمور كما حدثت في الواقع المعيش لا كما تمّ تداوله في العالم الافتراضي وعلى شبكات التَّواصل الاجتماعي خصوصا. لقد انتقل الجدل السّياسي حول هذه الأحداث إلى رحاب المجلس الوطني التَّأسيسي بين من يطالبون بتجريم الاعتداء على المقدَّسات وبين من يطالبون بتجريم التَّكفير وكلّ طرف يطالب بدسترة هذين المبدأين.
I– من منطق الثَّورة إلى منطق الدَّولة:
إنّ هؤلاء الَّذين ينجزون التَّحوُّلات الكبرى في التَّاريخ، يتَّصفون بالجنون في معناه الإيجابي، إنّه الجنون الخلاّق، المبدع في واقع يتَّسم بالسوداويّة، تظلّ أحلام الثَّائرين/ المجانين التوَّاقين للحريَّة قناديل تضيء ظلاما دامسا. فالرَّغبة الجامحة في التَّغيير وإن بدت مستحيلة التَّحقُّق وغير محسوبة العواقب لحظة تجسدها في الواقع يظلّ الجنون الإبداعيّ يغذّيها ويزيد سعيرها تأجّجا. وهي تحطّم كلّ الأغلال والقيود، لا يروي ظمأها سوى نهر الحريَّة المدرار غير مبالية بما قد يعترضها من مخاطر لإيمانها بقدرتها على تحويل المنشود إلى موجود ويحضرني بيت للمتنبي يعبّر عن هذه المعاني خير تعبيرا: “وإذا كانت النُّفوس كبارا * تعبت في مرادها الأجسام”.
يدرك الثوَّار الحالمون أنَّ هناك بيئة حاضنة لأحلامهم تشاركهم آلامهم وهمومهم وتطلعاتهم نحو غد مشرق، لذلك عندما تنطلق الشَّرارة الأولى في الاحتجاج يرتدُّ صداها سريعا في كافَّة أرجاء الوطن. هذه البيئة هي الَّتي ستروي التُّربة بدمائها وتضحياتها كي تنبع أزهار الحريَّة غضَّة طريَّة. إنّ الدّماء الَّتي تسيل في مسار الثَّورة تؤسّس لمرحلة جديدة في تاريخ الأمّة إنّها القربان الَّذي يسفك على مذبح الحريّة.
يقول أحمد شوقي: “وللحريَّة الحمراء باب * بكلّ يد مضّرجة يدقّ.”
تدخل الثَّورة وقد أنجزت أعظم مهمَّة لها – وهي قطع رأس الأفعى – مرحلة الارتدادات الَّتي يحدثها كلّ زلزال لعروش الطُّغاة والمستبدين، هذه الارتدادات تستمرُّ في الزَّمن مدّة قد تطول وقد تقصر حسب حجم المكبوت الَّذي كتم القمع أنفاسه على امتداد عقود، والَّذي يرى أنَّه قد آن الأوان ليتنفَّس ملء رئتيه هذه اللَّحظة التَّاريخيَّة الَّتي عبّر عنها المفكّر هشام جعيّط. بلحظة الانتشاء بالثَّورة وفيها من المساوئ مثل ما فيها من المحاسن وتتجلَّى أساسا في الاعتصامات شرعييها وغير شرعييها وفي الإضرابات وفي قطع الطُّرقات واحتجاز القطارات، وفي إقالة مسؤولين ومدراء عامّين لبعض المؤسَّسات، وممّا يلاحظ هنا أنَّ هذه الانفلاتات مثلما لامست الحياة المدنيّة فإنّها كذلك لامست الحياة الدينيَّة حيث شاهدنا أئمة تعزل ويعيّن أئمة آخرون بدلا عنهم. كمّا أنَّ هذا الانفلات قد تجاوز الخطوط الحمراء حيث تمّ تدنيس المصحف ورسم نجمة داوود على حائط جامع الفتح وتدنيس لمقابر المسيحيين ولبعض كنائسهم وكذلك ما تعرّض له اليهود من تهديدات بالقتل – إنَّ الشَّعب في لحظات الانتشاء هذه استرجع السُّلطة الَّتي أفتكت منه بغير وجه حقّ على امتداد ما يزيد عن خمسة عقود وأصبح يمارس إرادته في شكل فوضوي، غلب عليه منطق الثَّورة وضمر خلاله منطق الدَّولة. من محاسن الانتشاء بالثَّورة حلقات النّقاش الَّتي انتشرت في كلّ المدن حول الوضع في البلاد ولاسيّما إبَّان القضية 1 والقضية 2 وكذلك على امتداد شارع الحبيب بورقيبة وأتيح للتُّونسي أن يعبّر عن آرائه بكلّ حريَّة وأن يناقش أخاه التُّونسي في كلّ المواضيع وأن يختلف معه… لقد أصبح الفضاء العام مدرسة كبيرة للتّدرب على الديمقراطيَّة واحترام الآخر والاستماع له. مع أنّ الأمر لا يخلو في بعض الأحيان من التَّشنجات والعنف.
إنّ الثَّورة ينجزها المجانين بالمعنى الَّذي ذكر سلفا ولكن حتَّى تنجح في تحقيق أهدافها لا بدّ أن يقودها العقلاء، لقد آن الأوان لمنطق الثَّورة المنفلت من عقاله أن يترك المكان للدَّولة دون أن يتخلّى عن أهدافه وأن يظلَّ ضمير الدَّولة الحيّ وعين الرَّقيب على تصرفاتها وبرامجها وما تنجزه في أرض الواقع، ولكن دون أن يأخذ مكانها ويستبد بالأمر دونها، إذن آن الأوان أن تبسط الدَّولة سلطتها الشَّرعيَّة على كلّ مناحي الحياة وأن يكون الاحتكام للقانون الَّذي يعلو الجميع وتذعن له كلّ الرّقاب، وهنا مربط الفرس فيما يتَّصل بمسألة الحريَّة.
II– من انتهاك المقدَّس إلى تكفير المختلف:
إنّ التَّجانس الاجتماعي في تونس مثلما يقوم على اللُّغة والدّين والانتماء الحضاريّ والتّاريخيّ. ينبغي أن يقوم أيضا على مبدأي الحريَّة والمساواة فالكائنات الحرّة هي الوحيدة القادرة على التَّعايش فيما بينها شريطة أن تحترم بعضها البعض. وكذلك الشَّأن بالنّسبة للأفراد المتساويين في الحقوق والواجبات ممّا يعزّز إحساسهم بالانتماء ويقوي النّسيج الاجتماعي.
إنّ المساواة تتأسَّس على الوعي الحرّ وذلك لأنّ الوعي لا ينبغي أن يخضع للإكراه. إذ يكون الوعي حرّا في اعتناق عقيدة أو مذهب وهي حريَّة لا تستثني أحدا بل يتساوى فيها الجميع.
بقدر ما يجمع المؤسّسون الأوائل لفكرة المواطنة والدَّولة المدنية في الغرب على مبدأ المساواة، إلاّ أنَّهم في مبدأ الحريَّة يرفضون الحريَّة المطلقة المفضية إلى الفوضى ويرون أنّ الدَّولة هي الجهاز الوحيد المؤهّل لتنظيم الحريَّة دون المسّ بجوهرها ولكن للحدّ من انفلاتاتها الَّتي قدّ تضرُّ بالسّلم الأهلي. يرى هؤلاء المؤسّسون مثل روسو (1712-1778)، أنَّ العقد الاجتماعي يطلب من الأفراد تنازلا كليًّا عن كلّ مالهم من قوّة وحقوق طبيعيّة لصاحب السّيادة، ويرى أنّ هذا التَّنازل هو لصالح الإرادة العامَّة، كما يرى لوك Locke (1632-1704)، أنَّ العقد هو تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم لصالح السُّلطة المدنية. أمّا سبينوزا (1632-1677)، فهو يوسع مفهوم العقد الاجتماعي، ويرى أنَّ تنازل الأفراد عن تسيير شؤونهم بأنفسهم وفق منطق الانفعال وتنظيم الحياة وفق مقتضيات العقل، لذلك حسب رأيه لا يمثّل العقد تنازلا عن الحقّ الطَّبيعيّ بل تأمينا له.
ضمن مفهوم “العقد الاجتماعيّ” ينبغي أن تتنزّل مسألة المقدَّسات، وهي أمر خطير في مجتمعنا، لأنَّ التَّلاعب بها يثير من التَّوترات الاجتماعيَّة ما نحن في غنى عنه لذلك وجب أن يتّم تطارح هذه المسألة ضمن “عقد اجتماعي” يضمن للجميع احترام معتقداتهم ومذاهبهم، وصياغة ميثاق أخلاقي يضبط كيفيّة التَّعامل بين مختلف مكوّنات المجتمع. وأعتقد أنَّ عمليَّة ضبط المقدَّس، وتقنينه تستلزم انخراط العديد من المختصين في ميادين مختلفة كالفلاسفة، وعلماء الدّين، وعلماء الإسلاميات، وعلماء الاجتماع، والأنثروبولوجيين والمؤرّخين…
إنّ مساحة المقدَّس تتَّسع وتضيق وذلك حسب الأديان، وحسب كلّ مذهب داخل كلّ دين، فلو قارنا بين ما هو مقدّس عند أهل السُّنَّة نجده يختلف عن المقدَّس عند الشّيعة، وإن كانا يشتركان في بعض المقدَّسات.
إذا كان احترام المقدَّسات من شأنه أن يعزّز السلم الأهلي، فإنّ التَّلاعب به وتوظيفه لخدمة أجندات سياسيَّة من شأنه أن يوقظ الفتنة النَّائمة ويرمي بنا في أتونها. فحادثة العبدليَّة كشفت أنَّ المتلاعبين بالمقدَّس كانوا من خارج المؤسّسة الدينيَّة – عدل تنفيذ وله انتماء يساري- نجحوا في استثارة مشاعر أقصى اليمين الديني ممّن تغلب عليهم عواطفهم الجياشة ويفتقدون إلى تحكيم العقل والتبصّر في الأمور فوقعوا في شراك ما نصب لهم.
إنّ رفع حكم التَّكفير في وجه أناس أو فئة من المجتمع بدعوى خروجها من الملّة، أمر مرفوض لأنّ المجتمع التُّونسي مجتمع مسلم كما يؤكّد ذلك الفصل الأوَّل من الدُّستور وإقصاء مجموعة من النَّاس أو فردا بمقتضى أمر متّصل بتصنيف أفعال النَّاس وأفكارهم وآرائهم حسب التَّقسيمات الفقهيَّة والأحكام الشَّرعيَّة المتعارفة من شأنه أن يدخلنا في محاكمة النَّوايا والتَّفتيش عن معتقدات النَّاس وعمّا تحويه ضمائرهم من عقائد فاسدة أو عقائد سليمة ممّا يذكرنا بمحاكم التَّفتيش في الأندلس. وهو ما يتناقض جوهريًّا مع حريَّة المعتقد وحرّية التَّعبير. إنّ المستهدفين من حكم التَّكفير، حقّ لهم أن يطالبوا بتجريم التَّفكير. لأنّ الكافر مهدّد في ماله وعرضه ودمه، وهذا التَّهديد إن وضع حيّز التَّنفيذ قد يتمّ تبريره بغطاء شرعي وذلك لأنّ فاعله وحتَّى المشرّع له على يقين أنَّه يقيم حكم الله في الأرض وهنا تكمن خطورة المسألة. إنّ هذا النَّمط من “التَّفكير” يتعارض جوهريًّا على طبيعة الدَّولة المدنيَّة الَّتي تحفظ حرمة الأجساد والأفكار والآراء وهو وليد قراءة للنُّصوص يغيب فيها البعد المقاصدي للنَّصّ ممَّا يجعلنا أقرب إلى الدَّولة الدينيّة الَّتي تحكم باسم الإله وتدَّعي أحقّيتها في إقامة شريعته على الأرض. في حين أنَّ ترتيب الكلّيات الخمس: حفظ المال والدّين والنَّفس والعرض والعقل يجعل حفظ النّفس على رأس هذه الكلّيات وهو مقدّم على حفظ الدّين. رغم أهمّية ما استنبطه القدامى من أحكام ذات أبعاد مقاصديَّة فإنَّ هذه الكلّيات أضحت اليوم في حاجة أكيدة للإثراء والاغتناء بمقاصد أخرى فرضتها الحياة المعاصرة كمقصد الحريَّة والعدل والمساواة.
إنّ وجود فئات داخل المجتمع، لا تؤمن بالدَّولة ولا بمؤسّساتها، وهي عاجزة عن استبطان القوانين والَّتي هي في أغلبها مستمدَّة من روح التَّشريع الإسلامي. يتمثَّل هذا الاستبطان في الاعتقاد بأنَّ الدَّولة هي الجهة الوحيدة المخوّلة بتجريم أفعال العباد من خلال القوانين المرعيّة إنّ هذه الفئات المنفلتة من عقالها والَّتي قد تسمح لنفسها في لحظة من لحظات التَّأزم الاجتماعي وحين يبدو لها أنَّ الدَّولة ضعيفة أو مرتبكة قد تعمد إلى ارتكاب من الاعتداءات ما تحسبه ممّا يوضع في خانة “ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه” وجب إذن ردعها بنصّ قانوني مستمدّ من روح الدُّستور الجديد.
إنّ إمكانيَّة التَّوافق حول صيغة دستوريَّة تجرّم الاعتداء على المقدَّسات – بعد ضبطها – وتجريم التَّكفير أمر ممكن تحقّقه بين مختلف الأحزاب السياسيَّة داخل المجلس الوطني التَّأسيسي. وهو ما كرَّسه الفصل السَّادس من الدُّستور الجديد دستور الثَّورة والكرامة. فهذا التَّوافق من شأنه أن يجنّب البلاد مستقبلا كلّ أشكال التَّجاذبات والتَّوترات الدَّاخليَّة وأن يزيد النّسيج الاجتماعي تماسكا ويقوّي مناعته ضدّ الفتن والاحتراب الدّاخلي. إنّ ضبط المقدَّس وتحقيق إجماع حوله من شأنه أن يمنع أي سلطة تمسك بدفّة الحكم من جعله ذريعة للحدّ من الحريَّات. وإذا كان هناك هاجس من الإسلام السياسي الَّذي قد يلجأ إلى المقدَّس لتوظيفه سياسيًّا في محاربة خصومه. فإنّ النُّصوص المرجعيَّة للفكر الإصلاحيّ في تونس جعلت مقصد الحريَّة مقصدا أسمى للشَّريعة. أنظر كتاب “مقاصد الشَّريعة” للشّيخ الطَّاهر بن عاشور، وكذلك إلى ما كتبه الشّيخ راشد الغنوشي حول الحريّة: “إنّه لا سند حقيقيّا يبرّر الخوف على الإسلام من التَّعدديّة ومن الحريّة عامّة، فكلّ ما أصاب الإسلام والمسلمين كان في غيابهما. إذا كان هناك خطر حقيقيّ نخشاه على الإسلام فهو جمود العقول واستبداد السّلطات. أمّا الحريَّة فخير وبركة ومقصد عظيم من مقاصد الإسلام.” (انظر: راشد الغنوشي، الحريَّة أوّلا: نشر على موقع الجزيرة نات بتاريخ 21/11/2009).
هكذا يبدو الإسلام السّياسي في بلادنا على وعي تامّ بخطورة الانحراف عن مبادئ الدَّولة المدنيَّة نحو نمط من الحكم قد يقودنا شيء فشيئا إلى استبداد جديد بعباءة دينيَّة فالمراجعات الفكريَّة الَّتي أقدم عليها الإسلام السّياسي تحت ضغط الحداثة والقيّم الكونيّة لحقوق الإنسان تمثّل خيّر ضامن لمجتمعنا من العودة إلى الوراء والارتداد عن مكتسبات الثَّورة وأهمّها الحريَّة والعدالة والكرامة الوطنيَّة.
المصدر: https://www.alawan.org/2017/03/08/%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AA...