العلاقة بين مفهومي الإنسان والأدب عند أبي حيان التوحيدي

د.حسين الصديق

 

أبو حيّان التوحيدي ( 414هـ) واحد من أبرز أعلام الحضارة العربية الإسلامية، وبخاصة في القرن الرابع الهجري. وهو يقدم لنا في مؤلفاته رؤية جدلية متكاملة للمفاهيم التالية: الإنسان والمعرفة والجمال والأدب، تتلاقى مع موقف الحضارة العربية الإسلامية العام من هذه المفاهيم.
فالإنسان بحسب هذه الرؤية خليفة الله على الأرض، مخلوق من جسد ونفس، ولكنه ضل عندما عاش بجسده ذي الأصل الترابي فقط، وكان عليه أن يحكّم عقله ذا المصدر الإلهي في سلوكه الجسدي، فيسمو إلى المكان الذي صدر عنه، وهو قادر على ذلك، لأن وسيلة ذلك إنما هي العقل الذي يمتلكه الإنسان، ولكنه عقل بالقوة، ولا يصبح عقلاً بالفعل إلا عن طريق المعرفة التي ترتبط بالعقل ارتباطاً جدلياً.
وثنائية الوجود الإنساني تقابلها ثنائية في طبيعة الجميل، فهناك الجمال وهناك الكمال، والأول يقابل الجسد، ولذلك فهو نسبي، لأن معرفته إنما تكون عن طريق الحواسّ الخاضعة للزمان والمكان، أما الثاني فيقابل النفس أو العقل، ولذلك فهو مطلق ثابت لا يتغيّر، ومعرفته إنما تكون عن طريق العقل المتّصل بالعلة الأولى الأزلية.
وتمتدّ هذه الثّنائيّة لتشمل الأدب، فهناك النظم والنثر. يقابل الأول الجسد، فهو مركّب مثله، ولذلك فإن أغلب الناس الذين يغلب عليهم الجسد يطربون للنظم، ويقدّمونه على النثر.
أما الثاني النثر فهو يقابل العقل، وهو بسيط مثله، ولذلك فإن قلّة من الناس يغلب عليهم العقل يفضّلون النثر على النظم.
إن العلاقة بين المفاهيم: الإنسان والمعرفة والجمال والأدب عند التوحيدي علاقة متكاملة يحكمها مفهوم الإنسان، كما يراه الفكر العربي الإسلامي.

مقدمة:

إن أي دراسة لظاهرة من الظواهر الاجتماعية- الثقافية، لا تتخذ من النظرية المعرفية التي تنظم الحياة الفكرية الاجتماعية في حضارة من الحضارات أساساً لها في تفسير الظاهرة موضوع الدرس، لن تتجاوز حدود السطحيّة، ولن تتمكّن من تقديم تفسير علمي لتلك الظاهرة. وتنطبق هذه القاعدة على كل المجالات في العلوم الإنسانية، ولا سيما فن وعلم الجمال، إذ إن علم الجمال يعتبر الإطار العام الذي ينضوي فيه كل ما أنتجه الإنسان من أعمال فنية ومواقف إنسانية تعبّر عن موقفه من المفاهيم الثلاثة: الله والإنسان والكون.
من خلال هذا المنهج، تسعى هذه الدراسة إلى البحث عن الأسس المعرفية التي يرتكز عليها التوحيدي في رؤيته لمفهومي الجمال والأدب. ولذلك فإنها سوف تنطلق من دراسة موقف التوحيدي من الإنسان مصدر الأدب والجمال وغايتهما. ولكي نوضّح ذلك الموقف، فإننا سنضعه في إطاره الحضاري في القرن الرابع الهجري، فنتحدّث عن موقف العرب المسلمين من المفاهيم الثلاثة: الله والإنسان والكون، ومن ثم فإننا سنبرز مفهوم الجمال والأدب عند التوحيدي، مُظهِرين العلاقة المعرفية بينهما وبين مفهوم الإنسان والمعرفة عنده.
وإذا كنا قد استخدمنا مصطلحي علم الجمال ومفهوم الجمال، فذلك لأننا نقيم فرقاً بينهما، نقصد بالأول مجموعة الأدوات المعرفية الضروريّة التي تمكن الباحث من اكتشاف المواقف الجمالية التي يتخذها الإنسان من مظاهر الكون والحياة والمجتمع، ودراسة السبل التي يعبّر بها هذا الإنسان من خلالها عن تلك المواقف. أما مفهوم الجمال، فنقصد به الكمال الذي يمكن أن يبلغه التناسب القائم بين العناصر المادية أو المجردة التي يتألف منها الموضوع الجميل، ويحقّق لدينا انجذاباً نحوه، يتناسب مع العلاقة القائمة بين العناصر المادّية والمعنوية التي تشكّل الـ(أنا) الفردية، والـ(نحن) الجمعية فينا.
والثاني سابق على الأول، فالنظري يأتي بعد العملي، وهذا يعني أن لدينا نحن العرب المسلمين مفهوم جمال ومفهوم أدب خاصّين بنا، هما نتاج العلاقة القائمة بين الإنسان والمفاهيم الثلاثة: الله والإنسان والكون في حضارتنا. إلا أننا لا نملك حتّى الآن ما أطلقنا عليه مصطلح علم الجمال، فما زالت الدراسات التي تهتم بمفهوم الجمال تدور في فلك الدراسات الغربية، ولا تستطيع النفوذ إلى جوهر الفكر العربي الإسلامي الذي يشكّل القاعدة التي قام عليها كل ما أنتجته حضارة ذلك الفكر.
هذه الدراسة هي مشروع عمل يهدف إلى تأسيسٍ للفكر الجمالي عند العرب المسلمين، ينطلق من النظرية المعرفية لديهم، ويستبعد، بقدر الإمكان، التأثيرات المعرفية الغربية المعاصرة.

تمهيد معرفي:

يدور البحث في إطار محدود هو كتب التوحيدي، ولن يكون هناك استقصاء لكل النصوص في هذه الكتب، فذلك ما سيسعى المشروع إلى عمله.
والتوحيدي واحد من أبرز أعلام الحضارة العربية الإسلامية. واهتمامنا بمؤلّفاته يأتي من أنها تمثّل عصراً بأكمله هو القرن الرابع الهجري الذي ولد التوحيدي في مطلعه، وتوفّي في أواخر العقد الأول من القرن الخامس، وذلك كما يرجّح أغلب الباحثين في حياته.
وإذا كانت عبارة ياقوت التي يقول فيها إن التوحيدي هو فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة قد طغت على شخصيّة التوحيدي، فإن مراجعة كتبه وتتبع سيرته تجعلنا نعتقد أنه لم يكن فيلسوفاً بالمعنى السائد في عصره، فهو ليس كالمنطقي أو مسكويه، كما أنه لم يكن أديباً كالصاحب بن العباد أو ابن العميد أو الأصفهاني، إنه باختصار يمثّل عصره أكمل تمثيل بكل ما حوى من تمازج بين الفلسفة والكلام، والفقه والتصوّف، والعلم والأدب. فالتوحيدي يقدّم لنا صورة مثاليّة للمثقّف الموسوعي في عصره، وهو في اعتقادنا نموذج الأديب بحسب مفهوم الأدب في القرن الرابع (انظر مقدمة في نظرية الأدب العربي- الإسلامي، 1994. حسين الصديق منشورات جامعة حلب، ص/82). فهو يستفيد من كل المصادر التي توفرت في عصره لإيجاد إجابات على تساؤلات العقل والنفس في لقائهما مع معطيات الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
إن ثقافة التوحيدي لا تستند إلى منهج الفلاسفة القائم على الشك، والذي يرى في العقل الأداة الوحيدة التي توصل إلى الحقيقة، كما أنها لا تعتمد منهج المتكلّمين الذين اهتمّوا بالدفاع عن الأصول دفاعاً عقلياً بعد التسليم المطلق بصحّتها، والذين لم يتعرّضوا إلا في حدود كلامهم لقضايا الفلسفة. وهي أيضاً لا تستمد جوهرها من منهج الفقهاء الذي يقوم على التسليم المطلق بقواعد الأصول من غير محاولة إعمال العقل في إثباتها. وهي أخيراً لا تنطلق من منهج المتصوّفة الذين اعتقدوا بعجز العقل عن الوصول إلى الحقائق، فآمنوا بصحّة العقائد، وحاولوا الاستدلال عليها من طريق أدلة القلب.
إن ثقافة القرن الرابع التي يمثّلها التوحيدي هي مجموع كل هذه المناهج التي أنتجتها الحضارة العربية الإسلامية نتيجة لقاء العقائد في القرآن والسنة مع ثقافات ومعتقدات وعادات وتقاليد وقيم وديانات الأمم الأخرى التي فتحها العرب.
ويمكن أن نضع ثقافة التوحيدي تحت مصطلح (الإنسيّة)، ونقصد به أن تلك الثقافة تقوم على العقل أولاً، ولكنها لا تعتبره كافياً، وتنفي أن يكون أداة المعرفة الوحيدة، وترى أن الوسيلة الأهم للوصول إلى الحقائق إنما هي النفس المتصلة بالعقل الأول المتصل بجوهره بالواحد الأحد. هذه الثقافة تنطلق في رؤية كل ما في الحياة والمجتمع والكون من جهة الإنسان، وترى أن كل ما في الكون إنما هو لخدمته في تحقيق إنسانيته.

مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي:

تتأسّس الحضارات عموماً، وتنتظم داخلياً، وتتطوّر معتمدة على ثلاثة مفاهيم: الإله والإنسان والكون، ولكن كل حضارة من الحضارات إنما تغلّب واحداً من هذه المفاهيم، فترى المفهومين الآخرين من خلاله. فالحضارة التي تغلّب مفهوم الإله هي حضارة إلهية، يسود فيها الفكر الغيبي، والحضارة التي تغلب مفهوم الإنسان هي حضارة بشرية يسود فيها الفكر الإنساني، أما الحضارة التي تغلب مفهوم الكون فهي حضاري مادية، يسود فيها الفكر الطبيعي.
فالحضارة الإغريقية على سبيل المثال هي حضارة بشرية، يسود فيها الفكر الإنساني، فهي ترى مفهومي الإله والكون من خلال الإنسان. فالآلهة صيغت على شكل البشر، وهي تتصارع فيما بينها، وينسب إليها الصفات الإنسانية. لقد أنسن الإغريق القدامى الآلهة، وألّهوا الإنسان، ولكنه ظلّ تابعاً، هو والآلهة، لإرادة قاهرة يخضع لها تماماً، ولذلك فإنه في نزاع دائم مع القدر، تلك الإرادة التي تحكمه، وعليه أن يخوض ضدها صراعاً أبدياً.
والحضارة الأوروبية المعاصرة غلبت مفهوم الطبيعة على المفهومين الآخرين، فرأت أن الإنسان ما هو إلا كائن طبيعي من نتاج الطبيعة، يخضع لقوانينها، شأنه شأن باقي الحيوانات، وأن الإله ما هو إلا ابتداع الذهن البشري، نتيجة خضوعه لقوانين الطبيعة. وعلى ذلك فإذا ما تحرر الإنسان من تلك القوانين، فإنه يصبح سيّد نفسه المطلق، له الحرية أن يفعل ما يشاء.
أما الحضارة العربية الإسلامية فقد غلّبت مفهوم الله، ورأت من خلاله مفهومي الإنسان والطبيعة، فما هما إلا مظهر من مظاهر خلق الله، ولكن تغليب هذا المفهوم لم يكن لسحق الإنسان، وإنما لتأكيد معنى وجوده الأرضي، فالإنسان في الفكر العربي الإسلامي يستمد معنى وجوده الأرضي من الوجود الإلهي عينه، فهو مرتبط بالله ارتباطاَ وجودياً، ولا معنى لوجوده من غير الوجود المطلق. يقول الله عز وجل في سورة (ص/70): “وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”
لقد اعتمد المسلمون على صورة الإنسان في القرآن في صياغة مفهومهم عن الإنسان، فقد تم الوجود الإنساني على مرحلتين: وجود جسدي بشري، فوجود عقلي إنساني. الأول يقابل المرحلة الأولى من الخلق الطيني، أما الثاني فيقابل المرحلة الثانية التي تلت التسوية والنفخة. وأمْرُ الله الملائكة بالسجود لآدم لم يكن للبشرية، وإنما للإنسانية التي ظهرت في النفخة الإلهية. والوجود الثاني هو الذي يفسر معنى خلافة الإنسان لله في الأرض، وتسخير المخلوقات كلها لخدمته.
وعندما يوجد الإنسان على الأرض، فإنه يوجد بشراً أولاً، ولكن الله لم يتخلّ عنه، فزوّده بأداة يتمكن بوساطتها من تحويل الإنسانية فيه من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وهذه الأداة هي العقل، وسبيلها المعرفة. فالإنسان إنما هو إنسان بالقوة، ولا يصبح إنساناً بالفعل إلا عندما يستخدم عقله في اكتساب المعارف التي تقوده إلى معرفة مظاهر خلق الله، وتؤدّي به من ثمّ إلى معرفة ذاته، فمعرفة الخالق: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”.
إن مفهوم الإنسان هذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم المعرفة عند العرب المسلمين، فالمعرفة لديهم ليست هدفاً بذاتها، وإنما وسيلة إلى غيرها، تمكّن الإنسان قبل كل شيء من تحقيق إنسانيته ومعنى وجوده، ولعلّ هذا ما أراده التوحيدي بعبارته: “وأنا أعوذ بالله من صناعة لا تحقّق التوحيد، ولا تدلّ على الواحد، ولا تدعو إلى عبادته والاعتراف بوحدانيّته” (الإمتاع والمؤانسة،1960،3/135).

مفهوم الإنسان والمعرفة عند التوحيدي:

لدى التوحيدي ترتيب صاعد نازل يضع فيه الوجود الإنساني بالنسبة إلى باقي الكائنات، وهو ترتيب يمثّله نصّ في كتابه (المقابسات، 1970، ص/283)، يقول فيه: “الإنسان لب العالم، وهو في الأوسط لانتسابه إلى ما علا عليه بالمماثلة، وإلى ما سفل عنه بالمشاكلة، ففيه الطرفان: أعني شرف الأجرام الناطقة، بالمعرفة والاستبصار والبحث والاعتبار، وفيه صفة الأجسام الحية الجاهلة التي ليس لها ترشح بشيء من الخير ولا فيها انقياد له”.
فالإنسان هو مركز المخلوقات فوق العناصر الأربعة والجماد والنبات والحيوان، وتحت العقول العشرة التي يأتي في قمتها العقل الأول وواجب الوجود. ولذلك فإن الإنسان بشر من جهة انتسابه إلى ما سفل عنه بالمشاكلة، فهو كالعناصر الأربعة والجماد والنبات والحيوان، فيه صفة الجهل والاستعداد للانحدار إلى أسوأ من الحيوان الذي تقوده الغريزة الناظمة لسلوكه. وهو من جهة انتسابه إلى ما علا عليه بالمماثلة إنسانٌ فيه، كالعقول العشرة والعقل الأول والواحد الأحد واجب الوجود، شرفُ الجوهر وسموُّه وترشّحه إلى كل ما فيه من خير وتبصّر.
والإنسان بعد ذلك لم يصبح إنساناً بالروح التي للحيوان، وإنما كان كذلك بالنفس، ولو كان إنساناً بالروح لما كان بينه وبين الحمار فرق (الإمتاع والمؤانسة، 1960/113). فالإنسان إنسان بالنفس وليس بالجسد.
ولما كان الأمر على ذلك، فإن النفس هي العنصر المشترك الذي يوحّد بين الإنسان وبقيّة الكائنات العلويّة، التي تملك جوهراً، وعن طريقها يتمكن من الاتصال بالعقل الأول، لأنها إنما صدرت عنه، فهي تصله بالنفس الكلية التي تؤدي به إلى الواحد الأحد. يقول التوحيدي (الإمتاع والمؤانسة 1960،1132): “إن نفسك هي إحدى الأنفس الجزئية من النفس الكلية، لا هي بعينها، ولا منفصلة عنها. كما أن جسدك جزء من جسد العالم، لا هو كلّه، ولا هو منفصل عنه”.
وإذا اتصلت النفس الإنسانية الجزئية بالنفس الكلية، فإنها منها تستمدّ قدرتها، وتكتسب علومها، وهذا مصداق الحديث القدسي: “…..وما زال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل….”. يقول التوحيدي: “النفس علّامة بالذات، درّاكة للأمور بلا زمان، وذاك أنها فوق الطبيعة، والزمان إنما هو تابع للحركة الطبيعية…. ولما كانت النفس فوق قوى الطبيعة، وكانت أفعالها فوق الحركة، أعني في غير زمان، فإذن ملاحظتها للأمور ليست بسبب الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، بل الأمور عندها في السواء. فمتى لم تعقها عوائق الهيولى والهيوليات وحجب الحسّ والمحسوسات، أدركت الأمور وتجلّت لها بلا زمان” (الهوامل والشوامل، 1951، ص/92).
لقد صدرت النفس عن العقل، وصدر العقل عن العقل الأول الذي صدر عن واجب الوجود. فالنفس تستضيء من العقل، والعقل جوهر بسيط مدرك للأشياء على الحقيقة دفعة واحدة لا بتوسّط زمان ولا مكان، ولذلك فإن النفس فوق الزمان والمكان، لأنها فوق الطبيعة.
وفي كل إنسان قسط جزئي من العقل على قدر استعداد تركيبه الاستقصي والهيولي، ومن شأن هذا العقل أن يتّصل بالعقل الكلّي، فيصير قادراً على أن يعقل كل المعقولات ما لم يعترضه عائق من حجب الاسقصات والهيولات.
ولكن الإنسان ابتعد عن عقله، ومن ثم عن إنسانيته، وهو ويعيش بشراً من طين، يملك القدرة كامنة فيه على تذكر إنسانيته، وأولى بمن كان حاله كذلك، أن ينجذب إلى ما يعزّ به ولا يذل، ويجد به ولا يفقد، وينال به ولا يخفق، وأداته في ذلك العقل خليفة العلة الأولى يستضيء بها، وأفضل الطرق هي المعرفة، وأسمى أنواع المعرفة العشق.
فنحن لا نعشق إلا ما نعرف، وعشقنا إنما يتناسب طرداً مع معرفتنا بمن نعشق، على عكس الشهوة التي ترتبط بالغريزة، فتنطفئ بانطفائها الجسدي.
ما العشق؟ “هو تشوّق إلى كمال ما بحركة دالّة على صبوة ذي شكل إلى شكله” (المقابسات1970، ص 454). العشق هو وحده الذي يقف في قمة المعرفة، ويمكّن الإنسان من تذكّر الكمال الأول الذي صدر عنه، إنه الحالة التي يكون فيها الإنسان ساعياً إلى الكمال، محقّقاً الاتحاد بين كمال نفسه والكمال الذي يتشوّق إليه بعد أن اكتشفه في معشوقه.
وإذا كان التوحيدي يدعو إلى العشق لأنه حركة نحو الكمال، فإنه يفرّق بينه وبين الشهوة التي هي من علائق الجسد، أما المحبّة والعشق فهما من علائق النفس والعقل (الإمتاع والمؤانسة، 1960، 3/105). وهذا إنما يتناسب مع ما رأيناه لديه من طبيعة الإنسان. فالطين يقابل الشهوة، والعقل يقابل العشق، والجسد مصدر الشهوة، وغايته منها البقاء، على حين أن العقل مصدر العشق، وغايته منه الخلود.
وإذا كان الإنسان مركّباً من هذين الجزأين، وجب أن يكون شغله بالجسد أقل من شغله بالنفس، “لأن هذا باق، وذاك فان، وهذا جوهر، وذاك جواهر متضادّة، وهذا له وجود سرمديّ، وذاك لا وجود له إلا في الكون الذي لا ثبات له” (الهوامل والشوامل، 1951، القاهرة، ص/27).
والنفس مؤهّلة للبحث عن السعادة والوجود السرمدي، فهي تنجذب إلى الجميل، فإن هذا لها بالذات، وإليه تشتاق، وبه تكمل.

مفهوم الجمال عند التوحيدي، وعلاقته بمفهوم الإنسان:

في مقابل مستوى الجسد والنفس عند الإنسان، يوجد مستويان للجمال عند التوحيدي: الجمال والكمال (الإمتاع والمؤانسة، 1960/150، والهوامل والشوامل، 1951، 315). الأول يقابل مستوى الجسد، فهو مرتبط بالاستقصات والهيولات. فإذا تحقّق التناسب بين العناصر التي تكوّن موضوع تحقّق الجمال فيه بقدر تحقّق ذلك التناسب، ولذلك فهو جمال مادي محسوس، يدرك بالحواس. ولما كان يرتبط بالطبيعة من طريق الهيولات والاستقصات، فإنه يختلف باختلاف قدرة هذه الاستقصات والهيولات على تقبّل التناسب، وهي قدرة تتفاوت لارتباطها بالطبيعة من جهة الزمان والمكان اللذين يؤثّران في طبيعة الاستقصات والهيولات. ولذلك فإن هذا الجمال الحاصل في الموضوع نسبي يختلف باختلاف الزَّمان والمكان. وإدراك هذا الجمال يكون من طريق الحواسّ الجسدية، وهي أيضاً مرتبطة بالطبيعة من جهة ارتباط الجسد، ولذلك فهي متبدّلة بحسب الزمان والمكان، وبنسبة استعداد الهيولات والاستقصات التي يتشكّل منها الجسد لاستقبال الجمال وتقبّله. وهذا مختلف من إنسان إلى آخر، ولذلك فإن إدراك الجمال نسبي ومتغير من جهتين: الموضوع الجميل والمتلقّي.
أما الثاني، الكمال، فيقابل النفس، وهو مرتبط بالعقل الأول المرتبط بالواحد الأحد، فالكمال يستمدّ ضياءه من الله واجب الوجود ومن صفاته التي تفيض بالحسن على غيرها، إذ كانت معدنه ومبدأه، وإنما نالت الأشياء كلها الحسن والجمال والكمال منها وبها. (الهوامل والشوامل، 1951، ص/34). ولذلك فإن الأشياء تتشوق إلى كماله، وتعشق جماله، وتسعى للتشبّه به، والاتحاد معه، فهذا العالم السفليّ “مع تبدّله في كل حال، واستحالته في كل طرف ولمح، متقبّل لذلك العالم العلويّ، شوقاً إلى كماله، وعشقاً لجماله، وطلباً للتّشبه به، وتحقّقاً بكل ما أمكن من شكله” (المقابسات، 1970، ص/56). وكل خطأ في إدراك الكمال إنما مصدره تدخّل الحواسّ والهيولات في الحكم، ولذا فإن الكمال لا يتوصل إلى إدراكه وعشقه، إلا بعد تدريب العقل من خلال محبة الجمال الحسّي الذي يساعد العقل على الصعود والسّموّ والتهذيب. حتى إذا ما أراد معرفة الكمال، كان له من الدربة والمعرفة ما يمكنه من استبعاد أثر الهيولات والاستقصات، فإن العقل إذا صفا، كان أقدر على إدراك الكمال. ولذلك فإن التوحيدي يدعو الإنسان إلى تقديم العقل على الحواس، وأن يستخدم كلاً منهما في المكان المناسب، فلا يرفع الوضيع إلى محل الرفيع، ولا يضع الرفيع في موضع الوضيع (الإمتاع والمؤانسة، 1960، 2/191).
إلا أن التوحيدي لا يفصل بين الجمال والكمال، فهما متصلان لاتصال الجسد بالنفس والعقل، ولا بد من البحث اللطيف عنهما. وكما أن وعي الجسد ومعرفته والتفكير فيه يدعو إلى ضبطه والسموّ به، فإن ذلك مرحلة لا بد منها لمعرفة قدرات العقل والسموّ بالنّفس، وعلى ذلك فإن وعي الجمال الحسّي المادي وإدراكه مرحلة سابقة على إدراك الكمال ومعرفته والوصول إليه، وعلى ذلك فإن الجمال الحسّي ليس غاية بذاته، وإنما هو وسيلة إلى غيره، تساعد الإنسان على اكتشاف الجوهر فيه، ومن ثمّ تحقيق الكمال لديه، وهو ما يعتبر وسيلة أيضاً إلى معرفة خالق الخلق الواحد الأحد واجب الوجود، غاية الإنسان ومصدر سعادته في الدارين: الدنيا والآخرة.

مفهوم الأدب عند التّوحيدي وعلاقته بمفهوم الجمال:

الأدب أحد الفنون بل هو أبرزها وأقدرها على التعبير والانتشار والتأثير. ولما كانت الفنون هي السبل التي يعبر الإنسان من خلالها عن مواقفه من الكون والمجتمع، فإن الأدب يعتبر من أهم ركائز التعبير عن الجميل، وذلك من خلال اعتبارنا أن علم الجمال يدرس المواقف التي يتخذها الإنسان من الواقع، كما يدرس سبل التعبير عن هذه المواقف، وهذا ما يجعل الأدب يدخل في صلب الدراسات الجمالية.
من خلال ذلك يمكن أن نرسم العلاقة بين علم الجمال والأدب، وبينهما وبين مفهوم الإنسان عند التوحيدي. فثنائية الوجود الإنساني في الفكر العربي الإسلامي التي صاغت ثنائية مفهوم الجمال والكمال عند التوحيدي، هي نفسها التي تصوغ مفهوم الأدب لديه.
يقسّم التوحيدي الأدب على جنسين: نثر ونظم. والحديث عن هذين الجنسين عنده يطول (انظر مقدمة في نظرية الأدب العربي الإسلامي، 1994، منشورات جامعة حلب)، إلا أن ما يهمنا هنا هو إبراز العلاقة بين هذا التقسيم وبين مفهوم الإنسان. فالتوحيدي يرى أن النثر والنظم يتقابلان مع ثنائية الوجود الإنساني، فالنظم يقابل الجسد، لأن الجسد مركب من عدد من العناصر والاستقصات، وكذلك النظم فهو مركّب من المعنى والوزن، ولذلك فهو يلائم الجسد ويطربه. ولما كان أكثر الناس أقرب إلى الطبيعة الجسدية المركّبة فيهم، بعيدين عن العقل، فإنهم يميلون إلى النظم لأنه يلائمهم ويطربهم، فصورة العقل لديهم ضعيفة. وهذا ما يجعلهم يتقبّلون ما يطربهم بعد أن يلائمهم، ذلك أن الطبيعة والحس يميلان إلى الولع بالوزن والإيقاع.
أما النثر فهو بسيط يقابل العقل، والعقل بسيط لأنه جوهر، والجوهر واحد، وكذلك النثر فهو بسيط لأنه يتألف من المعنى فقط بالمقارنة مع النظم. ولما كان قلّة من الناس نسبة العقل فيهم أكثر من نسبة الطبيعة، فإن من يفضّل النثر على النّظم قلّة. فالعقل يطلب المعنى الصادق، ولا يهتم بالوزن وبنوعيّة اللفظ. انظر (المقابسات 1970، ص/299، والهوامل والشوامل 1951، ص/308، والإمتاع والمؤانسة 1960، 2/132).
وينسجم مفهوم البلاغة عند التوحيدي مع ثنائية مفهوم الأدب، فالبلاغة لديه تصدر عن ثنائية مفهوم الإنسان والجمال. فالإفهام إفهامان: رديء وجيّد، “فالأول لسفلة الناس، لأن ذلك غايتهم، وشبيه برتبتهم في نقصهم، والثاني لسائر الناس، لأن ذلك جامع للمصالح والمنافع. فأما البلاغة فإنها زائدة على الإفهام الجيد بالوزن والبناء والسجع والتقفية والحلية الرائعة وتخيّر اللفظ وإحضار الزينة بالرقة والجزالة والحلاوة والمتانة. وهذا الفن لخاصة الناس لأن القصد فيه الإطراب بعد الإفهام” (المقابسات 1970، ص/121).
يلخّص هذا النص نظرية التوحيدي في مفهوم الإنسان وفي علاقته بمفهوم اللغة والمجتمع. فالمجتمع ينقسم على طبقات بحسب الأفهام، وما ذلك إلا لأن الأفهام مرتبطة بالعقول، وأغلب الناس على إهمال عقولهم وتغليب أجسادهم، ولذلك فإن فهمهم رديء أو جيّد على حسب نسبتهم إلى العقل. وهذا ما يتمثله مستويان من اللغة، الأول سيّء، وهو ما يتكلّمه عامة الناس في المجتمع من الجهلة والعيارين والشطار وصغار الصنّاع، والثاني جيّد وهو ما يتكلمه الطبقة الوسطى التي هي أقرب إلى العقل من الأولى. أما اللغة الرفيعة المستوى، والتي تتمثّل في البلاغة، فإنها وقف على خاصّة الناس التي تشكّل الطبقة الرفيعة التي تستخدم العقل في السيطرة على الحواس واستخدامها.
هذا التقسيم لا يعني إطلاقاً تقسيماً طبقياً مادياً أو اقتصادياً، وإنما هو تقسيم وجودي إنساني. فالطبقة الدنيا هي تلك الفئة من الناس التي لا تعيش إلا ببشريّتها وجسدها، والطبقة الوسطى هي التي تحاول إقامة التوازن بين بشريتها وإنسانيّتها (عقلها) . أما الخاصة فهي الطبقة التي تغلّب العقل.
وهكذا تبدو لنا العلاقة بين الأدب والبلاغة وبين مفهوم الإنسان. إنها علاقة وجودية، فالأدب هو القمة التي يصل إليها العقل في استخدام اللغة استخداماً جمالياً، ولذلك فهو مرتبط بالعقل من حيث المرسل والمستقبل. والخاصّة من الناس هم الذين يعيشون بعقولهم التي هي سبب إخراجهم من الوجود البشري إلى الوجود الإنساني. واللغة هي وسيلة العقل الأهم في اكتساب المعارف وفي التعبير والتواصل. فهي أداة التلاقح الثقافي المعرفي، وهي التي تمكن الإنسان من أن يحقّق إنسانيّته بقدر نسبة استخدامه للعقل في اكتساب المعارف. وأسمى مستويات اللغة وأقدرها على الاكتساب والتعبير إنما يتحقّق في المستوى البلاغي للغة أرفعِ درجة في الأدب. وعلى هذا فإن الأدب موجود على مستويات تتناسب مع مستويات المتلقّي. فهو يصدر عن الإنسان، ويهدف إلى تحقيق إنسانيته، فالعلاقة جدليّة وجوديّة بين الطرفين.
ويؤكد هذا المعنى كلام التوحيدي على الصدق الفني في الأدب، فزينة “اللفظ في المعنى، وحسن المعنى في الصدق، والصدق ينقسم على صالح المؤدّب والفعل المهذّب” (الإشارات الإلهية، 1950، ص/400). فأفضل الأدب ما قام على الصدق في المعنى، وهذا ما ينسجم مع وظيفة الأدب، بحسب التوحيدي، وعلاقتها مع النفس. فالصدق والكذب “يجريان من النفس مجرى الصحة والمرض، لأن الصدق لها صحّة ما، والكذب مرض ما” (الهوامل والشوامل، 1951، ص/337)، ولهذا يرتاح الإنسان إلى الصدق، ويذم الكذب، لأن نفسه في جوهرها تبحث عن الحق الذي صدرت عنه، فإذا وجدته ارتاحت وسكنت، لأن غاية كل متحرّك أن يسكن عند بلوغ الغاية التي تحرّك إليها (الهوامل والشوامل، 1951، ص/321). والأدب يجب أن يقدم لها الصدق ليساعدها في بحثها وسكونها عن معنى ذاتها ووجودها. فالأدب وظيفته مساعدة الإنسان على الوصول إلى الحق، ومساعدته على اكتشاف الجمال تمهيداً للوصول إلى الكمال، أو بالأحرى مساعدته على إيجاد كماله المنسيّ. يقول التوحيدي معرّفاً البلاغة: “البلاغة هي الجد، وهي الجامعة لثمرات العقل، لأنها تُحقُّ الحقَّ، وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه” (الإمتاع والمؤانسة، 1960، 1/100).

خاتمة:

إن العلاقة بين ثنائية الإنسان والجمال والأدب علاقة واضحة تربط فيما بينها المعرفة في كتب التوحيدي، وهي علاقة أطلقنا عليها مصطلح (الإنسية). فالتوحيدي ينطلق من مفهوم الإنسان الإلهي ليصوغ رؤيته للعالم وللعلاقات الاجتماعية التي تتجسّد في مفهومي الجمال والأدب.
إن هذا التفسير للعلاقة بين الإنسان والكون ليست تفسيراً يبشّر بالخلاص الفرديّ والهروب من الواقع الاجتماعي الثقافي، بل هو دعوة إلى خلاص البشرية كلها عن طريق منح الإنسان سبيل الخروج من طينيّـته التي تردّى بها. وهي فرصة واقعيّة وليست طوباويّة، لأن الإنسان يحمل خلاصه في داخله، فإنسانيته كامنة فيه بالقوة، ولا يحتاج إلى اكتسابها من غيره، إلا أن يحتاج إلى العلم الذي هو مفتاح إنسانيّته.
هذا الموقف بعيد عن الفلسفات الغربية التي تضع الإنسان في مرتبة أدنى من الحيوان، فتطلب منه العيش بغرائزه التي نسيها بدلاً من العقل الذي يميّزه من الحيوان، على حين أن الحيوان ما زال يحتفظ بغرائزه يعيش عليها.
إنه موقف يعطي الإنسان معنى وجوده، ويذكّر بمكانته التي خلق عليها، ويوفّق بينه وبين الكون عندما يجعله جزءاً منه، ويرفع من مكانته بين الكائنات هندما يجعله خليفة الله على الأرض.
إن ما وجدناه عند التوحيدي ينسجم مع النظريّة العامة لمفهومي الجمال والأدب عند العرب المسلمين، بل هو جزء منها يساهم في تشكيلها. ونحن في إطار إعداد دراسات أخرى لأعمال مفكّرين وأدباء عرب مسلمين آخرين، سوف تشكّل في نهاية المطاف رؤية عامة شاملة لمفهومي الجمال والأدب في الحضارة العربية الإسلامية.

المصادر:

  • القرآن الكريم
  • التوحيدي، أبو حيّان:

الإمتاع والمؤانسة 1960، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، دار الحياةبيروت.
الإشارات الإلهية، 1950، تحقيق د. عبد الرحمن بدوي القاهرة.
المقابسات، 1970، تحقيق محمد توفيق حسين بغداد.
الهوامل والشوامل، 1951، تحقيق أحمد أمين وأحمد صقر القاهرة.

الصديق، حسين: مقدمة في نظرية الأدب العربي الإسلامي، 1944، منشورات جامعة حلب حلب.

المصدر: http://asseddik.com/cms/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A...%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D8%B9%D9%86%D8%AF/
الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك