الإسلاميون وتحديات ما بعد الربيع العربي
محمد محفوظ
وفي تقديرنا، إن انفتاح السلطات السياسية على التيارات الإسلامية، وفسح المجال لها للنشاط العلني، سيساهم في الآتي:
1- استقرار الحياة السياسية والاجتماعية؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق الاستقرار العميق في ظل سياسات وممارسات إقصائية لبعض الوجودات السياسية والاجتماعية.
2- تهذيب نزعات التيارات الإسلامية، وخلق مسافة كبيرة بينها وبين التوجهات العنفية التي سادت في بعض المناطق العربية والإسلامية من جراء سياسات التغييب والإقصاء.
3- بناء الأوضاع السياسية على أسس الحرية والديمقراطية وصيانة حقوق الجميع في العمل والتنافس في المجال العام، وذلك عبر إرساء آليات وأطر ومؤسسات للتداول والتنافس السياسي بين مختلف التيارات والوجودات السياسية.
وفي هذا السياق من المهم رصد بعض الملاحظات والأفكار التأسيسية المُتعلِّقة بطبيعة العمل السياسي لدى التيارات الإسلامية والإشكاليات المتعلقة بهذا العمل سواء على مستوى العمل أو الممارسة. *الإطار النظري في الفضاء الدعوي والسياسي، هناك دائماً منطقان: منطق الدعوة الذي يتحدَّث عمَّا ينبغي أن يكون، بصرف النظر عن طبيعة المعطيات القائمة، ومنطق السياسة الذي يعتني بإدارة اللحظة وفق المعطيات القائمة، بصرف النظر عن جذورها ودوافعها. ويبدو أن التيارات الإسلامية تعاني الازدواجية في التعاطي مع العمل السياسي من جراء الخلط بين الدعوي والسياسي. ولعل من أهم الخطوات التي ينبغي أن تقوم بها التيارات الإسلامية السياسية، هو الفصل أو التمييز بين الدعوي والسياسي، وذلك من أجل إنهاء المنطق الإطلاقي في التعامل مع الشؤون السياسية المتغيرة. وأن التصورات الكبرى في طورها الدعوي تختلف في طرائق تنزيلها على الواقع عن التصورات في طورها السياسي؛ حيث إنها تتطلَّب التدرُّج ومراعاة معطيات الواقع، فالخطابات الدعوية دائماً ذات طابع رومانسي حالم وتنحو نحو التجريد، أما إدارة العمل السياسي فهي تقتضي الواقعية والتدرُّج ومراعاة الظروف والأحوال.
مع تحولات الربيع العربي ووصول التيارات الإسلامية السياسية إلى الحكم والسلطة، بدأت مهمة تقديم المشروع الإسلامي، بوصفه مشروعاً للتطبيق، وليس مشروعاً للدعوة. ولا شك في أن هذه المسألة تتطلَّب من الإسلاميين بكل تياراتهم وفئاتهم لياقة سياسية وتدبيرية جديدة، حتى يتمكَّنوا من اجتياز المسافة بين الوعد والإنجاز بشكل صحيح ومناسب، فإذا كان الخطاب والممارسة الدعوية في بعض جوانبها، تستطيع أن تتجاوز زمنها ومعطياته المتعددة، فإن الخطاب والممارسة السياسية لا تستطيع أن تتجاوز زمنها ومعطياته؛ لأنها ممارسة تستهدف التعامل المباشر مع معطيات الواقع والزمن وحقائقها المتعددة.
و«يتمتع الدين الإسلامي بقابلية عظيمة للتجدُّد والبقاء شابًّا فعَّالاً، مهما تطاول الزمن أو بَعُدَ زمن الوحي، وبهذه القدرة على التجدُّد فإنه مؤهل للتعامل مع مشكلات الإنسان المعاصرة، بذات الكفاءة والفعالية التي عالج بها حاجات الإنسان قبل أربعة عشر قرناً من الزمان. إن السر في هذه القدرة يكمن في تعالي النص الديني على الأفهام البشرية المرتهنة، بالضرورة، لظروف الزمان والمكان، فإذا أبقينا النص في تجريده فإنه سيتيح لنا إمكانية الفهم المتجدّد في كل زمن، أما إذا قيّدناه بقيود البيئة فسيكون -كسائر الأيدلوجيات البشرية- مؤقتاً ومحدوداً، ومرتهناً للشروط الخاصة بتلك البيئة، وفي هذا يُروى عن عبدالله بن عباس الذي اشتهر بلقب ترجمان القرآن قوله: «لا تفسروا القرآن فإن الدهر يفسره»، وفي هذا القول إشارة ذكية إلى الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، حقيقة أن فهم الأجيال المتأخرة للقرآن ستكون أعمق وأشمل من فهم الأجيال المتقدمة، على الرغم من قرب هذه لزمن النزول، وبعد الأخرى عنه، ذلك أن فهم القرآن في زمن سيكون مشروطاً بمستوى العلم والعقول في ذلك الزمن، ونعلم أن تقدم الزمان يتوازى غالباً مع تقدم العلم ونضج العقل البشري» . وفي تقديرنا، إن نجاح التيارات الإسلامية في تجربة الحكم والسلطة في هذه الحقبة، مرهون إلى حدٍّ بعيد بقدرة هذه التيارات على نقد تجربتها السياسية السابقة، وتفكيك بعض عناصرها، وصياغة رؤية أو مشروع سياسي جديد، يأخذ بعين الاعتبار الكثير من التحولات والمتغيرات على الصعد السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية..
والذي ينبغي أن يقال في هذا السياق: إن تصدر التيارات الإسلامية إلى المشهد السياسي في دول الربيع العربي، لا يعود إلى عمل هذه التيارات على الصعيد السياسي، وإنما يعود إلى العاطفة الدينية المتجذرة في نفوس وعقول المجتمعات العربية، وإلى الأنشطة الاجتماعية والخدمية والثقافية التي تقوم بها هذه التيارات؛ مما وفر لها علاقة طبيعية مع الناس، وإلى تراجع تأثير الوجودات الأيديولوجية والفكرية والسياسية الأخرى المنافسة للإسلاميين. أسوق هذا الكلام ليس من أجل التهوين أو التقليل من الإنجازات السياسية الأخيرة التي حققتها هذه التيارات، وإنما للقول: إن هذه الإنجازات وهذا التصدر للمشهد، جاء بفعل أنشطة الإسلاميين الدينية والثقافية والاجتماعية وليس نشاطهم السياسي، مع إدراكي التام أن تراجع هذا النشاط يعود إلى طبيعة الأنظمة السياسية الشمولية التي كانت تمارس الظلم والحيف بحقهم وتمنعهم من ممارسة حقهم الطبيعي في الشأن السياسي العام.
فالمرحلة الحالية بالنسبة إلى الإسلاميين هي مرحلة بناء المشروع وليس رفع الشعار. فإدارة المجتمع والسلطة لا يمكن أن يتم بالشعارات المجردة، وإنما بالخطط والمشاريع التي تعالج مآزق الواقع وأزماته المتعددة.. وإننا «بحاجة اليوم إلى اجتهاد يجيب على حاجات عصرنا، ويتناول خصوصاً الأمور العامة ذات التأثير المباشر أو غير المباشر على معظم الناس، في الشأن السياسي وفي غيره من الشؤون التي لا تتعلق بفرد واحد أو عدد معين من الأفراد، بل بعامة المسلمين، أو على الأقل بعامة المسلمين من أهل قطر معين من الأقطار الإسلامية، لا سيما في المرحلة الحالية التي تشهد تنامياً في شعور المسلمين بقدرة دينهم وكفاءته، كمشروع لإدارة المجتمع وتنظيمه، بالمقارنة مع المشروعات الأخرى» . ومن الضروري في هذا السياق ألَّا يخاف الإسلاميون من النقد والمحاسبة؛ لأنه لا يمكن أن تنجح أي تجربة سياسية دون النقد والمراقبة والمحاسبة، ووجود أطراف ومكونات فكرية وسياسية واجتماعية، تنافس التيارات الإسلامية، وتوضح خطل أو خطأ بعض الموقف أو التصرفات أو الممارسات حالة صحية ينبغي ألَّا تقمع أو تحارب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. والأكيد في هذا الإطار أن نقد وتسفيه التجربة السياسية للإسلاميين، ليس نقداً أو تسفيهاً للإسلام..
فالفعالية والإنجاز السياسي، هو الذي يقلل من حجم النقد الذي يوجه لأداء هذه الكتلة أو تلك المجموعة. والسياسة كفعل وممارسة لا تدار بالمواعظ الأخلاقية والشعارات التعبوية، وإنما بالفعل والإنجاز وصناعة التحالفات وبناء الحقائق التي تضمن مصالح المجتمع والوطن الذي ينتمي إليه الفاعل السياسي و «عندما نقول بأنه لا محل في الصراع السياسي للمعيارية الأخلاقية، فليس المقصود بذلك أن الفاعلين السياسيين كائنات متسيبة أخلاقيًّا، وأنهم وحوش كاسرة بدون رادع إلى غير ذلك من النعوت التي يمكن أن تنجم عن مثل هذا التصور.. ذلك أن من الضروري التمييز إبستمولوجيًّا بين أخلاقيات الفاعل وأخلاقيات المجال. فالفاعل يعتقد –على الأقل على مستوى وعيه الواضح– بأنه أخلاقي وملتزم بالقيم والمعايير الأخلاقية، وبأنه لا يحيد عنها، ويفرز لنفسه ما يكفي من التسويغات والتبريرات الذاتية المستمدة من الثقافة أو الدين أو الأيديولوجيا ليبرئ ساحته، ويعلن بأنه متطابق مع نفسه وملتزم بالقيم الأخلاقية في كل لحظات أدائه السياسي. ولا مجال هنا للخوض في إسهامات التحليل النفسي في إبراز العلاقة المعقدة لأشكال التمويه والاستثمارات المختلفة التي يقوم بها الفاعل تجاه المثال الذي يؤمن به، وتكفي الإشارة، كخلاصة لذلك، إلى أن هذا الاستثمار بوجهيه الإيجابي والسلبي، يظل يراوح بين القصدية الشعورية الواعية، وعدم القصدية اللا شعورية غير الواعية بذاتها. لكن أخلاقيات الفاعل السياسي لا تجري في فراغ، بل تشتغل داخل المجال السياسي الذي تحكمه بدوره أخلاقيات معينة هي أخلاقيات المجال التي هي أقرب ما تكون إلى قواعد اللعبة السياسية. ونقصد بأخلاقيات المجال مجموعة الضوابط القانونية والمؤسسية التي تؤطر الممارسة السياسية الحديثة. وذلك انطلاقاً من أن التحول الأساسي الذي حدث في العصر الحديث ليس فقط هو انفصال واستقلال السياسة عن الأخلاق والقيم، بل هو أيضاً الانتقال من الأخلاق إلى القانون، أو من الأخلاقية الذاتية القائمة على الضمير والاقتناع الفردي إلى الأخلاقية الموضوعية القائمة على المسؤولية والمؤسسية» . فصناع الخطاب الإسلامي اليوم معنيون بالدرجة الأولى بصياغة مشروعات وخطط عمل قادرة على إخراج دول الربيع العربي من وهدتها وسكونها وجمودها، إلى رحاب الفعل والتنمية والقبض على كل أسباب التقدم والتطور.
*المراحل الأساسية للخطاب الإسلامي:
ثمة لحظتان فكريتان وسياسيتان مرت بهما التيارات الإسلامية بمستويات متفاوتة وهي: 1-لحظة بناء الجسور والمصالحة بين الإسلام والسياسة: إذ إن عقود الخمسينات والستينات والسبعينات، كان الجدل الفكري والتحدي السياسي الذي يواجه التيارات الإسلامية، هو تحدي هل الإسلام كمنظومة عقدية وتشريعية، يتضمن قيماً وأحكاماً سياسية، ويشجع المؤمنين به للانخراط في هذا الحقل. وقد عمل علماء وفقهاء ودعاة التيارات الإسلامية في هذه العقود على كتابة المؤلفات التي توضح الخطوط السياسية العامة التي يتضمنها الإسلام، وأن الدين الإسلامي لديه نظام للحكم، ويعمل من أجل سيادة القيم السياسية في فضائه الاجتماعي.
ولو تأملنا في أغلب الإنتاج الفكري والثقافي للإسلاميين في تلك الفترة، نراه في أغلبه يعالج هذه الإشكالية، ويجيب عن مقتضياتها، ويفكك عقدها النظرية والمعرفية المختلفة. 2- اللحظة الفكرية والسياسية الثانية، هي التي انطلقت مع بداية عقد الثمانينات الميلادية، وبواكير الصحوة الإسلامية التي عمّت أغلب البلدان العربية والإسلامية، وتوافر المناخ الذاتي والموضوعي لتجاوز إشكالية الإسلام والسياسة، وانتقل الجدل والتحدي إلى لحظة بناء الجسور والمصالحة بين الإسلام والديمقراطية. وأعتقد أن هذه الإشكالية لا زالت مستمرة إلى هذه الفترة، ولا زال الجدل الفكري والسياسي يدور حول هذا العنوان العام. وبإمكاننا أن نحدد الجدل الفكري – السياسي في هذه اللحظة وفق المستويات التالية:
1- مستوى الجدل حول مشروعية بناء الأحزاب والتنظيمات السياسية في الإسلام. كما يشمل هذا المستوى بلورة فكرة المعارضة في الرؤية الإسلامية السياسية. وهناك كتابات كثيرة لدى التيارات الإسلامية التي عكست هذا الجدل وأولويته في مناخ الحركية الإسلامية المعاصرة.
2- مستوى الجدل حول مشروع الدولة الإسلامية، وما هي أسسها ومرتكزاتها وسبل إنجازها. وامتد الجدل في هذا السياق إلى أن وصل إلى مفهوم الدولة المدنية، وأن الدولة التي ينشدها الإسلام والتيارات الإسلامية هي دولة مدنية ولا تمت بصلة إلى شكل الدولة الثيوقراطية التي عرفها الغرب في حقبة ماضية.
3-مستوى الجدل حول موقف الإسلام من الديمقراطية، وهل تقبل المنظومة التشريعية الإسلامية آليات عمل الفكرة الديمقراطية. وقد اتخذ الجدل في هذا السياق المراحل التالية:
أ – المرحلة الأولى التي يمكن أن نعنونها في (قال الإسلام قبل ذلك) وهو العمل الفكري والثقافي الذي يستهدف إلى خلق مقابلة بين الديمقراطية والشورى، وإن كل حسنات النظام الديمقراطي موجودة في الرؤية الإسلامية.
ب- المرحلة الثانية والتي ساهم في تزخيمها معرفيًّا وفكريًّا مشروع أسلمة العلوم الاجتماعية، هي مرحلة تفكيك الموقف من النظام الديمقراطي، بحيث أصبحت رؤية التيارات الإسلامية قائمة على رفض الخلفية الفلسفية والعقدية للنظام الديمقراطي، والقبول بالآليات والأطر الديمقراطية والعمل على تبيئتها إسلاميًّا ومعرفيًّا. وبإمكاننا أن نقسّم موقف التيارات الإسلامية تجاه مقولة الديمقراطية إلى التقسيمات التالية:
* رفض الديمقراطية بوصفها بضاعة غربية.
* التوليف بين نظام الشورى ونظام الديمقراطية (الشوقراطية).
* القبول بالديمقراطية كآليات إجرائية ورفضها كمفهوم ومرجعية فكرية وفلسفية.
* القبول بالديمقراطية كحمولة سياسية متكاملة شريطة تأسيسها وتجذيرها في الثقافة الإسلامية.
ج- المرحلة الثالثة هي مرحلة الانخراط في العمل السياسي والقبول بقواعد اللعبة السياسة الموجودة في البلدان العربية، والقبول بأن يكون الحكم بين التيارات الإسلامية وغيرها والسلطة هو صناديق الاقتراع. وأعتقد أن هذه المرحلة لم تتبلور نظريًّا ومعرفيًّا في المنتج الفكري والثقافي للحركية الإسلامية بما فيه الكفاية، مع إدراكنا على هذا الصعيد أنه في الدول العربية التي سمحت للتيارات الإسلامية بالعمل السياسي – العلني وفيها انتخابات فإن التيارات الإسلامية انخرطت في هذه الممارسة بكل تفاصيلها، مع ضبابية واضحة وحذر معرفي عميق على المستوى النظري والفكري، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى موقف التيارات الإسلامية في الكويت من مشاركة المرأة (في العمل السياسي النيابي).
د- المرحلة الرابعة وهي تتجسّد في اهتمام علماء ومفكري التيارات الإسلامية بقضايا الحوار والتعددية والحريات والتحديث وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية ونبذ العنف ورفض قمع الآراء وصيانة حق التعبير. وفي هذا الإطار تبلورت المبادرات والمؤسسات الحقوقية في إطار التيارات الإسلامية، واعتنت هذه التيارات بعلاقاتها الدولية والانفتاح على العديد من المؤسسات الحقوقية والمدنية الدولية. وفي هذا السياق صدرت بعض الدعوات الفكرية والإعلامية، التي تدعو إلى بناء وصياغة ميثاق إسلامي يستند إلى قيم العدل والشورى وحقوق الإنسان ونبذ الاستبداد وكل أشكال الاستئثار والاحتكار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
فالخطاب السياسي للإسلاميين بدأ وانطلق بمفاهيم تطبيق الشريعة والحاكمية، وانتهى بمفاهيم الحرية ومواجهة الاستبداد والديكتاتورية والتعددية والمشاركة وبناء التحالفات على أسس سياسية ومصلحية. *مآلات الخطاب الإسلامي هـ- المرحلة الخامسة، ويمكن أن نقول: إنها دُشِّنت مع تحولات الربيع العربي، والذي وفر للتيارات الإسلامية فرصة نوعية لاستلام مقاليد الأمور أو المشاركة السياسية الفعّالة في دول الربيع العربي. والورقة تعمل على بلورة الخيارات السياسية المتوقعة للإسلاميين في هذه الحقبة.
وفي هذا السياق أود أن أوضح النقاط التالية:
1- إن الدولة التي انخرط الإسلاميون في سلطتها السياسية، ليست دولة الخلافة أو ولاية الفقيه، وإنما هي دولة تعددية – تشاركية، يتحالف الإسلاميون مع غيرهم من الجماعات من أجل بناء سلطة سياسية جديدة.
2- إن الجهود السياسية المبذولة لدى أغلب التيارات الإسلامية اليوم، تتجه إلى إطار (الدولة الوطنية القائمة) وتراجعت من جراء ذلك فكرة الدولة الإسلامية الواحدة للأمة الإسلامية الواحدة. في تجربة التيارات الإسلامية في مختلف أطوارها تعيش في آن واحد هاجسين: هاجس السياسة والتمكّن السياسي والعمل على بناء حركة سياسية قوية وقادرة على الاستقطاب والإنجاز، والهاجس الآخر هو العمل الفكري والنشاط الدعوي والإصلاح الديني. وبروز هذين الاهتمامين وإعطائهما الأولوية، يعود إلى طبيعة الظروف والأحوال، فإذا كان أفق العمل السياسي مفتوحاً ومشجعاً، فإنها تتجه إلى هذا الحقل، وتعمل للبروز فيه، أما إذا كان هذا الأفق مغلقاً لأي سبب كان فإن التيارات الإسلامية تتجه إلى العمل الفكري والتربوي والنشاط الدعوي وقضايا الإصلاح الديني.
وهنا أود أن أطرح أحد المآزق التي تواجه الحركية الإسلامية على هذا الصعيد: الممارسة السياسية وبعض تكتيكاتها، لا شعبية لها، وتثير الكثير من الاختلافات والتباينات، ويقود بعضها إلى التشظي والانشقاقات. وقليل من الزعامات الحركية من يمتلك الجرأة الكافية لمصادمة قاعدته الاجتماعية، مما يجعل الفاعل السياسي – الإسلامي، يتوقف عن ممارسة بعض الخطوات والتكتيكات السياسية التي لا شعبية لها، مما يفقد التيارات الإسلامية القدرة على المبادرة والإبداع والاقتحام. هذا من جهة، ومن جهة أخرى انشغال التيارات الإسلامية بقضايا الإصلاح الديني والعمل الفكري والدعوي، غالباً ما يفضي إلى صدام مع المؤسسات الدينية والاجتماعية التقليدية، مما يجعل هذه التيارات تعيش التحدي، فمن جهة نزعتها التجديدية والتغيرية، تدفعها إلى ممارسة النقد للسائد الفكري والديني، ولكن حاجتها إلى الأصدقاء والمساندين في نشاطها السياسي، قد يوقفها عن نزعتها التجديدية. فهذه الازدواجية بين مشروع الإصلاح الديني والثقافي من جهة، والنشاط السياسي المطالب بالتغيير من جهة أخرى، يساهم في إرباك التيارات الإسلامية على صعيد الوفاء لالتزامها الأيديولوجية وعلاقاتها الاجتماعية.
وفي سياق هذا الاستقطاب تورطت بعض التيارات الإسلامية في قضايا التكفير والنبذ وممارسة العنف المعنوي والمادي بحق أطراف أو شخصيات اتهمت بالعلمانية أو الإلحاد أو الخروج عن مقتضيات الصراط المستقيم. *الإسلاميون وتحديات المرحلة دائماً التحولات الكبرى في أي تجربة إنسانية، بمقدار ما تفتح من فرص وممكنات جديدة، بالقدر ذاته تًثير جملة من التحديات. ومن المؤكد أن حركة الربيع العربي، أدخلت المنطقة بأسرها في مرحلة جديدة على كل الصعد والمستويات. وإن أمام العالم العربي بكل دوله وشعوبه، فرصة تاريخية، لإعادة بناء أنظمته السياسية على أسس جديدة تنسجم ومنطق العصر وحقائق الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. ولأن التيارات الإسلامية هي التي تصدرت المشهد العربي بعد التطورات الأخيرة، نود التركيز على أهم التحديات التي تواجه التيارات الإسلامية بعد الربيع العربي. وبإمكاننا صياغة هذه التحديات في المحاور التالية:
1- الإسلاميون وتحدي بناء الدولة المدنية.
2- الإسلاميون وتحدي إدارة التعددية الدينية والمذهبية. تحدي بناء الدولة المدنية لعل من أهم التحديات التي تواجه التيارات الإسلامية بعد تطورات الربيع العربي، وبالذات التيارات التي وصلت إلى سدة الحكم والسلطة هي: عدم قدرتها على تحويل شوق الناس التاريخي إلى الحرية والكرامة، إلى نظام سياسي – ديمقراطي، يضمن مشاركة الناس في الشأن العام، ويصون كل حقوق الإنسان. ولا ريب في أن فشل التيارات الإسلامية في بناء نظام سياسي – ديمقراطي – تشاركي، سيؤدي إلى انهيار للكيانات الوطنية وبالذات تلك الكيانات التي تحتضن هويات متعددة ومتنافسة أو متخاصمة في آن. فالنظام السياسي الذي يعبر عن حساسية الجميع ومصالحهم، هو القادر على صيانة الوحدة الوطنية في كل بلد، وإن إخفاق التيارات الإسلامية في ذلك، سيؤدي إلى فوضى وتناقض حاد بين مصالح قوى المجتمع وتعبيراته المختلفة، قد يُؤدي إلى تشظي البلد الواحد إلى دويلات متناحرة. وعلى الإسلاميين بكل أصنافهم، أن يدركوا أن هناك مفارقة بين شوق وتوق الشعوب العربية إلى الحرية والكرامة، وعملية بناء نظام سياسي ديمقراطي – تشاركي.
وإن المطلوب لبناء استقرار سياسي واجتماعي عميق هو بناء الديمقراطية في مختلف مجالات الحياة العامة. وحدها الديمقراطية وسلطة القانون وحيوية مؤسسات المجتمع المدني، هي التي تحول دون انحراف الحكام الجدد والنخبة السياسية الجديدة في الفضاء العربي. ولا بد أن نتذكر (كما تقرر حنة أرندت) إن طغاة العصور القديمة وصلوا إلى الحكم –شأنهم شأن أمثالهم في العصر الحديث– بدعم من بسطاء الناس أو الفقراء. «ولا شك في أن أرندت كانت تكتب تحت تأثير وصول القيادات الفاشية والنازية والشيوعية إلى الحكم في النصف الأول من القرن العشرين، وهي ترى أن الفرصة الكبرى لهذه القيادات في الاحتفاظ بالسلطة تنبع من رغبة الناس في المساواة في الظروف الاجتماعية، وعلى الرغم من أن تعميمها هذا ليس صحيحاً كتعميم، إلَّا أنه ما زال صحيحاً بالنسبة إلى الكثير من الحالات التي تنبع فيها شرعية الاستبداد من توفير الظروف الاجتماعية المتساوية للناس، وهذه المساواة غالباً ما تقوم على المساواة في الفقر أو على درجة أعلى قليلاً من الفقر، وما زال ضمان حاجاتهم الأساسية أحد أهم أسباب بقاء الاستبداد، كما أن فقدان مصدر الشرعية هذا عبر الإفقار، بواسطة اللبرلة الاقتصادية مثلاً، من دون الاستعاضة عنه بمصادر أخرى مثل الشرعية الديمقراطية هو من الأسباب التي تمهد للثورة على الاستبداد» .
لذلك آن الأوان وعلى ضوء تطورات الربيع العربي ودروسه، أن تنتهي في العالم العربي حالة فرض أنظمة سياسية وأيديولوجية عليه من خارج إرادته الشعبية؛ لأن هذا الفرض لا يدوم وإن طال. فقوة الأنظمة السياسية في تعبيرها عن مجتمعها، وفي التحامها على مستوى الخيارات والأولويات مع شعبها، وإن أي تباعد بين النظام السياسي والمجتمع، هو مضر بالطرفين، ومهدد للاستقرار السياسي والاجتماعي العميقين. فالربيع العربي أنهى حالة سوق المجتمع بالحديد والنار باسم الأيديولوجيا أو ضرورات المعارك نحو خيارات سياسية أو أيدلوجية لا يريدها.. فقوة مجتمعاتنا في حريتها، لأن الحرية بكل مستوياتها هي بوابة الخير لكل شيء، فلا وحدة بلا حرية، ولا مساواة بلا حرية، ولا استقرار سياسي عميق دون حرية، ولا مشروعات تنموية حقيقية ودينامية بلا حرية. فالحرية هي منبع القوة، ومن يبحث عن القوة بعيداً عن الحرية ومقتضياتها، فإنه لن يحصد إلَّا المزيد من الخيبات والكوارث. فقوة الأنظمة السياسية حينما تنسجم مع إرادة شعبها، وتعبر عن كل قواه وأطيافه، ولا يمكن أن نتصور الإسلام كثقافة وخيارات سياسية وإنسانية بعيداً عن إرادة مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
وفي سياق التحدي الحقيقي الذي يواجه التيارات الإسلامية في بناء دولة مدنية – ديمقراطية نود التأكيد على النقاط التالية:
1- ثمة أطراف محلية وإقليمية ودولية عديدة، تعمل بوسائل مختلفة على وأد الربيع العربي وعدم وصوله إلى نهاياته السياسية في بناء دول ديمقراطية – تعددية. ولا شك في أن حضور القوى الحية في الشعوب العربية وإصرارها على النزول إلى الميدان والمعترك السياسي، سيساهم في إفشال الإرادات المحلية والإقليمية والدولية المضادة.
2- استطاعت دول الربيع العربي، بأشكال متعددة إسقاط الديكتاتور وهو إنجاز مهم وحيوي، ولكن الإنجاز الأهم هو إسقاط ظاهرة الاستبداد والديكتاتورية من فضاء هذه الدول. ويبدو أن هناك محاولات حثيثة لتأبيد ظاهرة الاستبداد في المنطقة العربية. ورؤية تحليلية راهنة لواقع دول الربيع العربي، تجعلنا نعتقد ولعوامل ذاتية وموضوعية، أن ثورات الربيع العربي، هي ثورات لم تكتمل؛ لأن الشعار الأساسي الذي رفعته هذه الثورات، هو شعار إسقاط النظام، وهو يعني ثلاثة معانٍ رئيسة وهي: المعنى الأول: استقلال الدولة وتمثيلها لمصالح الشعب والأمة التي تعبر عنها. وهذا المعنى موجه إلى طرفين أساسيين: الطرف الأول كل القوى الدولية التي تعمل على تعزيز خيار التبعية لمصالحها وقراراتها، والطرف الآخر القوى المحلية التي حولت الدولة بكل مؤسساتها إلى شأن خاص ومزرعة لفئة قليلة من المجتمع. المعنى الثاني: إسقاط النخبة السياسية الحاكمة، وفتح النظام السياسي حتى يعود ليتأسس من جديد على أساس المساواة بين المواطنين. المعنى الثالث: إسقاط تغوّل الدول وتدخلها في كل الشؤون، ومطالبة الدولة الجديدة بأن تكفل جميع الحقوق والحريات لكل المواطنين. وهذا لا يتأتى إلَّا بتفكيك التغوّل الأمني، لأنه المسؤول عن نزع الحريات وامتهان الكرامات. فثورات الربيع العربي طالبت بـ(الاستقلال – الديمقراطية – الحقوق والحريات) عن طريق إسقاط الهيمنة الأجنبية على القرار والسيادة والنخبة السياسية الفاسدة والتغوّل الأمني.
3- تؤكد تطورات الأحداث في دول الربيع العربي، أن قوى الإسلام السياسي أمام فرصة تاريخية للمساهمة في مشروع التحوّل الديمقراطي في المنطقة. وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي الالتزام بمسألتين أساسيتين وهما:
1- الالتزام بالديمقراطية بكل آلياتها وميكانيزمات عملها، بوصفها الخيار الوحيد لإدارة المجال العام على أسس جديدة في المنقطة العربية. فالديمقراطية ليست تكتيكاً للتمكّن السياسي، وإنما هي خيار نهائي. إذا تمكنت قوى الإسلام السياسي من الالتزام بالديمقراطية ومقتضياتها، فإن هذه القوى وبزخمها الشعبي، ستساهم بإيجابية في عملية التحوّل الديمقراطي في المنطقة.
2- عدم إسقاط المنطقة في الفتن الطائفية والمذهبية، وهذا يتطلّب من قوى الإسلام السياسي، خلق مقاربة فكرية وسياسية جديدة لحقيقة التعدد الديني والمذهبي في المنطقة. ولا ريب في أن انزلاق قوى الإسلام السياسي نحو الفتن الطائفية والمذهبية، سيضيع فرصة مشاركتها الفعّالة في مشروع التحوّل الديمقراطي.
4- يبدو من مجموع المعطيات السياسية والاستراتيجية والأمنية المتوافرة، عن بلدان الربيع العربي، أنها تتَّجه إلى توزيع مصادر القوة في الاجتماع الوطني بين العسكر والحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها وأطيافها وألوانها، بحيث تكون الدولة والخيارات الاستراتيجية بيد المؤسسة العسكرية، أما السلطة كفضاء للتنافس والتداول، فسيكون في أغلب هذه الدول بيد الحركات الإسلامية. وطبيعة المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، ستكون مرهونة إلى حد بعيد إلى طبيعة العلاقة التي ستتشكل بين العسكر والإسلاميين. فإذا كانت العلاقة قائمة على أساس التناغم التام، فإن الأمور تتجه إلى أن تكون دول الربيع العربي أشبه ما يكون إلى النموذج الباكستاني، أما إذا كان الإسلاميون ينشدون بناء دولة مدنية – ديمقراطية، ويبادرون باتجاه بناء كتلة سياسية – ديمقراطية واسعة تتجه صوب هذا الهدف، وتحول دون هيمنة العسكر، فإن النتيجة حتى ولو كانت هناك صعوبات حقيقية آنية من جراء التنافس والتدافع والصراع، هي اقتراب دول الربيع العربي من النموذج التركي. ومن الطبيعي القول في هذا السياق: إن «الحركات الإسلامية الراهنة -ولا سيما في مصر- ما تزال أدنى من الطاقة المدنية الأعمق في الإسلام ديناً وحضارةً واجتماعاً، وهو المقاصد الشرعية وفهم الدولة على ضوئها. فإسلامية الدولة ليست في إعلانها عن نفسها، بل في تحقيق وظائفها أي مقاصد الإسلام الكلية الكبرى. وهذا يفسر أن الدول التي تعلن عن نفسها إسلامية هي أقل الدول إسلامية بالمعنى الجوهري للمقاصد الكلية العليا للإسلام» .
*تحدي إدارة التعددية الدينية والمذهبية:
لعل من الأمور المقلقة والتي تثير الكثير من المخاوف والهواجس في دول الربيع العربي، والتي تحتضن تنوعات مذهبية (سنية – شيعية) وتعددية دينية (مسيحية – إسلامية)، هو بروز نزعات مذهبية ودينية إقصائية واستئصالية، تتغذى على إرث تاريخي وخيارات سياسية راهنة، مما فرض تحديات جسيمة على الإسلاميين جميعاً وبالذات فيما يتعلّق وبناء العلاقة بين التعدديات المذهبية والدينية على أسس جديدة، بحيث تتحوَّل هذه التعدديات من فضاء للتوتر والتوجّس والاحتراب، إلى مصدر للثراء الاجتماعي والسياسي والمعرفي. و«الأمر المقلق، هو أن امتدادات الربيع العربي صارت تأخذ تمظهرات وتجليات طائفية في أماكن الوجود المشترك للسنة والشيعة، كما هي الحال في لبنان وسورية والعراق. أي بدلاً من تمدّد هذا الربيع على هيئة مشروع سياسي مشترك للانتقال السلمي إلى الديمقراطية وتعزيز الهوية الوطنية المشتركة، إذا بتداعيات التغيير تتخذ صراع ضمني بين السنة والشيعة على القوة والنفوذ، مع توزعهما بين نظامي مصالح إقليمية مختلفة ومتباينة، حيث تتأجج فيه حالات التعبئة المذهبية التي وصلت إلى حالة غير مسبوقة في لبنان، والتصفيات المضادة في الأحياء كما هو الحال في سوريا والعراق.
مما يعني أن هناك معضلة في الواقع العربي المشرقي منه بالتحديد، هي أعمق من أزمة إزاحة الاستبداد وهاجس التحوّل السلمي نحو الديمقراطية، بقدر ما هي أزمة مجتمع، تتمثل في هويات متناحرة لم تستطع الدولة الحديثة في العالم العربي، إيجاد متحد ثقافي يصهرهما في هوية مشتركة، وجامع وطني تلتحم فيه مصالحهما، ولم يستطع الوعي الديني الحديث، تجاوز البنى الكلامية القديمة لدى الطرفين، المتخمة باتهامات مضادة» . وحينما تغيب آليات إدارة التعددية الدينية والمذهبية على نحو إيجابي، فإن أي اهتزاز اجتماعي، سيقود إلى انقسام المجتمع أفقيًّا وعموديًّا على أسس دينية أو مذهبية أو قومية أو مناطقية؛ لهذا فإننا نعتقد أن خروج مجتمعاتنا من حالة التشظي والتجزئة الأفقية والعمودية، مرهون إلى حد بعيد بقدرة التيارات الإسلامية -لكونها المتصدرة لدول الربيع العربي وصاحبة الشعبية الأعلى- على بناء مقاربة جديدة لحقيقة التعددية لكل مستوياتها في المجتمعات العربية والإسلامية.. مقاربة تتجاوز الإحن التاريخية وتبني دولة للجميع دون افتئات أو انحياز. ومن الضروري القول: إن المجتمعات العربية والإسلامية، تعيش التعدد والتنوع بكل أشكاله، وإن حالة الانقسام والتشظي، ليس بسبب وجود حقائق التعدد والتنوع في الاجتماع العربي المعاصر، وإنما بفعل الخيارات السياسية المتبعة في إدارة هذه الحقيقة الضاربة بجذورها في عمق المجتمعات العربية والإسلامية.
بمعنى أنه حينما تكون الدولة العربية المعاصرة، دولة للبعض، وليس دولة للجميع، فهي بالضرورة منتجة للتشظي العمودي والأفقي في المجتمع. لهذا فإن إصلاح مؤسسة الدولة في الواقع العربي، وجعلها مؤسسة حاضنة ومعبره عن الجميع، هو السبيل الأمثل لإدارة التعدد الديني والمذهبي على نحو حضاري، ينهي كل عناصر التوتر والانقسام الطائفي في المجتمع. وفي تقديرنا، إن الاستقرار السياسي العميق في المنطقة العربية ليس وليد القوة العسكرية والأمنية، مع ضرورة ذلك في عملية الأمن والاستقرار، وإنما هو وليد تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية. ولو تأملنا في العديد من التجارب السياسية لاكتشفنا أن الدول التي تتوافر فيها حريات وتمنح شعبها بعض الحقوق الأساسية، هي الدول المستقرة، والتي تتمكن من مواجهة المخاطر والتحديات. أما الدول التي تمارس السياسة بعقلية الاستئصال والتوحش، وتمنع شعبها من حقوقه ومكتسباته السياسية، فإنها دول مهددة في استقرارها وأمنها. أي إن الاستقرار السياسي العميق في دولنا ومجتمعاتنا، هو وليد العدالة السياسية. وعليه فإن المشكلة الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية ليست وليدة التعدد الديني والمذهبي، وإنما هي وليدة الخيارات السياسية المتبعة على هذا الصعيد. ونزعات التطرف الديني والمذهبي هي التي تُغذّي وتُسوّغ عمليات التمييز والإقصاء. وعليه فإن المشكلة الطائفية والمذهبية هي مشكلة سياسية في جذورها وأسبابها الأصلية، وفي سياق تعميق هذه المشكلة وتبريرها في آنٍ يتم توظيف الخطابات الدينية المتطرفة. وعليه فإننا ندعو كافة التيارات الإسلامية في المنطقة العربية إلى بناء مقاربة جديدة لحقيقة التعددية الدينية والمذهبية في المنطقة؛ لأننا نعتقد أن العديد من الرؤى الدينية السائدة على هذا الصعيد لا تبني أوطاناً مستقرة، ولا تساهم في تعزيز خيار بناء الدولة الحديثة في المنطقة العربية.
وإن سمات هذه المقاربة الجديدة هي النقاط التالية:
1-الخروج والانعتاق من الانحباس في موضوعات التاريخ وأحداثه، فليس مطلوباً أن تتطابق وجهات النظر في كل أحداثه ورجاله، ولكن المطلوب دائماً هو أن تحترم الأطراف جميعاً رموز ومقدسات بعضها بعضاً.
2-إن إدارة التعدد الديني والمذهبي يعد مشكلة حقيقية في المنطقة العربية، لكون الدولة العربية المعاصرة عصبوية ومنغلقة ولا تعبر عن مصالح جميع الأطياف والأطراف. ونحن نعتقد على هذا الصعيد أن الدولة العصبوية والمنغلقة بصرف النظر عن مضمونها، هي بالضرورة دولة صانعة للتمييز وتربية الفوارق بين المواطنين. وإن المطلوب بناء دولة مدنية محايدة تجاه عقائد مواطنيها، وليس من وظيفتها تعميم أيديولوجيتها، وإنما الالتزام بالقانون وتطبيقه. فالدولة العادلة وذات المضمون التمثيلي لجميع المكونات، هي القادرة على إنهاء المشكلة الطائفية وإدارة حقيقة التعددية الدينية والمذهبية في المنطقة العربية على أسس صحيحة وعادلة.
3- الأوطان فضاء مشترك لكل الخصوصيات والمكونات، ولا تبنى الأوطان إلا بإعادة صياغة طبيعة العلاقة بين هذه المكونات والتعبيرات، بحيث تخرج من سياق الاستعداء والتحريض عل الكراهية والمفاصلة الشعورية والعملية إلى حقائق التفاهم وتشبيك المصالح والاحترام المتبادل. وهذا يتطلَّب بناء وصياغة مشروع وطني متكامل، يدمج بين مختلف التعبيرات والمكونات في إطاره، بحيث تكون المواطنة بكل حمولتها الدستورية والقانونية هي قاعدة الحقوق والواجبات.