صناعة الآخر

د. جسين الصديق

 

تحوّلت فكرة تقبّل الآخر إلى إشكالية في مجتمعاتنا، وتكمن الإشكالية في أني أتقبل الآخر، ولكنه تقبّل هذا مشروط بأن يتقبلني هو أيضاً، فلا يحاول صياغتي على شاكلته. فقد آن لأديولوجية تطبيع الآخر وفق شاكلتي أن تعلن سقوطها، تلك الأيدولوجيّة التي ترافق الفرد منذ نشوئه، فالأمّ تسعى لتكوين صورة مصغّرة عنها في ابنتها، والأستاذ يسعى إلى تكرار ذاته في طلابه فيرغمهم قسراً على حفظ أفكاره وإن لم يقتنعوا بها، وكلُّ ذلك ضمن مؤسسة “كن مثل”، “كن مثل أخيك، أبيك، ابن عمّك ..” ولا أحد يدعم هذا الفرد بقوله: “كن أنت”.

إنّ ما تقدّم لا ينكر وجود الأنموذج أو القدوة، ولكن للاهتداء وليس للارتداء، فقد نشأنا على ثقافة أن نكون “نسخة عن”، فالأمُّ تشتري الألعاب والملابس المتماثلة لأطفالها، والمدرسة تفرض الملابس والمناهج الموحّدة على تلاميذها.

وتبدأ المعاناة عندما يدرك الفرد بأنه ضحيّة تهميش ثقافي من قبل جماعة منظمة أو غير منظمة، فيكون ردّ الفعل بأن يسعى هو أيضاً لتهميش الجماعة الأولى فيكون مشاركاً في لعبة لا تنتهي لأنها تقود إلى لعبة أكبر ودائرة أوسع، فنحن ما نزال أطفالاً على تعلّم فنّ “تقبّل الآخر”.

ومن هنا أقول: إنّ أخطر صناعة هي “صناعة الآخر”، وإهمال التمايز بين الأفراد، فلن نكون بأحكم من الله الذي خلقنا شعوباً وقبائل مختلفة، “يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” الحجرات/13. “ِلكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ” المائدة/48. فالاختلاف حكمة إلهية لو قرأ البشر إشاراتها لعرفوا بأنها سنّة من سنن هذا الكون .

ومن هنا ولدت “ثقافة التكفير”، وذلك من خلال التعامل مع الله بآلية امتلاك لا كينونة، فكل فرد يزعم امتلاكه للحقيقة، وببساطة فإن كل من يخالفه “كافر”، ويتطور الموضوع ليبدأ الشعور بالامتلاك الذي يغذيه في نفس هذا الفرد شيخ ما، ليكون الله ملكاً له ولشيخه، وكل من لا ينتمي لهم هو أيضاً وبكل بساطة في قعر جهنّم. ولذلك يكون ردّ الفعل من الطرف الآخر بأن يتعامل مع هذه الجماعة على أنها رجعية ومتخلفة، ويكون الحدّ الفيصل بين الطرفين هو الاحتكام إلى المرجعيّة المتمثّلة بالقرآن والسنّة في الدين الإسلامي، لكن هذا الاحتكام لا يحلّ الخلاف، بل يزيد من حدّته، لأننا نختلف أيضاً في فهم هذه المرجعية، ولا نتّفق إلا على الخطوط العريضة منها، فنضيع في تفسير الجزئيات التي تصوغ لنا خلافاً جديداً!

وفي النهاية أقول إنّ الكثير منّا يخشى الاعتراف بقوله: “هذا يخالفني برأيه وله الحرية والحق في ذلك”، وكأنّ شبحاً ما يسكن هذه العبارة، ليقودنا الاختلاف في كل مرة إلى خلاف.

المصدر: http://asseddik.com/cms/%D8%B5%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك