مدن المعرفة أو الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه ولا يحتاج إلى أحد كي يعرف الله
في النظر إلى التطرف بأنه أزمة الحضارة والمجتمعات في تحولاتها المصاحبة للتكنولوجيا والموارد الجديدة التي بدأت بالتشكل ثم صياغة المدن والمجتمعات والموارد والأعمال والنخب والقيادات ثم القيم والثقافة المنظمة والمؤطرة لهذه الموارد وتشكلاتها ومنظومتها الجديدة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة؛ فإن الحلّ المتمثل في مواجهة التطرف والكراهية يكون جزء منه وربما كله في النظر في التشكلات المدينية والاجتماعية الجديدة أو المفترض أن تكون استجابة صحيحة وإيجابية للموارد والتحولات الجديدة المعبر عنها بـ "المعرفة"، والحال أنها قد تكون تسمية منحازة؛ إذ إن المعرفة تمثل عملية جوهرية لدى الإنسان، وتحكم على الدوام سعيه الدائر لأجل البقاء ومواجهة المخاطر ثم تحسين بقائه، وربما يكون الأصح تسميتها المدن والمجتعات "الشبكية" باعتبار أن الشبكات هي الصيغة الأهم لتقنيات الحوسبة والمعلومات والاتصالات التي تشكل العلامة الرئيسة والمميزة لهذه المرحلة!
لقد كانت المدن تستمد تنظيمها الاجتماعي والسياسي من قلعة الحاكم وهيكل العبادة والكهنة القائمين عليه، لكن كيف تتشكل المدن بما هي حياة الناس وعلاقاتهم في أعمال الناس ومواردهم القائمة على اقتصاد المعرفة وتقنياتها؟ لم تظهر هذه المدن بعد بوضوح، لكن الأعمال والمهن والتداعيات والتحولات الجديدة تظهر، وكما يهدد الانحسار والانقراض أعمالاً ومهناً كثيرة قائمة، وفي ذلك يمكننا أن نتخيل ونفكر في مدننا القادمة! ولكن، لماذا نفعل ذلك، وما أهميته في صعود تحديات الإرهاب والاحتلال والاستبداد والانقسام التي تخيم على العرب والمسلمين وعالمهم؟ اعتراض منطقي ومهم، لكن حياتنا، بما تقتضيه من ضرورات التفكر والبحث، لا تنحسر أهميتها، ولا تتراجع، بصعود التحديات الكبرى الجاثمة علينا، دولاً وأفراداً ومجتمعات، .. كما أنه تفكير ليس بعيداً عن هذه التحديات والتحولات التي أصابتنا، وليس تجاوزاً القول إن التحولات القائمة، بما فيها من صعود للتطرف والإرهاب، ليست بعيدة عن مرحلة المعرفة، بل هي من تداعياتها وتطبيقاتها أو ثمارها العفنة. وفي المقابل، يمكننا، بل يجب أن نفكر في الاستجابات الضرورية والملائمة لهذه التحديات المفروضة علينا، والتي لا خيار لنا في وجودها وتشكلها، ولا يفيد في شيء تجاهلها، بل يزيد مساوئها، ولو شئت القول إن مبتدأ التفكير في الحلول والاستجابات والمواجهات مع التحديات والأزمات القائمة اليوم يكون بفهم المعرفة وتداعياتها وتحولاتها، فلن يعوزني الدليل.
الدين والمدينة ينتميان إلى جذر لغوي واحد مستمد من الآرامية "الدين" بمعنى العدل، ويوم الدين في القرآن الكريم هو يوم العدل، هكذا فالمدن تقوم أساسا على العدل، أي القانون، فلا يمكن أن تنشأ مدن من غير القانون، ولا يمكن أن ينشأ تمدن من غير ثقافة القانون، والفكرة الجامعة للناس حول المكان هي أساس الدول والحضارات والعمل العام، لأنها تنشئ مصالح وتشريعات وثقافة منظمة للإدارة والحياة السياسية والثقافية مستمدة من تفاعل الناس مع المكان، وتعاقدهم على الأمن والعدل وتحقيق المصالح والاحتياجات وفق تفاعلهم مع المكان وليس ما تقتضيه بيئة الإنتاج والحماية الأخرى المنتمية إلى الريف أو البادية.
وتتجه المجتمعات والحضارات في مسارها العام إلى التمدن، وكانت المدن هي مركز الحكم والثقافة والرسالات السماوية أيضا، وتعتبر ظاهرة التريف في المدن والسلطة والثقافة العربية معاكسة للاتجاه المفترض لتطور الحياة العامة والسياسية، وربما تكون من أسباب فشل التنمية والإصلاح والمشاركة السياسية والعامة.
وكانت إقامة مجتمع إسلامي أساس الدعوة الإسلامية، وسميت يثرب "المدينة" في دلالة رمزية مهمة على أن الإسلام يقوم ويعمل ويطبق أساسا في مدينة، ولا يمكن أن تكون الرسالة إلا في المدينة، فلا تنجح ولا يصح أن تكون ابتداء في القرى الصغيرة والمراعي والتجمعات المحدودة، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينهى من يسلم من أهل البادية أن يعود إليها، ليبني مجتمعا مدينيا.
والناظر في أحكام الإسلام وآدابه يجدها تؤسس لسلوك مديني متحضر يستوعب المكان الذي يجمع الناس، مثل الاستئذان عند دخول البيوت، والنهي عن رفع الصوت، والتجمل والتطيب والنظافة، والاستماع، وإشهار الزواج والشهادة عليه، وكتابة الدين، والانصراف بعد الطعام، والذوق العام، وغير ذلك كثير مما ينشئ عادات وتقاليد وثقافة مكانية مدينية ومجتمعية.
وفي الوقت نفسه، فإن أنماطاً من التدين السائدة اليوم تشجع على القول بأنها في الحقيقة غلبة لأنماط التريّف والتصحر على حياة الناس وسلوكهم، وأنها تكاد تكون استحضاراً للثقافة والأفكار المصاحبة للرعي والصيد وسلوك البقاء.
إن التدين في مجتمعاتنا يشوبه كثير من الفشل والفساد، وهنا فإنه (التدين) يتحول إلى مشكلة بحد ذاته، لأنه يدمر أهم عامل في الحماية من الفشل والجريمة والخطأ وفي التنمية والإصلاح أيضاً، لأنه يعطل الضمير والمحاسبة الذاتية ويحرِّف البوصلة باتجاه خاطئ ومدمر أيضاً، ذلك أنه يمنح أصحابه غطاء وشعوراً بالرضا والقبول تجاه أفعال خاطئة، من القبول بالاعتداء على أموال الناس وحقوقهم والأموال العامة، والتقصير في العمل والواجبات، والشعور بعدم أحقية الأفراد والدول والمجتمعات، وتبرير الأخطاء الشنيعة بل والجرائم، وفقدان الانتماء والمشاركة، والعدائية تجاه المجتمعات والمؤسسات، والاستعلاء المرضي الشبيه بالنرجسية، وعدم الاعتراف بالخطأ بل وتبريره وأحياناً شرعنته، وهو في المناسبة لا يختلف عن أسلوب المجموعات البدائية التي تعيش على السلب والنهب وتمضي معظم حياتها أو كلها لأجل البقاء، ولا تشعر بالخطأ أو المحاسبة الذاتية على اعتداءاتها على الآخرين.
التدين الحقيقي ببساطة هو الذي يساعد على النجاح في الحياة وتحسين حياة الأفراد والمجتمعات ويزيد مواردهم وتقدمهم العلمي والاقتصادي، وإذا كان المتدينون يعتقدون أن الإسلام والدين بعامة يصلح للحياة وإدارة المجتمعات والدول وتنظيمها، فيجب أن يربطوه بالتقدم الذي يزيد موارد الناس ويمنحهم مكاسب إضافية في الغذاء والتعليم والصحة والسكن والمشاركة والأمن والاستقرار، ويعلمهم كيف يزيدون مواردهم باستمرار وينشئون موارد أخرى جديدة ومتجددة، وإذا كان الدين منهج حياة، فإنه يجب ملاحظة ذلك في أسلوب الحياة وفي رفاه الناس واستقرارهم وتقدمهم.
والمدينة تقتضي أساليب من الحياة والعلاقات والأعمال يجب أن يكتسبها الأفراد والمجتمعات في المدينة، وتقتضي بالضرورة أيضاً التخلص من أنماط من السلوك والتفكير لم تعد تصلح للحياة في المدينة إن كانت مقبولة في مرحلة من حياة الأفراد والمجتمعات، والمسألة ليست ترفاً أو تحولاً اختيارياً، فكيف ننشئ تفاعلاً صحيحاً بين التدين وبين أسلوب الحياة والسلوك الاجتماعي المطلوب أو المرغوب فيه؟
والحال أن الإنسان يرقى بنفسه وبخاصة في مرحلة المعرفة إلى درجة غير مسبوقة ربما ولا بأس أن نتجاوز لأغراض الدراسة والفكر فقط عن حالات التخلف القائمة اليوم، فذلك متفق عليه بالتأكيد، ولكني سأحاول في هذه المساحة أن أعرض حالات وإمكانات ارتقاء الإنسان بنفسه إلى مستويات غير مسبوقة في الفكر وأسلوب الحياة وفي رؤيته لنفسه وللحقوق والواجبات والحريات والمساواة، ولا بأس من تكرار المثال الحاضر بقوة اليوم، وهو انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، فسيبقى ذلك مثالا على الارتقاء الإنساني المدهش.
وعلى الرغم من الكتب والدراسات الكثيرة، والتي ألفها علماء محترمون ولهم اعتبار عن فرص واحتمالات تطوير الإنسان لذكائه وصحته وقدراته وجماله، وعن فرص وتداعيات الهندسة الوراثية والتقنيات الحيوية والاستنساخ والأدوية العصبية والنفسية وما تغيره في سلوك الإنسان النفسي والاجتماعي، فلنؤجل ذلك، ولننظر في المكتسبات الإنسانية المجمع عليها اليوم، فالإنسان أطول عمرا من قبل، فقد تزايد معدل عمر الإنسان المتوقع من 45 عاما في أوائل القرن العشرين إلى 80 عاما في نهاية القرن، وانتهت في كل المجتمعات والبلدان حالات الوباء التي كانت تحصد معظم الناس أو أعدادا هائلة منهم، كالطاعون والملاريا والكوليرا والحصبة والجدري وشلل الأطفال، والإنسان اليوم أكثر طولا وضخامة وقوة جسدية من قبل، هل سيتواصل ارتفاع معدل عمر الإنسان، وإلى أين سيصل؟ هل سيصل إلى الخلود، حلمه الأزلي الأبدي؟
التقدم الإنساني المؤثر والجوهري لم يكن في الاكتشافات التقنية، ولكن في الفكر والثقافة والعلاقات والأعمال الناشئة عن هذه التقنية وحولها، ففي الغرب توقفت النزاعات المسلحة والحروب وحتى الصراعات والاختلافات السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونشأت منظومات للحريات والعدالة والحقوق والمساواة والتضامن والرعاية الصحية والاجتماعية لم تصل إليها البشرية من قبل، التقاعد والتأمين الصحي.
وإذا نظرنا اليوم حولنا في التداعيات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والثقافية الناشئة عن المعلوماتية، فيمكن بسهولة ملاحظة كيف يتشكل عالم جديد، واقتصاد جديد ومجتمعات جديدة وثقافة جديدة وأعمال جديدة، وإنسان جديد.
العمل باعتباره جوهر رأس المال والقيمة المضافة إلى السلعة، هل بقي قائما على العلاقة بين العمال والموظفين وبين أرباب العمل؟ نلاحظ اليوم أنماطا جديدة متزايدة من العمل، الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه أو للآخرين، ولكن بدون نظام العمل الذي ساد في عصر رأس المال، الذين يعملون من منازلهم في مجالات عدة وحيوية ومتقدمة كانت تحتاج من قبل إلى مكاتب ومؤسسات وتقنيات وتراتيب معقدة، والعمل من بعد في مجالات عدة، كالطب والتصميم والاستشارات والصيانة والصحافة والإعلام والتسويق، والعمل حول العالم، فلم يعد العمل مرتبطا بدولة وحدود جغرافية، ولكن يستطيع كل إنسان أن ينشئ علاقات عمل مع أي مكان في العالم، كل فرد اليوم يملك مؤسسة عالمية أو متعددة الجنسية للعمل والأعمال والتصدير والاستيراد، كل إنسان اليوم يكاد يكون قادرا على إنشاء محطته الفضائية وصحيفته وإذاعته الخاصة به.
ويُقدّر عدد الذين يعملون من منازلهم في الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي ثلاثين مليون شخص، من بينهم 24 مليوناً يعملون لأنفسهم، والباقون يعملون لدى مؤسسات أخرى، وتتزايد الظاهرة لتشمل في السنوات القليلة القادمة أغلبية العمل والعاملين، وأما عدد الذين يقومون بأعمال إضافية أو جزئية من منازلهم فهو كبير جداً يصعب تقديره، ولكنه يشكل نسبة قد تمثل أغلبية القوى العاملة في العالم، وقد بدأ العمل من المنزل تتسع آفاقه وفرصه ليشمل أعمالاً ومِهَناً كان يصعب أداؤها من المنزل، فقد أنشأت الإنترنت وشبكة الاتصالات عالماً من الأعمال والمهن، وفرص العمل من المنزل جعلت هذه الظاهرة واحدة من أهم التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والمهنية، والتي تغيّر في طبيعة الأعمال والموارد وإدارتها، بل وفي شبكة العلاقات الاجتماعية، وأنماط الحياة والثقافة.
لقد كان العمل من المنزل هو القاعدة الأصلية في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي البشري، فقد كان معظم الناس يعملون من وفي منازلهم أو قريباً منها مثل: أعمال النجارة والحدادة، والصيانة والحرف المختلفة من النسيج والخياطة والصناعات الخفيفة، وقد بدأت صناعة الساعات السويسرية الشهيرة في المنازل، وكانت المصانع والمؤسسات اليابانية والصينية وما زالت تعدّ ترتيبات وعقوداً لإعداد وتصنيع كثير من اللوازم والمنتجات مع النساء والأسر والقرى في الريف والضواحي المحيطة بالمصانع والمدن.
ولكن المعلوماتية قدّمت عالماً جديداً من العمل من المنزل لأهداف تجاوز الجغرافيا والمسافات البعيدة، فيمكن إنجاز مجموعة كبيرة ومعقدة من الأعمال مثل: التصميم والترجمة، والتحرير، والاستشارات، والبرمجة، والمحاسبة، والصيانة، والتسويق، والوساطات التجارية، والتعليم عن بُعد، والاستعانة بالخبرات النادرة أو العادية في جميع أنحاء العالم، ويمكن أيضاً بذلك تقليل تكاليف المكاتب وتشغيلها، ولم يعد ثمة حاجة لإنشاء مكاتب كبيرة في المدن، فيمكن أن تكون في الضواحي والأرياف، ولا يعود ثمة حاجة للسفر أو الإقامة في المدن أو قريباً من العمل، ولنتخيل تداعيات ذلك على اتجاهات العمل والحياة.
فعندما يمكن العمل من أي مكان يمكن أيضاً الإقامة في أي مكان، وسيجعل ذلك من الريف والمناطق البعيدة أماكن تصلح للإقامة والحياة لكثير من أصحاب الأعمال والمهن، ويمكنهم بذلك القيام بأعمال أخرى مثل: الزراعة وممارسة وتسويق الهوايات، ويمكنهم أيضاً البقاء لفترة أطول مع عائلاتهم وأقاربهم، وفي بلدانهم الأصلية لتنشأ بذلك شبكات جديدة من العلاقات الاجتماعية والحياة الأسرية، وربما يُنشئ ذلك اتجاهات جديدة في التمدّن والتحضّر فتزدهر المدن الصغيرة، وتخف الوطأة على المدن والمراكز الكبرى، وتقل الهجرة إليها، ويقل الضغط على النقل والطرق، والبنى التحتية، ويمكن السيطرة على البيئة والتلوّث، والطاقة وإدارة الموارد على نحو جديد.
وبتحول المنزل إلى مكان عمل فإن تصميمه سيتغير تبعاً لدوره ليكون ملائماً للعمل، فيتجه إلى الانكفاء والاتساع ليحقق الخصوصية والهدوء، والقدرة على العمل، وبما أن المجتمعات تنشأ حول الأعمال، فإن العمل من المنزل سيُنشئ مجتمعات وثقافات جديدة ومختلفة.
التقديرات المستقبلية تشير إلى تزايد ظاهرة العمل من بعد وفي المنازل، وهي تقدر في الولايات المتحدة بنسبة 12 في المئة، ويتوقع أن تشكل نسبة العاملين عن بعد في السنوات القليلة القادمة حوالي ثلثي القوى العاملة، وهي تقديرات منطقية تشجع عليها الأزمات المرورية، والزحام في وسط المدن، وفرص العمل من خلال شبكة الإنترنت. ولكن ألا يعني نشوء هذه الظواهر عودة إلى المجتمعات والحضارات الزراعية وبخاصة إذا أضيف إليها ظواهر أخرى مثل الاقتصادات غير المنظمة أو غير المسجلة، والتي تتنامى في الدول والمجتمعات المتقدمة كما هي على الدوام في المجتمعات الزراعية والبدائية؟
كانت، ومازالت، الطريق من البيت إلى العمل والعودة إليه تؤثر جوهرياً في المدن وتخطيطها وتشكّلها، وكان الأطفال، ومازالوا، في ذهابهم إلى المدارس وعودتهم وفي متطلباتهم وسعي الآباء على حياتهم، يرشدون المدن وعلاقاتها وتشكلاتها غير المرئية، فماذا سيحدث للمدن والأسر والعلاقات، عندما يعمل ناس كثيرون، وربما معظمهم في بيوتهم، أو قريباً منها، وعندما لا يحتاج الأطفال أن يذهبوا إلى المدارس كل يوم، وفي مواعيد محددة، وربما لن يحتاجوا أن يذهبوا إليها؟
تتضاءل الحاجة إلى الشوارع ووسائل النقل، ويتمركز الإنسان في بيته، ما يجعل هذا البيت موضع إعادة نظر وتصميم، ليلائم العمل والدراسة، ومكوثاً طويلاً فيه، تتسع البيوت وتنكفئ، وتضيق الشوارع إن لم تنحسر، ولا تعود ثمة حاجة إلى إقامة في المدن، فتزدهر الضواحي والأرياف، طالما أن الإنسان يمكنه أن يعمل ويتعلم في أي مكان، ولا يحتاج لأجل ذلك سوى "لوح".. وكأننا نتقدم عائدين إلى عصر القرى والألواح، عندما كان الأطفال يتعلمون، وفي يد كل واحد منهم لوح. واليوم، نعمل ونتعلم وفي يد كل واحد منا لوح، لكنه إلكتروني يحضر لنا كل شيء تقريباً، .. المحاضرات والعلوم والأعمال والموسيقى والأفلام والألعاب والمراجع والمكتبات والأخبار والاتصالات... وقل ما شئت، وكما تشاء، عما يمكن لهذا اللوح أن يفعله لنا.. ويفعله بنا أيضاً.
لكنها ليست قرى وبيوتاً معزولة أو بئيسة، أو لنقل إن المدينة تتسع حتى تكون العالم كله، فإن كانت المدينة، في وظيفتها ومعاييرها الأساسية، تعرف بالخدمات والفرص والتواصل والمركزية، فلن يُحْرَم (أو ينجو) أحد من ذلك كله، تصبح المدينة افتراضية تحاكي الشبكة نفسها، أو تتشكل في الشبكة، وليس في عالم الواقع، أو يكون الواقع هو الشبكة! إنها في الواقع مدن ومجتمعات شبكية.
سوف يكون في مقدور الناس المشاركة والتجمع والتأثير في القضايا والأولويات التي تهمهم، وتشكل حياتهم ومواردهم، الخدمات الأساسية من التعليم والصحة، والرعاية الاجتماعية، والاستهلاك، والانتخابات العامة، والهموم والقضايا المجتمعية والجدل العام حولها، وكذا يمكن، أيضاً، العمل معاً عبر الشبكة في مواجهة الظلم والفساد. أو تتشكل جماعات بلا حدود في وزنها وانتشارها أو مجال اهتمامها، الأحياء والبلدات والحدائق والمكتبات والمدارس والعيادات أو العمل والمهن والتدريب والتعليم، أو تقييم الحكومات والنقابات والبلديات والإدارات والأسواق والشركات،... ويمكن أن تقول الأمر نفسه عن العمل لمواجهة التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو لأجل رسالات معينة، يؤمن بها أصحابها، أو للخدمات اليومية في التوصيل والاستهلاك والاستعلام والتواصل الاجتماعي، فتطور المجتمعات، صغيرة أو كبيرة، مشاركاتها وهوياتها ووعيها ذاتها ووجودها، وتنظم تحركها وتجمعها لتحسين حياتها.. كل ذلك وغيره كثير جداً يجري بلا حاجة للتنقل أو العيش في مكان محدد،.. فعن أي مدن نتحدث اليوم؟
لنبدأ بالحديث عن المساواة شبه المطلقة في المدن الجديدة، في الحصول على المعرفة وإنتاجها والمشاركة العامة والتأثير في المسارات والمصائر، ماذا تفعل تلك المساواة؟ ما الطبقات الجديدة التي تتشكل أو تنقرض؟ ولعل سؤال الدين وعلاقته بالدولة والمجتمعات والأفراد هو اليوم أكثر تطبيقات اقتصاد المعرفة وتقنياتها، ففي واقع الحال، وعلى نحو ما، فإن الصراعات الدينية والجماعات الدينية الصاعدة هي تطبيق للمساواة الشبكية، .. لم يعد الدين أداة سلطوية ونخبوية، ولم تعد المعرفة الدينية سراً مقتصراً على طبقة من العلماء والكهنة، وربما يكون الصراع الديني القائم اليوم هو في حقيقته صراع على الدين الذي فقدته السلطات والطبقات الحليفة لها، وصار أداة فاعلة بيد المهمشين والمعارضين والمتمردين، وربما يكون الحلّ أو المآل تحرير الدين من الصراع وتحرير الصراع من الدين، .. سوف يكون ذلك أمراً حتمياً، ولن يطول المقام حتى يتحول الدين إلى شأن بعيد عن السلطات والجماعات والطبقات، فالشبكية التي حرمت السلطات والنخب من هذا المورد لن تجعله حكراً على الجماعات، أو على أحد من الناس، طالما أنها تتيحه لكل إنسان بلا وساطة أو وصاية من أحد أو هيئة، .. وسلام لسيدي الـ سي دي الذي يجعل بين يديّ كل الكتب والمصادر الدينية منذ بعث الله آدم، وعلى نحو منظم، يمكن استرجاعه بكفاءةٍ، يعجز عن تقديمها الفاتيكان أو الأزهر وكل علماء الدين ورجاله وهيئاته.. في مدينتي هذه، لم يعد يحول بيني وبين الله أحد، ولم أعد أحتاج إلى أحد لمعرفة الله.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D8%AF%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D...