تطور الخطاب الديني في سياق التحالف والتعارض مع الأنظمة السياسية
تشكل السلفية بما هي التزام القواعد والمبادئ التي يضعها المؤسسون والرواد تيارا طبيعيا ومكونا دائما في الأديان والأفكار والفلسفات والمؤسسات. وفي السياسة أيضا (المحافظون) هي باختصار تعني تحويل الثقافة أو الأفكار السائدة إلى مناهج وتطبيقات سواء في الدين أو السياسة، وقد نشأت السلفية الإسلامية في مرحلة مبكرة في العصور الإسلامية، ثم اتخذت اتجاهات مؤسسية وسياسية متعددة منذ بدأ التشكل والتدوين والجدل في الدين والفقه ومتوالية هذا التشكل والجدل في السياسة والحكم، ففي التوأمة التاريخية والدائمة بين قلعة الحكم وهيكل الدين، لا بد أن يؤثر كل واحد منهما في الآخر.
يعد الإمام أحمد بن حنبل رائد الاتجاه السلفي في التراث الفقهي والديني، وإن كان الإمام مالك بن أنس قد سبقه في ذلك، وكان ذلك في سياق الجدل المنهجي الذي بدأ يتبلور في عالم الإسلام، إذ بدأ المنهج الديني عقليا فلسفيا محايدا تجاه السياسة والحكم أو كما يقال في التراث الإسلامي إرجائيا (المرجئة) ولكن السلطة السياسية لم يرق لها ذلك الافتراق بين الدين والسياسة، ولما كان المنهج العقلي سائدا ومهيمنا، فقد دخلت السلطة في تحالف مع هذا الاتجاه، ولكن في سياق من التنازلات والتسويات التي أجراها هذا الاتجاه متحولا بنفسه من الإرجاء إلى الحنفية نسبة إلى أبي حنيفة، وتعني التنظيم المنهجي العقلي للفقه والتراث الديني، أو الاعتزال (العقلانية الممنهجة والمنسجمة مع السياق الديني والسياسي) واتخذت السلفية (الحنابلة أو أهل الحديث) خطا معارضا للسلطة وتحالفها مع المعتزلة والأحناف، وتعرضت السلفية للاضطهاد السياسي فترة من الزمن وبخاصة في عهد المأمون والمعتصم والمتوكل من الخلفاء العباسيين، ولكنها نجحت في اختراق الجمهور والجند، وأجبرت السلطة السياسية على وقف الاضطهاد ثم إعادة التحالف معها بدلا من التحالف مع العقلانية والرأيوية في الدين، وبدأت هذه الاتجاهات في الانحسار والتراجع أمام المد السلفي أو التوفيق بين العقل والنقل (الشافعية والأشاعرة)، بل وتحول الصراع من كونه في مواجهة بين أهل الرأي وأهل النص، إلى مواجهة بين أهل الحديث الذين تسموا بأهل السنة والجماعة في مواجهة الأشاعرة، وأحيانا يطلق على هذا الصراع أهل السلف وأهل الخلف، والحال أنه صراع أثّر وغير في الاتجاهين؛ فقد نزع الحنابلة باتجاه التصوف والعرفان والمنطق، ونزع الأشاعرة باتجاه النقل والنص، ولم يعد الفرق بين الاتجاهين كبيرا أو واضحا، ثم لحق بهما اهل العقل من الأحناف والمعتزلة والماتريدية واقتربوا منهما كثيرا، واختفى الطابع السياسي والعقدي للخلاف، ليتحول إلى جدل فقهي ومنهجي في الاستدلال والأخبار، ...
ثم صعدت السلفية مرة أخرى في مواجهة المد الشيعي الذي اكتسح العالم الإسلامي، وعبر عن ذلك بوضوح ابن تيمية الحنبلي في القرن الرابع عشر، ولكن الانتصار التركي العثماني الحنفي أعاد دمج وصياغة العالم الإسلامي من جديد، وعادت السلفية مذهبا فقهيا أقل تأثيرا وبخاصة مع تطور المذهب الحنفي برعاية الدولة العثمانية، وتطور المذهب الشافعي برعاية الأزهر والمؤسسات الدينية الاجتماعية في الشام مثل المسجد الأموي في دمشق، والمالكي برعاية السلطنة المغربية ومسجد الزيتونة في تونس، ثم عاود الظهور مرة أخرى في اتجاهين: أحدهما علمي فكري في مصر في مواجهة المد العلماني الليبرالي وموجة التأثر في الغرب، وبرز في ذلك رشيد رضا ومحب الدين الخطيب في مصر، ثم ناصر الدين الألباني في سوريا، وفي اتجاه سياسي في الجزيرة العربية على يد محمد بن عبد الوهاب.
وتطورت السلفية برعاية الدولة السعودية الحديثة، وأنشأت مؤسسات وجامعات وتحالفات علمية واسعة في العالم الإسلامي، وكان طابعها علميا أو في اتجاه محافظ اجتماعيا ومعتدل سياسيا، ينزع إلى المشاركة والتعاون مع السلطات السياسية، لكن ظهرت وفي سرعة سلفية احتجاجية وجدت في الدولة الحديثة خروجا على منهج السلف، ودخلت في مواجهة مع الدلة الحديثة انتهت بطبيعة الحال باختفائها فترة طويلة من الزمن، لتعاود الظهور في سبعينات القرن العشرين في حالة مواجهة مسلحة يائسة انتهت أيضا بالقضاء عليها.
وظهرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر في أواخر العشرينيات مستلهمة النموذج السعودي الناشئ، وقد تكون اقتبست التسمية والشعار (السيفين والمصحف) وتشكل تعاون وتأثير متبادل بين الإخوان المسلمين والسلفية السعودية، تأثر الإخوان بالمنهج والفكر السلفي وساعدوا الدولة السعودية في تحديث المناهج السلفية وتطويرها في صيغ ودراسات حديثة تصلح للتدريس في المدارس والجامعات، وفي استيعاب الحداثة الغربية وتطبيقها معادا إنتاجها في صيغ إسلامية او موافقة للإسلام. وساهمت الجامعات السعودية الحديثة في تطوير وتحديث الفكر الدعوي والديني مؤثرة بذلك في اتجاهات وبناء الجماعات السلفية والإخوانية أيضا.
وفي نمو وصعود جماعة الإخوان المسلمين ثم المد الديني في سبعينيات القرن العشرين تفاعلت السلفية مع الحالة الناشئة باتجاه التأثير فيها والاقتباس منها، وظهرت اتجاهات وجماعات سلفية جديدة، مثل السلفية الإخوانية، سواء في تيارات واتجاهات سلفية داخل جماعات الإخوان المسلمين أو في تيارات وجماعات وشخصيات سلفية متأثرة بالإخوان المسلمين، والسلفية القتالية التي أكسبت أفكار ومقولات سيد قطب طابعا سلفيا وقتاليا، أو سلفيات احتجاجية تتبع فكرا متشددا عقائديا ولكن تدعو إليه سلميا، تجمع في ذلك بين الأفكار والجماعات القومية الشوفينية والفكر الديني القطبي، وتعززه بأصوله وجذوره في التاريخ والتراث الإسلامي والفقهي، وتعيد إنتاج وتأويل النصوص الدينية في صياغات وأفكار حديثة مستفيدة أيضا من المؤسسات التعلمية والمناهج البحثية والمصادر الفكرية الجديدة في التعليم والبحث العلمي، ويمكن الإشارة هنا على سبيل المثال إلى محمد قطب وتلامذته، وحزب التحرير الإسلامي.
هكذا يمكن الإشارة إلى اتجاهات وجماعات سلفية كثيرة متباينة، مثل السلفية العلمية، والسلفية التقليدية (علمية في أفكارها لكنها تنحو باتجاه تطبيقات اجتماعية محافظة ومشاركة سياسية)، والسلفية الدعوية أو الإخوانية، سواء في التأثير على جماعات الاخوان في اتجاه سلفي أو في اقتباس أفكار الإخوان وأدواتهم في الدعوة في عمل سلفي دعوي وتنظيمي، والسلفية الاحتجاجية، التي وإن كانت تتفق مبدأيا مع العلمية والتقليدية لكنها ترفض كثيرا مما قبلت به في الحداثة السياسية والاجتماعية والمنجزات والأفكار الغربية التي اجتاحت عالم المسلمين، والسلفية القتالية (الجهادية) التي طورت مناهج الإخوان والسلفية في نموذج استيعابي جديد، والسلفية التكفيرية المتطرفة التي استلهمت سيد قطب ثم مضت بعيدا في المواجهة والمفاصلة مع الدول والمجتمعات، والسلفية العلمية العقائدية، والتي أقامت على مفاهيم الحاكمية والولاء والبراء ومواجهة الفلسفات الغربية والحداثوية تصورا جديدا للحياة والحكم، ولكنها لا تلجأ إلى العنف.
وفي مسار آخر للفكر والجهد الإصلاحي الذي بدأ في القرن التاسع عشر ممثلا بجمال الدين الأفغاني، وخير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي، والمؤسسة السياسية والدينية في الدولة العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ثم في سلسلة يمكن الرمز إليها بمحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ثم رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، ثم حسن البنا ثم سيد قطب ثم عمر عبد الرحمن فأيمن الظواهري وأسامة بن لادن، وبالطبع فإنه ترميز يختزل ويخفي حلقات أخرى كثيرة مشابهة أو مختلفة، ولكنه تسلسل يصلح لملاحظة الأجيال وتطوراتها وتفاعلات الأفكار وعلاقاتها بالأنظمة السياسية والأحداث الكبرى التي مرت بالعالم الإسلامي، ويمكن أيضا ملاحظة التحولات التي لحقت بالفكر الإصلاحي والديني الذي نهض لأجله علماء ومفكرون ورواد في السياسة والإصلاح والفكر منذ منتصف القرن التاسع عشر، ثم كيف آل الفكر والإصلاح إلى حالة خروج عن الأمة ثم العالم والتاريخ، بدأت بسيد قطب ولكنها تحولت بعده إلى أسوأ بكثير على يد شباب وقادة في جماعة الإخوان المسلمين وحولها ومن تحت عباءتها، مثل شكري مصطفى وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن، .. كانت مغامرة قاسية ومدمرة، ألحقت ضررا كبيرا بالإسلام الدين والفكرة وبالمسلمين المجتمعات والدول، وبالموقف العالمي من الإسلام والمسلمين ومصالحهم السياسية والاقتصادية.
وإنه لمن المحير والمحزن أن تكون الحالة الفكرية والإصلاحية الناضجة والمتقدمة التي قدمها الإمام محمد عبده متقدما على أستاذه جمال الدين الأفغاني تؤول إلى سلفية رشيد رضا، وللأمانة فإنها تبدو اليوم سلفية إصلاحية واعية ومتقدمة، إذا قورنت بالغرابة والخروج الذي وقعت فيه جماعات الإسلام السياسي، ثم إلى تشكيلات وممارسات فيها قليل من إصلاحية محمد عبده وكثير من الاقتباسات المرعبة للجماعات والتنظيمات الفاشية والباطنية الموغلة في السرية والتطرف، وتيه وخلط فكري وباطنية سياسية وإصلاحية بددت الوعي الفكري واستنزفت أجيالا من المتدينين والإصلاحيين ثم أدخلتهم في صراعات قاسية ومدمرة مع الدول والمجتمعات، ولكن ذلك كله كان متقدما ومعتدلا بالنسبة إلى الحالة الجديدة التي بدأت تتشكل في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين!
فقد كانت مغامرات حسن البنا وتجاربه ضمن الفكر والجهود المنتمية إلى المجتمعات والدول، ولكن سيد قطب دفع الجماعة إلى الخروج عن الدول والمجتمعات والنظر إليها باعتبارها غير مسلمة، وصارت جماعة الإخوان المسلمين تشكيلا منظما وواسعا ولكنه معبأ بمفاصلة المجتمع والاستعلاء عليه، ولكن شكري مصطفى وعبد السلام فرج وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن وجدوا الإخوان متناقضين مع أنفسهم، بل ومنافقين، يحملون فكر المفاصلة والولاء والبراء ويمارسون مهادنة الجاهلية وترقيعها، فمضوا بنا إلى مواجهة حقيقية ومسلحة وليس مجرد مفاصلة شعورية (كما ينسب إلى سيد قطب) مع الدولة والمجتمع بل والأسرة والمجتمع الصغير المحيط، وأخيرا إلى مواجهة مدمرة مع العالم بأسره، .. وصارت الدول والمجتمعات الإسلامية رهينة لجماعات مسلحة متطرفة لا يمكن توقع أفعالها وردود افعالها، ..
ولقائل أن يقول: ولكن الإخوان المسلمين ليسوا جماعات التكفير والقتل والتطرف! وهم يشاركون في العمل السياسي السلمي والإصلاحي من مداخل وقنوات علنية وقانونية متاحة.
وذلك صحيح من الناحية الظاهرية أو في بعض أجزاء فهم الظاهرة والحالة، ولكنها أفكار وجماعات نشأت في البيئة الفكرية والتنظيمية التي أنشأها الإخوان المسلمون، ولا تختلف في أفكارها ومرجعياتها عن الإخوان، بل هم أصحاب هذه الأفكار والمرجعيات ومؤسسوها، والفرق الوحيد بينهم وبين الإخوان أنهم يطبقون ما يدعو إليه الإخوان ويؤمنون به، ويملك الإخوان من الباطنية والتجربة والمؤسسية والتراكم في القيادات والأجيال والحيل السياسية والتشابك الاجتماعي مع المصالح والمجتمعات ما يجعلهم قادرين على التوفيق بين العمل السلمي والتطرف الفكري، وهذا أسوأ وأخطر ما في الإخوان المسلمين!
فبالنظر إلى التبريرات الفقهية والتأسيس الفكري والنظري الذي يقدمه قادة وكتاب من الإخوان المسلمين يمكن ملاحظة العقل الباطن واللاشعور الذي يفيض بتكفير الناس والعداء للمجتمعات، والأمثلة كثيرة جدا ومتاحة في الكتب والممارسات العلنية والأخبار والتجارب المتسربة من داخل الجماعة، والتي تؤكد هذا الانفصال الكبير عن السياق العام للأمة والمجتمعات والدول، .. وعلى سبيل المثال، فإن ما يؤمن به معتدلو الإخوان المسلمين من جواز المشاركة في المجالس النيابية والوزارات مستند إلى أن النبي يوسف كان وزيرا للملك الكافر!
وبالطبع هناك ردّ متوقع بالكتب والدراسات الفكرية المعتدلة مثل كتاب الحريات العامة في الدولة الإسلامية لراشد الغنوشي، ولكنها مقاربات تواجه التهميش والإقصاء والرفض في معظم سياقات الجماعة، وتعاني هي نفسها من تناقض وخلل، وإن كانت أيضا مرحب بها وتعتبر تقدما فكريا ومحاولة لإصلاح الإخوان المسلمين، .. ولكنها ليست أكثر من محاولة، وهي مقاربات على أية حال تحتاج إلى وقفة ونقاش مستقل وأكثر توسعا.
ما زالت الجهود والمبادرات الإصلاحية التي انطلقت في القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي ملهمة للإصلاح والفكر الإصلاحي، ويجري بحثها واستعادتها على نطاق واسع في مجالات الفكر والبحث والعمل العام، وهي بالإجمال تستوعب التقدم الغربي الذي شكل صدمة كبرى لعالم العرب والمسلمين، ويشمل ذلك المعادين والرافضين للغرب، فهم في واقع الحال يستخدمون أدوات الغرب وأفكاره.
ومنذ مئتي عام والعرب والمسلمون يسألون أنفسهم لماذا تقدموا وتأخرنا؟ ولكننا اليوم نواجه سؤالاً لعله أكثر أهمية وإلحاحاً: كيف آلت المبادرات والمشروعات الإصلاحية والتنويرية بدءاً برفاعة الطهطاوي في أوائل القرن التاسع عشر ومروراً بجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي ورشيد رضا ومحمد بلحسن بلحجوي والفضل بن عاشور ولطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين وعلي عبدالرازق... إلى جماعات وأفكار للكراهية والتطرف يقودها أبو بكر البغدادي وأبو مصعب الزرقاوي؟ وكيف تحولت برامج التحديث وبناء مؤسسات الدولة التي بدأت بمصر (محمد علي) عام 1805 ثم شملت جميع الدول العربية إلى سلسلة من الهزائم المهينة وأنظمة حكم استبدادية وعسكرية، فما قيل عن مآل رفاعة الطهطاوي إلى أبو بكر البغدادي يقال عن مآلات المؤسسين وقادة التحرر في الدول إلى معمر القذافي، وصدام حسين، كما أدت برامج اقتباس التنمية الحديثة إلى فقر وفساد واعتماد على المساعدات الخارجية. وكما يقول برنارد لويس: «لم تساعد الجيوش ولا المدارس والجامعات والمصانع والبرلمانات دول الشرق ومجتمعاتها، ولا أوقفت الفجوة بين العالم الإسلامي وبين الغرب، وكل ما عملته أنها ساعدت بعض النخب».
ولكن بينما نحن متوقفون (تقريباً) عند صدمة لحظة غزو نابليون لمصر في 1798 حدثت في عالم «الغزاة» تحولات كبرى وجذرية تفوق في أهميتها وتأثيرها الثورة الصناعية، وتحتاج إلى أسئلة وصدمات كبرى جديدة. فالعالم يعيد تشكيل نفسه وفق موارد وتقنيات وأفكار وقيم جديدة ومختلفة تعصف بكل ما لدينا وما نحسبه إنجازاً، الدول والمؤسسات والقيم والهويات والطبقات والعلاقات كما الموارد والأسواق! فالدولة الحديثة برغم قصر تجربتها في عالم العرب تواجه تحدياً حقيقياً يهدد مصيرها واستمرار سيادتها وطبيعتها ووظائفها، ويمتد ذلك إلى المدارس والجامعات والمهن والأعمال، وربما كان من أسباب نجاح وامتداد الجماعات الأصولية والمتطرفة أنها تمنح إجابة ما في ظل الشعور بالضياع، وشعوراً جديداً بالهوية والانتماء بعدما فشلت الأنظمة السياسية في تحقيق حياة الرفاه وحياة أفضل لمواطنيها، كما فشلت في بناء هوية ورواية تجمع الأمم والأفراد حول فكرة جامعة، ثم وإمعاناً في الفشل والهروب فقد أدارت ردة مخيفة إلى الروابط القرابية والدينية وحولت بلادها إلى قبائل وطوائف تائهة.
وقد أضافت العولمة وتقنيات الاتصال فرصاً وتحديات جديدة، حيث بدأت الدول تتخلى بسرعة عن كثير من وظائفها وسيادتها لمصلحة الشركات والمجتمع الأهلي أو للقوى والمنظمات الخارجية كالأمم المتحدة، وحلف الأطلسي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية أو للشركات العالمية الكبرى التي تحولت بسرعة فائقة إلى دول وإمبراطوريات عملاقة.
يرى جون اسبوزيتو، الأستاذ بجامعة جورجتاون، أن مشروعات ووعود النخب السياسية بالتنمية وحياة أفضل لهم تتحقق، وارتبط هذا الفشل بالعلمانية، وكان المشهد الذي آلت إليه الدول والمجتمعات يدعو إلى ردود فعل عكسية وغاضبة وبحث عن وسائل وأطر أخرى للإصلاح غير تلك التي سادت طوال هذا القرن، حيث تكونت مجتمعات تستفيد فيها أقلية ضئيلة عدداً من كل مزايا الحضارة الحديثة، وترزح الغالبية في بؤس وفقر، وكان هذا الغنى الفاحش والفقر المدقع على درجة من التجاور والاحتكاك، تؤدي إلى المواجهة المستمرة.
ويقدم ممثلو الحركات الدينية أنفسهم على أنهم سيحققون مجتمعاً أكثر أصالة وعدالة اجتماعية، ويدافعون عن الفقراء والمضطهدين، وقد جذبت هذه الحركات مهنيين ومثقفين وأساتذة وعلماء تخرجوا من أفضل الجامعات وأهمها في بلادهم وفي أوروبا وأمريكا، كما تستخدم بفاعلية التقنية الحديثة ووسائلها الإعلامية في التأثير والاتصال على نحو يبشر بمهارة قيادية وتقنية تؤهلها لقيادة المجتمعات والدول. وبالطبع، فإنه لا يكفي القول إن الفقر والبطالة والتهميش هي الأسباب المحركة للبعث الديني؛ فالمجتمعات تبحث بحرقة عن أصالتها وهويتها، وسيظل الدين والثقافة لهما وزنهما في التنمية.
وكما قلت مرارا في هذا المنبر، إننا لا نملك في هذه المرحلة الانتقالية رؤية واضحة لما يحدث، ولم تتشكل لدينا بعد الحكمة الكافية لبناء فلسفة وأفكار تصلح لبناء نموذج معرفي جديد ملائم، ولا نملك سوى الملاحظة والمحاولة، ولكنا نملك القول أو تشكلت الحكمة الكافية للقول إن المعرفة الدينية كما الإنسانية بعامة تحتاج إلى إبداع مستقل ومختلف عما تشكلت وبنيت فيه المعرفة في المراحل السابقة.
الإبداع يقود الاقتصاد اليوم، وبطبيعة الحال، فإن المبدعين سيقود المجتمعات والدول، وهم الذين ينشئون المعرفة الدينية الجديدة، وقد نكون دخلنا بالفعل في مرحلة جديدة من التدوين والفهم للدين والثقافة والمجتمعات كما الموارد والأعمال والسياسة، ... وإن لم يحدث ذلك، فإنه سوف يحدث حتما، وسوف تنقرض النخبة السائدة، وينقرض معها بطبيعة الحال الأفكار السائدة.
يتشكل الإبداع في السلوك المعرفي والمهني بما هو تراكم المعلومات والمعرفة وتحويلهما إلى إبداع أو حكمة، ويجري ذلك في مسارين لإنتاج المعرفة وبنائها؛ تنظيم المعرفة وفوضى المعرفة، ففي تنظيم المعرفة، وهو المسار التقليدي والأكثر حضورا وتأثيرا ومؤسسية (ولكنه أقل إنتاجا للإبداع والحكمة في مرحلة التحولات الكبرى القائمة) تتشكل وتتراكم المعرفة والمهارات والتجارب وتتطور في عمليات يومية يقوم بها عادة الأكاديميون والمهنيون وعلى نحو بطيء وغير مقصود في تقديم المعرفة وتبسيطها والإضافة والحذف والمقارنة والنقد والتأييد والمعارضة للاتجاهات المعرفية والفكرية والفلسفية وفي العمل اليومي الروتيني في قاعات الدرس والمختبرات والدوريات والنشر والتأليف والندوات والمحاضرات والمؤتمرات والنقاشات العلمية والفكرية. ولكنها في خيرها الكثير تتضمن شرا كثيرا من السلفية المعرفية والجمود والغش والتزوير والسادية والانحياز والتكرار والهدر والتنميط والتنكيل والإقصاء والتهميش. وتتميز أيضا عمليات تنظيم المعرفة بفرص التمويل والإنفاق العام والتبرع. وتمنح للعاملين غيها فرص الارتقاء الوظيفي والتأثير العام والإعلامي والسياسي .. ولكنها تقصي بحسن نية وبسوء نية أحيانا الفكر النقدي والمختلف.
وفي المسار الثاني بما هو البحث عن الحقيقة على نحو مستقل عن المؤسسات والتقاليد القائمة تتشكل معارف وإبداعات من خلال عمليات للبحث عن الحقيقة تخلو من المصلحة والتحيز، وتكون لأجل الحقيقة فقط أو الاقتراب منها. ويقوم عليها عادة مجموعات من المثقفين والمبدعين والهواة غير المتفرغين للفكرة التي يبحثون فيها أو متخصصين يعملون في غير مجالاتهم بعيدا عنها أو بالإضافة اليها، فيقدمون إضافات أو إبداعات مهمة بسبب الدافع القوي، أو تداخل المعارف والعمل في تخومها، حيث تقع عادة الإبداعات والإضافات. مشكلة هذا المسار فقره وعدم الاعتراف به وقلة الوقت .. كما أن حب الحقيقة مثل جميع أنواع الحب بلا مصلحة أمر نادر وغير كافٍ، ولكن هؤلاء الثلة من محبي الحقيقة يمثلون ضرورة كبرى للمعرفة. إذ يمنحونها الجمال والحافز والمشاركة العامة، كما أهم وهذا هو الأهم يمثلون ضمير العمليات المعرفية والرقابة الروحية، بل والمؤسسية على عمليات إنتاج وتنظيم المعرفة.
تمثل موسوعة ويكبيديا مثالا إبداعيا لفوضى المعرفة، حيث يملك جميع الناس فرصة المساهمة والتحرير في إعداد وتصحيح المادة المعرفية، وأنتجوا موسوعة هائلة بعشرات اللغات، لعلها المرجع الأكثر استقبالا للباحثين أو هي على الأقل أول مرجع يقصده الباحثون والكتاب والقراء في خطوات بناء وتشكيل المعرفة، وتصلح ويكيبيديا مثالا يمكن تكراره وتطبيقه في مجالات معرفية ومؤسسية وخدماتية أخرى كثيرة، إذ يمكن إنشاء جامعات ومدارس ومستشفيات ومختبرات ومؤسسات بحثية وتدريبية وإعلامية متاحة للمشاركة في الإنتاج والاستهلاك المعرفي، وأصبح موقع يوتيوب مكتبة هائلة بلا حدود للتعليم والتدريب والثقيف والموسيقى والسينما والترفيه، .. وفي هذه الفوضى الإبداعية وفي قدرة الناس على العمل بأنفسهم وعلاج وتعليم أنفسهم؛ تنشأ أيضا معرفة دينية وإنسانية جديدة، وتنشأ علاقات جديدة بين الدين والسلطة، فتعيد المعرفة تشكيل وإنتاج نفسها متأثرة بالاستقلالية الجديدة ومستفيدة منها.
وكما أن العلاقة بين الدين والسلطة وبين الدين والمجتمعات تعمل الآن في الوقت الضائع، فإن الجماعات والمعارف الدينية نفسها متبوعة بالخطاب الديني القائم والمصاحب لها تتحول إلى منتجات آيلة للأفول، ولم يعد ثمة مجال إلا لخطاب ديني يلائم التحولات والتشكلات المصاحبة للمعرفة، إذ يبدو مؤكدا أن المؤسسات والمعارف والجماعات الدينية تواجه تحديات جوهرية تغير في دورها ومصيرها، ولن تكون بطبيعة الحال في منأى عما أصاب مؤسسات الإعلام والثقافة والمعرفة الأخرى في مرحلة "الشبكية" فكما انحسرت المؤسسات الإعلامية للدولة وضعفت قدرتها على الاحتكار والمراقبة والسيطرة على عالم الفضاء والشبكات وما يتدفق فيهما من معلومات؛ فإن المؤسسات والجماعات والأفكار الدينية أيضا لم تعد قادرة على احتكار المعرفة الدينية، وفي ذلك فإننا في انتظار مؤسسات دينية شبكية مختلفة اختلافا كبيرا وجوهريا، ولن يكون في غضون سنوات قليلة قادمة وجود للمؤسسة الدينية في هيكلها القائم اليوم، ومن ثم لن يكون ثمة معنى للصراع الديني نفسه أو للصراع على الدين! كما لن تظل الجماعات الدينية المهيمنة اليوم على المشهد الاجتماعي والديني.
كان التحالف بين المؤسستين السياسية والدينية ضرورة للطرفين، إذ كان ثمة حاجة ملحة لدعم وحماية التميز والاحتكار الذي نشأ لطبقتي الحكم والدين، التأثير المعرفي والروحي الذي يعزز السلطة القهرية للحكم، والقهر الذي يحمي الهيكل، وهكذا نشأت الجماعات والأفكار الدينية في تحالفها أو معارضتها للسلطة! لكن الشبكية بما هي مساواة مطلقة تنشئ مدنا جديدة مختلفة، ففي القدرة على الحصول على المعرفة وإنتاجها ايضا تتشكل مشاركة عامة جديدة تغير من معنى المؤسسة الدينية، ولعل سؤال الدين وعلاقته بالدولة والمجتمعات والأفراد هو اليوم أكثر تطبيقات اقتصاد المعرفة وتقنياتها؛ ففي واقع الحال لم يعد الدين أداة سلطوية ونخبوية، ولم تعد المعرفة الدينية سراً مقتصراً على طبقة من رجال الدين، ولم يعد الهيكل مقصدا لطالبي المعرفة.
وربما يكون الصراع الديني القائم اليوم هو إدراك واع أو غير واع لنهاية التحالف بين القلعة والهيكل، بل ونهاية الهيكل نفسه، .. فقد تحول الدين من أداة سلطوية إلى أداة فاعلة بيد المهمشين والمعارضين والمتمردين، وربما يكون الحلّ أو المآل تحرير الدين من الصراع وتحرير الصراع من الدين، .. سوف يكون ذلك أمراً حتمياً، ولن يطول المقام حتى يتحول الدين إلى شأن بعيد عن السلطات والجماعات والطبقات، فالشبكية التي حرمت السلطات والنخب من هذا المورد لن تجعله حكراً على الجماعات، أو على أحد من الناس، طالما أنها تمنحه بلا وساطة أو وصاية من أحد أو هيئة.
وإذا كان الواقع المتعين يعبر عن فكرة داخلية تشكله أو تمنحه هويته كما يقول هيغل، وإذا كانت الفكرة الدينية الجديدة هي التي تحلّ نفسها، فإن المؤسسات والجماعات الدينية والخطاب الديني بطبيعة الحال يجب أن تكون منسجمة مع هذه الفكرة!
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D...