نهضة أدب الأطفال في العصر الحديث
عاش أطفال فلسطين في جزيرة معزولة عن العالم، بعيدا ًجداً عن سمع وبصر ما يسمى بضمير الإنسانية[1]. وفرضَت شراهة العدو في تدمير كل قيمة جمالية أن يُحصر أطفال فلسطين في نفق الرعب، واقتضت الدوافع التجهيلية التي تنتهجها دول العدوان البربري أن تقوم خطواتها في ضرب الصمود الفلسطيني بتجفيف منابع القوة الوطنية، ومحاضن التربية للأجيال، فعمدت بسياسة مبرمجة إلى قرارات إغلاق المدارس، وحصارها، إشاعة للرعب اليومي أو شبه اليومي فيها، إن لم يتم إغلاقها بالكامل.
كل هذا جعل الطفولة الفلسطينية أكبر شرائح المجتمع تضرراً، وإذا أضفنا عنصر الحصار والتجويع، وهيمنة الحواجز ورعب الاقتحامات والاجتياحات المتوالية، فإن الصورة تزداد قتاماً وبؤساً.
شح موروث:
بنظرة تاريخية، نجد أن التاريخ قد بخل علينا بمادة أدبية تُعنى بالطفل، أو تسعى لتربيته والنهوض بآفاقه وطموحاته، وقد ضُمنت المصادر الأدبية في العصور الأولى بتراث مقروء يصلح أن يعتمد عليه كأساس لبيئة تربوية تسهم بدورها في ازدهار الميول والحاجات الطفولية، التي ضاعت في زحام التصادم الدائم في عصرنا.
لن نلبس على عيوننا نظارات سوداء، أو نحكم على الدنيا من خلال منظار أسود، ولكننا بتنا نبحث ونقلب علّنا نقف على مجهودات اللاحقين في استدراك ما غفل عنه السابقون.
صحوة:
بعد بحث في المكتبات ودور النشر، نلمس في هذه الأيام التفاتة صادقة إلى الطفولة في العالم أجمع، فالعالم الغربي أدرك أن الطفولة التي غادرت طور الحبو حديثا ستتسلم زمام الأمة في غدها، فتعاقدوا مع الأدباء والمؤسسات والمثقفين، وراحوا يفتحون مجالات الإبداع الكتابي، ويدعمون حمّى التسابق، حتى تواطأ مثقفو الغرب على صياغة منهاج طفولي متنوع الاهتمامات والمجالات.
أما في العالم العربي – وفلسطين جزء منه – فقد أُغفل هذا الجانب تحت الضغط المتراكم على هذا الشعب، وتغاضى المثقفون عن حق الطفولة في أدب يبني شخصياتهم بأسلوب سلس مفهوم، يوائم المرحلة العمرية لهم، ويزرع فيهم بذار الخير والفضائل حتى يشبّوا عليها.
افتتح الاهتمام بجانب الطفولة من عهد رفاعة الطهطاوي، حيث سافر إلى باريس واطلع على ثقافتهم ورعايتهم للطفولة في شتى مراحلها، فنقل الصورة إلى مصر، ومن ثم، كان إسهام أمير الشعراء أحمد شوقي بتميزه الأخاذ، حتى عده المؤلفون أول من ألف أدباً للأطفال باللغة العربية، إضافة إلى نظم الأناشيد والأغاني الطفولية، وإبداعه في الحديث على ألسنة الطير والحيوان مما يستهوي الطفل في سنوات عمره الأولى، ليفتح المجال بعده لمن له يد وباع في مجال التأليف، فانتشرت المكتبات الموجهة إلى الأطفال انتشار النار في الهشيم.
أما في المجتمع الفلسطيني، فقد كانت خطوة الريادة للأديبين محمود عباسي وجمال قعوار، اللذينِ قدما العديد من الإبداعات للأطفال في فلسطين، ثم تدافع بعدهم الأدباء لتمتلئ مكتبة الطفل بالقصص العربية، والقصائد الشعرية التي تربي وتهذب وتشذب المسلكيات والتصرفات.
على ضوء هذه الرؤية الناضجة، اقتحم المثقف الفلسطيني ساحة العطاء، ليعمل على انتشال الطفل الفلسطيني من المستوى الذي وقع فيه، فارتفع منسوب العمل، وازداد ارتفاع سقف الإنجاز، فصار الصغار في مجتمعنا يجدون مادة أدبية مشوقة ومحببة لديهم، يقضون معها أوقاتهم، وفي الوقت نفسه؛ كان المجتمع أسهم بأداء جزء من حقهم بوجبات طيبة ترفع من مستواهم العام، وترتقي بهم نحو مجالات النمو والنهضة.
والناشئة الذين لم يكترث المجتمع لهم قديماً باتوا يطرقون أبواب الواجب، وصاروا يطالبون بحقهم، حتى استأثروا نخوة العلماء والفقهاء والأدباء على حد سواء، فصارت الكتب – حتى الفقهية والدعوية منها تشتمل على مباحث وفصول للجانب الطفولي لفهمهم ضرورة مراعاته، وأذكر ما قد خطّه الشيخ محمد أحمد الراشد في المسار حين قال:
"فإن الناشئة هم المورد الرئيسي للنوعية الصلبة المتفانية من الدعاة، إذ لا يبرأ كبير السن من نوع أو أنواع من السلبيات التي أكسبته إياها حياته الأولى قبل تعرّفه على الدعاة، وأما الناشئ فكله محاسن، وكله حيوية، تصبر عليه سنوات قليلة فإذا هو الرجل الكامل، المقدام المثابر، وما أظن أن بنا حاجة إلى تكرار البديهيات التي تقنعك بالعمل معه، وتذكرك أنهم أغصان طرية" [2].
صدقٌ كامل، وفهم شامل، وحنكة مجرب، تنساب مع دفق اليراع المؤمن، فقد حوى الراشد الصورة بفوائدها وتطلعاتها المستقبلية، في كلام يعد على الأصابع.
وبالرغم من المقالات والنشرات والتحليلات الصحفية التي عمرت صفحات المجلات والصحف، يوميها وأسبوعيها وفصليها، إلا أننا نجد ندرة في أرشفة الواقع الطفولي، وخصوصاً بعد سلسلة الانتفاضات التي بدأت بالانتفاضة الكبرى عام 1987م، إلى انتفاضة الأقصى الأولى (النفق)، إلى انتفاضة الأقصى الأخيرة، وما ترتب عليها من آثار مدمرة على مختلف الشرائح المجتمعية، وعلى وجه الخصوص القطاع الطفولي، اللهم إلا بعض ما بُثَّ هنا وهناك.
نقطة نظام:
أثار انتباهي أثناء البحث؛ ذلك التوجه العازم عند النصارى الفلسطينيين بشكل خاص، ورغباتهم التي ما عادوا يسترونها بخمار السرية، فها هم يحللون ويوجهون، وبانت اهتماماتهم ومصادر توجيههم بحملة تعبئة تتوجه نحو الطفولة، وضرورة استثمار واقعها أمراً لا يختلف فيه اثنان.
ولنسمع إلى جورج جقمان يقول في إحدى مقالاته: (( يسعي هذا الكتاب لرصد وتحليل دور الحركة الطلابية الفلسطينية، خاصة في فلسطين، خلال ما يزيد على قرن من الزمان، وهو بهذا من الكتب القليلة حول الموضوع، بل ربما كان الكتاب الوحيد الصادر خلال العقد الحالي )) [3].
ويقول قسطنطين زريق موجهاً خطابه إلى الطليعة الجامعية: (( هناك وظيفتان رئيسيتان للمثقفين الجامعيين )) [4]، ركز في إحداهما على الدور الفكري الذي يخوضونه، ودورهم في التأثير والتأثر الصراح.
حري بنا – نحن أبناء الشمولية في الفهم – أن نستفز كل طاقاتنا وإمكانياتنا من أجل صيانة حق مغيّب، وسد ثغرة لا زلنا نؤتى من قبلها، ولا بد لنا من توجيه الخطاب الواعي، واستثمار حركة المثقفين، وايجاد الروابط الثقافية المنتجة؛ التي يكون من شأنها إثراء الواقع الأدبي لصياغة تراث وحضارة لهذا الشعب المبدع.
ولسنا بحاجة إلى كبير جهد لبيان أن الدور الأدبي عموماً، والشعري خصوصاً، يمثل معتمداً ومستنداً لهذا الجيل الناشئ؛ يمكننا إن أحسنّا صياغة المعاني قبل بناء اللفظ أن نتقدم بالناشئة خطوة إلى الأمام، وإن أبدعنا في غرس حكمة ما بين كل صدر وعجز، وقبل اختتام أي قافية، فلنا أن نتصور حجم التأثير.
باختصار، فإن شريحة الأطفال هي دعامة أساسية في المجتمع، وإن شعبنا الفلسطيني شعب كريم جواد، وتفيد الإحصائيات السنوية أن نسبة الأطفال في المجتمع قد استوعبت حجماً واسعاً في قرص البيانات الكلّية، وإن رعايتهم واجب شرعي، وضرورة بشرية وحاجة إنسانية، وحكمة جهادية، فهم الامتداد الطبيعي للصراع، وعلى أكتفاهم ستُحمل المسؤوليات، ولذا كان لا بد من بنائهم والتأثير فيهم بكل كلمة وعمل منتج.
[1] اقرأ: مجلة الأهرام العربي، العدد 256، 16/ 2/ 2003م ، السنة الخامسة، حكاية زوجة الشهيد، ص 73، وهذا غيض من فيض.
[2] المسار، محمد أحمد الراشد، دار المنطلق للنشر والتوزيع- دبي، ط 3 1991م ،ص 145.
[3] الحركة الطلابية الفلسطينية - الممارسة والفاعلية، عماد غياظة، ط 1 2000 م، مواطن - المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية – رام الله ، ص 5.
[4] المصدر السابق، ص 7.
المصدر: http://www.alukah.net/literature_language/0/108276/#ixzz4OAZcfPEY