البحث العلمي ودوره في تنمية المجتمع
ميدل ايست أونلاين بقلم: أحمد سلمان آل طعمة
لاشك أن بناء مجتمع المعرفة يعد اليوم من أولويات العالم المتحضر بكل جوانبه وأبعاده، ومن أولويات بناء مجتمع المعرفة هو البحث العلمي بكل أشكاله وصوره.
والبحث العلمي هو النواة التي ترتكز عليها بلدان العالم المتقدمة منها والنامية، وتتسابق الدول فيما بينها للحصول على قصب السبق في تملك ناصية العلم، مما جعل تلك الدول أن تسخّـر جميع الإمكانيات المتاحة في خدمة العلم والعلماء ورصد الأموال اللازمة للدراسات والبحوث التي يمكن لها أن ترتقي بالناتج القومي للبلد.
والحقيقة التي من شأنها أن تسهم في رقي البلدان النامية للدخول في التسابق المعرفي، هو توسيع نطاق البحث العلمي بحيث يمكن لتلك البلدان أن تكون في قائمة الصدارة ضمن البلدان المتقدمة، لكن السؤال الذي يدور في الأذهان هو إلى أي مدى يمكن أن تقوم الحكومات والشعوب في تسخير إمكانياتها لهذا الغرض؟ وكيف يمكن لها الاستفادة من مخزونها العلمي لذلك؟
الذي يتصفح التاريخ يرى أن الدول التي كانت تحتل الصدارة بالبحث العلمي هي الدول الإسلامية منذ بزوغ فجر الإسلام حتى سقوط الخلافة العباسية في الوقت الذي كانت أوربا غارقة في فترة مظلمة جرت فيها معارك دامية بين شعوبها حتى عصر النهضة الذي جاء لينقذها من ظلمات الجهل والحرمان إلى الوقوف على العتبات الأولى في سلم الرقي في امتلاك ناصية العلم وتسخير الطاقات لأجل الإسراع بالنهضة التكنولوجية وبلوغ ذروتها في عصر الصناعة.
فالإسلام الدين الذي جاء لهداية البشر كان من أولوياته الاهتمام بالعلم، فقد حث القرآن الكريم على ذلك في مواضع عدة منها قوله تعالى (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) (1)، وقوله تعالى (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا) (2)، كما حث على ذلك رسول الله بقوله (من لم يصبر على ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبدا) (3) وقوله : قيدوا العلم. قيل وما تقييده؟ قال : كتابته (4).
غير أن الأمور تغيرت شيئاً فشيئاً بعدما وقعت الدول الإسلامية بأيدي المستعمرين فحل الخمول فيها وبدأت عصور عبر عنها بكونها "عصورا متأخرة" رغم ما فيها من حركات علمية بسيطة هنا وهناك، وفي المقابل بدأت أوربا عصر النهضة وبدأت المراكز العلمية بالبحث والتنقيب، وكرس العلماء جهودهم للحصول على التراث العربي ونقله إلى أوربا من خلال حملات منظمة من المستشرقين الذين جاؤوا للبلاد الإسلامية لنقل ما تحتويه من كنوز معرفية، إضافة إلى ذلك بدأت الثورة الصناعية في أوربا وإنشاء الجامعات لأجل رفد الصناعة بالطاقات البشرية وبدأ التنافس بين الأمم الكبرى خاصة بعد اكتشاف أميركا وظهور روسيا كطرف منافس بعد حصول الثورة البلشفية فيها.
إن الذي يبحث في تاريخ البلاد الأوربية وعوامل نهضتها يجد أن الحكومات التي تعاقبت عليها هي التي شجعت البحث العلمي وإنشاء المراكز البحثية وإعداد ميزانية خاصة لها والتعاقد مع الباحثين من أجل تطوير تلك المراكز.
والذي يحصل الآن إضافة لذلك هو دخول الميدان الصناعي إليها فبدأت المنشآت الصناعية العملاقة بإنشاء مراكز بحثية خاصة بها للنظر في احتياجات الصناعة من تطوير وإيجاد الحلول للمشاكل التي تظهر خلال تطور العملية الصناعية.
إن المنهج التجريبي لدى البحوث المنشورة هناك هو المنهج السائد الذي يهيمن على أغلب المناهج المعمول بها خاصة في الصناعة.
لذلك ما يعمل تجريباً يضاف إلى ما هو نظري لتكتمل حلقة من البيانات والمعلومات التي تؤدي إلى إيجاد المجهول.
والذي يبدو جليا لدى المتتبعين في شؤون البحث العلمي إن ثمة هوة شاسعة بين ما ينتج من بحوث في عالمنا العربي و العالم الغربي، وهذه الهوة هي التي جعلت التقدم العلمي والتكنولوجي ملموسا عندهم دون غيرهم.
ولعل أغلب الآراء تشير إلى شيء مهم وهو حجم الإنفاق على البحث العلمي في تلك الدول مقارنة مع الدول النامية، وإذا ما لاحظنا ذلك في الدول المتقدمة نرى أن الإنفاق في تزايد مستمر مع زيادة الناتج القومي وهو خطوة تعد مهمة لدى الباحثين في زيادة معدلات البحث العلمي في تلك الدول.
فالمتتبع للإحصائيات السنوية يرى ان الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى في الإنفاق، مقارنة مع الدول العربية التي تعد من بين الدول الأقل في العالم في التخصيصات المالية للغرض نفسه. فقد ذكرت (منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي أن الولايات المتحدة الأميركية تحتل المرتبة الأولى منذ سنوات وتصل نفقاتها إلى 330 مليار دولار كما في أرقام العام 2006. تليها الصين التي وصل إنفاقها في نفس العام إلى 136 مليار دولار، ومن ثم اليابان بمبلغ 130 مليار دولار أميركي. في حين لا تتجاوز نسبة انفاق الدول النامية 4%من الإنفاق العام في العالم.
كما تشير تقارير دولية ودراسات جادة إلى أن البلدان العربية مجتمعة خصصت عام 2003 مبلغ 750 مليون دولار فقط أي حوالي 0,3% من إجمالي ناتجها الوطني للبحث والتطوير، فيما تخصص البلدان المصنعة مــن 1-3% من ناتجها للبحث العلمي، وفي مقارنة بين حال العرب وحال إسرائيل، يتبين أن حجم الانفاق على البحوث في اسرائيل نسبة إلى الناتج المحلي هو حوالي 4%. كما تشير الإحصاءات إلى أن في اسرائيل 12 بحثاً لكل عشرة آلاف مواطن، فيما يبلغ هذا المعدل ثلث بحث لكل عشرة آلاف مواطن عربي). (5)
وبالاضافة إلى ما ذكر نرى أن حجم المنقول – المترجم – من بحوث ودراسات وكتب ودوريات إلى لغتنا العربية يعد نزراً يسيراً إذا ما قورن بما ينقل من لغتنا إلى اللغات الأخرى. وبالرغم من أن تلك الحركة أي الترجمة كانت سائدة في العصر العباسي والعصور الوسطى وقد خلفت لنا الكثير من المصنفات المنقولة من اللغات الأخرى إلى العربية، إلا أنها تراجعت شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم من نسب متدنية مقارنة بالسابق.
وبالرغم من أن لغتنا العربية الجميلة تحتل المرتبة السادسة من حيث عدد الناطقين بها وذلك بعد الصينية والإنجليزية والهندية والإسبانية والروسية، إلا أن الإحصاءات والدراسات تشير إلى تواضع حجم الترجمة في عالمنا العربي إذا ما قورنت باللغات الأخرى والبلدان الناطقين بها. وهذه بعض المؤشرات التي تشير الى ذلك:
فاليابان تترجم حوالي 30 مليون صفحة سنوياً. في حين أن ما يُترجم سنوياً في العالم العربي، هو حوالي خُمس ما يترجم في اليونان. والحصيلة الكلية لما ترجم إلى العربية منذ عصر المأمون إلى العصر الحالي 10,000 كتاب؛ وهي تساوي ما تترجمه أسبانيا في سنة واحدة. وفي النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين، كان متوسط الكتب المترجمة لكل مليون، على مدى خمس سنوات هو 4,4 كتاب (أقل من كتاب لكل مليون عربي في السنة) بينما في هنغاريا كان الرقم 519، وفي أسبانيا 920. كما إن عدد الكتب التي تُرجمت إلى العربية منذ ثلاثة عقود (1970-2000) وصل إلى 6881 كتابا، وهذا ما يعادل ما نقل إلى اللغة الليتوانية التي يبلغ عدد الناطقين بها قرابة أربعة ملايين إنسان فقط (6).
ومن مؤشرات الإنفاق على التعليم، هو نصيب الفرد في سن الدراسة من الإنفاق من الناتج المحلي الإجمالي. فقد بلغ متوسط نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم في معظم البلدان العربية، من منتصف التسعينات من القرن العشرين وحتى عام 2007 حوالي 350 دولاراً (ويصل إلى أكثر من 1300 دولاراً في دول الخليج العربي) مقابل حوالي 2500 دولاراً في إسرائيل و 6500 دولاراً في البلدان الصناعية (7).
من هنا نرى أن أهم ما يجب الاهتمام به من قبل الدول النامية هو الإنفاق على القطاعات المهمة في تلك الدول ومن بينها التعليم والصحة، فزيادة حجم الإنفاق فيهما يؤدي إلى التسارع في النمو وامتصاص البطالة الذي بدوره يؤدي الى زيادة الناتج القومي لتلك البلدان. وهذا بحد ذاته يعد خطوة أساسية في بناء مجتمع المعرفة القائم على البحث العلمي في كافة مجالاته الإنسانية والعلمية والطبية وغيرها مما ينصب في تنمية الفرد وبناء الشخصية الحضارية التي من شأنها التنافس بما تمتلكه من قدرات خلاقة مع ما هو موجود في دول العالم.
ومن خلال التجارب التي خاضتها الدول المتقدمة، نرى أن أهم ما اتجهت إليه في مراحل نموها هو:
1- توفير المراكز العلمية والبحثية والجامعات بما يتناسب مع عدد السكان والذي يعد اليوم في عالمنا العربي في تزايد مستمر.
2- توفير الميزانية اللازمة لها من خلال رصد مبلغ في الناتج القومي ينفق وفق خطة مدروسة ومعدة مسبقاً لاستمرارية الجامعات في عملها أولا واستحداث مراكز وجامعات جديدة تواكب التطور العلمي والتكنولوجي.
3- توفير مبالغ سنوية للجامعات والمراكز البحثية لتغطية نفقات البحث العلمي من أجور الباحثين واللوازم المعدة للبحث ومراكز التعليم المستمر والدورات وكل ما من شأنه أن ينهض بالبحث من الجانبين الكمي والنوعي.
4- الاستعانة بالخبرات الداخلية والخارجية في عملية البحث والتطوير من خلال رفد المراكز بتقارير منظمة حول آليات البحث والنتائج المتوصل إليها وأهميتها في بناء البلد والإمكانيات المتاحة في تطويرها والمعوقات التي من شأنها الحد منها.
إن عملية البناء المعرفي لأي بلد من البلدان لا تتم إلا عن طريق مجتمع واع ومدرك للتحولات التي تجري في العالم، وهذا لا يتم إلا من خلال بتاء الأسرة المثقفة الواعية والتي يلعب الأبوان – وخصوصاً الأم – دوراً هاما فيها، إذ لولاهما لا يمكن وضع الركائز الأساسية للأسرة الفاضلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) الزمر - 9
2) البقرة - 269
3) بحار الأنوار – محمد باقر المجلسي، ط1. ايران، ص177.
4) منية المريد في أدب المفيد والمستفيد، الشهيد الثاني زين الدين العاملي، ط1 النجف د.ت، ص340.
5) حسين نزار فضل الله: مختصر قواعد كتابة البحث، ط1. بيروت، ص 21 – الحاشية.
6) محمد حميد الصواف: الأرقام تفضح عجزنا، فجوة ثقافية واسعة بين العرب والغرب، صحيفة العرب الأسبوعي، السبت 5/ 6/ 2010.
7) عبدالحسن الحسيني: التمنية البشرية وبناء مجتمع المعرفة، ط1 الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008م، ص 99.