أسلمة الديمقراطية حقيقة أم وهم؟
محمد بن شاكر الشريف
(1)
عقيب الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي وسقوط دولته، كان هذا إعلانًا بغياب القوة الرئيسة المنافسة لليبرالية الغربية، وكان في الوقت نفسه إعلانًا بانتصار الليبرالية الغربية وتربعها على القمة العالمية، ومن تلك اللحظات بدأت الدعوة إلى الديمقراطية على أنها السند الشرعي لأي نظام تقوى وتنتشر، على أساس أن مرحلة الديمقراطية تمثل أفضل نظام سياسي يمكن أن تتوصل إليه البشرية، وأن التاريخ قد توقف عند هذا الحد فيما يعرف بـ"نهاية التاريخ" (كما يذكر فوكوياما).
من هنا بدأت أغلبية الدول تسارع إلى هذا الخيار لعدم قدرتها على مناوأة الدولة العظمى المتسيدة للنظام العالمي الجديد والداعية إلى تغليب نظرتها الديمقراطية، وذلك في الوقت الذي فقدت فيه تلك الدول الحماية التي كانت تتمتع بها من الاتحاد السوفييتي الزائل، ويظن كثير من الناس أن دعوة أمريكا إلى تبني النموذج الديمقراطي وفرضه على العرب والمسلمين كان نتيجة مباشرة لما اشتهر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد أظهرت أمريكا بعد هذا الحدث رغبة عارمة في نشر الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين على أنها العلاج الأكيد والناجع -من جهة مصلحتها- لهمجية العرب والمسلمين -بزعمها.
فوجئت أمريكا في تلك الأحداث بهجمات عنيفة دامية، حيث هوجمت قلاعها الاقتصادية والعسكرية، مما دعاها لإعلان حربها العالمية على الإرهاب، والتي كان منها الدعوة لنشر الديمقراطية حسب ما جاء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبنيها لدعاوى الإصلاح، وقد فرح بذلك الكثير من الإسلاميين ورأوا فيها الفرصة الكاملة للوصول إلى الحكم لتنفيذ مشروعهم السياسي، على أساس أن نشر الديمقراطية صار مطلبًا أمريكيًا يخدم مصلحة أمنها القومي ولذلك فهي تدعم ذلك التوجه وتعززه، وبذلك زاد زخم الحديث عن الديمقراطية، وعن توافقها مع الإسلام، وأن الإسلام قد سبق الديمقراطية وقرر أهم خصائصها، وإذا كان هذا الحديث ليس بالجديد كلية إلا أن زخمه قد زاد بعد الحملة الأمريكية ووجد له أنصارًا كثيرين.
موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية:
الطور الأول من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) يزعم أن جوهر الديمقراطية موجود في الإسلام، وأن الإسلام قد سبق بما أتت به الديمقراطية، أو أنه يمكن أن تتوافق الديمقراطية مع الإسلام، وأن ما يُرى بينهما من اختلاف من الممكن إزالته، يقول خالد محمد خالد بعدما ادعى أنه يوجد لحكام وقادة غير مسلمين لكنهم ديمقراطيون شواهد قريبة من سلوك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "من أجل هذا قلنا وسنظل نقول إن الديمقراطية إسلام"، ويقول: "كان عرضنا هذه المشاهد -وهي قليل من كثير- تبيانا لديمقراطية الحكم في الإسلام، واكتشافا للتخوم الواسعة المشتركة بين الإسلام كدين وبين الديمقراطية كمنهج ونظام"، ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: "الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام"، وكلام كثير جدًا من مثل هذا.
وأما في وقتنا الحاضر بعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقدية على الديمقراطية وهي واضحة وقوية، فقد نحا الطور الثاني من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) إلى الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، فابتعد عن القبول بالأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، لما تشتمل عليه من مصادمة صريحة للمقررات العقدية الإسلامية، بينما قبل الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها المسلم كما يستخدمها الكافر، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها النصراني في الذهاب إلى الكنيسة، وهكذا، من أجل هذا رغبتُ في كتابة هذا المقال لبيان حقيقة الديمقراطية وهل حقًا أتى بها الإسلام، أو أنه من الممكن إزالة ما بينهما من تعارض مع احتفاظ كل منهما بخصائصه المميزة، أو أنه يمكن التخلص من الأساس النظري لها وعدم التقيد به والاستفادة مما فيها من آليات مجردة عن أصولها المذهبية، وهذا أوان الشروع في المقصود:
ماذا تعني كلمة الديمقراطية؟
الديمقراطية كلمة لاتينية وهي مكونة من شقين: الشق الأول demos وتعني الشعب، والشق الثاني cratie وتعني حكم أو سلطة، فاللفظ على ذلك يعني حكم الشعب، أو الحكم للشعب، "وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة... إلا أن لها مدلولًا سياسيًا والذي شاع استعماله في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة"؛ فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه، فهي "تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه"، والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية "هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس وتخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه"، وقد تبلورت هذا الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة.
وقد عُرِّفت السيادة: بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها ولا ند متفردة بالتشريع الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شؤون الدولة أو المجتمع، فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى، والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي للشعب.
وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاثة جوانب رئيسة:
1- إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه تمارسها السلطة التشريعية.
2- المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه تمارسها السلطة التنفيذية.
3- حل المنازعات سلميًا بين المواطنين انطلاقًا من هذه التشريعات، وهذه تمارسها السلطة القضائية، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث.
تطور الديمقراطية باختلاف الأزمان والبيئات:
وليس من شك في أن الديمقراطية تطورت مع الزمن تطورًا كبيرًا ولم تبق على شكلها الأول الذي ظهرت به أول مرة في أثينا، فقد كان الشعب الذين يحق لهم الحكم في بداية الفكرة قليلًا بالنسبة للعدد الفعلي، فقد أخرج منه الأرقاء كما أخرج منه النساء، كما اشترط لذلك بعض الشروط كامتلاك نصاب مالي معين، والتمتع بكفاءة أو وجاهة في المجتمع، وبمرور الزمن تغير كثير من كل ذلك، إلى أن وصل إلى حق الاقتراع العام.
كما اختلفت الصورة التي تمارس بها الديمقراطية فبعد أن كانت الديمقراطية تباشر من قبل الشعب بلا واسطة فيما عرف بالديمقراطية المباشرة، احتاجوا مع تطور الأوضاع، والانتقال من دولة المدينة -صغيرة المساحة قليلة العدد،إلى الدولة القومية -ممتدة المساحة كبيرة العدد، وقيام عوائق في سبيل العمل بالديمقراطية المباشرة، إلى تغيير الصورة من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية غير المباشرة (النيابية)، التي ينوب فيها عن الشعب أفراد يختارهم الشعب ليحكموا بدلا عنه، كما ظهر التزاوج لاحقًا بين الصورتين فيما سُمي بالديمقراطية شبه المباشرة، وذلك للتغلب على بعض السلبيات من إلغاء الديمقراطية المباشرة كليًا، حيث تكون هناك موضوعات يحكم فيها الشعب حكما مباشرا، وموضوعات أخري يحكم فيها الشعب حكمًا نيابيًا.
كما تعددت أشكال الحكومات فهناك النظام الرئاسي (حيث تتركز السلطة في يد رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويكون هناك فصل شبه حاد بين السلطة التنفيذية "رئيس الجمهورية" وبين السلطة التشريعية "البرلمان)، وهناك النظام البرلماني (حيث تتركز السلطة في يد مجلس "برلمان" منتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويوجد هنا تداخل بين أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية)، وهناك نظام حكومة الجمعية (حيث تتركز السلطة في يدجمعية منتخبة من الشعب وهي تجمع في يدها سلطات واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية)، ومع كل هذه التطورات والتغيرات في الأشكال والصور، ظلت الديمقراطية تحافظ على أمر جوهري لم تحد عنه أبدًا، وهو الأمر الذي تكون اسمها منه وهو أن الحكم للشعب، فلا شيء يعلو عليه، وكل سلطة في المجتمع فإنما تستمد منه، فالشعب (السياسي) كله له الحكم؛ فالأغلبية لها حق التفرد بالحكم، والأقلية لها حق المعارضة للأغلبية.
تأثير الفكر الديمقراطي على الدساتير العربية:
وقد ظهر هذا واضحًا في دساتير البلاد العربية التي كتبت في بدايات القرن العشرين وما تلا ذلك:
ففي الدستور المصري المادة رقم 3: "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها"، وفي المادة 86: "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع".
وفي الدستور السوري المادة رقم 2 في الفقرة الثانية: "السيادة للشعب، ويمارسها على الوجه المبين في الدستور"، وفي المادة رقم 50: "يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية على الوجه المبين في الدستور".
وفي دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م في الباب الأول الفقرة الثانية: "السيادة للشعب وتمارسها الدولة، طبقا لنصوص هذا الدستور والقانون".
وفي الدستور الأردني مادة 24: "الأمة مصدر السلطات"، ومادة 25: "تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك".
وفي الدستور التونسي مادة رقم 3: "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور"، وفي المادة 18: "يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس نيابي".
وفي الدستور الجزائري مادة رقم 6: "الشعب مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ملك للشعب وحده"، وفي المادة رقم 7 :"السلطة التأسيسية ملك الشعب، يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها"، وفي المادة 98: "يمارس السلطة التشريعية برلمان يتكون من غرفتين وهما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وله السيادة في إعداد القانون والتصويت عليه".
وفي الدستور المغربي مادة رقم 2: "السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية".
وفي الدستور القطري مادة 59: "الشعب مصدر السلطات ويمارسها وفقًا لأحكام هذا الدستور"، وفي المادة 61: "السلطة التشريعية يتولاها مجلس الشورى على الوجه المبين في هذا الدستور".
وفي الدستور الكويتي مادة 51: "السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقًا للدستور".
وبقية الدساتير لا تخرج عن ذلك من حيث المضمون وإن اختلفت الصيغ، كما أن هذه الدساتير تنص على أن نظام الحكم نظام ديمقراطي، وهي الصيغة السياسية لمصطلح السيادة الشعبية.
وهذه الخصيصة التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب الدهور تعد أكبر اختلاف حقيقي بين الإسلام وبينها، فإن قاعدة الإسلام هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون المسلم عابدًا لله وحده، وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في أموره كلها من صلاة وصيام وحج، ومعاملات بين الناس وخصومات، وفي شئونه كلها.
فقد ورد في مواضع عديدة من كتاب الله قصر الحكم عليه سبحانه فقال تعالى: {{C}{C}أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ{C}{C}} [الأنعام:62]. وقال: {{C}{C}إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ{C}{C}} [يوسف:40،67]. وقال تعالى: {{C}{C}فالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ{C}{C}} [غافر:12]. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى: {{C}{C}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{C}{C}} [النساء:59]. فلم يُحكم الله تعالى في موارد النزاع أحدًا غير الكتاب والسنة، وقال تعالى: {{C}{C}فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا{C}{C}} [النساء:65]. فأوجب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يشجر بين المسلمين، وأمر رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزله عليه فقال تعالى: {{C}{C}فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ{C}{C}} [المائدة:48]. وقال تعالى في الآية التي تليها: {{C}{C}وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ{C}{C}} [المائدة:49].
فالحق عند المسلم هو ما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو دعا إليه، والباطل هو ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالله تعالى هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يُلزم، وهو الذي يعاقب على المخالفة ويثيب على الطاعة، فالسيادة الكاملة إنما هي لله تعالى وحده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «{C}{C}السيد الله{C}{C}» (صححه الشيخ الألباني).
بينما الحق في الديمقراطية هو ما أمر به الشعب، والباطل هو ما نهى عنه الشعب، وإرادة الشعب هي معيار الخطأ والصواب، فما أقرته وقبلته فهو الصواب وما تركته ولم تقبله فهو الخطأ، فالإرادة الشعبية معصومة، ومن هنا فإن الديمقراطية قد رفعت الشعب إلى المنزلة التي لا تليق إلا بالله تعالى، وهذا الفرق لا يستطيع أن ينكره أحد، إلا عن طريق الكذب والتضليل لخداع الناس وإيهامهم، وتعريفات الديمقراطية في بلد المنشأ تدل على ذلك، بل ابتعاد الديمقراطية عن الدين هو أحد مسوغات الدعوة إليها.
والديمقراطيون الحقيقيون لا يعدون هذا عيبًا أو نقصًا يحاولون التبرؤ منه، بل هو عندهم من مميزات الديمقراطية، فكما يبين أحدهم أنه يستحيل تعريف الديمقراطية "دون تحرير الذهن من الأحكام المسبقة مهما كانت، أي إعطاء مسؤولية القرار للشعب دون تقيد مسبق بأي قيد نصي أو تشريعي أو فقهي، فالناس وفق هذا المنطق هم الذين يملكون حق السيادة والمرجعية في شئونهم التعاقدية الوضعية"، وبهذا يتم فك أي ارتباط إيجابي بين الديمقراطية وبين الدين، فالديمقراطية تبعد الدين عن التدخل في الحياة العامة للمجتمع، وهي بذلك تكون الوجه السياسي للعلمانية، وهذا لا شك اختلاف جذري بين الإسلام والديمقراطية ولا يمكن تقريب الديمقراطية من الإسلام إلا بالتخلي عن هذا الوصف الجوهري في الديمقراطية، لكن إذا أمكن التخلي عن هذا الوصف في محاولة التقريب، هل يظل ما بقي منها باسم الديمقراطية؟ في حين لا يمثل الشعب أية مرجعية في الحكم، هذا ما تأباه قواعد اللغة ويأباه العقل والمنطق، ولا يمثل الإبقاء على الاسم في هذه الحالة إلا القبول بالتبعية الفكرية، واختزال الفكر الإنساني كله في الفكر الغربي.
لكن هل استطاعت الديمقراطية أن تحقق هذا الذي زعمته وادعته؟
يقسم الفكر الديمقراطي الشعب إلى فئتين: إحداهما يمكن تسميتها بالشعب السياسي، وهو الذي تكون له السيادة، والفئة الثانية هي المتبقية من مجموع الشعب، وهي التي لا دخل لها بهذه السيادة، وهذه الفئة تغيرت بتغيير الأزمان، فقد كانت في أول الأمر تشمل الأرقاء وتشمل النساء والأطفال غير البالغين، والرجال غير المتعلمين، والفقراء، وغير النبلاء في المجتمع، وهم يمثلون الأغلبية العددية في المجتمع، وقد كان النظام الذي يمنع كل هذه الفئات من السيادة ينظر إليه على أنه نظام ديمقراطي، مما يبين أن السيادة الشعبية كانت مجرد شعار لا رصيد لها يسندها من الواقع، ثم بمرور الزمن تغيرت هذه الفئة، لكنها ما زالت حتى الآن تشمل الصبيان الذين لم يبلغوا سنا معينة (18عامًا) إضافة إلى المحكوم عليهم في بعض القضايا التي تحددها القوانين.
وإذا تجاوزنا هذه النقطة وانتقلنا إلى الدستور الذي يعد أعلى وثيقة قانونية في النظام الديمقراطي يلتزم بها الجميع ويحنون هاماتهم لها، واتخذناه مثالًا للحديث، نجد أن الشعب لم يكن هو الذي وضع هذه الوثيقة، وإنما وضعها مجموعة من الناس ممن تخصصوا في الأمور القانونية والمسائل السياسية، وهي لا شك مجموعة صغيرة جدًا جدًا بالمقارنة إلى عدد الشعب (السياسي) مما يعني أن السيادة الشعبية لم تكن هي التي صاغت أعلى وثيقة قانونية يتحاكم إليها في البلاد، ولو قيل :لكن هذا الدستور لا يُقَر إلا بعد الموافقة عليه من الشعب عن طريق التصويت وأخذ الآراء، فإن ذلك أيضا لا قيمة له لعدة أمور:
أولًا: تشتمل هذا الوثائق على مسائل فنية تخصصية لا يدركها إلا المتخصصون وهم قلة قليلة في أي مجتمع، فموافقة غيرهم عليها ليس له قيمة حقيقية، وكذلك اعتراضهم لا قيمة حقيقية له، فإن الموافقة أو الاعتراض الناشئين عن مجرد الرغبة أو الاستجابة للدعابة ووسائل الإعلام، من غير علم حقيقيي بالمسألة والقدرة على تبيان ما فيها من إيجابيات أو سلبيات لا يساوي شيئًا في ميزان تقويم الآراء.
ثانيًا: لو تجاوزنا هذه النقطة فإنه دائمًا ما لا يحصل إجماع على تلك الوثائق، بل يقبلها طائفة ويرفضها آخرون، ذلك أنه في ظل عدم وجود مرجعية متفق عليها بين الناس ويخضعون لها -خارجة عن الإنسان نفسه- فإنه يستحيل أن يتفق الناس كلهم أو أغلبهم على رأي واحد في عشرات بل مئات المسائل المهمة، وإذا أُقرت هذه الوثائق لكون الموافق عليها أكثر من المعترض، فمعنى ذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الشعب (السياسي) وهي قد تصل إلى الثلث أو قريب من النصف (على حسب الأغلبية المعتد بها في هذه المسائل)، لم يكن لنصيبها من السيادة الشعبية أثر في إقرار هذه الوثيقة، على أن موافقة الموافق لا تعني بالضرورة موافقة حقيقية، إذ ربما تكون الموافقة نتيجة ضغوط من أطراف خارجية، أو تدخل الإعلام الموجه الذي يقوم بدور كبير في صناعة وتشكيل آراء الناس وتصوراتهم، أو نتيجة الاتفاق على تقسيم المغانم بين الفئات المؤثرة في التصويت، وأقرب مثال لذلك ما حدث في إقرار الدستور العراقي الذي وضع بعد الاحتلال.
بل إن الأساس الذي يعتمد عليه في بيان الأغلبية المعتد بها، هل هو الأغلبية المطلقة (أي ما زاد على 50% ولو كان بصوت واحد) أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك، هو نفسه يحتاج إلى إجماع الشعب (السياسي) حتى يمكن أن يؤسس عليه ما يأتي بعده، وإلا لم يكن هناك أي معنى للحديث عن السيادة الشعبية المتخذة عن هذا الطريق، وهذا الإجماع نادر الحدوث، وعادة ما لا يحدث أبدًا.
ثم إن الذين يحق لهم الدخول تحت مسمى الشعب السياسي، كثير منهم لا يشارك في عمليات الانتخاب والتصويت، مما يجعل الأغلبية عند حدوثها هي أغلبية من شارك في التصويت لا أغلبية الشعب السياسي، ولو أننا أخذنا مثالًا قريبًا من انتخابات قد جرت في مصر فقد فاز الرئيس المصري بالانتخابات بنسبة تجاوزت الثمانين في المائة لكن لو نظرنا كم فردا اشترك في الإدلاء بصوته ممن يحق لهم المشاركة، لم نجده يتجاوز نسبة الـ (24%)، حسب الإحصاءات الرسمية، وما يجري في كثير من الدول لا يختلف عن هذا.
ثالثًا: ولو تجاوزنا هذه النقطة ونظرنا إلى الدستور الذي تم إقراره، فإنه بعد جيل أو جيلين يكون الذين أقروا هذا الدستور جيفا تحت التراب، وهذا يعني إثبات السيادة والإرادة لأناس أموات، وهو ما يعني في الوقت نفسه، أن الأحياء محكومون بإرادة الموتى، وليس بإرادتهم، فأين السيادة الشعبية في هذا.
رابعًا: ولو تجاوزنا مرة أخرى هذه النقطة، فإن الأطفال الذين كانوا أطفالًا وقت كتابة الدستور وإقراره، قد صاروا بعد زمن رجالًا لهم جزء من السيادة، فأين تأثير هذه السيادة على الدستور والقوانين المنبثقة عنه في إدارة البلاد.
وفي تحديد الشعب نفسه: ما الذي يجعل العربي والكردي في العراق يمثلون شعبًا واحدًا، وكذلك الكردي والتركي في تركيا يمثلون شعبًا واحدًا، والعربي والبربري في الجزائر يمثلون شعبًا واحدًا، كل فرد منهم له جزء من السيادة، بينما العربي الأردني أو المصري أو السوري المقيم في بلد عربي آخر لا يعد من شعب ذلك البلد، ومن ثم لا يمثلون شعبًا واحدًا؟ ولا شك أن هذا المقيم في بلد ما تجري عليه أحكام هذا البلد، وهو في الوقت نفسه لا يعد من الشعب فليس له أية حقوق في ممارسة الحكم فيه، (وهذا أمر يقره الفكر الديمقراطي) ما يعني أنه ليس له نصيب في السيادة الشعبية، وهنا تخفق الديمقراطية في تقديم التفسير المقنع لرضوخ هذا المقيم أو إجباره على الالتزام بأحكام البلد الذي يقيم فيه، من غير أن يكون له نصيب من السيادة أو ممارسة الحكم فيه.
وبالانتقال من كل ذلك نجد أن المؤهلين لممارسة الحكم باقتدار حقًا، ليسوا هم الشعب كله، بل هم مجموعة أناس معينين محدودين، مما يجعل الحكم محصورا فيهم إلى حد كبير، وبذلك يتحول دور الشعب من كونه الممارس للحكم، إلى الاقتصار على اختيار القادة الأكفاء ليقوموا بممارسة الحكم، وهو لا يمارس هذا الحق إلا مرة كل عدة سنوات عندما تحين مواعيد الانتخابات، وفي كل هذا قضاء على قضية السيادة الشعبية، وهو ما يؤول في النهاية أن تكون الديمقراطية بحق هي حكم الأقلية وليس حكم الأكثرية، فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعًا وفعلًا لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة "ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى النخبة، ومن ثم ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، وبحكم بعض المزايا الموروثة وغيرها من العوامل".
ويحق لنا بعد ذلك كله أن نقول: إن اعتبار الشعب هو الذي يحكم في النظام الديمقراطي، يعد من الخدع الكبرى في تاريخ الأنظمة السياسية.
هذا العيب الجوهري في الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب، وهو الأمر الذي تشبثت به ولم تستطع تحقيقه في واقعها، وذلك لعدم واقعيته، هو نقطة الضعف القاتلة لها في شريعة الإسلام، وهو ما دعا الكثيرين ممن يريدون جعل الديمقراطية من مكونات النظام السياسي الإسلامي أو إدخالها فيه وذلك بغرض الخروج من حالة الاستبداد التي تعيشها كثير من شعوب الأمة الإسلامية إلى تجاوز هذه النقطة تحت الدعوة إلى الاستفادة من آليات الديمقراطية، دون التمسك بالأساس النظري لها أو الاعتماد عليه، على أساس أن هذه النظرة المذهبية أو الفلسفية للديمقراطية كانت مرتبطة بزمن النشأة وظروفها، وقد تجاوزتها الديمقراطية في تطبيقاتها المعاصرة، ولم تعد تعول على هذا الأساس، أو ترتبط به.
فهم يرون أن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على الإنكار على الحكومات، وتغييرهم عند الخروج عن الجادة، وفي حق التملك وحق الأمن وغير ذلك، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون، ويرون أن هذه الأمور لا ترتبط بالأساس النظري للديمقراطية الذي قامت عليه الديمقراطية، بل هي آليات تنظيمية، وطرائق عملية للحفاظ على حقوق الناس وحرياتهم، وتأمين تداول السلطة بينهم بطريقة سلمية، كما أنها من الأمور المشروعة في الإسلام.
لكن هنا نقطة مهمة غابت عن أصحاب هذا الرأي، الذين يحاولون سلخ الديمقراطية من أصلها وذلك أن هذا رأيهم ولا يعبر عن الشعب السياسي كله، فالشعب السياسي حسب الفكر الديمقراطي يدخل فيه المواطن المسلم كما يدخل فيه المواطن الكافر، والمسلمون منهم المسلم حقيقة ومنهم غير ذلك كالعلمانيين والحداثيين والقوميين وغيرهم، وهؤلاء يصرون على ارتباط الديمقراطية بأصلها الذي خرجت منه، ولا سبيل -ديمقراطيًا- بإلزامهم بغير ذلك.
ولا شك أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع المقررات الإسلامية كما ظهر، فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى وهذا ما لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية، ما يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه ويكفي فيه ما تقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور مذهبي أو فلسفي، وهذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله.
المصدر: http://ar.islamway.net/article/14643/%D8%A3%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%...
(2)
آليات الديمقراطية: يراد بالآليات التي تتبعها الديمقراطية في عصرنا الحاضر مجموعة من الإجراءات والتصرفات التي منها: حرية الدعوة إلى الأفكار وتكوين الآراء، وحرية تكوين الأحزاب، وحق المعارضة للسلطة القائمة، وحق الاقتراع العام، وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم، وتداول السلطة بين أفراد الشعب، واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين.
آليات الديمقراطية لم تنشأ من فراغ:
دعوى الأخذ بآليات الديمقراطية دون التقيد بأساسها النظري، فيها قفز على الواقع وتجاوز للمعقول، فإن هذه الآليات لم تتبلور إلا انطلاقًا مما استقر في الفكر الديمقراطي من الاعتماد على نظرية السيادة الشعبية تلك النظرية المرفوضة إسلاميًا.
ولا يمكن في الحقيقة تصور أن يقوم نظام له أصول وقواعد تُتبع ويُحتكم إليها عند الاختلاف، ولا تكون لهذا النظام جذور فكرية يرجع إليها هي التي حتمته وأوجبته، فهذا أمر مخالف لطبيعة الأشياء، وما مثله إلا كمثل من يزعم وجود شجرة لها ثمار وهي مع ذلك معلقة في الهواء من غير جذور ترتبط بها.
فالديمقراطية لا تعمل في فضاء أو فراغ قيمي، ولنضرب مثالًا بذلك وهو حق الاقتراع العام: وهو حق كل مواطن، ذكرًا كان أو أنثى، عالمًا كان أو جاهلًا، تقيًا برًا كان أو فاجرًا شقيًا، في أن يكون له صوت انتخابي متساو مع صوت الأفراد الآخرين تمامًا بتمام.
إن هذه الآلية إنما بنيت على أساس نظرية السيادة الشعبية، وأن الشعب كله هو الذي يملك السيادة، وأن كل فرد له نصيب من هذه السيادة متساو بالتمام والكمال مع نصيب غيره، بغض النظر عن التفاوت بين الأفراد من حيث العلم أو الجهل، ومن حيث الصلاح أو الفساد، ومن حيث الذكورة أو الأنوثة، ومن حيث الحكمة أو السفه، وإلا فما الحجة في التسوية في الصوت الانتخابي بين المتقين والفجار، وبين العلماء والجهلاء، وبين الذكور والإناث، وبين الحكماء والسفهاء، ولو قامت جماعة من المسلمين اليوم ترفض المساواة بين العلماء والجهلاء وبين الأتقياء والفجار، فهل يمكن أن يقبل هذا منهم أم يعترض عليهم بأن هذا يخالف نظرية السيادة الشعبية.
ويترتب على هذه النظرية -التي ترجع أصل السلطة إلى العنصر البشري فقط- نسبية الحقيقة، لأنه ليس أحد من البشر يمتلك الحقيقة الكاملة، وهذا يتيح لكل فرد الحرية الكاملة في أن يقتنع بما يشاء، وأن يعبر عما يراه بدون ضوابط أو حدود، لأنه لا أحد يستطيع أن يقول له إن ما تراه خطأ، ومن ثم فإنه يحق له الدعوة إلى ما يرى صوابه، وأن يجمع الأنصار حوله، كما يحق له تكوين حزب للدعوة بين الناس إلى هذه الآراء، ومحاولة الوصول من خلاله إلى سدة الحكم لتنفيذ ما يرى صوابه، فإذا انهار الأساس الذي تبنى عليه هذه الآليات -وقد بينا بطلانه- فعلى أي شيء يعتمد الذين يأخذون بهذه الآليات؟
والقارئ في تفصيلات الفكرة الديمقراطية والنظم الانتخابية المنبثقة عنها، وما يوضع من أفكار ونظريات في تفسيرها يجد التخبط الشديد والتناقض فيها، ولذا فهم يتقلبون من فكرة إلى أخري فقد كان أول أمرهم يفسرون السيادة بأنها للأمة بمجموعها وليس بآحادها، ولا يمكن تجزئتها، ثم عدلوا عن ذلك بأن جعلوا السيادة للشعب بآحاده بحيث يكون لكل فرد جزء من السيادة، ثم تداخل المعنيان معا ولم يعد هناك من فرق بينهما عند التطبيق، وكانوا يقولون بوكالة النائب عن الناخبين ثم عدلوا عن ذلك، وقالوا لا داعي لهذه الوكالة، والنائب نائب عن الشعب وليس عن أفراد، وهذه الأفكار والتصورات قد ترتب عليها أمور متعارضات، وهكذا ففي كل فترة يتخبطون محاولين إيجاد مسوغ مقبول عقلا لما اختاروه آلية أو طريقة عملية، ولن يجدوا من الناحية العقلية مثل هذا المسوغ، لأنه لم يبن على أساس متين، وإنما بني على أساس التصورات الشخصية، والتفسيرات العقلية، وهي تختلف من مفكر لمفكر آخر ومن زمن لزمن غيره.
قد يقول البعض: أنا آخذ هذه الأشكال والنماذج وأحشوها بمضمون ذي أصل إسلامي، وهذا في الحقيقة قول غير ممكن الحدوث، لكن لو تنازلنا عن هذه الجزئية، فكيف يقبل أصحاب هذا القول التنازل عن المضمون المستند إلى الأصل الديمقراطي، ويصرون على التمسك بشكلها؟ ويقال لهم: إذا أقررتم بأن الشريعة لديها المضمون الصالح الذي لا تحتاج معه إلى الاعتماد على الغير، أفلا يوجد عندها الشكل الملائم لذلك المضمون؟
إن الأشكال أطر حاوية للمضامين، فإذا قيل إنه لا توجد أطر إسلامية يمكن أن تحتوي المضمون حتى يُحتاج إلى استعارتها من النظام الديمقراطي، كان ذلك قدحا في وجود المضمون نفسه.
يحاول بعض الناس إيجاد أصول لهذه الآليات بعيدة عن تلك المسوغات الفلسفية المتقدمة، حيث يذكرون أن من مسوغات الدعوة إلى الديمقراطية التنوع الذي خلق الله عليه الإنسان، فتعدد طرق تفكير الإنسان وتنوع المشارب والاهتمامات، واختلاف ردود الأفعال تجاه الأحداث، تبين أهمية تمكين الإنسان من التعبير عن رأيه وأحاسيسه، وامتلاكه لحريته الكاملة في الاختيار المطلق، دون قيود تمنع من ذلك أو تعيقه، لكن هذا التصوير الذي يربط حقيقة وجود الإنسان بامتلاكه لحريته الكاملة في الاختيار المطلق دون قيود، هو في حقيقته معارض بفكرة (الدولة)، التي يقبل بها الديمقراطيون، بل جُلُّ جهدهم منصب على الوصول إلى حكمها والسيطرة عليها.
ومهما قيل عن تسويغ فكرة الدولة فهي تضع في النهاية حدودا وعوائق على الحرية المطلقة، ومهما قيل عن عقلانية هذه القيود، وأنها قيود لصالح الإنسان ولمنع الفوضى في المجتمع، لكنها في النهاية تضاد فكرة الحرية المطلقة، مما يعني أن هذا الأساس الذي تحاول الديمقراطية المعاصرة أن تقيم مشروعها عليه هو أساس منقوض، وما دام أن الفكر الديمقراطي بكل ما عنده من حديث عن الحريات المطلقة قد قبل مبدأ تقييدها، فهذا يدعونا إلى عدم تقبل فكرة الحرية المطلقة، كأساس تبنى عليه الديمقراطية المعاصرة، كما يدعونا في الوقت نفسه أن نحدد من الذي له الصلاحية في وضع هذه القيود.
والقيد يعني الحجر على التصرفات بحيث لا تتجاوز نطاقه، والقبول به هو في حقيقته نوع من الخضوع لمن يضع هذه القيود، ولا يكون الإنسان كامل الحرية حقا إلا عندما يكون غير خاضع لمن هو مثله، وهو يقود في النهاية إلى أن القيود لا بد أن تأتي من خارج المصدر الإنساني، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى، عن طريق رسله الذين اصطفاهم من خلقه لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.
ويترتب على الأخذ بتلك الآليات المذكورة إجمالا أمور تفصيلية كثيرة منها:
الدعاية: الدعاية للنفس وبيان إمكاناتها وتفوقها على غيرها أحد التصرفات التي يستخدمها الفكر الديمقراطي، لتعزيز طلب الثقة من الشعب، والوصول إلى الحكم، وهذا التصرف مرفوض شرعًا إذ لا يجوز للمسلم أن يزكي نفسه، ولكن الإنسان الصالح أعماله هي التي تخبر عنه وليس أقواله، فإذا اجتهد المسلم في العناية بالشأن العام وبالعمل الاجتماعي ابتغاء وجه الله، وعرفه الناس من خلال ذلك ومدحوه على فعله وأحبوه، فتلك عاجل بشرى المؤمن فعنْ أَبِي ذَرٍّ قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال: «{C}{C}تلك عاجل بشرى المؤمن{C}{C}» (صحيح مسلم). لكن لا ينبغي له هو أن يعلن عن نفسه أو يزكيها قال الله تعالى: {{C}{C}فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى{C}{C}} [النجم:32]. ولا يصلح أن يقال: لا يدعو هو لنفسه بل يتولى ذلك الأمر أحد غيره، لأن هذا التصرف نابع من الأسر النفسي الذي أسر به النظام الديمقراطي نفوس الناس، وما هذا التصرف إلا تحايل على الشرع في هذه المسألة، ومع ذلك فقد ورد في الشرع ما يبين النهي عن ذلك فقد أخرج مسلم في صحيحه: "عن همام بن الحارث أن رجلًا جعل يمدح عثمان فعمد المقداد فجثا على ركبتيه وكان رجلًا ضخمًا فجعل يحثو في وجهه الحصباء فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب»، كما لا يصلح في هذا المقام أن يحتج محتج بقول يوسف عليه السلام: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. لما سنبينه في الفقرة القادمة.
والدعاية اليوم صارت صناعة محكمة، تحتاج إلى نفقات عظيمة لا يقدر عليها إلا أفراد قلائل جدًا، ولو أخذنا مثالا من العالم الغربي فإن تكلفة الدعاية الانتخابية في انتخابات الرئاسة الأمريكية قد بلغت أكثر من 500 مليون دولار للمرشح، ولو أخذنا مثالًا من محيطنا العربي فنجد أن تكلفة الدعاية الانتخابية لانتخابات مجلس الشعب المصري قد كلفت جماعة كالإخوان المسلمين ما يزيد عن أربعين مليون جنيه مصري، فمن أين يأتي الأفراد العاديون بمثل هذه المبالغ الطائلة؟ وما الذي يدفعهم حقيقة لبذل هذه الأموال الضخمة، هل الرغبة في نفع الشعوب والسهر على مصالحها، وماذا يكون موقفهم لو طولب المرشحون لإنفاق جزء منها على الشعب في غير زمن الانتخابات حسبة لله؟
إن هذا الإنفاق الضخم يقود إلى أحد أمرين: إما أن لا يرشح نفسه ويخوض غمار هذا العمل إلا من كان من كبار الموسرين المستعدين لبذل هذه النفقات الكبيرة، وهو ما يحرم الفقراء، وأصحاب الدخول العادية وهم الغالبية في الشعوب،ويحولهم فقط لمجرد مانحي أصوات للأغنياء الأثرياء، ومن ثم تصير الديمقراطية ديمقراطية الأغنياء وأصحاب النفوذ والثروات، وهي بذلك تكون انتقائية لا يمارسها إلا النخبة الغنية، والأمر الثاني: أن يقايض المرشح أو الحزب الشركات الكبرى ويدعوها لدعمه وفق معادلة معلومة: ساعدني في الانتخابات أعوضك عن ذلك عند النجاح، وأساهم في التشريعات التي تخدم مؤسستك وشركاتك (وكل هذا يتم على حساب الشعوب)، أو أن المرشح لا يمكن أن يخوض غمار هذه الانتخابات إلا من خلال حزب ينفق على حملته الانتخابية، وفي هذه الحالة يصبح العضو أسيرًا لدى الحزب لا يتمكن من التعبير عن رأيه الحقيقي إذا كان مخالفًا لحزبه وإلا تعرض للفصل أو عدم ترشيحه مرة أخرى ومساندته في الانتخابات.
طلب الولاية: يقوم الفكر الديمقراطي على طلب الولاية للنفس، بل وعلى الصراع من أجل ذلك، فما تكوين الأحزاب، ونشر الدعايات، وخوض الانتخابات، إلا للحصول على الولاية، وهذا أمر منهي عنه، فالمسلم منهي عن طلب الإمارة لنفسه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه» (صحيح مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم: «لن، أو لا نستعمل على عملنا من أراده» (صحيح مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة أوكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» (صحيح البخاري). وهذا يشمل طلب الولاية بكل الطرق: سواء كان بطريق القهر والغصب لأمور الناس، كما هو الحاصل في كثير من البلدان، أو كان بطريق الطلب ممن له أن يعطي ذلك ويمنع، أو كان بطريق الترشيح في الانتخابات وطلب التأييد من الناس لذلك، ولا يصلح معارضة هذه الأدلة وهديه صلى الله عليه وسلم في إسناد الإمارة بقول يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. وذلك لأمرين: الأمر الأول أن هذا من شرع من قبلنا، والعلماء في شرع من قبلنا لهم قولان: الأول أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه، والثاني: أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا إلا إذا ورد في شرعنا، وعلى كلا الرأيين لا يصلح أن يحتج بما فعله يوسف عليه السلام في شرعنا، فإن طلب الإمارة لم يأتِ في شرعنا إلا على سبيل النهي عنه، والأمر الثاني: أن يوسف عليه السلام قال ذلك في ظروف غير اعتيادية، وما جاء مخالفا للأصل فإنه يقتصر به على مورده ولا يتعداه لغيره، كما يقرر ذلك أهل الأصول، فكيف يمكن أن يؤسس على الحالة الاستثنائية نظامًا اعتياديًا؟
التعددية: من الآليات المعتمدة في الفكر الديمقراطي التعددية وهي أوسع من السماح بتشكيل أحزاب متباينة في آرؤاها، فالتعددية التي ظاهرها عند البعض السماح بالاختلاف في الرؤية حول بعض التصورات المتعلقة بأمور المصالح ونحوها، هي في حقيقتها إباحة لجميع المعتقدات والأفكار والتصورات في المجتمع، وبأحقية كل فرد أو جماعة في تكوين الآراء والمعتقدات الخاصة، ولعلم جماعة إسلامية تخوض في لعبة الديمقراطية، بأن التعددية في الديمقراطية تعني ذلك، وأن عدم الموافقة عليه يعنى عدم الموافقة على الديمقراطية، فقد صرحت تلك الجماعة أنه لا مانع لديها حتى بعد وصولها إلى الحكم من السماح بقيام حزب شيوعي، وهو ما يتعارض تعارضًا واضحًا مع المقررات الإسلامية إذ من الثابت أن من ارتد عن دينه فعليه أن يتوب أو يواجه الحد الشرعي، لا أن يسمح له بتشكيل حزب ينظر إلى الأمور من خلاله، ويدعو الناس إلى تصوراته.
وتعد حرية تكوين الأحزاب السياسية أحد أهم مظاهر السماح بالتعددية السياسية في المجتمعات وخاصة بعد تقرير مبدأ الاقتراع العام، لكن على أي شيء يبنى هذا التعدد أو ما المسوغ له؟ هو تعارض الإرادات والرؤى والتصورات تعارضًا بينا بحيث لا يسع الجميع أن يكونوا في حزب واحد، فالديمقراطية على ذلك تفرق ولا تجمع، وهو واضح حتى من الممارسات داخل الحزب الواحد فإن الحزب يظل حزبًا واحدًا متماسكًا ما دام أعضاؤه متفقين في أسسه العامة وتوافقت تصوراتهم إزاء القضايا المهمة، فإذا حدث خلاف مهم في هذه الرؤى فإن الحزب يتحول إلى هيئة عامة تظلل عدة أجنحة متباينة فيما بينها، وقد يصل الاختلاف إلى درجة لا يتمكن معها الأعضاء من التعايش فينشق الحزب إلى حزبين أو عدة أحزاب، مما يعني أن الديمقراطية لا تنمو إلا في ظل الاختلاف
الأغلبية: عند اختلاف الرؤى في النظام الديمقراطي ينظر إلى الأغلبية على أنها ممثلة للإرادة الشعبية العامة، وهذا يعطيها صفة العصمة أو صفة الصواب، بينما يلتصق برأي الأقلية صفة الخطأ، لكن من حق الأقلية أن تحاول ضم من تستطيع إلى صفوفها والقبول بأطروحاتها لتحقيق الأغلبية لتلك الآراء، حتى تتحول من صف الرأي الخاطئ إلى صف الرأي الصواب، ويحدث العكس ويتبدل الحال للأغلبية السابقة، وهذا بدوره ينشئ صراعًا كبيرًا بين فئات الشعب في محاولة ضم أكبر عدد للصفوف، لتكتسب رؤيتهم العصمة ولتكون معبرة عن الإرادة العامة، مع ما يصاحب ذلك من كل الظواهر التي توجد في ظل الصراع، وهكذا يمر الحق والصواب بدورات متتالية متعاقبة، فما يكون اليوم صوابًا قد يصبح بعد حين خطأ لا لشيء سوى أن القائلين به تمكنوا من استقطاب شريحة كبيرة من الناس للموافقة عليه، وما كان بالأمس صوابًا قد يصير خطأ لا لشيء سوى أن القائلين به لم يستطيعوا المحافظة على الأغلبية التي كانت معهم، وذلك بغض النظر في كلا الحالين عن مدى صواب تلك الأقوال أو خطأها من الناحية الحقيقية، ثم هذه الأغلبية قد تصبح أغلبية مستبدة أكثر من أي نظام استبدادي، وليس هناك من وسيلة ديمقراطية لإيقاف هذا الاستبداد إذا استطاعت أن تحافظ الأغلبية على وضعها في المؤسسات السياسية، ويظهر هذا بجلاء في الشعوب التي تتكون من أكثر من عرقية فالعرقية ذات الغالبية العددية على ما سواها من العرقيات الأخرى مؤهلة للاستبداد، في حين لا تملك العرقية الأخرى أية وسيلة ديمقراطية لمنع هذا الاستبداد ويبقى الطريق المفتوح هو الصدام مع الأغلبية أو التعاون مع أعداء الوطن، ويصبح المحافظة على حقوق الأقليات العرقية مرهونا بالحالة الأخلاقية للأغلبية.
فآليات الديمقراطية تعمل على توطين الفساد وإعطائه الصبغة الشرعية حيث يكثر التحايل بهذه الآليات عبر التصويت، ويتم تغيير القوانين ويصبح هذا التغيير مشروعًا ليس إلا لصدوره عن الأغلبية حتى وإن كان مجافيا للصواب، فتستطيع الأغلبية تغيير القانون الذي يجرم بعض تصرفاتها لتصبح تلك التصرفات بعد التصويت صوابًا، والأمثلة كثيرة، فآليات الديمقراطية لا تمنع من تقنين الظلم وجعله شريعة ينبغي على الناس قبولها والعمل بها.
وهناك وجه آخر لمشكلة الأغلبية فإنه من المستقر المعلوم حتى في المجتمعات المتقدمة أن شريحة الأكثرية ليست مثقفة عالمة فاعلة، وأن الطبقات الدنيا والمتوسطة هي التي تمثل الغالبية أو الأكثرية، أما الطبقات العليا فهي تمثل الأقلية في الناس، وفي هذا تغليب للكثرة الجاهلة أو غير المثقفة أو غير المؤهلة على القلة العالمة الخبيرة، حتى يستوي في ميزان الديمقراطية من وصل إلى أعلى الدرجات العلمية مع من ليس له من ذلك نصيب ولو كان الموضوع يتعلق بتخصص ذلك العالم، كما يستوي فيها أتقى الاتقياء مع أفجر الفجار.
آليات الديمقراطية لا تؤدي إلى التعبير عن إرادة الناخبين:
إخفاق الآليات الديمقراطية في التعبير عن إرادة الناخبين، فبعد انتخاب النواب ينفصل النواب عن ناخبيهم فلا تكون لهم عليهم سلطة، ويظل الناخب في كل ذلك يعبر عن آرائه وتصوراته، أو آراء الحزب وتصوراته، كما أن فكرة تعبير النائب عن آراء ناخبيه هي في الحقيقة فكرة ساذجة فإن الناخبين للنائب قد يتجاوزون العشرات من الآلاف، ولكل منهم رأيه بحكم ثقافته ومصالحه، التي تختلف في قليل أو كثير عن آراء الآخرين، فكيف يكون النائب معبرا عنهم ناهيك عن الذين لم ينتخبوه، وإذا قيل بأن الناخبين إنما ينتخبونه من أجل البرنامج الذي يعلنه، لكن هذا القول لا قيمة له لأن لا يوجد شيء يلزم النائب بعدم الخروج على برنامجه، ثم إن هناك أمورا قد تجد لم تكن موضوعة من قبل في برنامج النائب، ففي هذه الحالة فإنه يتكلم فيها بمجرد تصوراته والتي قد تكون معارضة لآراء كثير أو قليل من منتخبيه، وإذا قيل بأنه يرجع لناخبيه ويستطلع آراءهم فإن هذا قول مغرق في الوهم فكيف يجمع هذه الآلاف؟ وكيف يستطلع رأيهم؟ وكيف يحسم الخلاف إذا اختلف الناخبون فيما بينهم؟ وهل المداولات التي تتم في البرلمان سوف تنتظر كل نائب حتى يرجع إلى ناخبيه؟
الفراغ الأخلاقي:
الديمقراطية نظام بلا أخلاق، إذ أنه لم يؤثر في الدول التي تبنته وعملت به ودعت إليه، فهو كالجسد الذي لا روح فيه، بل إن أكثر الدول استغلالًا لغيرها وظلمًا لها هي الدول التي تعد رائدة في هذا المجال، فالديمقراطية البريطانية كما يقال هي أم الديمقراطيات، والثورة الفرنسية هي التي أشاعت نظرية السيادة الشعبية، وأمريكا اليوم تتربع على عرش الدول الديمقراطية العاملين بها والداعين إليها، ومع ذلك فلم تحجز هؤلاء ديمقراطيتهم عن الظلم والطغيان وسرقة ثروات الدول الأخرى، وقد تعرضت دول العالم العربي والإسلامي للاحتلال من هذه الدول الثلاث وغيرها وعانت من ذلك الكثير وتعرض رجالها للقتل وثرواتها للسرقة والنهب، وما زال هذا النهج مستمرًا، فهل كان في الديمقراطية خلق يمنعهم أو يحجزهم عن ارتكاب كل هذه القبائح؟
قبول الحل الديمقراطي يقضي على الحل الإسلامي:
وقبول الحل الديمقراطي هو في حقيقته الموافقة على كونه بديلًا عن الشريعة، فلا يمكن مع وجود هذا الحل أن يطالب المسلمون حكامهم بتطبيق الشريعة، لأنه يقال لهم والحالة هذه :أمامك الشعب وهو حجة يفصل في هذه المسألة، وهنا يقول أصحاب الحل الديمقراطي: هذه فرصتنا التي ننتظر حيث يخلى بيننا وبين الناس، فنقنعهم بما لدينا من التصور الإسلامي للسياسة، لكن كأن هؤلاء نسوا أو تناسوا أن كل النظم في الدول الإسلامية التي سلكت هذا الطريق الديمقراطي تنص في قوانينها على عدم جواز إنشاء أحزاب على أسس دينية، وهذا مما يبين أن الديمقراطية في فهم الساسة تقترن بالعلمانية، والغرب الديمقراطي (الغاطس في ديمقراطيته إلى الأذقان)، لن يقف مع المسلمين (الديمقراطيين) في هذه الحالة، بل سيقف مع أصحاب الحلول غير الديمقراطية إذا تعلق الأمر بالإسلام، ولسنا ندعي علم الغيب بذلك، فأمامنا موقف الغرب من وصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ للحكم في الجزائر، والمثل القريب في فلسطين وموقفهم من حركة حماس.
مقارنة الديمقراطية بغيرها مقارنة ناقصة:
هناك من يقر بأن الديمقراطية بها أخطاء كثيرة ويسلمون بكل ما ذكر من عيوبها لكنهم يرونها على ما فيها من شر وأخطاء هي خير من غيرها بمرات كثيرة، وهؤلاء إنما يقيمون هذا الكلام على أساس مقارنة ناقصة، فهم يقارنون ذلك بالأنظمة الاستبدادية القائمة على القهر والظلم، أو على بعض النماذج التي تعد هي خارجة عن أصولها وليست مطبقة لها، لكن لو قورنت الديمقراطية بما يقدمه الإسلام في مجال نظام الحكم لظهرت عيوبها وسوآتها في مقابل النظام الكامل المتكامل، ولعل بعض من يقول بخيرية النظام الديمقراطي يقول: نحن لم نضعه في مقابل الإسلام وإنما نحن نطالب به للخروج من حالة الاستبداد التي تعيش فيها الشعوب، لكن يقال لهم: إن الذي ينقص في هذه الحالة ليس هو النظام العملي حتى نأتي به من خارج محيطنا، ولكن الذي ينقص هو الرغبة والإرادة في تمكين الشعوب، وإيجاد الرغبة والإرادة لا يكون بالدعوة إلى الديمقراطية، لأنه توجد من الوسائل الديمقراطية ما يكفي لجعل الديمقراطية حبرا على ورق عند عدم الرغبة في تطبيقها، أما إذا وجدت الرغبة فلماذا اللجوء إلى نظام فاسد وترك العودة إلى النظام الإسلامي؟
تعدد صور الديمقراطيات:
ولو أن هؤلاء انعتقوا من ربقة المتابعة للغرب لما احتاجوا إلى كل هذا العناء، فإن الديمقراطية ليست شيئا واحدا أو محددا، ولم ينزل بها تشريع من عند الله، بل كانت تتغير وتتبدل في صور ممارساتها، بإزاء العقبات والمشاكل والتناقضات التي كانت تقابلهم، كمشكلة التوفيق بين مصالح الفرد ومصالح الأقلية ومصالح الأكثرية، وكانت كل الصور التي ظهرت فيها الديمقراطية على مدار تاريخها تمثل حلولا أو محاولات للتغلب على هذه المشكلات التي تعترضهم، لكن ذهنية التابع الذي لا يصدر عن رؤية أصيلة، تجعله ينظر إلى الديمقراطية وكأنها شريعة محددة، لا يملك بإزائها إلا المتابعة التامة، والنقل عنها من غير تصرف.
ماذا يعني رفضنا للديمقراطية؟
لكن رفضنا للديمقراطية لا يعنى -كما يصور ذلك الديمقراطيون- إقرار التسلط والرضا به، وإهدار مكانة الشعوب، والاستهانة بإرادتها، فإن تصوير الأمور على أنه إما القبول بالديمقراطية وإما القبول بالديكتاتورية هو تسطيح مخل بالمسألة، وهو نوع من الإرهاب الفكري الذي يحاول أن يجر الناس إلى قبول الديمقراطية بالإكراه، وهو مشابه لقول بوش -عندما أراد أن يجر الدول معه في العدوان على الآخرين- من ليس معنا فهو علينا.
لقد حرر الإسلام الناس من عبوديتهم لبعضهم البعض حينما أخرج سلطة التشريع من أيدي البشر والخلائق جميعًا، وجعل ذلك من خصائص الربوبية، فالإنسان في ظل الإسلام هو حر حقًا، لأنه لا يخضع إلا للذي خلقه ورزقه، وحتى المسائل التي لم يأت بشأنها نص قاطع، فإن الرأي فيها لا يكون قولًا بالاختيار عن طريق أكثرية الأصوات، وإنما يكون بحثًا في النصوص والدلائل للوصول إلى أشبه الأشياء، بما يريده الله تعالى الذي خلقنا ورزقنا، وأحْيانًا بعد أن لم نكن شيئًا مذكورًا.
فالمسلم في كل أحواله يتمتع بالحرية الحقيقية، لا الحرية الصورية في الديمقراطية، والتي يكون فيها الإنسان عبدا للسلطة التشريعية، فكل الذي فعله الفكر الديمقراطي في هذا الباب أنه نقل الإنسان من عبودية الفرد في الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، إلى عبودية الجماعة في النظام الديمقراطي.
إن كل ما يمكن أن تقبله النفوس السوية أو تدعو إليه، مما دل عليه الفكر الديمقراطي، قد دلت عليه من قبل شريعة الإسلام، لكن على نحو صافٍ خالٍ من الشوائب العالقة بالديمقراطية، فمثلًا عمد الفكر الديمقراطي في سبيل الحد من طغيان السلطات أن دعا إلى ما عُرف بمسألة الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية-التنفيذية-القضائية) ورغم أن الفكر الديمقراطي لم يستطع أن يحقق ذلك فعلا تحقيقا كاملا، ومع ذلك فقد جعل السلطة التشريعية في يد البشر (المجلس التشريعي) وهذا من أشد الطغيان، وأما في شريعة الإسلام فإن التشريع ليس من اختصاص البشر بل هو لله وحده، وكل ما للبشر في هذا المجال هو الاجتهاد في ضوء الشريعة الإلهية، على أمل إدراك حكم الشارع في هذه المسائل التي تحتاج إلى الاجتهاد.
وأما السلطة القضائية في الشريعة فهي سلطة مستقلة حقًا، ليس لأحد عليها سلطان خارجي حتى لو كان الأمير، ولا يملك أحد إلزامه بشيء، خارج عما شرعه الله تعالى، بل لو أراد الأمير أن يلزمة بالقضاء على أحد المذاهب الإسلامية لم يكن له ذلك يقول ابن قدامة: "ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه، وهذا مذهب الشافعي ولم أعلم فيه خلافا، لأن الله تعالى قال: {{C}{C}فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ{C}{C}} [ص:26]. والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب، فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع"، وقال ابن القيم: "صرح أصحاب الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى بأن الإمام إذا شرط على القاضي أن لا يقضى إلا بمذهب معين بطل الشرط، ولم يجز له التزامه، وفي بطلان التولية قولان مبنيان على بطلان العقود بالشروط الفاسدة"، وقال ابن حزم: "واتفقوا على أنه لا يحل لقاض ولا لمفت تقليد رجل بعينه"، وقال الماوردي: "فَلَوْ شَرَطَ الْمُوَلِّي وَهُوَ حَنَفِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ عَلَى مَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْمُوَلِّي أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، وَأَمَّا صِحَّةُ الْوِلَايَةِ فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهَا وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ أَوْ مَخْرَجَ النَّهْيِ وَقَالَ قَدْ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ فَاحْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ أَوْ لَا تَحْكُمُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ كَانَتْ الْوِلَايَةُ صَحِيحَةً وَالشَّرْطُ فَاسِدًا سَوَاءٌ تَضَمَّنَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَافَقَ شَرْطَهُ أَوْ خَالَفَهُ وَيَكُونُ اشْتِرَاطُ الْمُوَلِّي لِذَلِكَ قَدْحًا فِيهِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَطَ مَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكُونُ قَدْحًا إنْ جَهِلَ لَكِنْ لَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُوَلِّيًا وَلَا وَالِيًا، فَإِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ فَقَالَ قَدْ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ لَا تَحْكُمَ فِيهِ إلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَتْ الْوِلَايَةُ بَاطِلَةً لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: تَصِحُّ الْوِلَايَةُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ".
وهو ما يبين استقلال القضاء في الإسلام، وأنه ليس لولي الأمر أن يتدخل فيه، بل لو قضى القاضي بما يخالف اجتهاد ولي الأمر، لم يكن له لينقض كلام القاضي، يقول ابن القيم: "وعن عمر أنه لقي رجلًا فقال :ما صنعت؟ قال :قضى عليٌّ وزيد بكذا، قال :لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال :فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك، فلم ينقض ما قال عليٌّ وزيد".
وأما السلطة التنفيذية فإنه لا يجوز اغتصابها والتغلب عليها، واستخدام القوة للحصول عليها، وإنما يشرع أن يكون ذلك برغبة المسلمين ورضاهم وشوراهم من غير إجبار أو إكراه، وقد بينت في مقال سابق دور الأمة في ذلك، وسقت على ذلك العديد من الأدلة.
ويبين أهل العلم أن السلطة التنفيذية (الخلافة) لا تمنحها لمستحقا إلا الأمة، فقد أجمع أهل العلم على أن نصب الإمام فرض كفاية على الأمة، وهذا يعني أنه مفروض على الأمة من حيث مجموعها لا من حيث أفرادها، ولا يمكن أن يقال أن الأمة مفروض عليها القيام بذلك العمل بينما لا يكون لها دور في العمل نفسه، هذا كلام متناقض يدفع بعضه بعضا، قال القرطبي رحمه الله: "ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله، واتبعه على رأيه ومذهبه" وقال النووي: "وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة".
وقد تحدث الماوردي عن حالة ما إذا وقع الإمام في أسر يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه ثم قال: "وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة"، وبين أنه لو عقدت الخلافة لرجلين، وأشكل معرفة المتقدم منهما، فلو تنازعاها، وادعى كل واحد منهما أنه الأسبق، لم تسمع الدعوى وعلل ذلك بقوله: "لأنه لا يختص بالحق فيها، وإنما هو حق المسلمين جميعًا"، فكون نصب الإمام واجبًا على الأمة، يعني أن الأمة هي التي يصح منها ذلك، وأنه لو استبد بذلك واحد أو جماعة بدون موافقتها لم يصلح ذلك، وهذا هو الذي يليق بمكانة هذه الأمة الشريفة التي هي خير أمة أخرجت للناس من ذرية آدم عليه السلام، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد الملهم على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بمحضر من الصحابة كلهم: "من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرة أن يقتلا".
ثم إن للمسلمين الحق في الاحتساب والإنكار على أمرائهم إذا خرجوا عن الجادة بطرق الإنكار المعروفة التي أقرتها الشريعة، فقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم محاسبة خالد رضي الله عنه من قبل جنوده عندما امتنعوا من تنفيذ أمره الباطل، عندما أخطأ في اجتهاده وقتل الذين قالوا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين» (صحيح البخاري).
وهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقر مبدأ الحسبة السياسة عقب توليه الخلافة مباشرة إذ خطب الناس وقال لهم: "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني"، مما يبين أن الحسبة ليست قاصرة على الرعية دون الولاة، لأن الكل في ميزان الشرع عبد لله، والحاكم والمحكوم كلاهما مطالب بعبادة الله وحده وطاعته واتباع ما شرعه ، وما طلبه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه من الصحابة لا يتـأتى منهم إلا بعد المتابعة والمراقبة التي بها يتمكنون من معرفة الإحسان أو الإساءة، وهذا عمر رضي الله تعالى عنه يقول: "إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليَّ فوالذي نفسي بيدي إذًا لأقصنِّه منه"، فوثب عمرو بن العاص فقال: "يا أمير المؤمنين أو رأيت أن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته أئنك لمقتصه منه؟"، قال: "أي والذي نفس عمر بيده إذ لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه: ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تجمروهم فتفتنوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم"؛ فعمر رضي الله عنه يحض رعيته على عدم السكوت على ظلم الولاة، ويوجه الولاة بعدم منع المسلمين حقوقهم والعمل على راحتهم والحفاظ عليهم.
لكن مع ذلك فإن النظام الإسلامي لا يفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وأما السلطة التشريعية فهي أصلا ليست للبشر، وبالنظر إلى ما يقدمه النظام الإسلامي لمنع الطغيان والاستبداد أنه لم يجعل التشريع بيد البشر بينما النظام الديمقراطي لم يفعل شيئًا أكثر من أن يجعل التشريع -بعدما كان في ظل الاستبداد في يد فرد أو فئة- في يد مجلس يزيد عدده قليلًا عن الحالة الأولى وأما أصل الاستبداد والظلم والجور فلم تتخلص منه إذ جعلت التشريع بيد البشر.
وإذا تبين لنا هذا فما الحاجة إلى ما يدعيه البعض حول أسلمة الديمقراطية، فإن كانت الأسلمة تعني إقرار ما جاءت به الديمقراطية مما يوافق الإسلام ومما يخالفه كان هذا من قبول الباطل ونشره بين المسلمين باسم الإسلام، وإن كانت الأسلمة تعني أنه لا يقبل منها إلا ما يقره الإسلام، فلماذا الحرص على نسبته للديمقراطية ولا ينسب للإسلام نفسه؟ على أنه ما من شيء حسن أتت به الديمقراطية بدون عيوب، إلا وفي الإسلام ما هو أفضل منه وأكمل، فما دمنا أقررنا أن الإسلام دين ودولة، وأن الإسلام أكملُ الشرائع، فكيف يقوم في الذهن أن شريعة الإسلام تخلو عن بعض الأمور التي يحتاج إليها المسلمون في تنظيم دولتهم، بحيث يأخذونها من غيرهم.
المصدر: http://ar.islamway.net/article/14645/%D8%A3%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%...