منظومة الشورى في الإسلام
الشورى أمر إلهيٌّ لا يمكن التخلي عنه بحال من الأحوال؛ فهي ليست هِبة من حاكم، ولا عطية من عطاياه، بل حق أصيل لكل مسلم في أي زمان ومكان، والشورى واحدة من أهم سمات المجتمع المسلم؛ حيث يتم مداولة الآراء وتقليبها وتمحيصها في جو إيماني من التجرُّد والموضوعية، لا يشوبه هوى أو حظ للنفس، والشورى تهدف إلى الوصول للحق والصواب في الأمور التي لم يرد فيها نص.
♦ وبممارسة الشورى تكتمل الملامح الأساسية للحكم الإسلامي الصحيح، ولعِظَم أمر الشورى نجد أن هناك سورة من القرآن الكريم تسمى: (سورة الشورى)، ولعِظَم أمر الشورى كذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده لم يتهاونوا في تطبيقها في كل أمر لم يرد فيه نص، صغيرًا كان أو كبيرًا، خاصًّا كان أو عامًّا؛ فالشورى لم تشرع لتكون شعارًا أجوف، ولا لافتة باهتة تستتر خلفها الممارسات الجائرة، بل شُرعت الشورى ليسطَع نورها، وليفوح شذاها وعبقها في كل مكان يذكر فيه اسم الله تعالى، ويحكم فيه شرعه.
♦ والبديل للشورى هو التسلط والاستبداد والاستئثار بالرأي، فتَضيع حقوق الإنسان وحقوق المجتمع، فما تجد إلا إنسانًا مهضوم الحق، مسلوب الإرادة، يساق كما تساق العجماوات، ويهان كما تهان البهائم؛ لذا يجب على كل مسلم ألا يفرِّطَ في هذا الحق الأصيل؛ ليعيش حرًّا في مجتمع من الأحرار يَدينون بالعبودية لله تعالى وحده.
♦ والشورى تختلف عما يسمونه بالديمقراطية؛ وذلك لأن الشورى تستمد أصولَها ومبادئها وأسلوب تطبيقها ونتائجها مِن شرع الله عز وجل، في حين نرى أن الديمقراطية تقوم على قانون وضعي توافَقَ عليه الناس، وارتضَوْه حكمًا فاصلًا بينهم، وهو الدستور؛ فنظام الشورى لا يمكن التحايل عليه، أما النظامُ الديمقراطي - وإن بدا أفضل من غيره - فإنه مِن السهل التحايل عليه، والتعديل في نصوصه حسب الأغلبية الحاكمة.
أولًا: معنى الشورى: قال الراغب الأصفهاني - رحمه الله - في مفردات ألفاظ القرآن: "... والتشاور والمشورة والمشاورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، من قولهم: شرت العَسَل، إذا اتخذته من موضعه، واستخرجته منه".
♦ جاء في المعجم الوسيط: معنى شار الرجل شورًا: حسن منظره، وشار الشيء: عرضه ليبديَ ما فيه من محاسن، ويقال: شار الدابة: أجراها عند البيع؛ ليُظهِر قوتها، وشار العسل: استخرجه من الخلية، وفي حديث طلحة رضي الله عنه: "كان يشور نفسه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: يسعى ويخفُّ؛ ليُظهر بذلك قوته.
♦ وفي المعجم الوسيط أيضًا: المستشار: العليم الذي يؤخذ رأيه في أمرٍ هام؛ علمي أو فني، أو سياسي أو قضائي، أو نحوه، والمشورة: ما ينصح به من رأيٍ وغيره.
ثانيًا: أهمية الشورى في الإسلام: كما ذكرنا أن الشورى مأمور بها شرعًا في كل الشؤون، وفي كل الأحوال، ما لم يكن هناك نص.
♦ قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره عن ابن عطية قال: "والشورى مِن قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومَن لا يستشير أهلَ العلم والدِّين فعزلُه واجب، هذا ما لا خلاف فيه".
♦ وقال ابن خويز: "واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم مِن أمور الدِّين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، وكان يقال: ما ندم مَن استشار، وكان يقال: مَن أُعجِب برأيه ضلَّ".
♦ يقول ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه السياسة الشرعية: "قيل: إن الله أمر بالمشاورة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فغيرُه أَوْلى بالمشورة".
♦ يجب أن نعلَمَ أنه لا بركة إلا في الشورى؛ حيث إنه "لا خاب مَن استشار"، والشورى وإن جانَبتِ الصوابَ، فلن تجانبه إلى الضلال، بل إلى أقرب ما يكون إلى الصواب، وببركتها تهدأ النفوس، وتستقر القلوب، وتتفتح العقول، وتكون المسؤولية تضامنية بين الجميع، فلا يلام أحد بعينه لإخفاق، ولا يُنسَب التوفيقُ لأحد بعينه كذلك.
♦ ولأهمية الشورى جعَلها الله تعالى من صفات المؤمنين الذين يستجيبون لأمره سبحانه وتعالى، ولا يكون لأنفسهم حظ، بل سلَّموا لأمره تسليمًا؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38].
♦ وكلما زادَتِ التخصصات، وانتشرت العلوم، وتعقَّدت الأمور وتشعَّبت، وكلما تضاربت الآراء وأُعجِبَ كل صاحب رأي برأيه - كانت الشورى أوجبَ وأهمَّ.
♦ ولأهمية الشورى فإنه لا يُنتدَب لمجالسها إلا مَن كان أريبًا محنكًا، مشهودًا له بالكفاءة في تخصصه، ومشهودًا له بالصلاح والورع كذلك.
♦ عندما قال الناس لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ألا تشير علينا؟"، قال: "لا أبالي أن أفعل، رؤوس قريشٍ، ومَن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعةٍ؛ فسمى الستة، وسعيد بن زيدٍ"؛ (رواه ابن كثير، وقال: جيد، وله شواهد).
♦ ومتى عُقدت الشورى فهي ملزمة للجميع، وأصبح مِن الواجب على الجميع تنفيذ ما نتج عنها من نتائج وتوصيات، وإلا كان انعقادُها مضيعة للوقت والجهد.
ثالثًا: منظومة الشورى في القرآن الكريم: لقد أرسى القرآنُ الكريم قِيمًا لم تَسمع عنها البشرية من قبل، ومِن بين هذه القِيم قيمة الشورى، التي تجعل الأفكار تتلاقح، والفوارق تذوب، والهِمم تعلو، والمسؤولية بعد ذلك هي مسؤولية الجميع؛ حيث إن الجميعَ قد اشترك في اتخاذ القرار.
ومِن الآيات التي تحدَّثَتْ عن مبدأ الشورى في القرآن الكريم ما يلي:
1- لقد أمَر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق مبدأ الشورى في تعاملاته مع المؤمنين؛ لكي يكون لهم قدوة في هذا الجانب كما هو قدوة في سائر الجوانب؛ قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
2- لقد جعَل الله تعالى الشورى صفةً من صفات المؤمنين، يطبِّقونها فيما بينهم في الأمور التي ليس فيها نص؛ قال تعالى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾ [الشورى: 36 - 39].
3- لقد حثَّ الله تعالى المسلمين على أن يجعلوا الشورى والتوافق والتراضي أساسَ تنظيمِ كل العلاقات فيما بينهم، بما في ذلك أدق الأمور الشخصية والأسرية: قال تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 232].
♦ قال تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 233].
♦ قال تعالى: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 24].
♦ بهذه النقاطِ الثلاث ينضبط حال المجتمع؛ حيث إن جميع أفراده - بلا استثناء - قد أُمِروا بتطبيق الشورى بضوابطها، والالتزام التام بما تنتج عنه الشورى في كل ما لم يرِدْ فيه نص، أما ما ورد فيه نص فمردُّه إلى العلماء لاستنباط أحكامه مِن الكتاب والسنَّة، أو بالقياس والاجتهاد.
♦ ولا يظن ظانٌّ أن أمر الشورى مقتصر على هذه الآيات الكريمات فقط، بل إن أمر الشورى يتغلغل في كل ثنايا القرآن الكريم وآياته وأحكامه.
رابعًا: منظومة الشورى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام:
إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقطع أمرًا إلا استشار فيه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وبهذا أرسى النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الشورى في الأمة كلها، وورَّثه لهم ولمَن بعدهم إلى قيام الساعة.
1- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس لِما يُهِمُّهم إلى الصلاة، فذكروا البوق، فكرِهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس، فكرِهه من أجل النصارى، فأُرِيَ النداءَ تلك الليلة رجلٌ من الأنصار يقال له: عبدالله بن زيدٍ، وعمر بن الخطاب، فطرَق الأنصاريُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلًا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا به فأذن، قال الزهري: وزاد بلالٌ في نداء صلاة الغداة: الصلاة خيرٌ من النوم، فأقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: يا رسول الله، قد رأيت مِثل الذي رأى، ولكنه سبقني"؛ (رواه ابن ماجه).
2- عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: "استشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم مخرَجَه إلى بدرٍ، فأشار عليه أبو بكرٍ، ثم استشارهم فأشار عليه عمر، ثم استشارهم، فقال بعض الأنصار: إياكم يريدُ رسولُ الله يا معشر الأنصار، فقال بعض الأنصار: يا رسول الله، إذًا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، ولكن والذي بعثك بالحق، لو ضربتَ أكبادها إلى بَرْك الغِماد، لاتبعناك"؛ (رواه ابن كثير، وقال: صحيح على شرط الصحيح).
3- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: "استشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأسارى أبا بكرٍ، فقال: قومُك وعشيرتك؛ فخَلِّ سبيلهم، فاستشار عمرَ فقال: اقتُلْهم، قال: ففداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزَل الله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ... ﴾ [الأنفال: 67]، قال: فلقِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمرَ، قال: ((كاد أن يصيبَنا في خلافِك بلاءٌ))؛ (صحَّحه الألباني).
4- عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أُتِيَ برجلٍ قد شرب الخمر، فضربه بجريدتين نحو الأربعين، وفعله أبو بكرٍ، فلما كان عمرُ استشار الناسَ، فقال عبدالرحمن بن عوفٍ: كأخفِّ الحدود، فأمر به عمر"؛ (رواه البخاري).
5- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: "كان الناسُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايَعون الثمار، فإذا جدَّ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمرَ الدُّمَانُ، أصابه مُرَاضٌ، أصابه قُشَامٌ، عاهاتٌ يحتجُّون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثُرت عنده الخصومة في ذلك: ((فإما لا، فلا تتبايَعوا حتى يبدوَ صلاح الثمَر))، كالمشورة يشير بها؛ لكثرةِ خصومتهم، وأخبرني خارجةُ بن زيد بن ثابتٍ: أن زيدَ بن ثابتٍ لم يكن يبيعُ ثمارَ أرضه حتى تطلع الثريا، فيتبين الأصفر من الأحمر))؛ (رواه البخاري).
6- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مر بقومٍ يلقحون، فقال: ((لو لم تفعلوا، لصلَح))، قال: فخرَج شِيصًا، فمرَّ بهم فقال: ((ما لنخلِكم؟))، قالوا: قلتَ كذا وكذا، قال: ((أنتم أعلمُ بأمر دنياكم))؛ (رواه مسلم).
7- عن المِسْوَر بن مَخْرمة ومروانَ بن الحكَم رضي الله عنهما، قالا: "خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة، قلد الهَدْيَ، وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عينًا له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينُه، قال: إن قريشًا جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادُّوك عن البيت، ومانعوك، قال: ((أشيروا أيها الناس علَيَّ، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدُّونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينًا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين))، قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجتَ عامدًا لهذا البيت، لا تريد قتلَ أحدٍ، ولا حرب أحدٍ، فتوجَّه له، فمَن صدنا عنه قاتلناه، قال: ((امضوا على اسم الله))"؛ (رواه البخاري).
8- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي الهيثم بن التيهان: ((هل لك خادمٌ؟))، فقال: لا، قال: ((فإذا أتانا سَبْيٌ فأتِنا))، فأُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم برأسين، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اختَرْ منهما))، فقال: يا نبي الله، اختَرْ لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن المستشارَ مؤتمن، خذ هذا؛ فإني رأيتُه يصلي، واستوصِ به معروفًا))؛ (رواه الترمذي).
9- عن عبدالرحمن بن غنم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكرٍ وعمر: ((لو أنكما تتفقانِ على أمرٍ واحدٍ، ما عصيتُكما في مشورةٍ أبدًا))؛ (رواه ابن حجر العسقلاني، وقال: إسناده لا بأس به).
10- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: "إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكرٍ بالسُّنْح، فجاء أبو بكرٍ، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبَّله، قال: بأبي أنت وأمي، طِبْتَ حيًّا وميتًا، ثم خرج، فحمِد الله، وأثنى عليه، وقال: ألا مَن كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد اللهَ، فإن الله حي لا يموت، وقال: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، وقال عز وجل: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: 144] إلى قوله: ﴿ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 145]، قال: فنشَج الناسُ يبكون، قال: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، فذهب إليهم أبو بكرٍ، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكرٍ، ثم تكلم أبو بكرٍ، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فبايعوا عمرَ وأبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت؛ فأنت سيدنا وخيرُنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخَذ عمرُ بيده، فبايعه، وبايعه الناس"؛ (رواه البغوي).
11- عن ميمون بن مهران رضي الله عنه، قال: "كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورَد عليه الخصم، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلِم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك سنَّةً قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفرُ كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاءً، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا مَن يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوسَ الناس وخيارَهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به"؛ (سنن الدارمي).
12- عن المِسْوَر بن مَخْرمة رضي الله عنه، قال: "استشار عمرُ بن الخطاب الناسَ في مِلاصِ المرأة، فقال المُغيرةُ بن شعبة: شهدتُ النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرةٍ: عبدٍ أو أمةٍ، قال: فقال عمرُ: ائتِني بمن يشهد معك، قال: فشهد له محمد بن مسلَمة"؛ (رواه مسلم).
• ملاص المرأة: أملصت المرأة: أسقطَتْ ولدَها قبل موعد الولادة، أجهضت.
• الغُرَّة: العبد أو الأمة، وقيل: هي من العبيد ما بلغت قيمتُه نصفَ عشر ديَة الحر.
13- عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أن عمرَ رضي الله عنه قال له: "اعقِلْ عني ثلاثًا: الإمارة مشورةٌ، وفي فداء العربِ مكان كل عبدٍ عبدٌ، وفي الأمةِ عبدان"؛ (رواه ابن حزم).
14- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: "دخَل الرهطُ على عمر، فنظر إليهم فقال: إني قد نظرتُ في أمر الناس فلم أجد عند الناس شِقاقًا، فإن كان فهو فيكم، وإنما الأمرُ إليكم، وكان طلحةُ يومئذٍ غائبًا في أمواله، قال: فإن كان قومكم لا يؤمرون إلا لأحد الثلاثة عبدالرحمن بن عوفٍ وعثمان وعلي، فمَن ولِيَ منكم فلا يحمل قرابته على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا، ثم قال عمر: أمهلوا، فإن حدَث لي حدثٌ، فليُصلِّ لكم صهيبٌ ثلاثًا، فمَن تأمر منكم على غير مشورةٍ من المسلمين، فاضرِبوا عنقه"؛ (رواه ابن حجر العسقلاني).
15- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال عن عمر: قال له الناس في الشورى: ألا تُشير علينا؟ قال: "لا أبالي أن أفعل، رؤوس قريشٍ، ومَن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعةٍ، فسمى الستةَ وسعيد بن زيدٍ"؛ (رواه ابن كثير، وقال: جيد، وله شواهدُ).
16- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: "لما احتَرَق البيتُ زمن يزيد بن معاوية، حين غزاها أهل الشام، فكان مِن أمره ما كان، تركه ابنُ الزبير، حتى قدم الناسُ الموسم، يريد أن يجرِّئهم (أو يحربهم بهم) على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس، أشيروا علَيَّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما هو منها؟ قال ابن عباسٍ: فإني قد فرَق لي رأيٌ فيها، أرى أن تصلحَ ما وهَى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه، وأحجارًا أسلم الناس عليها وبُعِث عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته، ما رضي حتى يجده، فكيف بيت ربكم؟ إني مستخيرٌ ربي ثلاثًا، ثم عازمٌ على أمري، فلما مضى الثلاثُ، أجمع رأيَه على أن ينقضها، فتحاماه الناسُ أن ينزل بأولِ الناس يصعَدُ فيه أمرٌ من السماء، حتى صعِد رجلٌ فألقى منه حجارةً، فلما لم يره الناس أصابه شيٌء تتابعوه، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدةً، فستر عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه، وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا أن الناس حديث عهدهم بكفرٍ، وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائه، لكنت أدخلتُ فيه مِن الحِجر خمسَ أذرعٍ، ولجعلت لها بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه))، قال: فأنا اليوم أجد ما أنفق، ولست أخافُ الناس، قال: فزاد فيه خمس أذرعٍ من الحِجر، حتى أبدى أسًّا نظَر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعًا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشر أذرعٍ، وجعل له بابين: أحدهما يُدخَل منه، والآخر يخرج منه، فلما قُتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبدالملك بن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضَع البناء على أُسٍّ نظَر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبدالملك: إنا لسنا من تلطيخِ ابن الزبير في شيٍء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه مِن الحِجر، فردَّه إلى بنائه، وسدَّ الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه"؛ (رواه مسلم).
17- قال عمار بن ياسر رضي الله عنهما عن موقف القراء في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: "وفي سِنِيه الستِّ الأولى كانت فتوحات اختلط فيها أهل الشام بأهل العراق، واختلفوا في القراءة، وزعم كلٌّ أن قراءته خيرٌ مِن قراءة صاحبه؛ فأقبَل حذيفة بن اليمان فزعًا، وقال: أدرِكِ الأمةَ قبل أن تختلف في الكتاب.
• قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في كتاب أحكام القرآن: "... وجمَع عثمانُ ذوي الرأي وأهل الحَلِّ والعَقْد، وكان الأمر شورى، أفضى إلى أن يكتب القرآن على الحرف القُرَشي، وأن تُعدَم سائر الأحرف الستة، ولمَّا لام بعضُ ذوي العقول القاصرة عثمانَ رضي الله عنه على تلك الخطوة الذكية الزاكية وليدة الشورى المباركة، قال عليٌّ - كرم الله وجهه -: (لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا؛ فواللهِ ما فعل الذي فعل في المصحف إلا عن ملأٍ منا معشر أصحاب محمد، ولو كنتُ مكانه لفعلتُ في المصحف ما فعل)، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك يردون كل بادرة من بوادر الاستبداد بالرأي، قالوا: قال عثمان رضي الله عنه: "لأفعلَنَّ هذا الأمر، وإن رغِمَتْ أنوف"، فقال بعض الحاضرين: (أُشهِد اللهَ أن أنفي أولُ راغم)".
18- جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله: "وعلى هذا النهجِ سار التابعون أيضًا؛ فقد رُوِيَ عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: أنه لما ولِيَ المدينة جمع عشرةً من فقهائها، وهم سادة الفقهاء في ذلك الزمان، وقال لهم: "إني دعوتُكم لأمر تؤجرون عليه، ونكونُ فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأيِ مَن حضر منكم".
19- جاء في تاريخ الملوك والأمراء للإمام الطبري - رحمه الله -: "ومِن أبرز الأمثلة التي تدلِّل على رُقي مبدأ الشورى وتفوُّقه على غيره من الآليات والوسائل المستحدثة في تولية الحاكم، ما لمسناه في واقع الخلفاء الراشدين، فعندما طُعن عمر بن الخطاب وقارب الأجل، سأله الصحابة أن يترك عهدًا لمن سيخلفه، فرفض، بَيْدَ أنه جعَل البيعة في ستة من صحابة رسول الله، وهم الذين أجمعت الأمةُ على صلاحهم، والالتفاف حولهم، ومِن ثم قرر عمر أن يوقظ أمر الشورى بين المسلمين، فقال: "عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله: ((إنهم من أهل الجنة: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل منهم، ولست مدخله، ولكن الستة: عليٌّ وعثمان ابنا عبدمناف، وعبدالرحمن وسعد خالا رسول الله، والزبير بن العوام حواري رسول الله وابن عمته، وطلحة الخير بن عبيدالله، فليختاروا منهم رجلًا، فإذا ولَّوْا واليًا فأحسنوا مؤازرته، وأعينوه، إن ائتمن أحدًا منكم، فليؤدِّ إليه أمانتَه ...".
• وقال الإمام الطبري أيضًا: وبعدما فرَغ المسلمون من دفن عمر بن الخطاب، اجتمع مجلس الشورى، وفي داخل هذا المجلس المحدد عددًا بستة أفراد، وزمنًا بثلاثة أيام، استطاع المجتمعون أن يفرُغوا مِن الأمر بسلام؛ حيث تمكَّنوا من تولية عثمان بن عفان، وكان أولَ المبايعين المنافسُ الأولُ عليُّ بن أبي طالب، وهذا دليل على رقي نظام الشورى الإسلامي، القائم على احترام حرية الأمة في الاختيار؛ فأهل المدينة قد وافَقوا على ترشيح عمر بن الخطاب لمَن عيَّنهم لأمر الخلافة، ولم يكن هذا الترشيح من عمر قسرًا للأمة وإجبارًا لها، ثم وافَق أعضاءُ الهيئة الاستشارية، وهم في ذات الوقت المرشحون أنفسهم على استخلاف أحدهم، وهو عثمان، ولم تكن موافقتهم وحدها هي المعتمدَ في تنصيب عثمان، بل استشير في هذا الأمر كلُّ مَن كان بالمدينة من ساكنيها، أو مِن زوارها، أو القادمين إليها من أمراء الأجناد وأشراف الناس".
20- عن أبي وائلٍ قال: "قيل لعلي بن أبي طالبٍ: ألا تستخلف علينا؟"، فقال: "ما استخلَف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلفَ، ولكن إن يُرِدِ الله بالناس خيرًا، فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمَعهم بعد نبيهم على خيرهم"؛ (رواه ابن كثير بإسناد جيد).
• إن ما تم ذِكرُه ما هو إلا غيض من فيض، وقليل من كثير، ولو تتبعنا مواقفَ الشورى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأجهدنا اليراع، ولعز المداد، ولحار العقلُ في أبعاد هذه المدرسة، التي لا تضارعُها أخرى، وهذا المنهج الذي أجهد مَن حاول سَبْرَ أغواره.
خامسًا: الخاتمة:
إن الشورى لها ثمار طيبة؛ حيث إنها تؤصِّل صفة الإيمان في المجتمع، وبتطبيقها يكتمل بناء المجتمع الإسلامي.
• ومِن بركتها أنها تجنِّب المجتمع ويلات الظلم والاستبداد، فيكون هناك المسؤولية الجماعية بعيدًا عن الفردية الطاغية.
• ومِن بركتها الشعور بالثقة والأمان بين أفراد المجتمع بعضهم البعض، وبين أفراد المجتمع ومَن يحكُمونه.
• ومِن بركتها تقديم المصلحة العليا للوطن على المصلحة الشخصية، والتنازل عن الرأي الشخصي، واعتناق رأي الأغلبية، أو الرأي الذي تمخَّضَتْ عنه الشورى.
• ولقد أجمَل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فوائد الشورى، فقال: إنها تكمُنُ في: "استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصُّن عن السَّقطة، وحِرْز من الملامة، ونجاة مِن الندامة، وألفة القلوب، واتباع الأثر".
أسأل اللهَ تعالى أن يُلهِمَنا رُشدَنا، وأن يولِّيَ أمورَنا خيارَنا، وألا يولي أمورنا شرارنا، وأن يبصِّرَنا بعواقب الأمور؛ حتى لا يطمع فينا عدو، ولا يساء بنا صديق.
المصدر: http://www.alukah.net/sharia/0/108384/#ixzz4NnBs2dyD