صراع الحضارات ورؤية حوار الثقافات
صراع الحضارات ورؤية حوار الثقافات
كان كتاب هارالد موللر "تعايش الثقافات - مشروع مضاد لهنتنغتون" من أكثر الكتب مبيعاً في ألمانيا إثر أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في نيويورك, وخصوصاً في أوساط الطلبة الجامعيين والمثقفين. أما الكتاب الذي فاقه في عدد النسخ المبيعة فقد كان, بطبيعة الحال, كتاب هنتنغتون نفسه "صدام الحضارات" الذي كان في متناول القارئ الألماني مترجماً بعنوان "صراع الثقافات" مقترناً بالعنوان الأصلي باللغة الإنكليزية.
إن الأحداث الكبرى من شأنها عادةً أن تجعل الجمهور العريض أسيراً لوسائل الإعلام وقادة الرأي العام. وفي ألمانيا ازدهر من جديد "نجوم" إعلاميون يوصفون عادة بأنهم "خبراء إقليميون" أو "خبراء الشرق الأوسط" أو "عارفون بالإسلام"... الخ, نذكر منهم على سبيل المثال هنا, "بيتر شول لاتور" الذي سبق "هنتنغتون" بسنوات طويلة في تصوره التقليدي عن الصراع الجوهري بين الثقافة المسيحية الغربية والإسلام. إنه يؤمن بأوروبا بحماسة ديغولية شديدة ولكنه يغمس هذه الحماسة بتعصب مسيحي قوي أيضاً. وعلى رغم شهرته البالغة, وحضوره الكثيف على شاشات التلفزة في أوقات الأزمات, وكتبه الكثيرة التي تتصدر كتب الموضوعات الأكثر مبيعاً في ألمانيا, إلا أنه لا يتمتع بشهرة تُذكر خارج ألمانيا, ولا تتصف كتبه بالسمت العلمي الذي توهم به طروحات هنتنغتون, على رغم ما شابها من مثالب منهجية واضحة, وتبسيط مخلّ, وتناقضات كثيرة, جعلتها لا تصمد أمام النظر التجريبي المعمّق. فهنتنغتون ملأ كتابه الضخم بمعلومات وشواهد وأمثلة توحي بأنه يغرف من معرفة أكيدة تجعل القارئ العادي أسيراً لطروحاتها من دون تدبّر أو تمحيص.
ولعلّ بسام الطيبي, أستاذ السياسة والتاريخ الإسلامي المعاصر في جامعة "غوتنغن", أن يكون من أكثر المروّجين من الوسط الأكاديمي لنظرية صراع الحضارات في ألمانيا, وإن برؤية أمبيريقية مركبة, بحسب وصف هارالد موللر نفسه, وهو إضافة إلى ذلك, يتمتع بحضور إعلامي قوي، وخصوصاً في أوقات الأحداث والأزمات الكبيرة كحرب الخليج الثانية 1991 وأحداث نيويورك 2001. وتكفي الإشارة هنا إلى عنوان كتابه "حرب الحضارات: السياسة والدين بين العقل والأصولية" الصادر في هامبورغ 1995, للدلالة على أن الطيبي يرفع شعار صراع الحضارات إلى الواجهة الأمامية, وهو لا يرى أن الضغينة بين العرب والمسلمين من جهة, والعالم الغربي من جهة مقابلة, تعود إلى الحقبة الاستعمارية, وإنشاء دولة إسرائيل ودعمها بلا حدود, بل إلى أسباب تاريخية أكثر عمقاً, فأوروبا هي التي وقفت في وجه التوسع "الإمبريالي" الإسلامي ـ حسب تعبيره ـ، ووضعت حدّاً له في العصور الوسيطة, وعليه, فلا مبرر الآن لشعور بعض المثقفين في الغرب بالذنب تجاه العرب والمسلمين. مثلما صرّح لمجلة "فكر وفن" الألمانية عقب أحداث نيويورك 2001.
أصل كتاب هنتنغتون
أصل كتاب هنتنغتون, كما هو معروف, مقالة نشرها في مجلة "الشؤون الخارجية" الأميركية, فأثارت صدى هائلاً لم تشهده المجلة منذ تأسيسها, وقد أعاد هنتنغتون تقديم نظريته هذه للجمهور في سفر ضخم بالعنوان نفسه بعد أن حذف علامة الاستفهام, وهذه إشارة سيميولوجية تعني أن الطرح قد انتقل من مستوى الفرضية التي تحتمل وجهات نظر مختلفة, إلى مستوى النظرية الراسخة القائمة على عدد كبير من الوقائع والبدهيات المسلّم بها. ومنذ صدور المقالة ثم الكتاب لم يتوقف تردد الدوي الهائل الذي أحدثه شعار صراع الحضارات مثيراً ـ في شكل مستمر تقريباً ـ ردوداً مؤيدة وناقدة, خصوصاً في أوروبا والعالم الإسلامي.
لقد كان هارالد موللر في كتابه هذا من بين أهم الذين قدموا في ألمانيا, وربما في العالم بأسره, إسهاماً يتصدى لما في نظرية هنتنغتون من ارتباك في المنهج, وتسطيح في المعالجة, ومغالطة في الطرح, ولَيٍّ لعنق الحقائق والوقائع, أو تجاهلٍ لها, لكي تتماشى مع فرضياته واستنتاجاته. وقد فعل ذلك برؤية أمبيريقية مركبة كشفت عما في نظرية هنتنغتون من عيوب أساسية" ففي الفصل الأول المعنون بـ"عالم هنتنغتون - نقد", فنّد موللر الخطوط الأساسية في نظرية هنتنغتون عن الأحلاف الحضارية الكبرى التي تقف في حال صدام ومواجهة, من خلال ثلاثة أمثلة منتقاة عن "الحدود الدامية للإسلام" و"الحلف الإسلامي - الكونفوشيوسي" و"الأزمة البوسنية", وأظهر أن هنتنغتون وقع في مغالطات جوهرية, بل وأساء استخدام قواعد الإحصاء الأساسية.
إن مقولة موللر الأساسية في هذا الكتاب تتمحور حول فكرته القائلة: "إن عالماً بهذا التعقيد والتركيب يحتاج من أجل فهمه إلى رؤية عالمية مركبة". ولذلك فهو يقف بصرامة لا تخلو من السخرية ضد التبسيط الشديد الذي ميّز نظرية هنتنغتون, والذي يقع فيه كثير من المفكرين والساسة الأميركيين استجابة لحاجة جمهور عريض غير مهتم بالعالم الخارجي البعيد, ولا يعنيه أن يتتبع تفاصيل كثيرة مرهقة, أو يعرف خلفيات معقدة, بل يريد توجيهات سريعة واضحة من مثل: إننا نقف مع الخير ضد الشر, أو مع الحرية ضد القمع... الخ انطلاقاً من مبدأ "نحن ضد هم" السهل.
بيد أن موللر لا يغرق القارئ في تفنيد كتاب هنتنغتون بما فيه من وقائع وشواهد وتفصيلات لا حصر لها, بل يمضي مباشرة إلى تقديم مشروعه المضاد لرؤية هنتنغتون القاتمة, ويقدم مشروعاً عالمياً فيه كثير من التفاؤل المؤسس على معرفة رصينة, مدعمة بالحجج والأسانيد, وقائمة على منهج علمي محكم" متوصلاً إلى أن العالم ليس في سبيله لتكوين أحلاف حضارية تقف في حال صدام ومواجهة بعضها ضد بعض, وإنما هو في سبيله لمزيد من التعاون والتشابك والارتباط, لأن هناك ثلاث ديناميات جوهرية تحول دون تشكيل مثل هذه الأحلاف المتصادمة, وهي: دينامية عالم الدول, ودينامية عالم الاقتصاد, ودينامية عالم المجتمع.
لابد من قراءة الكتاب
ولا أريد لهذه المقدمة أن تكون بديلاً عن قراءة هذا الكتاب, فهو كتاب يجب قراءته كاملاً بكل فصوله وأبوابه من أجل الوقوف على رؤيته الكلية واستيعابها, ولكن يجدر القول إن موللر يعاين العلاقات الدولية في جميع أرجاء العالم في ضوء هذه الديناميات الثلاث, مركّزاً في شكل أساسي على المراكز الثقافية الكبرى التي رأى فيها هنتنغتون خطراً يتهدد الحضارة الغربية, وهي: العالم الإسلامي أو الخطر الأخضر, والعالم الكونفوشيوسي أو الخطر الأصفر, والعالم الأرثوذوكسي الذي تقف روسيا في مركزه. ولكنه, في الوقت نفسه, لا يتجاهل المناطق الهامشية في السياسة الدولية, مثل أفريقيا وأميركا اللاتينية, ليتوصل في نهاية الأمر إلى أن هذه المناطق جميعها في سبيلها للاقتراب من النموذج الغربي في التطور, وأن العالم يسعى الآن أكثر من أي وقت مضى إلى مزيد من التشابك والارتباط في مؤسساته وهيئاته ومنظماته, بل وفي قيمه الاجتماعية, ومعاييره السياسية.
إن موللر ينطلق, بلا شك, من مركزية غربية, أوروبية على وجه التحديد, فهو لا يخفي تشككه من مسار السياسة الأميركية. بيد أنه لا يرى في الثقافة الغربية المعاصرة تفوقاً جوهرياً نابعاً من طبيعتها الخاصة, بل يرى أنها, شأنها في ذلك شأن بقية الثقافات العالمية, في حال تشكل وسيرورة دائمين, وأن المجتمع يعيد إنتاجها باستمرار من خلال ممارسته اليومية لها, وأن مكتسباتها الأساسية كالديموقراطية, وحقوق الإنسان, وحقوق المرأة, والفردية والرفاهية... الخ لا تعود إلى أصول مسيحية, بل إلى قيم العقلانية والتنوير, وليست هذه المكتسبات أمراً مسلَّماً به, فهي يمكن أن تترسخ وتزدهر, أو أن تتراجع وتصاب بالعطب, وأن تحت قشرة العقلانية الرقيقة في المجتمعات الغربية تتربص طبقة كثيفة من الخرافة.. وهو يرى أن الغرب ينبغي أن يتخلّى عن غروره في محاولة فرض وصايته على بقية العالم, بل عليه أن يصغي للآخرين, ويتعلّم منهم, لأن التعاون والتبادل لا يسيران في طريق ذي اتجاه واحد, هذا مع العلم أنه يؤكد - كما أشار في مقدمته للطبعة العربية - أن العالم الغربي قد وصل اليوم في مؤسساته الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية والبيروقراطية, إلى أعلى درجة وصلتها البشرية حتى الآن.
وقد لا يكون هذا الكتاب محكماً في جميع فصوله, إذ اعتور بعض هذه الفصول نقص واضح في المعرفة الإقليمية الدقيقة, وهذا الإحكام أمر يصعب تحققه في كتاب يحاول أن يحيط العالم بأسره, إلا أنه يبقى - بلا شك - من أكثر الكتب جدية في تناوله هذا الموضوع الخطير الذي لم يهدأ السجال حوله منذ مقالة هنتنغتون الشهيرة التي جاءت, للأسف, أحداث كبرى لتمنحها دفعاً جديداً وتؤكد نظرية صراع الحضارات في نظر مؤيديها, وتجعل من كانوا مشككين في صحتها أقل يقيناً.
بيد أن ذلك سيبدو أمراً ظاهرياً فقط لا يصمد أمام النظر المتعمّق الذي امتازت به تحليلات هذا الكتاب ورؤيته العالمية المركّبة, على رغم ما اعتوره أحياناً, وخصوصاً في أثناء تناوله المنطقة الإسلامية, من قصور في المعرفة التاريخية, وضعف في معرفة الإسلام. فالكاتب, على أي حال, ليس متخصصاً في هذا المجال, بل هو عالم سياسة انصبت جهوده على الدعوة إلى السلم العالمي ونزع التسلح, وهو في نهاية الأمر يكاد يمثل السياسة الغربية الرسمية تقريباً, ونحن لا نتوقع منه أن يطابقنا في وجهات نظرنا, وخصوصاً حول الصراع العربي - الصهيوني, فهو, شأنه في ذلك شأن كثير من الأكاديميين الغربيين يقع أسيراً للروايات والمصطلحات الصهيونية, ويستخدمها من دون تدبّر, على رغم بعض النقد الذي يوجهه للسياسة الإسرائيلية الحالية, وإلى صمت أوروبا عن التجاوزات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. كما أن القسم الأخير المعنون بـ"ما العمل" قد يكون بحاجة إلى مزيد من التعميق حتى يكون أكثر إقناعاً, على رغم ما اشتمل عليه من نيات حسنة.
لكن بالرغم من ذلك فإن المؤلف كان ينتقل بسلاسة عجيبة في حقول معرفية إنسانية مختلفة, ولكنها متجاورة ومتداخلة, كالسياسة والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والنقد الثقافي والمعرفة الإقليمية الخبيرة, فهو من هذه الناحية كتاب عابر للتخصصات بامتياز؛ ولعل هذا ما أعطى كتاب موللر هذا قيمة نوعية خاصة.
ــــــــــــــــــــ ــــــــــ
* الحياة: (15218)
المصدر: http://www.alwatanyh.com/forum/f8/%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%...