الثّقافة الشّعبية والآخر
د. سعد كموني
ربما تكون الظروف التي نمرّ بها هي من أحلك الظروف التي يمكن أن تمرّ بها أمّةٌ من الأمم، لا لأنها تفرض علينا تحدياتٍ كبيرةً فحسب؛ بل لأنّ من جملةِ هذه التحديات، شعورَنا بأنّ المسافة الزمنيّة التي تفصلنا عن الحداثة الحضارية والثقافية، مسافةٌ شاسعة جدًّا، قد تكون قرنين أو ثلاثة من الزمن، مسافةٌ كفيلةٌ بإحباطنا وإشعارنا بأنّ كلّ ما لدينا تافهٌ ومسؤولٌ عن قصورنا الحضاريّ.
طبعًا، هذا حكمٌ مبالغٌ فيه، إذ يوحي بأننا قومٌ ميؤوسٌ من تقدمنا، ولا نصلح للانخراط الإيجابيّ في حضارة المجتمع الإنسانيّ المعاصر. والحقيقة التي تحتاج إلى إثبات هي أننا نستعصي على ذلك وليس ميؤوساً من نهوضنا، بل أجد في ذلك حافزاً لمضاعفة الجهود في تشخيص العلّةِ ومكامنها، وابتداع الطرق لمحاصرتها وتجاوزها. فالقصور الحضاريّ له أسبابه الموضوعيّة في التكلّس الثقافي، في تقادم ثقافتنا وعدم صلاحيتها لتمكيننا من التعامل مع الأفكار الجديدة وانعكاساتها في السلوك اللغوي والتعبيريّ والمادّيّ.. وبخاصةٍ أنّها في بعض عناصرها تشكّل معتقداتٍ تتموضع في قلب الهويّة الخاصة!.
وباعتقادي، إنّ كل ما نحتاجه هو الجرأة على يقينياتنا لمساءلتها وإعادةِ النظر فيها. وحتى الآن - على ما يبدو- لا نملك هذه الجرأة، لكننا نتلمّسُ الطريق إليها بأقلّ قدر من الخسائر، وقد يكون الفاصل بيننا وبين إشهارها، أنهارٌ من الدماء، شرَعت بشقّ مجاريها في دروب حياتنا المكتظةِ بالمتاعب، بأيدينا ورغمًا عنّا، وكأنما درب الدِّماء ممرٌّ إجباريٌّ لا مندوحةَ عنه.
يجيءُ كلامي هذا في سياق البحث عن قيم الحوار في ثقافتنا الشعبية، وذلك في أجواء انعدام الحوار ما بيننا تقريبًا، حتى بين الآباء والأبناء، أو بين الأهل والجيران والأقارب، بين الأساتذة والمتعلمين، وبين أصحاب الآراء المختلفة والمعتقدات المختلفة في المجتمع الواحد. فإما أن يكون حوارٌ ظهرًا لظهر، وإمّا تلقٍّ سلبيٌّ لا يُرتجى منه الخيرُ أبدًا، يُرسِّخ تبعيةً تؤسس لخيانات العهود بمختلف أنواعها، سواء أكانت بين أولي القربى، أم بين السلوك والقناعات. هذا على مستوى العلاقات الحتمية في المجتمع المحلّي؛ فكيف سيكون الحوار على مستوى العلاقة مع الآخر المختلف ثقافةً ووعيًا وسلوكًا؟ وبخاصّةٍ في ظل هذا الاندفاع المحموم لتسليع كل شيء، واصطدامه بجملةٍ متماسكة من العناصر التي تشترك في تكوين الثقافة والهويّة؟. وقد طرح علينا هنتنغتون خريطة طريق الصراع الذي يؤدّي إلى هيمنة الغرب الأميركي، عندما ينظِّر للدولة الثقافيّة وليس للدولة الوطنية فهو يقول: "العالم معرض لأزمة هوية شاملة، حيث كل الشعوب والأمم تسعى للإجابة عن السؤال: من نحن؟ ويجيبون بالرجوع إلى كل ما هو عزيز عليهم، أجدادهم، دينهم، لغتهم، تاريخهم، قيمهم، عاداتهم، مؤسساتهم، وبالتحامهم في جماعات ثقافية على شكل عشيرة، مجموعة إثنية، مجموعة دينية، أمة وأخيرا على شكل حضارة". كيف نتعامل مع هذه الأفكار التي تجعل الثقافة مسكنًا خطيرًا، أو لغَماً قيد الانفجار، يلبي رغبة من يريد الاستثمار في تعميق التمايزات العرقيّة والثقافية والدينية لصالح نظام العولمة. وما المشهد الفتنوي الشامل، الذي تدعمه القوى الداعية إلى حماية المهمشين في العالم؛ سوى تعبيرٍ عن حاجة العولمة إلى الوضع الأنثروبولوجيّ الذي تعيشه الشعوب التابعة من أجل التمكن من النهب والاستغلال. وهذا ما يحيلنا على واجب التفكير العميق في التحرر من أمرين دفعةً واحدة:
أولاً: التفكير العميق في التحرر من هيمنة الثقافة التي تشكّل مرتعاً خصيباً لإنتاج الفتن. وهذه إشكاليّة تفرض نفسها بخطورةٍ فظيعة عند مقاربتها بجدية وجرأة. إذْ يوحي ذلك بأن الجدّ يستهدف الهويّة والخصوصيّة.
ثانياً: التفكير العميق في التحرر من التبعية الناجمة عن هيمنة نمط أحاديّ الجانب في المعرفة والوجود، والتي تفرض نفسها عن طريق العولمة التي تستهدف الأوطان ابتداء من الحدود الجمركية وتغيير مفاعيل الولاء من الوطني إلى الديني أو المذهبي أو المناطقي أو العشائري... وذلك لصالح الربح بغض النظر عن قيم الخير والشر.
إنّ التفكير في هذين الأمرين هو الإشكاليّة الأساسيّة، إذْ كيف يمكننا التحرر من الهيمنة الثقافية المسؤولة عن إنتاج الفتن وتحصين التخلف، واللاعقلانية، دون أن يكون هناك مساسٌ بالهويّة أو بالخصوصيّة؟ وكيف يمكننا أن نتحرر ممّا يصح أن نسميه الاغتصاب الثقافي الذي يمارسه الغربُ ضدنا، ومن التبعيّة المذلةِ والمهينة بسبب هذا الاغتصاب، من دون المساس بعقلانية التقدّم وآليات إنتاجه العلمية؟
للتعامل مع هذه الإشكالية بسؤاليها، عمدنا إلى مقاربة الإنسان والتعرف عليه، وذلك انطلاقاً مما قاله "تايلور" في الثقافة: إنها "مجموعةٌ من الأنشطة المتميّزة لكافّة المجتمعات البشريّة على اختلافها" وذلك يفيدنا في تأكيد مظاهرها في الكلام والسلوك، سواء أكان سلوكاً ذهنياً أم حركيّاً مادياً ملموساً، وفي التأكيد أنّ الأساس في الثقافة اختلافها من مجتمعٍ لآخر. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الأنشطةَ المتميّزة للمجموعة لا تكون بقرارٍ يتخذه أحد الأفراد، ولا يمكنُ أن تفرضه جهةٌ غريبةٌ عن المجموعة؛ بل لها ما يبررها في جملة المواقف الضمنيّة التلقائيّة تجاه المكان والزمان والإنسان.
1. الإنسان موقف من المكان:
الإنسان إنسان بسبب هذه المواقف التي تبدأُ بإجراء ذهنيّ تلقائيّ بإزاء الكائنات، إذْ يبدأ بتصنيفها بين كائنات معادية، وأخرى حليفة له في ورطة الحياة. فالكون المتمظهر في الأنشطةِ الكلاميّة أو التعبيريّة، والسلوكيّة الذهنية أو الحركيّة؛ هو كونٌ كما يبدو لا كما هو. فالشمس أنثى في لغة العرب، بينما هو في لغة الفرنسيين مذكّر. طبعاً، الشمس لا علم لها ولا ينبغي لها أن تعلم بهذا التصنيف، لكنها هكذا بدت للعربيّ وهكذا بدت للفرنسيّ. كذلك العواصف والصواعق والبروق والرعود والجبال والأنهار والأشجار والنباتات وكلُّ أثاث الكون من نجوم وأقمار وغيوم ومتساقطات وأتربة متنوعة وصخور... كلّها وسواها كائنات حليفةٌ أو معادية تفرض نفسها بشكل مختلف من مكانٍ لآخر، وتعاملُ الإنسانِ معها سيكون مختلفاً من مكانٍ لآخر؛ يصنّفها أولا بين حليفةٍ ومعادية، وتالياً يعمل لاستثمار الحليفة وتطويرها، وتطويع المعادية أو تلافيها. وسيتجلى ذلك في المأكل والمشرب والمسكن والملبس وتالياً في الفنون. وسيكون مظهرٌ ما في مكانٍ ما معادياً بينما هو في مكان آخر حليف، المطر الشديد في لغة العرب "غيث"، بينما هو عند الفرنسيين "mauvais temps". ومن مظهر المواقف في العمارة ما لاحظته من اختلاف مبنيين يبعد أحدهما عن الآخر بضعة عشرات من الأمتار، أحدهما من إنجاز مهندس روماني، والآخر من إنجاز مهندس عربيّ. هيكل الإله باخوس، والمسجد الأموي، كلاهما في بعلبك في البقاع اللبناني. تساءلت: ألم يرَ العربيّ هندسةَ الهيكل وهو يهندس المسجد، لماذا لم يتأثر به؟ لماذا لم يجعل الأعمدة سبعة والصخرة المائلة على تلك الأعمدة السبعة؟ بل جعل القبة فوق المسجد والقناطر عند المدخل؟ كما نرى؛ هذا نتاج ثقافة، وذاك نتاج أخرى؟ فالرومان كانت نشأتهم الأولى في بلاد خصيبة، وحدائق غنّاء بأثر من الأنهار والينابيع ووفرة المياه، وكانت هذه الحدائق الغناء تتأثر سلباً بالمتساقطات الغزيرة من العُلا، والسيول العارمة من جراء ذوبان الثلاجات الشمالية، وبالزلازل والبراكين، إذن؛ كانت علاقتهم سلبية بالعُلا وبما يأتي من هنالك؛ لذلك كانت حكمة الأرض تدفع لعنة السماء. بينما علاقة العربي ابن الصحراء بالعلا علاقة إيجابية، لأنّ الطبيعة التي كانت تصفرّ وتيبس ولا تعطي أي شيءٍ إلا بالقوة كما يقول أدونيس، كانت تهيج وتخضر وتنبت من كلّ زوجٍ بهيج، فكلما أصاب الأرضَ مصاب؛ رنت العيون وتضرعت إلى السماء، فالعلا عند العربيّ مصدر الرحمة والعطاء والخير لإصلاح الأرض الفاسدة. أمّا مصدر الفساد عند العربيّ، فهو الأودية الغامضة والأماكن المسكونة بالجن والعفاريت والأغوال. وما الأصنام إلا وسائط أرضية تقرب العربيّ إلى الله. بينما الآلهة التي كانت تستوطن جبال الأولمب هي مصدر اللعنة التي تلاحق الأرض وأهل الأرض عند الغربيين... وهكذا.
إذن؛ الأشياء التي يراها العربيّ هي في لغة العرب بحسب رؤية العربيّ لها وليس بحسب ماهيتها الحقيقية. والذي يحدد الرؤيةَ على هذا النحو دون سواه، لا شيء خارج آلية التصنيف التي يعتمدها تحت تأثير الخوف أو الحاجة، أو المصلحة على حدّ تعبير غاستون باشلار. وكذلك الأشياء التي يراها الغربيون، هي في لغاتهم بحسب رؤاهم المختلفة، والذي يحدد الرؤية على هذا النحو دون سواه، لا شيء خارج آلية التصنيف التي يعتمدونها تلقائياً تحت تأثير المصلحة. والاختلاف بين الرؤى ليس اختلافا بالرتبة بل هو اختلافٌ بالهوية فقط.
2. الإنسان موقف من الزمان:
الإنسان إنسان أيضاً بسبب هذا الموقف من الزمان، معطوفاً على الموقف من المكان. صحيحٌ أنّ الوعي بالزمن قد تأخّر، إلا أنّه إذْ تبدّى وظهر، كان له الأثر الكبير في تعديل حياة الناس، عندما بدأ الإنسان يعي بوجود الغد، بعد أن أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا، ابتدع تخزين الأطعمة، وعرف الرجل أنه أب، وكانت الملاحظةُ قد تراكمت في ذهنه حتى راح يصنف علامات الزمن بين علامات حليفة وأخرى معادية، والزمن برمته كائن معادٍ عند العرب واليونان، فالقرآن الكريم يقدّم لنا موقف العرب من الدهر على أنّه الوحيد الذي يهلكهم، ومع أنه برمته معادٍ إلا أنّ النهار مع تعبه ونصَبه أجمل من الليل مع كونه سُباتا، لكن الليل مستودع الجن والعفاريت والأغوال، وطويل حتى يكاد لا ينقضي، وقد عبّر الشعراء عن ذلك بكثير من الأسىى:
• تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ... وليس الذي يرعى النجومَ بآيب
• ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ... بصبحٍ، وما الإصباح منك بأمثل
•...
كما نلاحظُ أنّ الكلام على البدايات في الثقافة العربيّة قليل جدّاً بالمقارنة مع الكلام على الخواتيم، فالموت خاتمة كل شيء. يبعث على الأسى، والإحباط، والبطولة والشهامة... كما يبعث على العبث واللاجدوى. التشيؤ مطلب عند البعض "ما أطيب العيش لو أنّ الفتى حجرٌ". حتى أن طول العمر يكون مُمِلا عند البعض:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش... ثمانين حولاً - لا أبا لك- يسأمِ
ومع هذا السأم يتشكل تصورٌ مرعب للنهاية:
لعمرُك إنّ الموت ما أخطأ الفتى... لكالطِّوَلِ المرخى وثنياه باليد
أضف إلى ذلك غموض الغد، وغموض ما بعد الموت. "لم ينظر إلى الموت باعتباره النهاية المطلقة للحياة، أو على أنه يؤدي إلى الفناء الكامل للحيوية؛ ولكنه كان يعنى انفصال الجسد والروح وتحلل الأول، وانتقال الأخيرة من نمط للحياة أو للوجود، إلى نمط آخر".
.. والأساطير اليونانية قدّمت لنا الزمن أبًا يأكل أبناءه “Kronos”. ولم يكن ليراه كذلك، لو لم يكن الإنسان اليوناني من أبناء الزمان، أي من ضحاياه. الزمن، ذلك الغامض الذي يأتي على الأشياء فيهرمها، ويأتي على الإنسان فيسلمه للقبر. إذن الزمن كائنٌ معادٍ، وهذا الاعتقاد ينعكس سلوكاً، ذهنياً وحركياً، على شكل عادات وتقاليد وأعراف... في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وفي الكلام اليوميّ "إن موت أي إنسان يجعلني أتضاءل" وقبلاً في الترتيب الصوتيّ لإنتاج الكلمة. وفي الحب والفراق "تدفقت الحياة كالربيع عبر القرون... إنه عيد سعيد خالد لأبناء السماء وسكان الأرض... لكن خاطرا وحلما مخيفا اقترب من الموائد السعيدة وألقى الاضطراب العنيف في النفوس... وكان ذلك هو الموت الذي اقتحم المأدبة كي يقذف بالخوف والألم والدموع...".
مما لا شك فيه أن الباحثين قد وجدوا اختلافا في الموقف من الموت والولادة بين مكان وآخر، مع أنّ السرور بالولادة قائم عند الجميع، وكذلك الحزن من الموت. أما المختلف هو مظهر السرور في العادات والتعابير والعمارة و... وكذلك مظهر الحزن.
إذن، هذا هو الإنسان، يتعامل مع الكون كما يبدو له، يسلك في هذه الحياة تحت تأثير رؤيته للمكان وأثاثه، والزمان وعلاماته، فالذي نسميه موتا ليس هو سوى مظهر للوجود، والذي نسميه حياة هو مظهر للوجود أيضاً.
3. الإنسان موقف من الإنسان
من هو الإنسان عند العرب القدماء ومن هو الإنسان عند الأوروبيين القدماء؟
لن أدخل في دراسة الميثولوجيا الإغريقيّة أو العربيّة للوقوف على رؤية الأوروبيين القديمة أو العرب القدماء للإنسان، بل سأكتفي بلمحةٍ يقدمها لي بيت من الشعر قاله زهير بن أبي سلمى:
لسان الفتى نصفٌ، ونصفٌ فؤادُه فلم يبق إلا صورة اللحمِ والدّمِ.
بين أيدينا ثلاثة جمل تقدّم لنا الإنسان بحسب رؤية زهير:
1. المسند إليه + المسند = لسان الفتى نصف
2. المسند + المسند إليه= نصفٌ فؤاده
3. إسنادٌ معطل بالنفي والحصر= فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
الجملة الأولى رُتِّبت وفق الأصل في ترتيب الجملة الاسميّة، إذْ لا شيء يقتضي تعديل الترتيب. فهي تقدّم لنا معلومة نفهمها من إسناد النصف إلى لسان الفتى حكماً نهائيًّا. وهذا يجيب عن سؤال حول لسان الفتى، فيكون الجواب "لسان الفتى نصف"ٌ، ويثير هذا الجواب سؤالا عن النصف الآخر، فيأتي الجواب في الجملة الثانية "ونصفٌ فؤادُه" ليتكامل النصفان، غير أنّ الجملة الثانية هذه خالفت الأصل في ترتيب الجملة الاسميّة، إذ تقدّمَ المسند على المسند إليه، وذاك ملاءمة للسؤال الذي اقتضاها، فالجملة الأولى اقتضاها سؤال عن لسان الفتى، بينما هذه الجملة اقتضاها سؤال عن النصف الآخر، لذلك قال نصف فؤاده.
قلنا تكامل النصفان والخلاصة المستفادة من هذا التكامل أن الإنسان بلسانه وفؤاده، بكلامه وجنانه، فما الذي يبقى؟
تلقائيا ما بقي ليس سوى صورة اللحم والدم.
هذا هو الإنسان. كلامه يقدم لنا مستواه المعرفي والقيمي والأخلاقي والجمالي..
وقلبه مستودع المواقف الوجدانيّة والحكمية، وحيثُ الجبن والشجاعة، والتردد والثبات.
وصورة اللحم والدم لا تعطي للإنسان قيمته الإنسانية.
هذا الذي لا يعطي للإنسان قيمته الإنسانية برؤية زهير؛ له الأولوية برؤية أرسطو "حيوان ناطق"
المثاليات حاجة اللسان والفؤاد، بينما الماديات حاجة الحيوان/ اللحم والدم.
صحيح أن سقراط قال: "تكلم يا ولدي حتى أراك"، لكن هذا القول لا يرقى إلى درجة تعريف للإنسان؛ لكونه جاء في غمرة نقاش كان فيه أحد تلاميذه مغرِقًا في الصمت، فأراد تحريضه على المشاركة بقوله هذا. مع أنه ذو دلالة بالغة لكنها ليست ذات قيمة في التدليل على ماهية الإنسان.
يمكننا بمراجعة ما سقناه عن المواقف من المكان والزمان والإنسان، واختلافها باختلاف الأمكنة، مع التأكيد أن هذا الاختلاف لا يمنح أحدا رتبة فوق أحد أو دونه، بل هو اختلاف بالهوية؛ يمكننا الإشارة إلى أنّه لا شيء يمنع انتقالَ مظهر حضاري من مكان إلى مكان سواء أكان المظهر بناء أو نشاطا هندسيا، أو مأكلا، مشربا، ملبسا،... لا شيء يمنع، ولكن الذي يجب أن نعرفه هو أن انتقال المظهر لا يعني انتقال الموقف. وقد يحصل كثيرا أن يتأثر شعب بطريقة عيش شعب آخر فيأخذ منه كثيرا من العادات والأعراف والقيم، وعلى مدى التاريخ كان يحصل هذا، وقد تكلم في هذا المؤرخون والأنتروبولوجيون، بإشارتهم، أن المغلوب يقلد الغالب. ونستطيع أن نضيف أنّ التأثر بين الشعوب والأمم قد يحصل من دون صراع.
4. تبدل الموقف:
يحصل تبدّل الموقف بتغيّر معلوماتنا عن المكان والزمان والإنسان، وقد يكون أن تعلمنا ذلك في مدارس الآخرين، وعرفنا مكتشفاتهم ونشاطهم في الوصول إلى ذلك، فسيكون لهذه المعرفة الجديدة أثرها في تعديل مواقفنا، ويصطدم التعديل بالمواقف التي كانت قبل هذا، فيحصل ما يمكن أن نسميه صراع الأجيال، أو صراع الحداثة والتقليد، فهناك أنماط من التعاون في المجتمع، لا بد لها من التغير بعد تغير وسائل الإنتاج مثلا، أو بعد تغير مظهرٍ من مظاهر الثقافة، فالتعاون الذي كان بين أبناء البلدة أيام كان الحصاد يعتمد على القوى الشبابية، لم يعد موجودا بعد دخول الآلات الزراعية الحديثة، فيأتي من يقول سقى الله أيام زمان كان الناس يحب بعضُهم بعضًا أكثر من اليوم، لقد أفسدت هذه المخترَعات حياة الوئام في المجتمع. وقس على ذلك؛ فالجيل الجديد لا يقبل بالرقى والتعاويذ علاجًا بعد أن عرف ما عرف عن الإنسان وأسباب مرضه، وكيفية التصدّي للأمراض. بالطبع سيأتي من يقول إنّ العلم الذي يقدمه الغرب لنا؛ تسبَّبَ في ابتعاد الجيل الجديد من الدين، لأنّ السائد في الثقافة الشعبيّة، والقارّ فيها، أنّ الرّقى والتعاويذ من الدين، وكذلك فك الرصد وطرد الجن من الأجساد. وهنا تبدأ التفلعات الثقافيّة في المجتمع، وقد يطول الزمن قبل التمكّن من تعديل المواقف. إذْ يتأزّم الواقع في علاقة الفرد بأهله وبيئته الاجتماعية والثقافيّة، وبخاصّة أنّ في المجتمع نُخبًا ارتبطت مصالحُها ومصالح مؤسساتها الثقافية باستمرار جهل الناس بالعلوم والمعارف، فتبدأ الحرب على التجديد ومحاولات تعديل المواقف الضمنية، وهزّ اليقينيات الراسخة، وهنا يحضرني ما قاله كانط في باب التنوير، حيث قال بأنه "خروج الإنسان من مرحلة عدم النضج والتي تكبده الكثير من العناء. وهذا العناء لا يأتي من حالِ الجهل وعدم الفهم والسعي إلى المعرفة، ولكنه يأتي من الجهل وعدم الشجاعة في سبر أغوار الأمور، والعمل على التفكير بمنطق وبشكل مستقل، بدون الاعتماد على ما تمّ تلقينه للفرد من مبادئ في الصغر، قد تكون خاطئة، وهي على الأغلب كذلك". كأني به يحمل المسؤولية الكبرى للمثقف. وهذا ما نلمسه في حياتنا واقعاً إذ نرى باستمرار عزوف غالبية المثقفين عن مقاربة موضوعٍ يفسد علاقتهم بالمؤسسة الدينية، خوفاً من تأليب الرأي العام عليهم. ولا أدري كيف يمكن أن ينطلق التنوير الفعليّ عندنا ما لم نتقدّم بضع خطوات جريئة! وما تجدر الإشارة إليه هنا هو انعدام ثقافة الحوار، بل يولد أحدُنا داخل أقمطةٍ من التعاليم سواء أكانت من المسجد أو الكنيسة أو الحسينية، أم من المؤسسة الثقافية الشعبيّة وعلى رأسها المثل العامي، إذْ يبدو المثل أكثر صدقيّةً في نقله متطلبات العيش وبخاصة في بلد تتعدد فيه الثقافات. فتصبح مخالفة المثل كما لو أنها خيانةٌ كبرى للجماعة تبدو آثارها فظيعة إذا فشل المخالف.
5. المثل الشعبي والآخر المحلّي
"أنا وخيي على ابن عمي وأنا وابن عمي ع الغريب" يشكّل هذا المثل مرجعاً للعلاقات بين الأهل والأقارب، ويقدّم لنا تواطؤاً اجتماعياً يقرّ بضرورة النصرة بين الإخوة وأبناء العمومة، تتدرّج من نصرة الأخ لأخيه في مواجهة ابن عمّه، ولكن إذا كان الخصام مع الغريب الذي ليس أخاً ولا ابن عم، فيكون التكاتف والتعاضد في مواجهةِ هذا الغريب. ونلاحظ أنّ هذا المثل العاميّ راسخٌ في النظم الاجتماعية عندنا، وتختلف مظاهره من مكان إلى آخر، يقوم على مبدأ التصنيف بين الناس وفق ثنائية ضدّيّة قوامها أنا/ الآخر. وليس الآخر ثابتاً فمراتٍ يكون أخي، ومراتٍ أخرى يكون ابن عمي، وأكثر المرّات يكون جاراً أو من قرية أخرى، والمسألة لا تقف عند حدّ النصرة فيما يتعلّق بخصومةٍ على عقارٍ أو عروس أو أفضليّة مرور، بل ينعكس على علاقة موظف في القطاع العام، أو رئيس بلديّة في تقديم مصالح إخوته وأقاربه، على مصالح الآخرين، وإذا لم يفعل؛ سيبوء بعداوةٍ ونبذٍ شديدين، تحت شعار "الشجرة اللي ما بتفيي ع كعبها بدها قطع". ولم تستطع تطلعات النخب أن تصل إلى مبتغاها التاريخي، لكون الكثير من المثقفين يحتاجون نصرة أقاربهم في مواجهةِ الآخرين. ولا أظنُّ من قريب أو بعيد يمكننا الوصول إلى مبتغياتنا التقدمية على القواعد والأسس الجاهليّة. تذهب العائلةُ مع فلانٍ لمراجعةِ أحد المسؤولين، بهدف تعيينه في موقع وظيفيّ ما، عندما يرى ذاك المسؤولُ تكاتف العائلة مع هذا الشخص، يأخذ ذلك بالحسبان، بغض النظر عن الأهليّة والكفاءة وما تتطلبُه الوظيفة، فالمسؤول هذا قد يحتاج أصوات هذه العائلة في الانتخابات القادمة، وأصعب من هذا الذي يفسد كلّ مسؤولية، هناك في العلاقة مع المؤسسات الثقافية ما يقوم على المسايرة وتلافي الأخطار، وتأجيل المناكفات بالمداهنة والنفاق. فما الفرق بين هذه الأمثال وما قاله قريط بن أنيف التميمي قبل أكثر من ألف سنة:
لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
لا يســألون أخـاهــم حين يندبـهم... في النائبات على ما قال برهانا.
هل من جرأة تمكننا من نقد هذا المثل، هناك من يقول "المثل كان نبياً" ما يعني أنه مدعومٌ بطاقة معصومةٍ عن الخطأ، وبالتالي من يخرج على المثل سيوصف بأبشع الأوصاف.
ومع ذلك، جرياً على عاداتنا في التحايل على القوانين كلما حزَبَ أمر، أو تبدّت لنا مصلحةٌ في مخالفة القانون/ النبيّ؛ يمكنُ للفطنة الشعبيّة أن تتفتق عن مبدأ آخر يسمح بخلافه، كذلك بإزاء هذا المبدأ الصلب، يمكن تعديله شعبيّاً بنص آخر، لا يقل عصمةً "جارك القريب ولا أخوك البعيد". نلاحظ في هذه الأمثال المبدئيّة غياب الحق كلياً عن النصرة أو التعاضد بين الناس، فالآخر منصورٌ إذا كان أخاً أو ابنَ عمّ... أو جاراً، بغضِّ النظر عن قربه أو بعده من الحق.
أن يكونَ الجار القريب مفضلاً على الأخ البعيد، فيه شيءٌ من المنطق الذي تحدوه الإلفة والمصلحة، فالجار للجار حتى لا تتحول الحياة إلى جحيمٍ لا يُطاق. ولكن هل هذا كافٍ لاستبعاد الحق من مرجعيّات النصرة؟! ويحصل أيضاً أن تسوء العلاقة مع الجار القريب؛ فنلجأ إلى أخينا البعيد نستحضره لمساندتنا ضد الجار، أيضاً بغضِّ النظر عن القرب والبعد من الحق "فالدم ما بيصير مي".
وهكذا نعيش داخل ثقافة شعبيّةٍ محكمة الإغلاق، لا نستطيع التفلت من إحكامها بالحجّةِ والمنطق، بل سنكونُ محظوظين إذا كان أحدُ أولياء الأمور من أصحاب المصلحةِ مع السلم الأهلي والوئام الاجتماعيّ، عندها فقط تختفي هذه المبادئ التي من شأنها أنْ تؤجج النزاع وتغذيه، ستكون هناك قائمةٌ أخرى من الأمثال التي تزيّن العيش الآمن والحياة المستقرة. ويكون للنفاق مبدأ آخر تندرج تحته جملة سلوكات "اللي بيحتاج الكلب بيقللو صباح الخير يا سيدي" فهو إلى كونه مثلا يجمِّلُ النفاق، يدعو إلى الخنوع والتسليم بالأمر الواقع. أو "الإيد اللي ما فيك تعضها بوسها وادعي عليها بالكسر" أيضاً له وظيفة مقيتة في التأثير على العلاقات، فالتوادّ بين الناس، يكون بتغطيةٍ من الإقرار بالعجز عن الغلبة، ﻓ"الرجال عند أغراضها نسوان"، مع ما ينطوي عليه هذا المثل من إهانةٍ للنساء، والادعاء بأنّ الرجال أصلاً أقدر في تحقيق أغراضهم، فيه إقرار أيضاً بأهمية لطف النساء في سبيل تحقيق الأغراض، وهو مع ذلك يقال في سياق الدعوة إلى اللطف الذي لا يليق بالرجال في مجتمعاتنا الذكوريّة، فاللطف والدلّ المحببان عند النساء ينقلبان إلى ذلٍ وخنوع عند الرجال.
طبعاً لا يعني هذا أن التوادّ والتراحم وصلة الأرحام ليست موجودة في علاقاتنا؛ لكنّ الأمر هنا يتعلّق بما يجب نقده وتجاوزه، مع قدرة أصحاب النفوذ على التسلّط في مجتمعاتنا من خلال اعتماد هذه الأمثال مرجعية للسلوك الذي لا يؤدّي إلا إلى الخصام الظاهر حيناً، والمكتوم أحيانا.
الآخر في أمثالنا الشعبيّة هو جيراننا، وأبناء عمومتنا، وإخوتنا. "تمنى الخير لجارك بتشوفو بدارك" كم هي غنية هذه العبارة في الدعوة والتشويق لتنظيف الطويّة تجاه الآخر/ الجار. فهو لا يشترط قرابة الدم، ولا يشترط أي شيء لهذه الطوية السليمة، بل هي دعوة لحماية المجتمع وأمنه وسلامه على مبدأ "جارك بخير أنت بخير".
أما الآخر القريب برابطة الدم، فالعصبيّة هي التي تحكم العلاقات الودّية بيننا وبينه "ما بيحن ع العود إلا قشرو" أو "اللي بيطلع من ثوبو بيعرى". أما لجهة التعامل مع القريب فهناك نهي عنها مرجعية المثل الشعبي الذي لم يكن إلا نتاج خبرة طويلة "قرابتك بدك تبقيه لا تاخذ منو ولا تعطيه"، وكما أسلفنا، المثل كان نبيا لم يدع شيئا إلا وقاله.
سنجد من يقول لنا إنّ الهوان الذي يلحق بنا اليوم، لم يكن إلا بسبب التهاون في مبادئ العصبيّة الضروريّة للنصرة. وليس بسبب بعدنا من الحق!
أمّا إذا انتقلنا إلى الكلام على العلاقة بين المختلفين دينيا أو مذهبيا، سنرى الأمثال الشعبيّة ترفدنا بالكثير الكثير، ما يعني أنّ المواقف البينيّة الحادّة، تأخذُ شكلَها في المؤسسة الثقافية الاجتماعية، وبشكل خاص في التعبيرات التي لها سلطةٌ تأثيريّة، تتحوّل إلى مرجعيّة للسلوك مع المختلف، فيبدو المثل كما لو أنه حجر عثرة في طريق الوئام الاجتماعي الذي تحتاجه المواطنة المنشودة.
"المحمدي لا بحبّو ولا بسبّو" صحيح أن هذا المثل يقدّم طريقةً للحياد ولكنه - إلى ذلك- علامة على موقفٍ ضمني لا يتزحزح، عندما لا نحبّ ليس بالضرورة أننا نكره، وأن لا نسب لا تعني أننا نحب، بل تعني أنّ المسيحيّ، هذا أكثر ما يمكن أن يقدمه للوئام بين الطائفتين. وهذا أمر طبيعي، عندما يكون بعيداً عن التعامل معه. أما إذا كان لا بد من التعامل معه فللضرورة أحكام "كلنا ولاد آدم وحوّا". "كلمن ع دينو الله يعينو" وهذا لا يعني أن المسيحي صار مسلماً أو أنّ المسلم صار مسيحيا، فالعقيدة لا مجال للعدول عنها "محمد أبصرش مطانيوس" ولكن أن يقرَّ أحدُهما بالآخر شريكاً له، فهذا طموح كبير تقدم لنا هذه الباقة من الأمثال قاعدةً يمكن الانطلاقُ منها نحو الأفضل للعيش المشترك.
أما بين المذاهب في الطائفةِ الواحدة فحدّث ولا حرج "موراني وخيّر؟ شي بحيّر" مثلٌ أرثوذكسي، يقابله "الروم عظمن أزرق" وتعني أنهم يمتازون بالعناد والتعصب. "بنزّلْ بنتي ع السوق بيعا وما بعطيا لواحد شيعا" يعني أن السنّي يفضل أن يبيع ابنته في السوق أفضل من أن تتزوج أحد أبناء الشيعة.
6. المثل الشعبيّ والآخر الأجنبيّ
أما لجهةِ الآخر الأجنبي، فهناك مواقف عديدة تضمنتها الأمثال الشعبيّة اللبنانيّة، منها ما يكون انعكاساً لواقع العلاقات السلبية الضمنيّة بين الطوائف اللبنانيّة، ومنها ما يكون نابعاً من الإحساس بعدم حسن النيّة عند الأجنبي، أو شعوراً بالدونيّة الحضاريّة، وبخاصّة أننا لم نعرف الأجنبيّ إلا من خلال غزواته لنا في ديارنا وغلبته لنا، أو من خلال الهجرة، والتي كانت لأسباب بمعظمها تعود إلى الفشل في العيش الكريم داخل حدود الوطن، أو لأنها تؤمّن فرصَ التعلّم الناجح. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مسألةٍ حسّاسة، وهي أنّ المواطنة ليس لها معنى واضح ودقيق في الأمثال العاميّة؛ إذ لم يكن هذا المعنى قد تبلور بعد في الفترات التي نشأت في ظلها الأمثال العامية وكانت أكثر الألفاظ استخداماً للتعبير عن الرباط بالأرض أو بالوطن، هي لفظة البلد، ولكنها كانت ترِدُ بمقابل الغربة. وقد نشأت هذه الأمثال الشعبية، بتأثير من الحساسيّة الشديدة التي سببتها الغزوات والاحتلالات وكذلك الغربة التي تضيّع الأصول. وإذا توقفنا عند هذا المثل قليلاً، يمكننا أن نستهدي إلى أنّ الرابط الأساسي بين الناس البلديين هو رابط وحدة الأصول. وواضح ما في هذا المثل من عصبيّة عرقيّة لها شأنها الكبير في تحديد الولاء والانتماء. وعندما يجد البلديون قد توزعت فروع أصولهم في "أوطانٍ" عديدة بفعل الغريب المحتل، وحيل بينهم وبين التواصل المجدي حضاريّا، إضافة إلى فشل الدولة "الوطنية" في تأمين مصالح العباد... فهذا سيؤديّ إلى جرحٍ كبيرٍ في الهويّة، سينعكس سلباً على المواقف الوجدانيّة المعَبّرِ عنها بالأمثال العاميّة.
أضف إلى هذا العامل الخطير عاملاً آخر أشدَّ خطورةً، يتمثّل في اعتبار الولاء والانتماء إلى الجماعة الدينيّة أو المذهبيّة، مقدّماً على كلّ ولاء وانتماء، عندها سيكون اضطراب في المشاعر السلوك مردّه إلى جرح الهوية. "التركي ولا بكركي" "المسلماني ولا الروماني" "زوان بلدك ولا القمح الصليبي"، "ريح الغربي بيجيب المطر وريح الشرقي بيعمي البصر"
وألاحظ أننا جميعاً نحفظ عن ظهر قلب مثلا عربياً قديماً يميز بين العدو والصديق بالعلم والجهل، بقولهم: "عدوٌ عاقل خير من صديق جاهل" وما لا شك فيه أنّ هذا المثل لم يأت في سياق التبرير للتعامل مع العدوّ الذي يحتل أرضك ويعتدي على الأرزاق والعباد، بحجة أنّ هذا العدو لديه علوم نافعة. بل سيق في التحريض على إعمال العقل في تخيّر الأصدقاء على المستوى الفرديّ، ودراسة العلاقات على المستوى الجمعي. فالخيانة مرذولة وليس لها ما يبررها، لا في وحدة الدين بين المعتدي والمعتدى عليه، ولا في وحدة الأصل والنسب، ولا في التفوّق في مجالات العلم والمعرفة.
7. الخلاصة والتوصيات
بلا شك إنّ مواقفنا الثقافية القارّة في تعابيرنا، تدلّ على علاقاتنا في ظروف غير سليمة، وتدل أنّ مواقفنا من المكان والزمان والإنسان رهن بآنياتها، مع اعترافنا بقدرتها على الظهور كلما تشابهت بعض فقرات تاريخنا، ومرّات لا تظهر إلا بفعل فاعل من خلال النبش في الماضي بهدف التوظيف في الصراعات الحادثة؛ ما يعني أنّ التحديث والتحضر للالتحاق بالركب العالميّ لا يمكن أن يحصل اغتصاباً، وذلك أنّ الأفكارَ الوافدة والمواقف الوافدة ستتأخر كثيراً لتصبح أصيلةً في مجتمعاتنا، وما ينبغي التأكيد عليه هو أن التحديث ضروريّ بل هو واجب، ويحصل بثورة نقدية واعية بأهدافها تستطيع أن تقنع أو أنْ تؤثّر تمهيدا للإقناع. عندما يعرّف ول ديورانت الحضارة "باعتبارها النظام الاجتماعي الذي يساعد الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ من حيث ينتهي الاضطراب والقلق"، يعنيني من الأمر أنها تبدأ من حيث ينتهي الاضطراب والقلق، فعلاقتنا بمواردنا الاقتصادية مضطربة وغير واضحة، ونظمنا السياسية لا تلبي حاجاتنا، وتقاليدنا الأخلاقية متحللة ونرفعها بين شعاراتنا رياء، وعلومنا وفنوننا محاصرة بالأنانية والفشل المروع، بل هناك ردة رهيبة تسعى جاهدة لتكرار ما أبدعه الأقدمون، وبركاكة مخزية. ومنّا من هو سعيد بهذا لأنّ أولياء الأمور، يريدون استمرار هذه العقلية المهلكة، وبزعمهم في استمرار هذا الواقع تكمن مصالح الطوائف التي يترأسونها، فمتى يبدأ الاضطراب ومتى ينتهي؟ حتى نقول بدأنا في الارتقاء والتطور؟ علماً أنّ حاجتنا الموضوعية للتغلب على واقعنا المزري، تحتّم علينا التخطيط لمستقبلنا بعلم وذكاء وأخلاق. فلا استيراد الحلول يجدي، ولا استحضار الماضي يجدي.
إذا كان نقد الثقافة الشعبيّة يتيح لنا إعادة النظر بالأسس التي ينبغي أن تقوم بها علاقاتنا بمكاننا وزماننا، وبنيتنا الاجتماعية، فإنّ النقد بحاجةٍ إلى أخلاقيات البحث وصبر الباحث الذكي. وإلى آلياته الحديثة، التي لا يمكن تجاوز دقتها، أو إهمالُ نتائجها الباهرة في الكشف والتعليل والتحليل والتأويل والتقويم. ما يعني أنّ الشعارات الشعبوية التي يرفعها النقاد دعما لاتجاه أو ضداً لاتجاه آخر لا تعني شيئا وليس لها أن تقدّم إضاءة على الطريق اللازمة؛ بل لها أن تجيّشَ الناس وتعيد تصنيفهم تبعاً لعوائلهم وعشائرهم أو طوائفهم ومذاهبهم.
الواقع المعاش وجملة الأزمات التي تتعانق فيه ضد العيش الكريم، إضافة إلى فشل التربية و التعليم والأحزاب والمشاريع النهضوية، وزد عليها الاحتلالات المتعددة الجنسيات لأبعاض كثيرة من بلاد العرب، والفتن المتنقلة بعناوين مختلفة، كلها تفرض علينا أن نغيّر طرائق التفكير والتعبير؛ ولكن لا يليقُ بنا بعد هذا المشهد العربي الفضائحي على كل المستويات، لا يليقُ بنا أن نضيع في الأوهام، فالتجديد لا يكون بالاستيراد، والأصالةُ لا تكون بالاتّراث، بل يكون قبل كلّ شيء بفهم حاجاتنا الحقيقيّة روحياً وماديّاً وفكريّا، وتأسيساً على هذا الفهم الذي يقتضيه واقعنا بما يشتمل عليه؛ نحدد علاقاتنا اللازمة مع الأفكار التراثيّة والأفكار الحديثة، في مظانها التاريخيّة، ولا يصحّ هذا التجديد أيضاً، إلا بدراسة الأفكار التراثيّة والحديثةِ دراسةً نقديّة ذكيّة هادفة، وفق آليات البحث والنقد الحديثة، ولا يعني هذا أنّ تلك الآليات غير قابلة للنقد والنقض، أو التعديل؛ بل يجب إخضاعها للمراجعة المستمرّة، كلما تعمّقت أسئلتنا أكثر، حتى نموضعَ أنفسنا من جديد بإزاء المكان المعولم والزمان المعولم، والإنسان العظيم الذي يستعصي على التدجين في مزارع الأميركيين.
الانتصارات لا تكون بالحديد والنار، فهذا شأن عصابات الحضارة، ولا بالتزوير والادعاءات، فهذا شأن الذين لا يثقون بالتاريخ، فالفلسفة التي تحكمهم لن تستطيع قولبتنا، لا لأننا سنحاربهم بالأسلحة المستوردة والمتقدّمة تكنولوجياً، بل سنحاربهم بالثقل النوعي للإنسان الإنساني سواء في سوريا أو في فرنسا أو في تونس، أو في أي بقعة من بقاع المعمورة، فالكون ليس "كتلةً ماديّةً متحركةً بلا قصد، ليس لها بداية وليس لها نهاية" كما يريد دريدا، أو فوكو أو جون سيرل، بل نحن مؤمنون، وإيماننا بالإنسان فوق كل قيمة، وأعظم من أي مخلوق، يحول دون الموافقة على هدر نقطة دمٍ واحدة مهما كان الهدف سامياً ونبيلا. وأن يحتسب الأميركيون كل الأمم التي لا تغلّب الربح المادي والجشع والطمع على إنسانيّة الإنسان، أمما ينبغي إخضاعها بالحديد والنار؛ فهذا انعكاس لمعتقداتهم بإزاء المكان والزمان والإنسان، لن يستطيعوا قولبتنا، ولا أقول هذا من باب المكابرة، ولكنني أراهن على أنّ التبعية الثقافية ممكنة فقط بالإكراه، ولحين من الدهر، وللتذكير فقط، مئتا سنة من تسلط الفرنجة، مستغلين رايةَ الصليب لاستقطاب المسيحيين العرب واليونان وسائر المشرق، و لم نلحظ عرباً صاروا صليبيين، بل نلاحظ صليبيين صاروا عرباً، ومثل "إسرائيل" هذه، كان أربع مستوطناتٍ مشابهة، ولم تكن دولةُ "إسرائيل" اليهوديّة إلا لأنّ مسيحيي لبنان رفضوا القيام بهذا الدور الذي تقوم به "إسرائيل"، من المستحيل أن يتحول الاغتصاب الثقافي لثقافة من الثقافات إلى علاقة شرعيّة مهما تكن الحجج، وواجب المثقف العربيّ وغير العربيّ أن يضغط بالحق والنبل والأخلاق على المجتمعات الغربيّة ليشعروا بالعار بسبب وجود "إسرائيل" ومباركة قادتهم لمجازرها وجرائمها ضدّ الإنسانيّة، وأنّهم يختارون بملء إراداتهم قادةً مجرمين يتواطؤون على التهجير والقتل والتدمير...
الانتصارات كما قلنا ليست بالحديد والنار، بل نريد الكشف عن خصوصيتنا في رفض العنصرية ونحن ندافع عن قيمنا الاجتماعية، والدينية، مع التأكيد على إبقاء النوافذ مفتوحة على كل الاتجاهات، وتزويد خصوصيتنا بمصاف ذكيّةٍ وجريئة، ضد العفونة المتأتية من أوبئة الماضي، وضد كلّ ما هو غير إنسانيّ يتأتى من الغرب. فلا الاستقلال الحضاريّ ممكن، ولا ضياع الهويّة ممكن، ولا الاستسلام والتعايشُ مع وجع جرح الهوية مقبول. وتحصين الهويّة ليس بترداد تعابيرنا الشعبيّة بل بنقدها والإفساح في المجال أمام الأجيال لإعادة إنتاج تعابير جديدة.
لذا نوصي ﺑ:
1. الجرأة على وعينا الجماليّ الراكد، بتكثيف الاهتمام بثقافة الحواس، من خلال النشر الإلكتروني لإبداعات الفنانين رسامين ونحاتين وبنائين، وتخصيص جوائز تحت إشراف مراكز أكاديمية.
2. دعم الغناء الشعبي الذي يعبّر عن فرح الناس وحزن الناس وحب الناس وطموحاتهم وأوهامهم الحياتية، عبر المسرح والشاشتين بهدف إنعاش الذوق وتحريض المشاعر. وتخصيص جائزة سنوية بإشرافٍ أكاديميّ.
3. إحياء قيم النقد الاجتماعي بالغناء والمسرح.
4. الاهتمام بالآلات الموسيقية الشعبيّة وبالعازفين الماهرين من خلال المهرجانات الشعبية السياحية، في القرى وبخاصة القرى النائية لتحريضهم على الاهتمام والإبداع في تطوير كفاءاتهم والخروج على رتاباتهم.
5. الجرأة على علاقاتنا الاجتماعية "المقدّسة" ونقدها عملياً بانتزاع المرأة دورًا لها في إعادة تعيين الأسس اللازمة للحرية والمسؤولية، من خلال النشر الإلكتروني والفنون التمثيلية، وسائر الفنون.
6. تخصيص جائزة سنوية لبحث أكاديميّ محكّم يأتي بجديد على صعيد النقد الفني والثقافي والاجتماعي.
المصدر: http://www.arabrenewal.info/2010-06-11-14-13-03/63685-%D8%A7%D9%84%D8%AB...