على أيّ مذهب؟
سؤال جال في ذهني حين كنت أصلي الجمعة في مسجد من مساجد تركيا، على أي مذهب سيكون الحساب يوم القيامة؟
طرحته في تويتر، ليس جهلاً بالجواب، وإنما لأجعل الإجابة منطلقاً للنقاش، فكانت الإجابات مختلفة، وبعضهم ظن أن مجرد قوله على الكتاب والسنة سيكفيه، وبعضهم ذهبت به الظنون بالفقير إلى الله وعفوه كل مذهب، ليس فيها حسن ظن، ولا إيجاد عذر، أو أخذ بيد! وعزائي في هؤلاء أن هذا هو مسلكهم عموماً في من يخالفهم، لا يرون فيه إلا ما تمليه عليهم ظنونهم السيئة، كما قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
فلهم ما ظنوا ولي ما قصدت، والله حسبي ونعم الوكيل.
ثم إني سطرت هذه الكلمات في يوم جمعة آخر في نفس البلد، وأرى كثيراً من الاختلاف في الفهم والتطبيق لشعائر هذا الدين.
وسأنطلق فيها من بعض الإجابات التي كانت تنص على اتفاقنا في الأصول وإن اختلفنا في الفروع. وإن كان في هذا نظر، حيث إن الأصول المرادة فيها ما هو مختلف فيه، ولكني سأتكئ على هذا في الجواب.
إن تساؤلي ليس شكاً في ديني ولا تشكيكاً فيه، معاذ الله! ولكني أردت حفز الأذهان للنظر في أسباب كثيرة فرقت أمتنا، ووسعت البون بين فرقها فلم تعد تلتقي، وصارت تبحث عن كل سبب يزيد البون اتساعاً، ويزيد نار الفرقة اشتعالاً!
نحن أمة محمدية، قد تختلف عقولنا في فهم النص، نعم النص من كتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، واختلافهم مدون ومحفوظ، وأتباع كل فريق ما زال موجوداً، وبهذه الأفهام اختلفت المذاهب وتشعبت الآراء واختلفت الأقوال حتى بلغ بها ذوو الأفهام القاصرة حدّ التضاد!
لكن دعونا نقرب الفهم بطريقة الشرح والمثال، رجلان توضأ كل منهما للصلاة، ثم أكلا لحم جزور، فأعاد أحدهما وضوءه لأنه يرى أكل لحم الجزور ناقضاً للوضوء، وصلى الآخر دون أن يعيد وضوءه لأنه لا يراه ناقضاً، أيهما صلاته صحيحة، وأيهما باطلة صلاته؟
هذا مثال له علاقة في عمود الدين، وأول ما يحاسب المرء عليه، وليس هو الخلاف الوحيد، فعلى أي مذهب سيحاسب الله الرجلين اللذين صليا وخشعا؟
ستجد أخي الحبيب أن الرجلين متفقان، بل كل المسلمين متفقون على أن لا صلاة بغير وضوء، واتفقوا على أن الصلاة فرض على كل مسلم، واتفقوا على استقبال البيت الحرام، واتفقوا على قراءة الفاتحة وما تيسر، واتفقوا على الركوع فيها والسجود، واتفقوا على التسبيح تعظيماً وعلواً، والصلاة على الحبيب فيها، وعلى التسليم، كما اتفقوا على التكبير!
إن من صلى بغير وضوء فصلاته باطلة، هذا متفق عليه، لكن هل من أكل لحم الجزور قد نقض وضوءه فصلاته باطلة؟ هنا الخلاف.
وننزل على ذلك كل أحكام الفقه المترتبة على بطلان وضوئه، من عدمه.
فوا عجباً لنا نترك كل ما اتفقنا عليه لنوجد ثغرة نفترق من خلالها إلى شيع وأحزاب، ثم إلى ضلال وهدى، وبدعة وسنة، وقادتنا هذه الفرقة والتعصب للرأي والجزم بخطأ أو ضلال مخالفنا، حتى بلغت بنا حدّ تبديعه وتفسيقه، وفي أحيان تكفيره، وإخراجه من دائرة الإسلام بالكلية!
لمَ لا نحرص على الحوار بناء على نقاط الاجتماع والاتفاق بيننا؟ ألم يقل نبينا – صلى الله عليه وسلم -، وهو أيضا ثاني أهم نقاط التوافق والالتقاء بيننا، ألم يقل: من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، الذي له ذِمّةُ الله وذِمَّةُ رسوله، فلا تُخْفِروا الله في ذمَّته. رواه البخاري.
إن المذاهب أفهام وآراء في النص وليست هي النص، وكل نص اختلف الناس في فهمه فالأمر فيه جلل، فلا ينبغي لنا جعل الأفهام نصوصاً يحتكم إليها، ويقتتل من أجلها، وتجعل وقوداً لإشعال نار الفتنة بالفرقة واختلاف الأمة حدّ القتال، أو جعلها لقمة سائغة للعدو ينهش من جوانبها ما شاء دون أن يتداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
ومن المقرر نظرياً في مراجعنا وأصول علمائنا أن المسلم يوالى ويحب بقدر ما فيه من طاعة وقرب إلى الحق. أي الحق المتفق عليه.
وهذه قاعدة في الولاء والبراء، لكنّ الناظر في أحوال كثير من المختلفين اليوم، لا سيّما أولئك الذين وضعوا أنفسهم في الصدارة، وعينوها مقياساً للحق وميزاناً للاتباع، ترى فيهم الجهل العميق بهذه القاعدة من حيث العمل، فإذا أحبوا شخصاً ما أغدقوا عليه من كل أوصاف الثناء والمديح، ولا يقبلون انتقاده ولا تخطئته! وإذا أبغضوا آخر أنزلوا عليه كل كلمات اللوم والذم، ولم يقبلوا منه صرفاً ولا عدلاً، ولا نصحاً ولا رأياً ولا صواباً! وكأنهم لم يقرؤوا خلاف الأولين، ولم يدركوا نقاط اختلافهم واجتماعهم، والأعظم من هذا وذاك أن الساعي في لمّ الشمل ورأب الصدع وحصر الخلاف، يعدونه رأس البلاء، ويناصبونه العداء؛ لأنه لدين الإسلام مميع، ولمنهج السلف مضيع. هكذا يحكمون، ساء ما يحكمون. والله من وراء القصد.