في ضرورة وحتميَّة الإصلاح الدّيني
عبد الإله إصباح
يفرض موضوع الإصلاح الدّيني نفسه في الّسياق العربيّ الإسلاميّ، لما يمثّله من رافعة ضروريَّة لا محيد عنها لتدارك التّأخر التَّاريخي الَّذي ترزح تحت وطأته مجموع الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة، لأنّ تأخّرها التَّاريخي مرتبط في أهمّ جوانبه بالوضع الَّذي يحتلّه الدّين في وعي شعوبها من حيث كونه هو المصدر الأساسي الَّذي تستمد منه رؤيتها للعالم، ويتحكّم بالتَّالي في سلوكها وردود أفعالها، خاصَّة إذا كان تمثّلها للدّين مؤطّرا بالقراءة المحافظة له، والمتوارثة منذ قرون، وهي قراءة تغلّب النّقل على العقل، وتناهض كلّ تجديد أو اجتهاد يجعل الدّين متلائما مع قيم العصر.
ينبغي في هذا الصَّدد استحضار تجربة النّهضة الأوروبيّة الَّتي لم تكن ممكنة إلاّ من خلال إصلاح ديني جذري تواصلت حلقاته ومحطَّاته إلى أن أفضت إلى وضعيّة أصبح الدّين فيها يندرج ضمن الشَّأن الخاصّ للأفراد، بعد أن أزيح من عرش هيمنته على العقول، وأصبح العلم هو المرجع في تحديد الظَّواهر وإنتاج الحقائق. أحد مداخل الإصلاح الدّيني إذن، المتطلع إليه في سياقنا التّاريخي هو القطع مع القراءة المحافظة للدّين الَّتي تختزله في كثرة العبادات والطُّقوس، وتجعل تمثل الأخلاق مرتبطا في الأدهان بأداء هذه العبادات والطُّقوس. وكلّ من قصر في أدائها تناله نظرة تنقيصيَّة وإقصائيَّة، وكلّ من انخرط فيها ينظر إليه نظرة إيجابيَّة بغضّ النَّظر عمَّا إذا كان نزيها أم لا في سلوكه ومعاملاته.
إنّ ربط الأخلاق بالعبادات يؤدّي إلى تهميش قيمة العمل من أجل الصَّالح العام، لأنّ قيمة الأفراد هاهنا لا تتحدَّد بتجردهم وتضحياتهم من أجل المصلحة العامَّة، ولما يتَّصفون به من نزاهة ونكران للذَّات، وإنَّما تتحدّد فقط بمدى انضباطهم في أداء تلك العبادات والطُّقوس. هذا يعني أنَّ الإصلاح الدّيني يقتضي إعادة تعريف الأخلاق وتحديدها تحديدا يستمدّ مرجعه من مدى مردوديتها وأثرها على الصّالح العام، ويبتعد عن ربطها بالممارسة الدينيَّة من عدمها. فإيجابيّة أي سلوك أو عمل تتعين بمدى ما يساهم به في خدمة المصالح العامَّة المشتركة. أمَّا الممارسة الدينيَّة فينبغي تحييدها تماما عند قياس إيجابيّة سلوك مَّا، لأنَّها ينبغي أن تنحصر في اعتبارها شأنا شخصيّا يهمّ صاحبهـا ولا يؤخذ بها عند النَّظر في سلوكيات الأفراد.
إنَّ الفرد المتدين بناء على النّضظرة المحافظة للدّين لا يعتدّ بالصَّالح العامّ، لأنَّه تربى على إعطاء كلّ القيمة للعبادة بما هي عمل يجازى عليه فرديًّا. فهو يقوم بتلك العبادة لأنَّه يتصوَّر أنَّ لها مردوديّضة حصريَّة عليه، ولم ينشأ على تقدير المصلحة العامَّة، وبالتّضالي تقدير العمل من أجلها. إنّ عبادته تنطوي على قدر كبير من الأنانيَّة، لأنّها مسكونة بهاجس مّا يتصوَّر أنَّه يجنيه منها من مصلحة خاصَّة مرتبطة بالجزاء الأسروي وفق اعتقاده. إنَّ غياب التنشئة على المصلحة المشتركة والخير العامّ، هو ما يفسّر المفارقة المتمثلة في التَّوازي بين انتشار موجة التّديّن المبالغ فيه، وانتشار سلوكيات الفساد والرَّشوة والمحسوبيَّة والزَّبونيَّة، وعدم احترام القانون، حتَّى أضحت هذه السُّلوكيات سمة اجتماعيَّة سائدة ومهيمنة.
إنَّ الإصلاح الدّيني المنشود ينبغي أن يستهدف تنشئة الأفراد على تمثل أخلاقي يعطي للمصلحة العامَّة الاعتبار الأوَّل. وهي مصلحة لا يمكن تمثّلها إلاَّ من خلال تقدير قيم النَّزاهة ونبذ مسلكيات الغشّ وتعاطي الرَّشوة ورفض الزَّبونيَّة. إنَّ التَّأطير الدّيني الجديد للأفراد، ينبغي أن يؤدّي بهم إلى إعطاء الأولويَّة للمعاملات على العبادات، أي استبطان مفهوم جديد للأخلاق يكون هو السّائد اجتماعيًّا بموازاة سيادة قيم المساواة واحترام حقوق الإنسان في ظلّ عدالة اجتماعيَّة يضمنها نظام ديمقراطي. هو إذن إصلاح ديني يرتكز في مرجعيته على المكتسبات الكونيَّة والحضاريَّة في مجال الدّيمقراطيَّة وسيادة دولة الحق والقانون. ولا يمكن لمثل هذا الإصلاح أن يسود ويترسَّخ إلاَّ من خلال منافذ التذَأطير والتذَنشئة الاجتماعيَّة وفي مقدّمتها المدرسة العموميَّة المرتكزة على منهاج ذي صلة وثيقة بغايات واستراتيجيات إصلاح ديني جذري يسعى إلى تجاوز التَّأخر التَّاريخي والاندراج ضمن زمن الحداثة ومقتضياته.
المصدر: https://www.alawan.org/content/%D9%81%D9%8A-%D8%B6%D8%B1%D9%88%D8%B1%D8%...