الإسلام السوريّ..ما له وما عليه..
لحديث عن الإسلام السوري ليس حديثاً. منذ استقلال سوريا يشغل الإسلام جزءاً من حيّز الفعاليّة السياسيّة والأهليّة في الدولة. هذا الحديث يُستَجد كلما دخلت سوريا في حالة من الفعل السياسيّ، أو عند إحداث أمرٌ سياسيّ وإجرائي فيما يتعلق بالعرب أو بمصيرهم ومستقبلهم، مثلاً، في هذه المرحلة الحديث عن الإسلام ودوره أستجدّه الحراك الشعبي، ولا نستطيع القول: إنّ النظام هو من افتعله، وعند نشوب الحرب الخليجيّة الثانيّة تحرك الإسلاميون السوريون على مستوى أئٍّمة الجوامع والخطباء في الحيز العام لنصرة صدام حسين (رئيس العراق المخلوع)، وعندما فشل صدام في مواجهته في عاصفة الصحراء اتجهوا نحو فلسطين. وعند سقوط النظام العراقيّ البعثيّ انفعل الإسلاميّون السوريون شأنهم شأن غيرهم من الإسلاميّين العرب وانضموا إلى جوقة “المجاهدين العرب” الذين أتوا إلى العراق من كل حدب وصوب للدفاع عن نظام صدام حسين. وما أن أخفق صدام حسين في إنقاذ نفسه ونظامه حتى تحول الإسلاميون إلى ” مجاهدين” لمحاربة قوات التحالف الدولي معلنين العراق عدداً من الإمارات الإسلاميّة. لكن سرعان ما فشل مشروعهم، وعانوا الويلات حيث قتل بعضهم والبعض الآخر تمّ اعتقالهم أو ربما فرّوا من العراق. وفي أثناء حرب تموز في لبنان تحول كل الإسلاميين إلى ما يشبه جنود لدى “حزب الله”، وما أن بدأت الحرب الإسرائيليّة على لبنان حتى استنفر كلُّ الإسلاميين مقدّمين أرواحهم فداءاً ل”حزب الله” متحدّين كل الصعوبات، متناسين الطائفيّة، ونادراً ما كنت تسمع حزب الله على أنه “حزب شيعي”. كان الصفة الوحيدة الذي يتمتع بها “حزب الله” هي “حزب المقاومة”.
والحقّ، أنّ الإسلاميين السوريين شاطروا غيرهم من الإسلاميين العرب، حيث انضمّوا إلى التظاهرات التي تقام ضد بعض السياسات الغربيّة في المنطقة، وتحديداً عند افتعال قضيّة الرسوم الكاركاتيرية المسيئة إلى الرسول(ص) متناسين قضاياهم المحليّة. ولكن عندما فصلت السلطات السوريّة المنقّبات عن مؤسسة التدريس في سوريا لم يحرك الإسلاميون السوريين ساكناً.
يمكن القول إنّه منذ أن استلم حزب البعث السوري الحكم، نشط الإسلاميّون سياسيّاً مرتين، مرّةً من بين 1979 الى 1982 ، والفترة التي كانت قاتلة بالنسبة لهم، ومرّةً أخرى في مرحلة “ربيع دمشق” بداية استلام بشّار الأسد الحكم. وحيث يشاركون الآن في الحراك الشعبي، فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، من هو الإسلام الذي يشارك في الحراك؟ في الحقيقة إن للإسلام دوره في تفعيل الحراك، إلا أنّ هناك ألوان للإسلام السوري، فمثلاً:
جماعة “الإخوان المسلمين”، إنّه حزبٌ تاريخيّ، له مساهمات في الحياة السياسيّة السوريّة، ساهم إلى جانب القوى والأحزاب السوريّة في ممارسة الحياة الديمقراطيّة ما بين 1947 إلى 1957 حتى أثناء منافسته للانتخابات لم تسجل نقطة سوداء فاقعة في سجله الديمقراطي. كان ممثليه إلى جانب خالد بكداش-الشيوعيّ العريق والذي مات ولم يؤمن ببرسترويكا غورباتشوف وغلاسنسونت حتى أنّه لم يقرأ “أنباء موسكو” الجريدة الوحيدة لتنقل أخبار التغيير والعلانيّة في بلاد السوفييت للعالم العربي- يجتمعون تحت سقف برلمان السوري. إلا أنّ هذا الحزب العريق لم يستطع الحفاظ على سلوكه الديمقراطيّ.
يمكن القول إن وقوعه في مطبّ العنف مع النظام أفقد رونقه (أو صبغته ) الديمقراطيّ أو السلميّ، وما إن شارك في دوامة العنف مع النظام في ثمانينيات القرن المنصرم حتى ابتعد الشارع السياسيّ والشعبيّ عنه وصار حزباً مخيفاً. لم يحسن” الإخوان” الخروج على السطح إلا مع بداية “ربيع دمشق”، ويبدو كأن هناك إلحاح أو نيّة الأحزاب والقوى والشخصيّات السوريّة القوميّة والعلمانيّة لاستعادتهم وإعلان الشراكة معه ولا سيما في “إعلان دمشق” للتغيير الديمقراطي. كأنّ التعاون هذا قد صار دافعاً لحزب الإخوان كي يصدر وثيقةً ويتبنَّ دولة المدنيّة ودولة المواطنّة الحقّة في بداية هذا العقد، إذ حاول أن يتواجد في نشاط “ربيع دمشق” وطرح أفكاراً ومواقف كانت تأتي عبر الرسائل- قرأ الناشط علي عبدلله رسالة “الإخوان” في منتدى الأتاسي وصار سبباً لاعتقاله لمدة-. في داخل سوريا لم ينضم “الإخوان” بشكل مباشر إلى “إعلان دمشق”، لكن في الخارج عيّن هذا الحزب ممثلين له في منظمات “إعلان دمشق” بشكل مباشر. الخطأ الكبير الذي وقع فيه ثانيةً هو انضمامه إلى التحالف مع عبد الحليم خدام في “جبهة الخلاص الوطني” الأمر الذي أثار مخاوف العديد من الأوساط، وكان السؤال الوحيد يطرح في ذاك الوقت هو، كيف قفز “الإخوان” على ما فعله خدام في أحداث الثمانينيات؟ وما لبث وبعد أن خفّ ضوء ” إعلان دمشق” اثر زجّ قيادته إلى السجن بعد تشكيل مجلس وطني له، التجأ الإخوان إلى البحث عن منفذٍ للحوار مع النظام السوريّ. وما أن أعلنت إسرائيل الحرب على غزة حتى أعلن”الإخوان” تجميد معارضته للنظام، وأصدر بياناً وأعلن وقوفه إلى جانب النظام. وتحدث الإعلام الأجنبيّ والعربيّ عن وجود مفاوضات بين النظام السوري والإخوان، والغريب أنه (حزب الإخوان ) لم يبادر إلى نفي هذا الخبر أو تأكيده، ممّا أعاد إلى ذاكرة المهتمّين انتهازية “الإخوان” وتذبذب مواقفه. وعندما افتعل الثورة في مصر بعد نجاحها في تونس وفيما كان النظام السوري يقف إلى جانب الشعب المصري ويقول بأن رياح التغيير سوف لن تمر من سوريا حتى دعا “الإخوان” النظام السوري إلى التنازل وإجراء الحوار مع المعارضة والانتقال بسوريا إلى النظام الديمقراطي. ومع انطلاق الثورة في سوريا ادّعى “الإخوان” بأنه هو وراء الثورة إلا أن الوقائع على الأرض تنفي ذلك. للإخوان دور نسبي في الثورة، والكثير من السوريين لا يرون في “الإخوان” أيّ أمل، ولعل السبب هو تنقلاته من مكان إلى مكان، وقفزه على ضحايا الثمانينيات ليتحالف مع خدام، كما أنّه لم يقدّم اعتذاره للسوريين في تحمله المسؤولية المشتركة مع النظام في أحداث الثمانينيات. والخطأ الثالث هو اعتماده بشكل كلّي على تركيا مما أساء إليه أكثر لأنه لا يمكن لهذا التعاون التركي الإخواني أن يبعد عن أنوفنا ريح الطائفيّة. إلا أن ما يحدث وحدث مع “الإخوان” لا يعتبر نهاية التاريخ بالنسبة له إذ توجد إمكانية إصلاح ما يمكن إصلاحه، فيما إذا أراد الإخوان ذلك، ولعلهم اليوم أمام استحقاق يدفعهم إلى التفكير بروح قبول الآخر والاعتراف آخذين بعين الاعتبار هواجس المكونات الحزبيّة والطائفيّة والعرقيّة.
النوع الثاني من الإسلام هو الإسلام السلطة، وهو الإسلام الذي ما زال يقف إلى جانب خطاب السلطة، ويروّجه ويبرّره شرعياً مدعوماً بالأحاديث والآيات القرآنيّة وكذلك تكرار القصص التاريخيّة الإسلاميّة المنتقاة بجدارة، ولعل هذا الإسلام (الإسلام السلطة) استفاد منه النظام في ثمانينيات القرن المنصرم بالرغم من أنّ مؤسسة الإسلام السلطة في ذاك الوقت كانت تتألّف بشكل ملفت من أبناء الأقليّات، ولا سيما عائلات كردية دمشقيّة مثل آل البوطي (محمد سعيد رمضان) وآل أحمد كفتارو وشيخو، وغيرهم. وفي الحراك الحالي يسعى هذا الإسلام إلى بلورة مشروعيّة النظام الحالي عبر إقناع شعبيته على أنّ النظام فعل كذا وهو يفعل كذا. كما يمكن القول إنّ الإسلام السلطة اليوم معتمدٌ على طبقة الإسلاميين من أهل المدن، وكذلك على بعض التجّار في مجال الصناعة والعقارات من مراكز المدن الكبيرة إضافة إلى المعاهد الشرعيّة، ومؤسسات ودور الأوقاف، عدا عن الإسلاميين الذين لهم الامتيازات.
الإسلام الشعبي: وهو الإسلام الذي ينتعش في هوامش المدن والأرياف لا يرتبطون بالإسلام السياسي بأيّ شكل من الأشكال. تعاطفهم ووقوفهم إلى جانب الثورة من منطلق الوجوب في الإسلام، وحسب التكافل والتضامن من منظور إسلامي. وهذا النّوع من الإسلام له ديمومة لأنهم ينطلقون ببراءة وعطف إنساني، وأثبت الحراك السوري أنّ هذا الإسلام لديه مقدرة كبير في إجراء التحول في القاع السياسيّ. ليس لهذا النوع من الإسلام أيّ مشروع سياسيّ ولعل مردّ ذلك إلى أنّهم لا يملكون أي صيغة تنظيميّة لهم. لا يهمّ هذا الإسلام من يتولّى خلف النظام الحالي لكن ما يهمه هو إحداث التغيير في بنية الدولة وإزالة الفوارق من كل الجوانب الحياتيّة. والإسلام الشعبي لايُغرّ بالشّعارات والهوبرة لذلك نرى أفراده يقفون إلى جانب من يقول:” المجلس الوطني السوري يمثلني” لكنهم لا يثيرون الخلاف مع المعارضة الداخليّة، وأحياناً يلعبون دور الوساطة ما بين المعارضة نفسها وكذلك بين الشارع والسلطات المحليّة، ويتألّف هذا الإسلام من مؤذّّني الجوامع وبعض وجهاء مؤسسة الإفتاء وروّاد الجوامع، ومن بعض مؤسّسات المجتمع الأهليّ و الجمعيات الأهليّة، وهذا النّوع يشكل اليوم وقود الحراك.
الإسلام المقاوم للغرب وسياساته، وهذا الإسلام يتراوح خطابه بين متطرف وأميّة سياسيّة، وينقسم إلى نوعين: الأول : هم الذين عادوا من الحرب العراقيّة ولم ينخرطوا في أي تنظيم جهادي لكنهم لا يطيقون الأنظمة العربيّة حيث ينظر هذا النوع من الإسلام إلى الأنظمة العربيّة على أنّها هي التي جلبت الغرب (العدو). وسبب مشاركتهم للحراك يعود إلى أنهم يريدون تعزيز الإسلام.. والنوع الثاني: الذين عادوا من العراق وانخرطوا في إحداث التنظيمات ولعلّهم تصادموا مع السلطة في فترات متقطعة عدّة، ومن يدري ربما كان سبب انخراطهم في الحراك هو أنّهم يرون أنّ النظام خانهم بعد توقيع الاتفاقيات الأمنيّة مع السلطة العراقيّة.
الإسلام الإعلاميّ، وهو الإسلام الذي يؤثّر في حماسة الإسلاميّين من خلال المنابر الإعلاميّة التلفزيونيّة، كقناة”وصال”، و”صفا “، ورأينا كيف أنّ الخطاب الداعي “عرعور ” له صدىً في عدد من المناطق مثل ،ريف إدلب ومعرة النعمان وبعض الأماكن من ريف دمشق، ولعلّ هذا النوع من الإسلام قد أساء أحياناً إلى الحراك، حيث استخدم مفرادات نابية، وكذلك تحدثّ أفراده بروح من الطائفيّة. هذا النوع وإن كان له تأثير على صعيد التعبئة الشعبيّة إلا أنّه كان مثار المخاوف لدى النخبة المعارضة منها ونخبة الحراك أيضاً.
الإسلام الكردي، يمكن القول إنّه لا يوجد حيّزٌ إسلاميّ سياسيّ كرديّ، ولكن بعد مقتل الشيخ معشوق الخزنوي في أواسط هذا العقد تشكّلت نواة هذا النوع من الإسلام من خلال التواصل مع أبناء المغفور له المعشوق الخزنوي. والآن يتواجد أبناء المعشوق الخزنوي في كلّ محافل المعارضة في المهجر. لا يرى ابن الخزنوي علمانيّة الدولة مشكلة للإسلام وكثير من المّرات تفوح منه ريح النيو الليبرالية ويؤمن بكل بنود حقوق الإنسان. شارك ابن معشوق الخزنوي في أكثر من مؤتمر من بينهم المؤتمر الذي عقد في تركيا وكان مدافعاً شرساً عن حقوق الكرد في سوريا. والإسلام الكردي على غرار غيرهم من الكرد يرون أنّ بقاء اسم سوريا”الجمهورية العربيّة السوريّة” يعني بقاء آثار النظام ويسعون أن يكون اسم الدولة في المستقبل ” الجمهوريّة السوريّة”. ويشارك هذا الحراك ببيانات وإصدار المواقف التضامنيّة.
قصارى القول إنّه لا يمكن تجريد الحراك من الحيّز الإسلامي، ولعل ما دون التنظيمات الإسلاميّة هو إسلام يساعد الحراك على الديمومة والاستمراريّة، ووجودهم جزء من شروط نجاح الحراك. بيد أن الإسلام السياسيّ المتمثّل في التنظيمات المعروفة منها وغير معروفة لم يستطع(حتى الآن) إنجاز مشروع إسلاميّ متطور ومتنور يُطمئن بقيّة قلوب المكونات الإيديولوجية والدينيّة والعرقيّة، وقد يكون من المثير للاندهاش أن لا نرى مؤتمراً يضم الإسلاميين جميعاً كلهم على أن يخرجوا نهاية المطاف بوثيقةٍ شفافةٍ تحدّد أفقهم وسير تواجدهم، ولعل بقاء حالهم في هذا الشكل يزيد من شكوك من حولهم وقد يصيرون يوماً ما عبئاً عندما تُعاد صياغة الدولة ونظامها من جديد. والسؤال، هل بوسع الإسلاميين السوريين إنجاز صيغة إسلاميّة منسجمة مع الواقع السوري التعددي؟ هنا مربط الفرس.