مسألة النَّوع الأدبي دراسة في إجراءات المفهوم وتطبيقاته في الغرب وعند العرب
لم يعد يخفى على أحد من المشتغلين بقضايا النص الأدبي مدى الأهمية القصوى التي تكتسيها "قضية الأنواع" في الدرس الأدبي الحديث، فقد أصبح من الواضح تماما أن كل كاتب إنما ينطلق، فيما يحاول من إبداع، من تصور عام لـ "قواعد النوع" الذي ينتج وفقه نصوصه. ووعي الكاتب بأنه يكتب نصا مندرجا، بالضرورة، ضمن نوع بعينه يقتضيه الخضوع لـ "تقاليد النوع" الذي يكتب وفق مقتضياته. لهذه الاعتبارات كان لزاما على الدارس الأدبي أن يعنى بتحديد "نوعية" النصوص التي يروم دراستها إن أراد بناء معرفة صحيحة بها. ولذلك رأينا أن نختص هذه الدراسة ببحث مسألة الأنواع محاولين استقصاء المسألة في الثقافة الغربية ثم العربية، فتوقفنا عند بعض القضايا التي قدرناها هامة بالنسبة لخطة البحث وغاياته، من قبيل النوع بين الإثبات والنفي ومعضلة التجنيس، والموقف من قضية الأنواع، والعلاقة بين الأثر الفردي والنوع الأدبي، ومشكلة التصنيف والنوع وجماعة التلقي وأصل الأنواع.
أسئلة النَّوع في التَّقليد الغربي:
تحرص معظم الدارسات التي انشغلت بقضية الأجناس على ربط نظرية الأجناس الأدبية بأصولها الإغريقية وخاصة أرسطو، الذي يعتبره الكثيرون المؤسس الحقيقي للنقد الأدبي؛ فهو أول مفكر ينشغل بقضايا النقد الأدبي ويعنى بتفصيل قواعده في كتابين شهيرين أفردهما لدراسة ظواهر الخطاب هما "فن الشعر" و"فن الخطابة".
لقد اعتبر الكتاب الأول "كتابا خصص بكامله لنظرية الأدب"[i]. وهو في الوقت نفسه أهم ما كتب في الموضوع[ii]. ونظرا لأهمية الإسهامات الإغريقية في التأسيس لنظرية الأجناس وتأصيلها، فإنه لا تكاد تخلو دراسة حول الأجناس من الإشارة إليها سواء بالبسط والتعريف أو الرد والمناقضة، يقول صاحبا "نظرية الأدب" في الفصل الذي عقداه لـ "الأنواع الأدبية" من كتابهما "نظرية الأدب": "إن مؤلفات أرسطو وهوراس هي مراجعنا الكلاسيكية لنظرية الأنواع"[iii].
تفصح هذه القولة عن التقدير الكبير الذي حظيت به الاجتهادات الأرسطية في الدراسات الحديثة فيما يتصل بقضية تجنيس الخطابات وتصنيفها، فقد شكلت مقررات أرسطو والشذرات الموجزة المأثورة عن أفلاطون وبعدهما هوراس الأصول الأولى لنظرية الأجناس، التي بلورتها الثقافة الغربية الحديثة. وهو ما لحظه شكري عياد في مقالته عن "مشكلة التصنيف في دراسة الأدب" حين استخلص أن التصنيفات الحديثة منذ عصر النهضة الأوربية إلى اليوم "ظلت تتحرك داخل الدائرة التي وضعها أرسطو"[iv].
من أهم القضايا التي عالجتها نظرية الأجناس في الغرب:
مسألة النَّوع بين النَّفي والإثبات:
يمكن اعتبار الدعوة إلى إلغاء الأنواع بمثابة رد فعل متطرف على دعوة أخرى متطرفة تثبت الأنواع وتقول بنقائها، وهي دعوى ترقى أصولها إلى أرسطو الذي وضع الأسس الأولى لنظرية الأجناس الخاصة بالشعر التمثيلي عند الإغريق عندما ميز المأساة من الملحمة والملهاة، وضبط لكل جنس من أجناس هذا الشعر الخصائص والأشكال. يقول الفيلسوف الاستاجيري في مفتتح الفصل الأول من كتابه "فن الشعر": "حديثنا هذا في الشعر: حقيقته وأنواعه والطابع الخاص بكل منها، وطريقة تأليف الحكاية حتى يكون الأثر الشعري جميلا، ثم الأجزاء التي يتركب منها كل نوع: عددها وطبيعتها [...] وفي هذا نسلك الترتيب الطبيعي فنبدأ بالمبادئ الأولى: الملحمة والمأساة بل والملهاة والديثرمبوس، وجل صناعة العزف بالناي والقيتارة، وهي كلها أنواع من المحاكاة في مجموعها لكنها فيما بينها تختلف على أنحاء ثلاثة: لأنها تحاكي إما بوسائل مختلفة، أو موضوعات متباينة، أو بأسلوب متمايز"[v]. وقد ظلت هذه التصورات الأجناسية التي فصل الفيلسوف في "شعريته" أصولا تأسيسية تلقفها منه المصنفون في نظرية الأجناس بعده، فرسموها معايير وضوابط معتمدة في تجنيس الخطابات وترتيبها ضمن أنظمة وصنافات أجناسية.
ينظر أصحاب هذا التصور إلى الأنواع بوصفها كائنات طبيعية قائمة فعليا ومستقلة عن بعضها استقلالا تاما، حيث كل نوع متميز بخصائص ومتعلقات تدمغه بسمات خاصة فتفرده عن غيره من الأنواع الأدبية، وليس يجوز لها، تبعا لهذا التصور، أن تتحاور أو تتفاعل لأن كل نوع يشكل قارة يمارس على أرضها "استقلاله الذاتي"، بحيث لا يحتاج أو لا يجوز له، بعبارة أصح، أن يستعير أي مقوم يعتبر من مقومات نوع آخر.
يرتد مبدأ "نقاء النوع" إلى أرسطوـ معجزة النقد اليوناني في فصله الحاد بين المأساة والملهاة، حيث تحول هذا الفصل إلى مبدأ أساس في النقد الكلاسي، "فالنظرية الكلاسيكية لا تؤمن فقط بأن نوعا يختلف عن نوع بالطبيعة والقيمة، بل تؤمن أيضا بأن هذه الأنواع يجب أن تبقى منفصلة ولا تسمح لها بالامتزاج، هذا هو المذهب الشهير بمذهب "نقاء الأنواع"[vi].
وهو ما ستثور عليه الحركة الرومانسية التي عرف عنها النزوع إلى التحرر من تنظيرات الكلاسكيين وقيودهم بما فيها مبدأ "نقاء النوع"، فقد هاجم فيكتور هيجو "مبدأ فصل الأنواع الذي يقضي بألا تجتمع في المسرحية الواحدة مشاهد الملهاة إلى جوار مشاهد المأساة. حجته في ذلك أن هذا المبدأ مصطنع لا وجود له في واقع الحياة التي كثيرا ما تتقلب بين الجد والهزل، وتنقلب معها مشاعر الناس في أمكنة ولحظات متجاورة ومتقاربة. وإذا كان هذا صحيحا في الحياة فلماذا تشترط المسرحية الكلاسيكية أن يطرد فيها لون واحد إن قاتما وإن مشرقا"[vii].
على الرغم من محاولات الرومانسيين هدم مبدأ النقاء الأنواعي، فإنهم لم يتحرروا من سلطة النوع بإطلاق، إذ ظلت المقولات الأنواعية مثل "الرواية" و"الشعر" و"الدراما" سائدة بمفهومها الكلاسي في تنظيراتهم للأدب كما في منجزاتهم، فقد ظل لامرتين "شاعرا" كما ظل هيجو "روائيا"، بما يفيد أن الدعوة الرومانسية لم تكن دعوة لإلغاء مفهوم النوع بإطلاق، ولكنها كانت دعوة لإلغاء أنواع بعينها بغرض التأسيس لأخرى جديدة. وهذا الموقف من الرومانسيين يتضمن، من حيث المبدأ، اعترافا بوجود حدود فاصلة بين الأنواع، وهو اعتراف يترتب عنه، استتباعا، القول بوجود الأنواع الأدبية.
رغم الأثر الإيجابي الذي تركته دعوة الرومانسيين في نسق التصور الكلاسي، فإنها لم تستطع القضاء على فكرة النوع لأن إلغاء النوع بإطلاق لم يكن من مقاصدهم، ومع ذلك فقد أسهمت مواقفهم المناهضة لفكرة "نقاء النوع" في التخفيف من سلطة النوع، حيث أصبح المزج بين الأنواع قانونا طبيعيا فيها أو يكاد.
وقد ظهرت بعد حركة الرومانسيين دعوات تبنت فهمهم لقضية الأنواع، وإن جاءت منطلقات أصحابها مباينة لتلك التي وجهت نظر الرومانسيين؛ فبعد أن ظلت الأنواع حية مستمرة لا تعدو التعديلات التي تطرأ عليها أن تكون تحولات داخلية فيها، أو تظهر أنواع جديدة مستقلة تولدت منها، فإن سؤال النوع سيعرف طرحا مغايرا في العصر الحالي على صعيدي المنجز الإبداعي والتنظير النقدي، فقد دعا تيار الرواية الجديدة إلى تكسير رتابة الرواية التقليدية، وتوجهت القصة القصيرة في بعض نماذجها نحو الشعر، كما وجدنا النقد يتحول مع بارت مثلا إلى "إبداع". ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد وجد من بين النقاد المعاصرين من يجهر بالدعوة إلى هدم فكرة الأنواع وإلغائها. ويعتبر بينيديتو كروتشه وموريس بلانشو ورولان بارت من الأسماء اللامعة في هذا "المعسكر"، الذي عرف عنه مناهضة فكرة الأنواع ومعاداتها.
يطرح الباحثون في قضية الأنواع اسم عالم الجمال الإيطالي بينيديتو كروتشه بوصفه واحدا من أبرز المناهضين لفكرة الأنواع المنادين بضرورة نفيها ووجوب إلغائها[viii] متعللا في ذلك بعدم جدواها، إذ ينعت البحث في علم جمال النوع الأدبي بأنه لا يعدو أن يكون تعلقا من نقاد الأدب بمشكلات زائفة[ix] ما دامت القوائم التصنيفية التي ينتجها القائمون على هذا النوع من الدرس تبقى، فيما يقدر كروتشه، غير ذات جدوى، لأن وكد القائمين بها لا ينصرف إلى إبراز جمال الأثر أو قبحه، ولكنه منصرف بالأساس إلى المطابقة بين الأثر وقواعد النوع الذي يرتقي إليه[x]. ومن هنا فقد نعت نظرية الأنواع الأدبية بـ "التظرية الخاطئة"[xi].
ينطلق كروتشه، في دعوته إلى إلغاء النوع، من مبدأ الحدس واستقلالية الأثر[xii]، إذ الآثار، في تصوره، ناتج وعي فردي، ولذلك فهي لا تجسد سوى حالة مبدعها التي هي حالة نفسية خاصة ومتفردة تصدر مباشرة عن الحدس بشكل عفوي وتلقائي من دون تفكير مسبق في القواعد والأصول. وهو ما يترتب عنه استقلال الأثر بنفسه وتحرره من كل قانون أو قاعدة. يقول:"وقولنا إن الفن حدس يستبعد أن يكون الفن وسيلة لإيجاد صنوف ونماذج وأنواع وأجناس"[xiii]. وبهذا الاعتبار يكون الأثر تعبيرا عن تجربة فردية أصيلة وخاصة لا تقبل التصنيف[xiv]. فالمبدع، بمقتضى هذا الفهم، ليس يعبر إلا عن حالات فردية أما الأشكال التي يتخذها هذا التعبير فمن صنع النقاد. تأسيسا على هذا الفهم الذي لا يعترف، أمام الفرادة التعبيرية لكل أثر فني، إلا بالحدس (أو الفن) "نوعا أدبيا"[xv] صدع كروتشه بدعوته المناهضة لكل تقسيم أنواعي. يقول مخاطبا نقاد الأدب الذين يثبتون الأنواع ويدافعون عن وجودها واستمرارها: "ليس هناك سلسلة من الأجناس أو الأنواع. ليس بالفنان الذي يبدع الفن، أو بالمتأمل الذي يتذوق الفن، من حاجة إلى شيء آخر غير الكلي والفردي، أو قل بتعبير أصح الكلي المتفرد؛ أي النشاط الفني الكلي الذي تلخص وتركز بكامله في تصور حالة نفسية فردة"[xvi].
غير أن تدبر آراء كروتشة المعلنة إزاء فكرة الأنواع في نسقيتها يكشف أن موقفه مفتقد للصرامة والتماسك، فالدارس لا يعدم في كتابه عبارات واشية بالشك والارتياب في إمكانية الإلغاء التام لفكرة الأنواع، بل إنه لا يلبث أن يقرر أن نظرية الأنواع منطوية على فائدة لا تنكر وهو صريح قوله:
"على أننا نعترف أنه إذا كان الفنان المحض والناقد المحض، والفيلسوف المحض في الوقت نفسه لا يلتقون عند الأنواع أو الأصناف، فإن لهذه الأنواع أو الأصناف فائدتها من بعض الوجوه الأخرى. وهذا هو جانب الصواب الذي لا أحب أن أغفل ذكره في هذه النظريات الخاطئة. فمما لا شك فيه أن من المفيد أن ننسج شبكة من التصنيفات، لا من أجل الإنتاج الفني، فالإنتاج الفني عفوي وتلقائي، ولا من أجل الحكم على آثار الفن، فهذا الحكم حكم فلسفي، وإنما من قبيل الحصر للحدوس الخاصة التي لا حصر لها، ومن قبيل الإحصاء للآثار الفنية الخاصة التي لا تحصى. وذلك كوسيلة عملية تفيد الانتباه وتفيد الذاكرة[...]إن هذه الأنواع والأصناف تسهل معرفة الفن وتيسر التربية الفنية، فهي في المعرفة أشبه بثبت تذكر فيه أهم الآثار الفنية، وهي في التربية مجموعة من النصائح الضرورية التي توحي بها الخبرة الفنية"[xvii].
يشكل متصورا "النص" و"الكتابة"، اللذين يتخذان عند بارت معنى خاصا، المدخل الأساس الذي ينفذ منه هذا الناقد الأدبي للدعوة إلى نفي الأنواع وإلغائها، فالنص، عنده، ليس واحدا ولكنه "تعددي". والتعدد هنا لا يرتبط بالكثرة، كثرة المعاني التي يمكن للنص أن يدل عليها، ولكنه متعلق بعدم دلالة النص على معنى محدد، لأن النص، في تصور بارت، سليل نصوص وقراءات يتحول النص معها إلى "تعدد" و"كثرة"، نقطة التقائهما القارئ وليس المؤلف. وهو صريح قول بارت: "النص يتألف من كتابات متعددة تنحدر من ثقافات عديدة تدخل في حوار مع بعضها البعض، وتتحاكى وتتعارض، بيد أن هناك نقطة يجتمع عندها هذا التعدد، وليست هذه النقطة هي المؤلف، كما دأبنا على القول، وإنما هي القارئ"[xviii].
إن النص، وفق هذا التصور، زمرة من النصوص أو "الاقتباسات" يضم المؤلف بعضها إلى بعض لكي تشكل "كلا" أجزاؤه غير قابلة للتوثيق، "والقارئ هو الفضاء الذي ترتسم فيه كل الاقتباسات التي تتألف منها الكتابة دون أن يضيع أي منها أو يلحقه التلف".[xix] ولذلك تحدث بارت عما أسماه "موت المؤلف" باعتباره الثمن الذي ندفعه لميلاد قارئ[xx].
أما الكتابة فتتحدد، عند بارت، بوصفها "خلخلة". يقول: "الكتابة لا تتوخى شيئا من ورائها، فعل الكتابة لازم وليس متعديا على الأقل بالمعنى الذي نستخدمه نحن، لأن الكتابة عندنا خلخلة والخلخلة لا تتعدى ذاتها، وإن أبسط صورة على الخلخلة هي العملية الجنسية التي لا تنجب، بهذا المعنى لا تتعدى الكتابة نفسها، إنها لا تنجب ولا تولد منتوجا، الكتابة خلخلة لأنها تتحدد كمتعة"[xxi].
يظهر من هذا الشاهد أن الكتابة، حسبما يفهم بارت، ليس لها من غاية سوى ذاتها، ولذلك فهي تتعالى على كل تراتب تصنيفي، لأنها لا تنجب غير النصوص، والنصوص لا تقبل التصنيف، إذ مجرد حضور هذا الإجراء يلغي الأنواع الأدبية، يقول بارت: "بمجرد أن نخوض ممارسة الكتابة فإننا سرعان ما نكون خارج الأدب بالمعنى البرجوازي للكلمة، هذا ما أدعوه نصا، وأعني به ممارسة تهدف إلى خلخلة الأجناس الأدبية: في النص لا نتعرف على شكل الرواية أو شكل الشعر أو شكل المحاولة النقدية"[xxii].
انطلاقا من هذا الفهم لمتصوري "النص" و"الكتابة" يقرر بارت عدم قابلية النص للدخول ضمن تراتب أنواعي: " إن النص لا ينحصر في الأدب الجيد، إنه لا يدخل ضمن تراتب، ولا حتى ضمن مجرد تقسيم للأجناس، وما يحدده على العكس من ذلك هو قدرته على خلخلة التصنيفات القديمة"[xxiii].
يعتبر موريس بلانشو من أبرز المناهضين، في النقد الحديث، لـ "فكرة النوع" نفسها، ذلك أن الأدب، عنده، لا يتحقق إلا إذا "انتفى" و"تبعثر"، بما يعني أن وجود الأدب إنما هو في عدمه، حيث لا يمكن معرفته ولا التعرف عليه:
"لا يكون الأدب حقل الترابط المنطقي والمجال المشترك إلا ما دام غير موجود، غير موجود كأدب، غير موجود لنفسه إلا إذا بقي مستترا، فهو حالما يظهر الشعور البعيد بما يكون، يتبدد ويسلك سبيل التبعثر، حيث لا يمكننا معرفته والتعرف عليه بعلامات واضحة"[xxiv].
إن الكتابة، عند بلانشو، تتحدد بوصفها "تمردا" لا يخضع لأي سلطة أو قانون، بما فيها سلطة النقد وقانون النوع. وفعل الكتابة، في ضيقه بالقيود ورفضه القوانين، يشبه الدخول إلى معبد لا بنية الخضوع لتعاليمه ولكن بغرض هدمه:
"إذا كانت الكتابة هي الولوج لمعبد يفرض علينا، بغض النظر عن اللغة التي هي ملكنا بحق الإرث وبحتمية عضوية، قدرا من العادات وإيمانا ضمنيا وإشاعة تحول مسبقا كل ما يمكن أن نقوله ونحمله بنوايا تكبر فعاليتها بقدر ما يعترف بها. الكتابة أولا رغبة في هدم المعبد قبل بنائه، هي على الأقل التساؤل، قبل تخطي العتبة، حول القيود والأعباء التي يفرضها هذا المكان"[xxv] . وبهدم المعبد يتخلص الكاتب من القيود ويستعيد حريته، وفي تلك اللحظة فقط يصل الأدب إلى "نقطة الغياب" حيث تكمن "نقطة الصفر للكتابة":
"أن نكتب بدون "الكتابة" أو نوصل الأدب إلى "نقطة الغياب"، حيث تكمن "نقطة الصفر للكتابة"، حيث لا نعود نخشى أسراره التي هي أكاذيب، هنا تكمن "نقطة الصفر للكتابة"[xxvi]. من الواضح أن بلانشو يستعيد في هذا الشاهد بارت الباحث عن "درجة الصفر في الكتابة"، والمناهض، هو الآخر، لفكرة الأنواع.
لقد دعا بلانشو الكتاب بكثير من الحماس إلى الإفلات من جميع القيود وعلى رأسها "قيود النوع". ذلك صريح قوله:
"حالما ندرك أن الكتابة الأدبية، الأنواع، العلامات، استعمال الماضي، والضمير الغائب، ليست فقط شكلا شفافا، ولكن عالما مستقبلا تسود فيه المعبودات وتهجع الأحكام المسبقة، وتعيش غير مرئية القوى التي تحرق كل شيء، يكون من الضروري على كل منا أن يحاول الانفلات من هذا العالم فهو إغراء لنا جميعا بتخريبه"[xxvii].
ويرى بلانشو أن الكتابة لا تكون جيدة إلا إذا كانت "اعتباطية" وتتحقق خارج الأنواع والقواعد، لأن ذلك يمكن من استيعاب التجارب المتعددة، فالأدب عنده "متروك أكثر لاعتباطية [...] خارج الأنواع والقواعد والتقاليد، يصبح الأدب المجال الفسيح للتجارب العديدة المضطربة"[xxviii].
وبالرغم من جهر بلانشو بالدعوة إلى إلغاء الأنواع فإنه لم يستطع التحرر، في كتاباته النقدية، من التفكير بوساطة النوع بشكل مطلق. وهو ما تنبه إليه تودوروف فسجله في مساق اعتراضه على تصورات بلانشو المناهضة لفكرة انتظام النصوص في أجناس وأنواع:
"لدى قراءة كتابات بلانشو نفسها التي يتأكد فيها ذلك الغياب للأجناس، نقع في العمل على زمر يصعب إنكار وجه الشبه بينها وبين تمايزات الأنواع، وهكذا نرى فصلا من كتاب المستقبل مخصصا للمذكرات الشخصية، وآخر للكلام التنبؤي، وفي معرض الكلام عن بروخ نفسه (الذي لم يعد يحتمل التمييز بين الأجناس)، يقول لنا بلانشو إنه "يركن إلى أنماط القول كافة –السردية والغنائية والمقالية- وأهم من ذلك أن كتابه بكامله يركز على التمييز بين اثنين قد لا يكونان من الأجناس، بل من الأنماط الأساسية هما القصة والرواية. فتتميز الأولى بالبحث العنيد عن مكان أصلها الخاص الذي تمحوه الأخرى وتخفيه، إذن ليست الأجناس هي التي توارت، بل هي أجناس الماضي، فاستبدلت بأخرى، فلم يعد الكلام يدور على الشعر والنثر وعلى البنية والتخييل، بل على الرواية والقصة، على السردي والمقالي، على الحوار وعلى الصحيفة"[xxix]. لعل في هذا الرد الحصيف من تودوروف ما يكشف بجلاء أن الدعوة لإلغاء النوع في صورتها عند بلا نشو، على الأقل، ليست قائمة، بحال، على أساس مكين.
في مقابل هذه الدعوات الصادعة بضرورة نبذ النوع والتخلي عن فكرة تصنيف النصوص في مراتب أنواعية، انبرت أصوات نقدية لها مكانتها وإسهاماتها في النظرية النقدية الحديثة مدافعة عن وجود الأنواع وداعية إلى بقائها واستمرارها. وقد أدخلها هذا الموقف في سجال مع معسكر النقاد المناهضين لفكرة الأنواع. من هؤلاء ميخائيل باختين وجيرار جونيت وتزيفتان تودوروف.
لعل الأول أن يكون أبرز المثبتين لفكرة النوع المعتقدين فيها إجراء تصنيفيا ومنهجيا ضروريا لإنتاج فهم متعمق بالظاهرة الأدبية، فقد شكلت "الأنواع"، بالنسبة إليه، "مفهوما مفتاحيا للتاريخ الأدبي"[xxx]. ولما كانت الأنواع "شاغلا متصلا من شواغل الفكر الباختيني" [xxxi] فقد بلور في أعماله المختلفة، خاصة في ضوء قراءة تودوروف، نظرية أجناسية متكاملة استنادا إلى مفهومه عن "الملفوظ"[xxxii].
لقد قرر باختين بعد تفكير متعمق في المسألة نظرا وتطبيقا أن "الشعريات ينبغي أن تبدأ بالنوع"[xxxiii]، وانطلاقا من هذا الوعي بالأهمية القصوى التي يكتمنها مفهوم النوع الأدبي في تأسيس المعرفة الأدبية وتطويرها، نعى باختين على مؤرخي الأدب نظرتهم السطحية التي وجهتهم إلى إغفال مبحث الأنواع، التي يعتبرها "الشخصيات الرئيسية الأولى"، والتوجه بدلا من ذلك إلى معالجة جوانب من الأدب يراها جزئية وأقل أهمية مثل "الاتجاهات" و"المدارس". يقول: "لا يرى مؤرخو الأدب، فيما يتعدى الإثارة السطحية ورشاش اللون، المصائر العظيمة والجوهرية للأدب واللغة، التي تعد الأنواع الشخصيات الرئيسية الأولى فيها، بينما تعد الاتجاهات والمدارس شخصيات أقل أهمية[xxxiv].
ويذهب باختين بعيدا بقناعته في التلازم العضوي بين "الأجناسية" و"الأدبية" بل و"الخطابية" (بالكسر) عامة حيث يقرر في ضوء نظريته في الملفوظ أن الأجناسية ملازمة لكل الخطابات، بما فيها الخطاب اليومي والعادي. وهو طرح متقدم يجعل فكرة النوع لا تنحصر في الأدب وإنما تغوص عميقا في الواقع اللغوي، فتطول حتى جذر الاستخدام اليومي للغة، كما يمكن أن نتبين بوضوح من قوله:
"السؤال والتعجب والأمر والطلب هي جميعا من أكثر التلفظات اليومية المكتملة [...] في ثرثرة الصالونات، القليلة الأهمية والتي لا يكون لها تبعات، حيث يشعر كل امرئ أنه في بيته. وحيث يكون التمييز و(الفصل) بين الحضور (أولئك الذين ندعوهم "الجمهور") قائما على التمييز بن الرجال والنساء – في مثل هذا الموقف يتحقق شكل محدد من أشكال الاكتمال النوعي[...] هنا نمط آخر من أنماط الاكتمال النوعي يتحقق في حديث الزوج أو الزوجة، وحديث الأخ والأخت [...] إن كل وضع يومي مستقر يتضمن جمهورا منظما بطريقة خاصة، ومن ثم فهو يضم مستودعا محددا وأكيدا من الأنواع اليومية الصغيرة"[xxxv].
وبذلك تكون نظرية الأجناس قد انعتقت، مع اجتهادات باختين، من ربقة "الأدب" لتشمل مختلف أجناس الخطاب دونما إنكار بالطبع لمكامن الخصوصية في هذا النوع أو ذاك، إذ يبقى "لكل نوع منهجه وطرائقه لرؤية الواقع وفهمه، وهذا المنهج وهذه الطرائق هي خصيصته الحصرية"[xxxvi].
ويقول جيرار جونيت مفندا مزاعم كروتشه حول خطأ النظرة الأنواعية إلى الأدب:
"ورغم ما زعمه كروتشي وغيره حول خطأ النظرة الجنسية إلى الأدب، إلا أن حالة التعالي حاضرة فيه باستمرار، ولكي يبطل هذا الاعتراض نذكر بأن عددا من الآثار الأدبية منذ الإلياذة خضعت لمفهوم الأجناس، فيما تخلصت منه آثار أخرى، مثل الكوميديا الإلهية، وأن مجرد المقابلة بين المجموعتين يشكل نظاما للأجناس، ونستطيع أن نقول بطريقة أبسط أن المزج بين الأجناس أو الاستخفاف بها يمثل في حد ذاته جنسا من الأجناس. ولا يمكن أن يفلت أحد من هذا التشكيل البسيط"[xxxvii].
أما تودوروف فقد ضمن كتابه "مدخل إلى الأدب العجائبي" ردودا على اثنين من أبرز المنادين بنفي الأنواع وإلغائها هما كروتشه وموريس بلانشو، يقول في رده على دعوة كروتشه إلى اطراح مفهوم الجنس الأدبي:
"يستحيل اطراح مفهوم الجنس مثلما دعا إلى ذلك كروشيه مثلا فهذا الاطراح يستتبع ارتدادا عن اللغة، ولا يمكنه أن يكون مصوغا بالتحديد، بينما المهم بالمقابل هو الوعي بدرجة التجريد المضطلع به، وبوضع هذا التجريد أمام التطور الفعلي، فهذا الأخير ينوجد منخرطا بهذه الطريقة في نظام مقولات أو أقسام يؤسسه ويرتهن به في الآن نفسه"[xxxviii].
كما أورد تودوروف شاهدا اقتطعه من مؤلف "الكتاب الآتي" يظهر بلانشو زاهدا في قسمة الأدب إلى أجناس وأنواع حيث يعلن:
"وحده الكتاب مهم كما هو: بعيدا عن الأجناس خارج خانات النثر والشعر والرواية والشهادة التي يأبى أن ينتظم تحتها، والتي يدين سلطتها في أن تثبت له مكانه وتحدد شكله، لم يعد كتاب ينتمي إلى جنس، كل كتاب يرجع إلى الأدب الواحد كما لو كان هذا الأخير يحجز مسبقا الأسرار والصيغ، التي وحدها في عمومها تسمح بأن تعطي لما يكتب حقيقة كونه كتابا"[xxxix].
وقد عقب تودوروف على هذه القولة لموريس بلانشو بما يثبت ضرورة وجود الأنظمة الأنواعية فهي "المعيار المحسوس"، الذي باطراحه تنتفي كل إمكانية "للخرق". كما شكك تودوروف في زعم البعض أن الأدب المعاصر قد تخلص مطلقا من قبضة النوع. يقول:
"فلكي يكون ثمة خرق يجب أن يكون المعيار محسوسا، والمشكوك فيه بأي حال هو أن يكون الأدب المعاصر قد تخلص مطلقا من التفريقات الجنسية [...] إن عدم الإقرار بوجود الأجناس يرادف الادعاء بأن الأثر الأدبي لا يرتبط مع الآثار الموجودة سابقا، فالأجناس هي تحديدا هذه الخيوط التي بها يكون الأثر في علاقة مع كون الأدب"[xl].
إذا كانت الدعوة إلى إلغاء الأنواع واجدة في الواقع الأدبي ما يدعمها ويرجحها، فإن ترتيب النصوص في أنظمة أنواعية كبرى يبقى مطلبا قائما وملحا، ليس يعدم من يتحمس له ويدافع عنه منذ أفلاطون إلى يوم الناس هذا، حيث ترسخ الاعتقاد بوجود الأنواع إلى درجة الإيمان بها "حاجة أدبية" و"ضرورة نقدية" قيامها واستمرارها لا ينبغي أن يكونا موضع شك أو محل طعن وجدل
معضلة التَّجنيس:
يطرح تصنيف النصوص الأدبية إلى أجناس وأنماط إشكالا حقيقيا يرتفع إلى مستوى "المعضلة"، وقد عبر غير واحد من الدارسين عن هذه المشكلة التي تواجه المشتغلين بالأدب عامة وبنظريته خاصة، من هؤلاء جيرار جونيت الذي عرض لهذا الإشكال في كتابه "مدخل لجامع النص"، حيث انتهى من تقليب النظر في هذه المسألة إلى أنه بالرغم من الاجتهادات العديدة المطروحة داخل نظرية الأجناس، فإنه لا يوجد من بين هذه "الاجتهادات" موقف، في ترتيب الأنواع، "أكثر طبيعية" أو "مثالية" من غيره، ذلك صريح قوله:
"نرى أنه لا يوجد بشأن ترتيب الأنواع الأدبية موقف يكون في جوهره أكثر "طبيعية" أو أكثر "مثالية" من غيره، ولن يتوافر هذا الموقف إلا إذا أهملنا المعايير الأدبية نفسها كما كان يفعل القدماء ضمنيا بشأن الموقف الصيغي. لا يوجد مستوى "جنسي" يمكن اعتماده كأعلى "نظريا" من غيره، أو يمكن الوصول إليه بطريقة "استنباطية" أعلى من غيرها، فجميع الأنواع أو الأجناس الصغرى والأجناس الكبرى لا تعدو أن تكون طبقات تجريبية، وضعت بناء على معاينة المعطى التاريخي، وفي أقصى الحالات عن طريق التقدير الاستقرائي انطلاقا من المعطى نفسه؛ أي عن طريق حركة استنباطية قائمة هي نفسها على حركة أولية استقرائية وتحليلية أيضا. ولقد رأينا بوضوح هذه الحركة في الجداول (الحقيقية أو القابلة للوجود) التي وضعها أرسطو وفراي، حيث ساعد وجود خانة فارغة (السرد الهزلي، السرد العقلاني، المنفتح) على اكتشاف جنس كان بالإمكان ألا يدرك مثل المحاكاة الساخرة"[xli].
من الواضح تماما أن نظرية الأنواع تصطدم في مباشرتها التجنيس والتصنيف بمعضلات عدة. وقد أثرت هذه "المعضلات" على كفاية الأنظمة المعتمدة في تصنيف نصوص الأدب، إذ بقيت قاصرة، بسبب هذه المعضلات، عن تحقيق الدقة والشمول اللذين ميزا أنظمة التصنيف في مجالات علمية عديدة كما هي الحال في البيولوجيا مثلا.
وإذا كانت عملية التصنيف، رغم ما يحف بها من صعاب، ممكنة في نطاق حقبة محددة، فإن المعضلة الحقيقية تظهر عندما يتصدى الدارس لتجميع أنواع ظهرت في حقب تاريخية مختلفة، إذ من الثابت المعلوم أن الأنواع تتغير من حقبة لأخرى تبعا لتغير الأنساق الاجتماعية والتاريخية التي تحف إنتاجها وتلقيها. وهو ما تفطن إليه توماشوفسكي وقرره بالقول: "لا يمكن إقامة أي تصنيف منطقي وصارم للأنواع. فالتمييز بينها هو دائما تمييز تاريخي، بمعنى أنه مبرر فقط خلال مدة زمنية معينة، فضلا على أن ذاك التمييز يصاغ في الوقت نفسه من ملامح متعددة، وملامح نوع يمكن أن تكون طبيعتها مختلفة كل الاختلاف عن طبيعة ملامح نوع آخر، في نفس الوقت تبقى تلك الملامح متساوقة فيما بينها نظرا لأن توزيعها لا يخضع إلا للقوانين الداخلية للتركيب الجمالي"[xlii].
لهذه الاعتبارات مجتمعة صدع توماشو فسكي بأن "تصنيف الأنواع هو عمل معقد، فالأعمال الأدبية موزعة في طبقات شاسعة تتمايز بدورها إلى أنماط وأصناف. في هذا الاتجاه سنذهب نزولا في سلم الأنواع من الطبقات المجردة إلى الفروقات التاريخية الملموسة [...] وحتى إلى الأعمال الأدبية المفردة"[xliii].
نستخلص مما سبق أن قضية تجنيس النصوص وتصنيفها من أعقد المعضلات التي يمكن أن تواجه المشتغلين بنظرية الأدب، بالنظر إلى ما يكتنفها من غموض والتباس جعلا منها "قضية خلافية"، رغم الاهتمام الكبير الذي حازته هذه القضية في الدراسات النقدية قديمها وحديثها. يقول ماري شافر: "من بين كل المجالات التي تخوض فيها النظرية الأدبية يعتبر مجال الأجناس، دون شك، واحدا من أشدها التباسا"[xliv].
ويمكن لهذا الالتباس الذي يطيف بمتصور "الجنس الأدبي" أن يرتد إلى عوامل ثلاثة أساس: يتصل الأول بالعلاقة الجدلية بين الجنس والنص؛ فإذا كان تجنيس النصوص إنما يتحقق بفحص الآثار الأدبية المفردة لاكتشاف قاعدة تشتغل عبر عدة نصوص[xlv]، فإن الأثر الفردي لا يتشكل إلا من خلال الشروط التي يحددها الجنس. وهو ما يجعل العلاقة بين النص والجنس علاقة جدلية تتجه فيها الحركة من الأثر إلى الجنس، ومن الجنس إلى الأثر، لأن تحديد الجنس رهين بالنص، وتشكل النص متوقف على الجنس.
[i] - تودوروف: الشعرية، تر. رجاء بن سلامة وشكري المبخوت، دار توبقال ،1987. ص: 12.
[ii] - نفسه، ص: 12.
[iii] - رينيه ويليك وأوستن وارين: نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي مراجعة حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987ص: 238.
[iv] - شكري عياد: مشكلة التصنيف في دراسة الأدب، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، ع 42 – 1993 ص: 113.
[v] - أرسطو: فن الشعر، ترجمه عن اليونانية وشرحه وحقق نصوصه، عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة – بيروت 1973.صص: 3- 4
[vi] - رينيه ويليك وأوستن وارين: نظرية الأدب، ، ص: 246.
[vii] - محمد مندور: الأدب وفنونه، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الفجالة، القاهرة (د.ت) صص: 85-86.
[viii] -" لقد شن بينيديتو كروتشه في الاستيطيقا هجوما على المفهوم [الأنواع الأدبية] لم تقم بعده له قائمة رغم المحاولات العديدة التي جرت للدفاع عنه أو لإعادة صياغته بشكل مختلف"- رينيه ويليك، مفاهيم نقدية ، تر. محمد عصفور، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع. 110 ـ 1987، ص: 311.
[ix] - انظر كارل فيتور، تاريخ الأجناس الأدبية ضمن نظرية الأجناس الأدبية، ترجمة: عبد العزيز شبيل، ص: 19.
[x] - ب . كروتشه، المجمل في فلسفة الفن، ، تر. سامي الدروبي، الأوابد – دمشق، ط 2 - 1964 ص:81
[xi] - نفسه ص: 80
[xii]- نفسه ص: 69
[xiii] - نفسه ص: 41
[xiv] - نفسه ص: 87
[xv] - "إن كل نظرية متصلة بتقسيم الفنون غير ذات أساس، فالنوع والصنف هما في هذه الحالة، شيء واحد هو الفن نفسه أو الحدس"- كروتشه، المجمل في فلسفة الفن، ص: 85 .
[xvi] - كروتشه، المجمل في فلسفة الفن ، ص: 85 .
[xvii] - نفسه ، صص: 85 - 86
[xviii] - رولان بارت: "موت المؤلف" ضمن درس السميولوجيا، تر. عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر- البيضاء 1993، ص: 87.
[xix] - نفسه، ص: 87.
[xx] - نفسه، ص: 87.
[xxi] - رولان بارت: "في الأدب" ضمن درس السميولوجيا، ص: 48.
[xxii] - نفسه، ص: 48.
[xxiii] - رولان بارت: "من الأثر الأدبي إلى النص" ضمن درس السميولوجيا، ص: 61.
[xxiv] - موريس بلانشو: أسئلة الكتابة، ترجمة: نعيمة بنعبد العالي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط 1، 2004، ص: 34.
[xxv] - نفسه، ص: 40.
[xxvi] - نفسه ، ص: 41.
[xxvii] - نفسه، ص: 41.
[xxviii] - نفسه، ص: 35.
[xxix] - تودوروف: أصل الأجناس، ضمن مفهوم الأدب، ترجمة: عبود كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2002، ص: 22.
[xxx] - تودوروف، ميخائيل باختين: المبدأ الحواري، ترجمة: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 2، 1996، ص: 153.
[xxxi] - نفسه، ص: 153.
[xxxii] - يقول باختين في تحديده العام للنوع: "النوع يعرف بموضوع التلفظ وغايته والوضعية الخاصة به "- المبدأ الحواري (ص:159)، ومن أهم الأعمال التي أفادت –عربيا- من شعرية باختين الأجناسية المستندة إلى نظرية التلفظ أبحاث صالح بن رمضان الذي أقر بالفوائد الجمة التي يجنيها دارس الأدب العربي من تشغيل مقولة التلفظ. يقول في مقدمة أطروحته: "لعل أهم مقولة تم استغلالها في هذا المضمار [تصنيف الخطابات عامة والأدبية خاصة] هي مقولة التلفظ"- الرسائل الأدبية (ص: 8).
كما أفاد فرج بن رمضان من اجتهادات باختين في تسويغ أطروحته المركزية المتعلقة بقابلية الأدب العربي القديم للتجنيس كسائر الآداب في كل عصر ومصر، يقول محاججا ومساجلا: "فإذا كانت اللغة العربية قد قبلت، دون إشكال التحليل والدراسة في ضوء مكاسب اللسانيات الحديثة (والملفوظ الباخيتني مفهوم لساني بالأساس) ثم إذا كانت عموم الخطابات بما فيها مفهوم الملفوظ هذا مهما كان المستعمل واعيا به أو لم يكن، فأحرى بالأدب العربي القديم أن يخضع للتحليل والدراسة في ضوء نظرية الأجناس الحديثة، إذا سلمنا بأن الجنس إن هو إلا صيغة خاصة من الملفوظ" –الأدب العربي القديم ونظرية الأجناس- القصص (ص: 25).
[xxxiii] - تودوروف، مخائيل باختين: المبدأ الحواري، ص: 153.
[xxxiv] - نفسه ص: 154.
[xxxv] - نفسه ، ص: 155.
[xxxvi] - نفسه، ص: 158.
[xxxvii] - جيرار جونيت: مدخل لجامع النص، ترجمة: عبد الرحمان أيوب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 1، 1985، ص: 92.
[xxxviii] - تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة الصديق بوعلام، دار الكلام، الرباط، الطبعة1، 1993ص: 31.
[xxxix] - نفسه، ص: 31.
[xl] - نفسه، ص: 31.
[xli] - جيرار جونيت: مدخل لجامع النص، ترجمة: عبد الرحمان أيوب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 1، 1985، ص: 76.
[xlii] - توماشو فسكي: "نظرية الأغراض" ضمن "نظرية المنهج الشكلي"، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية، ط 1، 1982، ص: 217.
[xliii] - نفسه ، ص: 219.
[xliv] جان ماري شافر: من النص إلى الجنس ضمن "نظرية الأجناس الأدبية"، تعريب عبد العزيز شبيل، مراجعة حمادي صمود، كتاب النادي الأدبي الثقافي بجدة، ط 1، 1994، ص: 130.
[xlv] - تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 27.
المصدر: https://www.alawan.org/content/%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%...
(2)
وقد اعتبر الجنس الأدبي، تأسيسا على هذا الفهم، "أوامر دستورية تلزم الكاتب وهي بدورها تلتزم به في وقت واحد"[i]. إن العلاقة بين النص والجنس علاقة تلازمية لدرجة يمكن معها القول "إن كل وصف لنص هو وصف لجنس"[ii].
ويتمثل العامل الثاني في نسبية المعايير، إذ ليس ثمة من اتفاق بين النقاد على المعايير التي ينبغي اعتمادها في تجنيس النصوص، كل ما اتفقوا عليه أن عملية التجنيس تقتضي وجود معيار يتشكل النص وفق قواعده، واستنادا إلى هذه القواعد تجري عملية تصنيف النصوص إلى أجناس وأنواع.
أما العامل الثالث فيكمن في اختلاف وجهات النظر بين الدارسين حول متصور "الجنس الأدبي" نفسه، وهو ما تؤكده مقررات تودوروف عن التعقيدات التي تطيف بهذا المتصور مما يفضي إلى تباين الأنظار النقدية بصدده تبعا لتباين المرجعيات واختلاف زوايا النظر:
"إن الأجناس توجد في مستويات متباينة من الكلية، وإن مضمون هذا المفهوم إنما يتحدد بوجهة النظر التي يقع عليها الاختيار"[iii].
وقد ترتب عن التباس متصور الجنس الأدبي أن تعددت التحديدات التي تعاقبت على هذا المصطلح منذ أرسطو إلى يوم الناس هذا، نظرا لاختلاف المعايير المعتمدة في تجنيس النصوص وتصنيفها، ففي الوقت الذي نجد فيه البعض يعتمد "السمات المهيمنة" معيارا في التجنيس، نجد بعضا آخر يميل إلى اعتماد "الصيغ المضمونية".
وإلى جانب هذه العوامل الثلاثة يمكن أن ينضاف عامل رابع، يتصل بما هو مقرر عند بعض الدارسين من أن النص الأدبي الحقيقي ليس يخضع لمقتضيات النوع خضوعا تاما، ولكنه يخوض على الدوام، صراعا لا يهدأ ضد متطلبات النوع وقواعده، في محاولة منه لتحقيق طموحه إلى "الخصوصية" و"الفرادة"، اللتين تختصانه بسمات فارقة تميزه من غيره من النصوص الأخرى التي يشترك معها في الارتقاء لنفس النوع. إن النص العظيم، من منظور هذا التصور، هو الذي ينجح في شق عصا الطاعة على متطلبات النوع ومقتضياته.
غير أنه مهما بدت مشكلة التجنيس شاقة ومعقدة فإنه بمكنتنا الانتهاء، مع ذلك، من خلال فحص التحديدات المختلفة التي تعاقبت على متصور "الجنس الأدبي" إلى معنى يجعل الجنس مرتبطا بوضع التقاليد التي تشكل أفق الانتظار عند المتلقي فترسم له طريقة استقبال النص. كما يرتبط بالتقاليد المتصلة بنوع الموضوعات والأساليب التي يمكن أن تتحقق داخل النص نفسه؛ بما يعني أن الجنس الأدبي مرتبط أساسا بترسيخ "تقاليد" معينة[iv].
وإذا كان قد تقرر عند المهتمين بنظرية الأدب أن الأجناس مرتبطة، في الأساس، بترسيخ تقاليد معينة. فما الذ ي يجعل البحث في الأجناس الأدبية أمرا شائكا ومحفوفا بالمزالق؟.
إن مشكلة التجنيس لتبدو على درجة عالية من التعقيد عندما يتجاوز متصور الجنس الأدبي معناه البسيط الذي يربطه بتقاليد الإبداع (نماذج الإنتاج) أو تقاليد الاستقبال (صيغ التلقي) على النحو الذي نجد عند صاحبي "نظرية الأدب"، فقد تحدد الجنس الأدبي عندهما، في الفصل الذي أفرداه لفحص قضية "الأنواع الأدبية"، في أنه "مؤسسة كما أن الكنيسة أو الجامعة أو الدولة مؤسسة، وهو لا يوجد كما يوجد الحيوان، أو حتى كما يوجد البناء أو الأبرشيى أو المكتبة أو دار المجلس النيابي، بل كما توجد المؤسسة. إن بإمكان المرء أن يعمل من خلال المؤسسات القائمة أو يعبر عن نفسه بواسطتها أو يبتكر مؤسسات جديدة، أو أن يعيش بقدر الإمكان بدون أن يشارك في المؤسسات أو الشعائر، كما أن بإمكان المرء أيضا أن يلتحق بالمؤسسات ثم يعيد تشكيلها بعد ذلك"[v].
يتبين من هذا الشاهد أن ريليك ووارين صادران عن فهم متطور لمتصور الجنس الأدبي يتجاوز التصورات التقليدية، التي تجعل الجنس الأدبي مجرد مبادئ لإنتاج النصوص أولا وقواعد لتصنيفها ثانيا. إن تحديد الجنس الأدبي بوصفه "مؤسسة" يمنحه "الاستقلالية" التي تميز نظام المؤسسات، وإن كان ذلك ليس بحائل بينها والتفاعل مع المؤسسات الأخرى، بكل ما يقتضيه التفاعل من مبادلة لعلاقات التأثر والتأثير، الأمر الذي يمكن الجنس الأدبي من تطوير ذاته بحيث يستوعب جميع النصوص مهما تباينت سماتها وتنوعت خصائصها. وبذلك يصبح الجنس الأدبي قادرا على الاستجابة للعلاقة المعقدة التي تجمعه بالنص الذي يعمل، من أجل تحقيق أدبيته، على الاستجابة لمقتضيات الجنس وخرقها في ذات الآن. وهو ما ينكشف من تقرير الناقدين أن اندماج الكتابة داخل مؤسسة الجنس الأدبي يتيح لها التعبير عن نفسها من خلال قيودها وقوانينها من دون أن تفقد استقلالها. إن الأمر يشبه إلى حد كبير "الحكم الذاتي" داخل نظام فيدرالي، حيث المرونة التي تسم الجنس الأدبي بوصفه "مؤسسة" تجعله يفتح أمام الكتاب آفاقا رحبة، تتيح لهم الإبداع من داخل "مؤسسة الجنس الأدبي"، كما تتيح لهم إمكانية تفكيك المؤسسة وإعادة تشكيلها، بل إن الأمر قد يصل حد ابتكار مؤسسات جديدة؛ أي نصوص تتمرد على مؤسسة الجنس الأدبي في صورته التقليدية، بكل ما يقتضي من تكسير لمتصور الجنس أو تحريره استجابة لخصوصية النصوص الجديدة.
يكشف هذا التصور عن المرونة التي تسم "مؤسسة الجنس الأدبي". وهو ما يمكنه من التطور ويقدره على استيعاب التجليات النصية الجديدة التي تفرضها التحولات التاريخية والثقافية التي تطرأ على العصر، فتفرض مفهوما للحياة والأدب مغايرا لما كان سائدا من قبل.
وإلى جانب هذا التصور لقضية التجنيس الذي بلوره صاحبا "نظرية الأدب" يمكن استحضار أعمال الناقد الفرنسي تودوروف التي عالج فيها المسألة الأجناسية بكثير من الحصافة والنباهة.
تناول تودوروف قضية الأجناس الأدبية في سياق محاولته الرائدة لتجنيس "العجائبي" في كتابه الشهير" مدخل إلى الأدب العجائبي" حيث انطلق في دراسته من سؤال هو بمثابة إشكال مركزي في نظرية الأجناس: هل يمكن حصر عدد الأجناس الأدبية؟ إذا أمكن حصرها فذلك يعني أن عددها نهائي، وإذا لم يمكن حصرها فإن عددها يكون غير نهائي[vi]. وقد أورد تودوروف في معرض، إجابته عن هذا السؤال- الإشكال مقالة لتوماشوفسكي يؤكد فيها أن الأعمال الأدبية تنقسم إلى أجناس واسعة، وهذه الأجناس تتوزع بدورها إلى أنماط وأنواع[vii].
تقوم نظرية تودوروف في الأجناس على تصور خاص للعلاقة بين الجنس والنص أساسه حركة مزدوجة: من الأثر في اتجاه الجنس، ومن الجنس في اتجاه الأثر[viii]. وانطلاقا من هذه العلاقة الجدلية والتلازمية بين الجنس والنص انتهى تودوروف إلى رفض الآراء المشككة في فعالية عملية التجنيس وإجرائيتها، إذ صدع بمقالته إنه "يستحيل اطراح مفهوم الجنس"[ix].
إذا كان الداعون إلى إلغاء التقسيمات الأجناسية منطلقون من اعتقاد مؤداه أن النص الأدبي الحقيقي يتوجب عليه خرق قواعد النوع، لكي يتميز من غيره من النصوص التي تشاركه الارتقاء إلى نفس النوع، فإن هذا الخرق يتطلب، لكي يتحقق، وجود معيار ملموس. وهو ما يبرر بل يستدعي وجود نظرية للأجناس، كما بين ذلك بحق تودوروف، فكل ما نحتاجه، في ضوء هذا الفهم، هو "تهييء مقولات مجردة لها قدرة التطبيق على آثار اليوم([x]. وقد ختم تودوروف مرافعته عن الأجناس بالقول:
"إن عدم الإقرار بوجود الأجناس يرادف الادعاء بأن الأثر الأدبي لا يرتبط بعلاقات مع الآثار الموجودة سابقا، فالأجناس هي، تحديدا، هذه الخيوط التي بها يكون الأثر في علاقة مع كون الأدب"[xi].
بعد مناقشة مفصلة لنظرية نورثروب فراي حول التصنيفات الأجناسية التي ضمنها كتابه "تشريح النقد" يلحظ تودوروف أن هذه التصنيفات تفتقد إلى التماسك المنطقي داخليا وخارجيا[xii]. ومن هنا قدم تودوروف مقترحه لنظرية أجناس تقوم أساسا على "تمثل الأثر الأدبي"[xiii] ، حيث يميز بين تصورين للأجناس اثنين: تصور تاريخي يتشكل عبر ملاحظة الوقائع الأدبية ويفضي إلى تكون "الأجناس التاريخية"، وتصور نظري هو عبارة عن نظرية للأدب تنتج عنها "الأجناس النظرية"[xiv].
لقد صاغ تودوروف نظريته في الأجناس على أساس تصوره للأثر الأدبي، حيث تجنيس الآثار قائم، عنده، على مرتكزين اثنين:
1/ رصد الخصائص المجردة التي تشترك فيها هذه الآثار وتشكل، بالتالي، "ثابتا بنيويا" فيها.
2/ استخلاص القوانين العامة التي تربط بين هذه الخصائص.
. النَّوع بين الشّعريَّة وتاريخ الأدب:
إن النوع ليس جملة من المقومات أو زمرة من العناصر، متى توافرت في النص أمكن إدراجه تحت هذه التسمية أو تلك، فإن لم تتوافر وكانت ثانوية نظر إليه باعتباره علامة في سياق تطور ذلك النوع، وإن كانت رئيسة اعتبر النص إيذانا بولادة نوع أدبي جديد[xv]. فهذا الفهم للنوع ضيق وقاصر، ولا ينبغي أن يعد معيارا في ترتيب الأنواع ضمن "قائمة" أو "صنافة".
إن النوع في فهمنا وتشغلينا قوانين في النص دينامية، يتطلب الوعي بها نبذ التصور المعياري التقليدي الوافد على الأدب من حقل البيولوجيا المنسوبة إلى الدقة والصرامة[xvi]، والنظر بدلا من ذلك إلى النوع في سياق الشرط التاريخي، لأنه وحده القادر على تمكين الباحث من تعرف خصوصية النوع في ديناميته وليس سكونيته، التي لا تعني سوى التصورات المعيارية التقليدية.
ونعني بالدينامية هنا سيرورة النوع في التاريخ نشأة ومآلا: كيف تخلق؟ متى؟ وأين؟ ولماذا تخلق هو بالذات وليس غيره في فترة تاريخية معينة؟ والتحولات التي تعتري النوع: أسبابها؟ مظاهرها؟ دلالتها وأبعادها؟.
ومن سؤال التحولات ينبثق سؤال المصير والمآل: ما الأسباب الباعثة على تداول النوع؟ أو تهميشه؟ أو اضمحلاله وتلاشيه؟ ولماذا يعاود بعضها الظهور؟ في حين يختفي بعضها مؤقتا أو نهائيا؟ كيف ينتقل النوع من دائرة الأدب الرسمي إلى الشعبي والعكس؟ كيف يحرم النوع من الانتساب إلى دوحة الأدب في فترة تاريخية ليعود في أخرى إلى دائرة الأدب وسط ترحيب النقاد والقراء؟.
إن حدود الدراسة الشعرية الباحثة في محددات الأنواع شكلا وأغراضا، لتضيق عن مثل هذه المشكلات العويصة ما لم تنفتح على "تاريخ الأدب" بكل أبعاده الاجتماعية والجمالية والإيديولوجية. وهو ما نبهت عليه اجتهادات باختين في صيغتها المطورة عند تودوروف عندما دعا لأن تصبح "أسلوبية النوع" جزءا لا ينفصل عن "علم الاجتماع". يقول: "إن الشعريات الحقيقية للنوع يمكن أن تكون فقط علم اجتماع النوع"[xvii]، ويعقب تودوروف على هذا الرأي قائلا: "إن النوع كينونة اجتماعية – تاريخية وهو كذلك كينونة شكلية، وينبغي أن تعالج تحولات النوع في سياق علاقتها مع التغيرات الاجتماعية"[xviii].
إن التأمل في العلاقة الواصلة بين الشعرية وتاريخ الأدب تؤكد أن التعارض بين النهجين مفتعل إن لم يكن غير ذي موضوع. إذ الشعري والتاريخي في الدراسة الأجناسية متلازمان تلازم محايثة واتفاق، وليس تلازم تلفيق أو اختلاق مادام البحث الأجناسي ليس بمقدوره الإجابة عن "المعضلات" التي تطرحها قضية الأجناس ما لم يزاوج بين رصد القوانين المنظمة لوجود الأجناس، والصلات بينها من جهة، والبحث في الأصول التي تحدرت منها والتحولات التي طرأت عليها والمآلات التي صارت إليها من جهة ثانية. وهو ما يجعل البحث الأجناسي مزاوجة منهجية بين البنيوي والتاريخي، بين الآني والزماني. إنها ذات الإجراءات المنهجية متنزلة في مستويين مختلفين، ولا يقتضي الأمر أي تدافع أو تنازع بين النهجين. يؤكد ذلك ويرجحه أن تودوروف اعتبر "تاريخ الأدب" في بعض كتاباته فرعا من فروع الشعرية، أطلق عليه "الشعرية التاريخية"[xix]. وهو الفرع الذي اعتبره في الستينات أقل قطاعات الشعرية تبلورا[xx].
إن سؤال النوع هو موضع التقاء بين الشعرية العامة وتاريخ الأدب، ولذلك نرى أن تصنيف النصوص في شبكة أنواعية مقتض المزاوجة بين المبدأين: مبدأ سكوني تزامني Synchronique الغرض منه نمذجة الأنواع في حقبة محددة للكشف عن نسقها من خلال العلاقات المشتركة التي تجمعها بنظائرها، ثم مبدأ تطوري دياكروني Diachronique القصد منه تتبع النوع في رحلة تشكله بترصد ما طرأ عليه من تعديلات وتحولات. والمزاوجة بين المبدأين وحدها تمكن من بناء معرفة صحيحة وعميقة بقضايا النوع الأدبي.
من القضايا التطبيقية التي تبرر هذه الدعوة إلى المزج بين مسعى "الشعرية" ومسعى "تاريخ الأدب"، فيما اصطلح عليه تودوروف "الشعرية التاريخية"، قضية نظام الأجناس الأدبية في الثقافة العربية، الذي يتميز، كما هو معروف، بمركزية جنس الشعر في مقابل هامشية جنس القصص. فلسنا نشك في أن أجهزة الشعرية في فحص الأنظمة الأجناسية لن تسعفنا في تفسير هذه الظاهرة التي تتنزل في صميم نظرية الأجناس، إذ لا منازعة في أن مركزية الشعر في الثقافة العربية لا ترتد إلى "شعريته" ولا هامشية القصص مرتدة إلى "قصصيته". وبالتالي فالباحث عن تفسير لهذه الظاهرة لن يجده في تخريجات الشعرية، ولكنه واجده بالتأكيد في مباحث تاريخ الأدب، التي تربط الظاهرة الأدبية بالوقائع السوسيولوجية. وفي ذلك إقدار للباحث على تعرف علاقة نظام الأجناس العربية بالاتجاهات الإيديولوجية، سلبا وإيجابا، في الفترة التاريخية التي يفحص، لأن نظرية الأدب بعامة عند العرب، ومنها نظام الأجناس، ليست مفصولة عن المقاصد الإيديولوجية في المستوى السوسيولوجي. يتعلق الأمر بالإيديولوجيات التي تخترق المجتمع ويكون لها تأثير ومفعول في سائر مناحي الحياة ومنها الأدب. ذلك أن موضوع التاريخ في "الشعرية التاريخية" لا يتعلق، كما أوضح تودوروف، "بالأعمال الأدبية الدقيقة وإنما بما يتجاوزها، وأقصد أصناف الخطاب الأدبي وتأليفاتها المستمرة، التي نملك لها اسما تقليديا هو الأخبار الأدبية، نحن نتخذ هنا مكانا يتوسط في عموميته شمولية نظرية الخطاب وخصوصية التفسير، ونلتجيء في ذلك إلى التحليل الشكلي كما نلتجئ إلى التحليل الأيديولوجي. ذلك أن الجنس الأدبي مرتبط بالأشكال اللسانية ارتباطه بتاريخ الأفكار"[xxi]. أما باختين فإن التلازم بين الشعري والتاريخي يرتفع، عنده، إلى مستوى الضرورة في مبحث الأجناس، حيث الجنس في تصوره متملك لبعد تاريخي يغدو بمقتضاه جزءا من الذاكرة الجماعية، وليس مجرد تقاطع للخصائص الشكلية والأبعاد الاجتماعية. يقول: "يعيش النوع في الحاضر ولكنه دائما ما يتذكر الماضي وبداياته، إن النوع هو ممثل الذاكرة الخلاقة في عملية التطور الأدبي، وهذا هو السبب الكامن بالضبط وراء كون النوع قادرا على ضمان وحدة هذا التحول وتواصله"[xxii].
إن النوع الأدبي ظاهرة جمالية متنزلة، بالضرورة، في سياق ثقافي وتاريخي تفعل فيه مثلما تنفعل به. وعلى هذا الأساس فإن "النوع الأدبي محكوم في نشأته وتطوره بوضع تاريخي اجتماعي محدد، ومحكوم في طبيعته وطاقاته ووظيفته بالوفاء بحاجات اجتماعية معينة يحددها ذلك الوضع التاريخي والاجتماعي الذي أثمر هذا النوع"[xxiii]. ومن هنا كنا نرى أن تحقيق معرفة متعمقة بأجناس الخطاب الأدبي عامة، وقديمها خاصة تقتضي تنزيل هذه الأجناس في السياقات الاجتماعية والتاريخية والجمالية التي اشتبكت معها في مستوى الإنتاج والتلقي. فالأجناس، مهما تمايزت وتغايرت، تلتقي في أنها تتخلق في البداية عفوا لتتطور عبر التاريخ نحو الصنعة والتعقيد (المعايير والقواعد)، وهي في تحولها وتطورها لا تذهل، بالتأكيد، عن تمثل وتمثيل الحضارة التي انبثقت فيها وتقلبت بين أنظمتها الذهنية. حيث "الجنس الأدبي هو عبارة عن "كبسولة" مضغوطة ومشحونة بالمعلومات ذات الأبعاد الحضارية المتشابكة"[xxiv].
الأثر الفردي والنَّوع الأدبي:
يتعلق الأمر في هذا المستوى بقضية خصوصية الأثر الأدبي وفرادته في علاقتهما بالنوع الأدبي، بما هو "جمع" و"كثرة" و"تعدد"، فقد ذكر ديلتاي صراحة أن علاقة الأثر الفردي بالجنس الأدبي هي واحدة من مشاكل التأويل المستعصية على الحل نظريا[xxv].
ومن الأسئلة التي تربك الباحث في علاقة الأثر الفردي بالنوع الأدبي: كيف نجمع أعمالا أدبية "متعددة" تحت نفس التسمية المؤشرة على نوع أدبي بعينه؟ هل الأعمال الأدبية التي ترتقي لنفس النوع "نسخة واحدة"؟ وإذا كان ذلك كذلك ألن يكون في ذلك إنكار لخصوصية العمل الأدبي وإلغاء لفرادته؟ وإذا كانت الأخرى ألن تسقط مختلف المبررات التي تسوغ وجود الأنواع بوصفها "نماذج موحدة" لنصوص متباينة؟.
إن النوع الأدبي ظاهرة جمالية متنزلة، بالضرورة، في سياق ثقافي وتاريخي تفعل فيه مثلما تنفعل به، وعلى هذا الأساس فإن "النوع الأدبي محكوم في نشأته وتطوره بوضع تاريخي اجتماعي محدد، ومحكوم في طبيعته وطاقاته ووظيفته بالوفاء بحاجات اجتماعية معينة يحددها ذلك الوضع التاريخي والاجتماعي الذي أثمر هذا النوع"[xxvi].
وبالإضافة إلى هذه الوظيفة الاجتماعية التي ينهض بها النوع الأدبي فإن مقولة النوع تضطلع بوظيفة أخرى أدبية ونقدية هذه المرة، فهي صيغة تمكن من تجميع نصوص عديدة تحت نفس التسمية استنادا إلى مقاييس محددة ومعلومة. غير أن جمع النصوص في "زمر" أو "طبقات" ليس يتيسر إلا بحركة، فيما يقرر تودوروف، مزدوجة: من الأثر في اتجاه الأدب (أو الجنس)، ومن الأدب (أو الجنس) في اتجاه الأثر"[xxvii]. ذلك أن النص الأدبي لا يكون كذلك إلا إذا اشترك مع نصوص أخرى في جملة من الخصائص تشكل قيما مهيمنة بها يتقوم النوع. وهي التي تدمغه بسمات نوعية فارقة يختص بها، فتفرده عن غيره من الأنواع الأدبية الأخرى.
إن الإشكالية الأنواعية مرتدة في أصلها إلى هذه العلاقة الملتبسة التي تجمع بين النوع الأدبي والأثر الفردي، فما من شك في أن صاحب الأثر إنما ينتجه في تحاور وتفاعل مع آثار أخرى سابقة، إما أنه يحاكيها فينهج نهجها وينسج على منوالها أو يتمرد عليها فينتهك أسسها ومقوماتها. وعندما يستقبل القارئ هذا الأثر فإنما يستقبله وفق "أفق انتظار" معين أساسه جملة من القواعد مستخلصة من قراءات سابقة، تشكل – في مجملها- "تقاليد النوع". لهذه الاعتبارات كان من الصعب الدفاع عن الأطروحة التي ترى أن الأثر فردي وناتج إلهام شخصي من دون أن يدخل في علاقة مع آثار الماضي، ثم إن النص ليس مجرد نتاج تركيبة سابقة الوجود مكونة من الخصائص الأدبية المفترضة، ولكنه، إلى جانب ذلك، تحويل لهذه التركيبة[xxviii].
إن خصوصية الأثر لا تحول دون تجنيسه، حيث إنماء الأثر إلى نوع بعينه ممكن – تبعا لمقترح تودوروف- عبر حركة ذهاب وإياب: من الأثر إلى النوع ومن النوع إلى الأثر. وهو ما يجعل كل وصف لنص وصفا لجنس[xxix].
إن دراسة الأنواع عمل متأرجح بين الممارسة التطبيقية التي تنطلق من النصوص، والعمل التصوري التجريدي الذي ينطلق من التنظير. ومن هنا رأى بعض الدارسين في النوع مرتبة وسطى بين النص والنمط، حيث "النمط هو النموذج والمثال الذي يختزن مجموعة من السمات الأسلوبية، والنوع هو المتصرف بطريقة أو بأخرى في تلك السمات. أما النص فهو المنجز أو المظهر الملموس للنمط والنوع"[xxx].
يرتد أصل المشكلة الأنواعية إلى علاقة النوع بالأثر: هل هي علاقة تدجين واحتواء أم صراع وتمرد؟
تكون العلاقة بين الأثر والنوع تدجينا واحتواء عندما ينزع الأثر إلى "الثبات"، وتكون تمردا وصراعا إذا نزع الأثر إلى "التحول". في حال الثبات يخضع المؤلف للنوع فينشئ أثره وفق مقتضيات النوع وتقاليده. ويكون استقباله – تبعا لذلك- وفق "السنن" التي ترسخت في ذهن القارئ من قراءات سابقة تخلق لديه "أفق انتظار" يتوافق وتقاليد النوع.
أما التحول فيظهر عندما ينزع الأثر إلى التحرر من قبضة النوع فيجاوز عامدا حدوده ويخرق قواعده وتقاليده. وتتميز خصيصة "التحول" هاته بأنها لا تتوافر في جميع النصوص، ولكنها وقف على نصوص بعينها تمثل في تاريخ الأدب نصوصا- معالم تنتهك المعايير وتتمرد على السنن الأدبية السائدة في عصرها بما يقود، في المحصلة، إلى توسيع النوع حيث "كل رائعة حقيقية تخرق قانون جنس مقرر زارعة بذلك البلبلة في أذهان النقاد الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى توسيع الجنس"[xxxi].
إذا كان ثبات النوع يقود إلى الإقرار بوجوده، فإن تحوله يساعد على تبين رحلة تشكل النوع وتطوره. وقد ذهب بعض الدارسين إلى أن هذه العلاقة المتقلبة بين النوع والأثر، تقتضي الانطلاق من مجموعة من النصوص المفردة للوصول إلى نمط النوع، الذي يشكل صيغة جامعة عليا يحددها كارل فيتور بأنها "تجريد [...] أو الرسم التصوري كما يكون، إن جاز القول، البنية الأساسية التي لا توجد إلا في شكل خصوصيات صافية؛ أي أجناسية الجنس"[xxxii].
إن أجناسية الجنس، باصطلاح فيتور، لا ترتبط بأثر واحد يمكن اتخاذه أنموذجا لذلك النوع، ولكنها متعلقة باستقراء جملة من الآثار الفردية، لأنه "لايمكن لأي نسخة مفردة أن تكون نمط الجنس [...] إننا نحصل على نمط جنس أدبي معين بفضل دراسة جامعة لكل الآثار الفردية التي تنتمي إلى هذا الجنس"[xxxiii].
ومع ذلك فإننا لا نعدم "أثرا" يمكن أن ينمى إلى أكثر من نوع إذا توافرت فيه السمات المهيمنة التي يتقوم بها النوع؛ فرسالة "حي بن يقظان" مثلا صنفها صاحبها ابن طفيل ضمن "الأدب الرسائلي" لأنها موجهة إلى مرسل إليه مفترض (الأخ الكريم والصفي الحميم)، والرسالة "جواب" مطول عن سؤال وجهه لابن طفيل سائل حقيقي أو مفترض طالبا إليه الكشف عن أسرار "الحكمة المشرقية" التي ذكرها ابن سينا. وقد حافظ المؤلف على مراسيم الكتابة الرسائلية من بسملة وتحميد، وبيان للمقصد في المفتتح، ثم تلخيص ما تقدم، وطلب للتجاوز والعفو من الله، والسلام على الأخ المفترض في المختتم[xxxiv].
وبالرغم من هذا "الميثاق الأنواعي" الصريح بين المؤلف والقارئ، فقد وجدنا من الدارسين من يتصدى لإعادة تجنيس هذا "الأثر" لما رأى في نظامه من مقومات نوعية يمكن أن تلحقه بنوع آخر غير "الرسالة". وهكذا رأى فيه محمد الداهي "سيرة ذاتية ذهنية" بين فيها ابن طفيل "طريقته أو منهجيته في تحصيل المعرفة واستخدامها للارتقاء من المحسوس إلى معرفة الله. لم يعبر عن تجربته الفكرية والوجودية بطريقة مباشرة بل خلق تباعدا بينها بتوظيف قناع حي بن يقظان"[xxxv] . فيما رأى محمد طرشونة في كتاب ابن طفيل "قصيدة صوفية" مبررا ذلك بالقول: "إننا رأينا فعلا في كتاب ابن طفيل نصا شعريا تتوفر فيه جل مقومات الشعر من إيحاء وتمليح وترميز وتخييل وإيقاع. والشعر في جل التعريفات لا يكاد يخرج عن هذه المقومات"[xxxvi] . أما فرج بن رمضان فقد أطلق عليها تسمية أجناسية وتصنيفية جديدة هي " الرسالة القصصية"[xxxvii]. وإلى جانب هذه التصنيفات يمكن أن نرى في هذا الأثر "قصة" إذ طالما كان "القصصي" ملازما "للرسائلي"، ومن ثم يمكن لرسالة "حي بن يقظان" أن تخرج، بالنظر إلى طولها، من الإخوانيات لتنزل، بمقتضى ذلك، منزلة "القصة" أو "الحكاية"[xxxviii]. يدعم هذا الرأي أن ابن طفيل يصرح باعتماده مقومات قصصية في سرد "حكاية حي بن يقظان" مثل أسلوب التشويق الذي يوظفه ابن طفيل اجتذابا لإصغاء القاريء وترغيبا له في متابعة "الأحداث" المسرودة. يقول: "لم أفعل ذلك إلا لأني تسنمت شواهق يزل الطرف عن مرآها، وأردت تقريب الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق"[xxxix].
وفي ذلك تصريح من ابن طفيل باستثماره متعلقات الخطاب القصصي لتحقيق غاية تعليمية وتوجيهية، تمثلت في تشويق القارئ اجتذابا لانتباهه من أجل تبليغه "الحكمة" المقصودة.
ومما له أكثر من دلالة في هذا السياق أن نشرة فاروق سعد لكتاب "حي بن يقظان" أثبتت عبارة "قصة فلسفية" تحت عنوان الكتاب[xl]، فيما نعتها عبد الفتاح كيليطو بـ"الرواية الفلسفية"[xli].
وقد رأى بعض الدارسين بوحي من هذه الظاهرة تناظرا بين علاقة الأثر بالنوع، وعلاقة الكلام باللغة في ثنائية سوسير الشهيرة، فقدر أنه لم يعد مستغربا أن نرى كتابا "يستخدمون ثنائية سوسير: لغة/كلام لتوضيح العلاقة بين النص والجنس المناسب، إن القياس بالتأكيد ليس مبررا، فبالفعل إذا كانت اللغة هي التي، في المستوى اللساني الصرف، تجعل الكلام نظريا مفهوما، فإن النص يتأسس انطلاقا من الجنس وقواعده في شكل وحدة اصطلاحية للممارسة الاجتماعية"[xlii].
إن هذا الفهم لمتصور النوع بما هو قاعدة تشتغل في عدة نصوص ليساعد على تنزيل النوع ضمن النظام الأدبي في مجتمع من المجتمعات، ولذلك يتعين على الباحث عن أنظمة أنواعية للنصوص أن يعتبر كل نص بمثابة "تحول" داخل "الثابت"، وباستقراء هذه النصوص استنادا إلى مقاييس محددة ومعلومة يتم ترصد الثوابت وفصلها عن المتحولات، بما يقود، في المحصلة، إلى إنجاز خطاطة تصورية يفترض فيها أنها البنية الأصلية التي منها يتولد سائر النصوص.
إن هذا التقلقل في تجنيس الأثر الفردي مرتد، بالأساس، إلى الازدواجية التي تسم النص الأدبي؛ فهو من جهة "فرد" في إنتاجه وإنشائه، ولكنه من جهة مقابلة "جمع" في قراءته واستقباله.
مشكلة التَّصنيف:
يستند تصنيف الأنواع، عند محاوليه من المعتقدين فيه، إلى إيجاد صيغة تجميعية نسقية تمكن من إدراج عدد من الأنواع لا يقل عن اثنين تحت نفس التسمية. وهذا الإجراء يحوج من يحاوله إلى ضبط السمة أو السمات التي يتقوم بها النوع بما يمكن، في المحصلة، من إفراد كل نوع وجد له موضعا في شبكة الأنواع بمفهوم خاص. ويفترض، طبعا، أن يقف وراء كل علمية تصنيف مبدأ أو عدة مبادئ تضبط التصنيف وتوجه الاختيار.
وبالرغم من المعضلات التي تواجه كل من يتصدى لتصنيف الأنواع، فإن ذلك لم يمنع التصنيفات المقترحة لترتيب الأنواع وتنظيمها من التعدد والتنوع، حتى ليمكن القول إنه ما من دارس منشغل بقضية الأنواع إلا وله "اجتهاد" في التصنيف و"مقترح"، وقد أحصى رشيد يحياوي من هذه الاجتهادات التصنيفية في نظرية الأنواع الغربية ثمانية[xliii]:
1- التصنيف المضموني: ويستند فيه تصنيف الأنواع إلى مادة الموضوع، كتقسيم الرواية إلى تاريخية وسياسية ودينية وغيرها.
2- التصنيف الهرمي: تصنيف تراتبي يقوم بإحصاء الأنواع وفق خط عمودي ذي قاعدة هرمية.
3- التصنيف النمطي: يعتمد هذا التصنيف عندما يرتفع النوع إلى درجة النمط.
4- التصنيف الإحصائي: يكون بوضع لائحة بعدد الأنواع في محاولة لاستقصاء الأنواع الموجودة بالفعل.
5- التصنيف الانتقائي التحليلي: يكون المقصد هنا معالجة نوعين على الأقل لإبراز المشترك الأسلوبي بينهما أو ما يختلفان فيه.
6- التصنيف التأسيس: يناقش المبادئ التصنيفية بغرض التأسيس لتصنيف بديل.
7- التصنيف التكاملي: يزاوج بين طرح القضايا النظرية وتحديد الخصائص الأسلوبية.
8- التصنيف الاستعادي: يستعيد الثلاثية اليونانية.
إن تصنيف النصوص لا يستند إلى السمات المشتركة فقط ولكنه يترصد، إلى جانب ذلك، السمات غير المشتركة، إذ عليها المعول في الكشف عن خصوصية النوع، لما يتوقف عليها من تفريد النوع وتمييزه. انطلاقا من الفهم وتأسيسا عليه نشايع عبد الفتاح كيليطو في تقريره أن "خصائص نوع لا تبرز إلا بتعارضها مع خصائص أنواع أخرى، تعريف النوع يقترب من تعريف العلامة عند سوسير: النوع يتحدد قبل كل شيء بما ليس واردا في الأنواع الأخرى[xliv].
ونرى أن ينضاف إلى ذلك عنصر آخر نراه أساسا في كل عملية تصنيف، إنه الزمن الذي يمكن من تعرف خصائص النوع ومتعلقاته بما يفضي، في المحصلة، إلى الكشف عن تأثر الأنواع اللاحقة بأسلافها وسوابقها، التي تمثل "أشباها" لها و"نظائر" (ما أضيف إلى النوع وما تلاشى منه في كثيره أو انقرض).
إذا كان الإجراء الأول منشغلا بالعلاقات الداخلية المتبادلة بين الأنواع مما يدخله في "الشعرية العامة"، فإن الإجراء الثاني يطرح أسئلة النوع في سياق أدبي معين وهو ما يجعله متنزلا في صميم "تاريخ الأدب"، حيث دراسة الأنواع، من هذا المنظور، تتجاوز صياغة المفهومات وإقامة التقسيمات إلى تأسيس نظرية في تجنيس الأنواع وتصنيفها على أسس مختلفة، تستند إلى السياق التاريخي الذي يحف إنتاج النوع وتلقيه.
إن أسئلة النوع، في هذا الضرب من الدرس، ليست منفصلة عن الخلفية الفلسفية والمعرفية التي تحكم العلاقة بين من ينتج النوع: أفرادا وطبقات من جهة، ومن يتلقاه من جهة مقابلة من أفراد وطبقات أيضا. وهو ما يقود إلى طرح جدل الواحد والمتعدد وطبيعة الكليات. إن نظرية الأدب "مبدأ تنظيمي: فهي لا تصنف الأدب وتاريخه بحسب الزمان والمكان (المرحلة أو اللغة القومية) وإنما بحسب أنماط أدبية نوعية للبنية والتنظيم"[xlv].
ولما كان سؤال النوع يشكل موضع التقاء بين الشعرية العامة وتاريخ الأدب، فإننا نرى أن تصنيف النصوص في شبكة أنواعية يقتضي المزاوجة بين المبدأين: مبدأ سكوني تزامني Synchronique الغرض منه نمذجة الأنواع في حقبة محددة للكشف عن نسقها من خلال العلاقات المشتركة التي تجمعها بنظائرها، ثم مبدأ تطوري دياكروني Diachronique القصد منه تتبع النوع في رحلة تشكله بترصد ما طرأ عليه من تعديلات وتحولات. إن المزاوجة بين المبدأين وحدها تمكن، فيما نقدر، من بناء معرفة صحيحة وعميقة بقضايا النوع الأدبي.
لعل أرسطو أن يكون أول من قدم نظرية منسجمة وواضحة المعالم فيما يتصل بالأجناس التي يتفرع إليها الأدب، كما يمكن أن نستبين من تحديد أرسطو لموضوع دراسته في "فن الشعر" بأنه النظر في الشعر من جهة "حقيقته وأنواعه والطابع الخاص بكل منها وطريقة تأليف الحكاية، حتى يكون الأثر الشعري جميلا، ثم الأجزاء التي يتركب منها كل نوع: عددها وطبيعتها"[xlvi].
وقد أقام أرسطو تصوره للأجناس على أساس فهم خاص يعتبر الشعر (والفنون الجميلة كلها) محاكاة. وانطلاقا من هذا الفهم الخاص لطبيعة الفن قسم أرسطو الشعر إلى أجناس مستندا في ذلك إلى معيارين اثنين: يتصل المعيار الأول بموضوع المحاكاة حيث يحاكي الشاعر في التراجيديا أبطالا متفوقين عن غيرهم من الجنس البشري، وفي الكوميديا يحاكي الأراذل من الناس. إن التمييز بين التراجيديا والكوميديا يتم استنادا إلى موضوع المحاكاة "فهذه [الكوميديا] تصور الناس أدنياء، وتلك [التراجيديا] تصورهم أعلى من الواقع"[xlvii].
أما المعيار الثاني فيتعلق بالطريقة أو الصيغة التي تعتمدها المحاكاة، وقد اعتمد أرسطو صيغتين اثنتين للتمييز بين الأجناس هما القص (ما يقال على لسان الشاعر أو على لسان شخصياته)، والتمثيل أو التصوير الدرامي (محاكاة الشخصيات وهي تفعل)، ففي الشعر يمكن " أن نحاكي عن طريق القصص[...] أو نحاكي الأشخاص وهم يفعلون"[xlviii].
وانطلاقا من هذين المعيارين قدم أرسطو أربع خانات، تملأ كل خانة بجنس أدبي يلتقي فيها موضوع المحاكاة وصيغتها. وفيما يلي نثبت الجدول كما استخلصه جيرار جونيت[xlix]:
الصيغة الموضوع |
المأساوية |
السردية |
المتفوق |
المأساة |
الملحمة |
المتدني |
الملهاة |
الشعر الساخر |
إلى جانب هذه الأنواع الثلاثة ذكر أرسطو في كتابه عديد أنواع شعرية ونثرية مثل تشبيهات سوفرون والمحاورات السقراطية والمحاكيات المنظومة على أوزان ثلاثية أو إيليجية[l]. لكن الحديث عن هذه الأنواع جاء في الكتاب عرضا، فلم يكن من مشاغل أرسطو، فيما يبدو، توحيد هذه الأنواع تحت اسم جامع فكان أن ظلت، عنده، أشكالا متفرقة، بعضها كان ما يزال رائجا في عصره، في حين كان بعض آخر قد اندثر. ولذلك لم يكن بين هذه الأنواع، عند تدبرها، من جامع سوى "المحاكاة".
[i] - رينيه ويليك وأوستن وارين: نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987، ص: 236.
[ii] - تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 31.
[iii] - نفسه، ص: 29.
[iv] ـ تقاليد النوع عند تودوروف عبارة عن "قاعدة تشتغل عبر عدة نصوص" ـ مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 27. وعند رينيه وليك "تقاليد استطيقية في الأساليب والمواضيع"- مفاهيم نقدية، تر. محمد عصفور، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع. 110 ـ 1987، ص: 311. وعند فانسون "صيغ فنية عامة لها مميزاتها وقوانينها الخاصة وهي تحتوي على فصول أو مجموعات ينتظم خلالها الإنتاج الفكري على ما فيها من اختلاف وتعقد" ـ نظرية الأنواع الأدبية. تر. حسن عون، منشأة المعارف ـ الإسكندرية، (د.ت)، ص: 31.
[v] ـ رينيه ويليك، أوستن وارين، نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987، ص: 237.
[vi] - تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 28.
[vii] - نفسه، ص: 28.
[viii] - نفسه ص: 30.
[ix] - نفسه، ص: 31.
[x] - نفسه، ص: 32.
[xi] - نفسه، ص: 32.
[xii] - نفسه ، ص: 36.
[xiii] - نفسه، ص: 42.
[xiv] - نفسه، ص: 43.
[xv] - عبد الفتاح كيليطو: الأدب والغرابة، صص: 21-22.
[xvi] - يقرر صاحبا "نظرية الأدب" أنه "من المتفق عليه أن برونتيير ألحق الأذى [بعلم الأنواع] عن طريق نظريته البيولوجية الزائفة"- نظرية الأدب، ص: 310.
[xvii] - تودوروف، ميخائيل باختين، المبدأ الحواري، ص: 154.
[xviii] - نفسه، ص: 154.
[xix] - تودوروف: الشعرية، ص: 79.
[xx] - يقول تودوروف "الشعرية التاريخية هي القطاع الأقل تبلورا من قطاعات الشعرية"- الشعرية، ص: 79.
[xxi] - تودوروف، "الشعرية ماضيا ومستقبلا"، المقدمة التي خص بها المؤلف ترجمة كتابه "الشعرية" إلى العربية، ص: 18 وعن فكرة تودوروف حول تناسب نظام الأجناس مع الإيديولوجيا السائدة في المجتمع راجع كتابه "مفهوم الأدب" ص: 29
[xxii] - تودوروف، ميخائيل باختين: المبدأ الحواري ص: 160.
[xxiii] - عبد المنعم تليمة، مقدمة في نظرية الأدب، دار العودة، بيروت، ط 2، 1983، ص: 123.
[xxiv] - مازن الوعر: علم تحليل الخطاب وموقع الجنس الأدبي، مجلة آفاق الثقافة والتراث، ع 14، 1996، ص: 15.
[xxv] - كارل فيتور: تاريخ الأجناس الأدبية ضمن نظرية الأجناس الأدبية، ترجمة: عبد العزيز شبيل، ص: 38.
[xxvi] - عبد المنعم تليمة، مقدمة في نظرية الأدب، دار العودة، بيروت، ط 2، 1983، ص: 123.
[xxvii] - تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 30.
[xxviii] - نفسه ص: 30.
[xxix] - نفسه، ص: 31.
[xxx] - رشيد يحياوي: مقدمة في نظرية الأنواع الأدبية، ، إفريقيا الشرق، ط 2، 1994 ص: 8.
[xxxi] - القولة لعالم الجمال الإيطالي كروتشه وردت في "أدب العصور الوسطى ونظرية الأجناس" ضمن نظرية الأجناس الأدبية، ترجمة: عبد العزيز شبيل، ص: 54. . وقد سخر كروتشه من هذا الإجراء الذي يعتبره قصورا في نظرية الأنواع التي يعتبر من أبرز مناهضيها. يقول في كتابه "المجمل في فلسفة الفن"(ص: 82): "ما من أحد يجهل أن التاريخ الأدبي مملوء بالحالات التي يخرج فيها فنان عبقري على نوع من الأنواع الفنية المقررة، فيثير انتقاد النقاد، ثم لا يستطيع هذا الانتقاد أن يطفئ إعجاب الناس بهذا الأثر العبقري، ولا أن يحد من ذيوعه، فما يسع الحريصين على نظرية الأنواع إلا أن يعمدوا إلى شئ من التساهل، فيوسعوا نطاق النوع أو يقبلوا إلى جانبه نوعا جديدا، كما يقبل ولد غير شرعي، ويظل هذا النطاق قائما إلى أن يأتي أثر عبقري جديد، فيحطم القيود ويقلب القواعد".
[xxxii] - كارل فيتور: تاريخ الأجناس الأدبية ضمن نظرية ألجناس الأدبية، ص: 33.
[xxxiii] - نفسه، ص: 32.
[xxxiv] - يبدأ ابن طفيل كتابه بـ "سألت أيها الأخ الكريم، الصفي الحميم، منحك الله البقاء الأبوي وأسعدك السعد السرمدي، أن ابث إليك ما أمكنني بثه من أسرار الحكمة المشرقية التي ذكرها الشيخ الرئيس علي بن سينا..."- حي بن طفيل، ص: 106. ويختم بالقول: " ...والسلام عليك أيها الأخ المفترض إسعافه، ورحمة الله وبركاته" ص: 236
[xxxv] - محمد الداهي: شعرية السيرة الذهنية، فضاءات مستقبلية، البيضاء، ط 1، 2000، ص:49.
[xxxvi] - محمد طرشونة: حي بن يقظان قصيدة صوفية، ندوة الجنس الأدبي في الأدب العربي القديم، منشورات كلية الآداب، منوبة، تونس، 1994، ص: 156.
[xxxvii] - فرج بن رمضان، الأدب العربي القديم ونظرية الأجناس ، دار محمد علي الحامي ، تونس ، ط ، 2001 صص: 187 - 188
[xxxviii] - تندرج الرسائل – عند أنيس المقدسي- ضمن "الحكايات- التي يدخل فيها أنواع القصص المختلفة والمقامات " – تطور الأساليب في النثر العربي- دار العلم للملايين، بيروت، ط 8- 1989، ص: 324.
[xxxix] - ابن طفيل: حي بن يقظان، تحقيق فاروق سعد، منشورات دار الأوقاف الجديدة بالمغرب، ط 5، 1992، ص: 236.
[xl]- نفسه، ص: 103.
[xli] - عبد الفتاح كيليطو:من شرفة ابن رشد، ترجمة: عبد الكريم الشرقاوي، دار توبقال للنشر، ط 1، 2009، ص: 31.
[xlii] - وولف ديتر ستمبل: المظاهر الأجناسية للتلقي، ضمن نظرية الأجناس الأدبية، ترجمة: عبد العزيز شبيل، ص: 110.
[xliii] - رشيد يحياوي: مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية، إفريقيا الشرق، ط 2، 1994، صص: 80-87.
[xliv] - عبد الفتاح كيليطو: الأدب والغرابة، ص: 22.
[xlv] - رينيه ويليك وأوستن وارين، نظرية الأدب، 1987، ص: 238.
[xlvi] - أرسطو: فن الشعر، ، ترجمه عن اليونانية وشرحه وحقق نصوصه، عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة – بيروت 1973.
ص: 3. رسطو أر
[xlvii] - نفسه، ص: 9.
[xlviii] - نفسه، ص: 10.
[xlix] - جيرار جونيت: مدخل لجامع النص، ص: 26.
[l] - أرسطو: فن الشعر، ص: 5.
المصدر: https://www.alawan.org/content/%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%...
(3)
إذا كانت الجهود الأرسطية في مجالي التجنيس والتصنيف قد تركزت بشكل أساس على الأنواع الشعرية، فإنه لم يقص جنس النثر من دائرة اهتمامه، فقد اختصه بكتاب مستقل هو "فن الخطابة" الذي وزعه إلى مقالات ثلاث: اختص الأولى بفحص علاقة الخطابة بالجدل، وأفرد الثانية لدرس دور الخطابة في استمالة السامع، أما الثالثة فانتدبها لبحث الأسلوب الفني في الخطابة. وقد صنف أرسطو الخطابة حسب أحوال المخاطبين انطلاقا من تصوره لأطراف المقام التواصلي. يقول:
"أنواع الخطابة ثلاثة تتناسب مع السامعين، لأن كل خطبة تتألف من ثلاثة عناصر: الخطيب والموضوع الذي يتناوله، والشخص الذي يوجه إليه الخطاب – أعني السامع، الذي إليه يحيل الغاية أو الهدف من الخطبة"[i].
وتأسيسا على ذلك صنف أرسطو الخطابة إلى أجناس ثلاثة هي[ii]:
1/ خطابة قضائية: يكون المخاطب فيها قاضيا ينتظر منه إصدار حكم في قضايا وقعت في الماضي.
2/ خطابة استشارية: يكون فيها المخاطب عضوا في جمعية يشاوره الخطيب في قضايا سياسية تهم المستقبل.
3/ خطابة محفلية: مجالها المحافل العامة حيث تلقى الخطب على الجمهور بغرض استمالته استحسانا أو استهجانا.
لقد كان الأساس الذي قام عليه الإسهام الأرسطي في مجال تجنيس الخطابات وتصنيفها من الصلابة بحيث فرض نفسه على نظرية الأدب وتاريخه فرضا، آية ذلك أن التقسيم الثلاثي (غنائي، وملحمي، ودرامي) المستند إلى الإبستمولوجيا الأرسطية قد هيمن على فترة من تاريخ النقد الغربي طويلة، فرددت صداه النقود الغريبة التي ظلت، في أغلبها، دائرة في فلك الإرث الأرسطي، لأنها لم تستطع مجاوزته أو الفكاك منه؛ "فعند هوراس نواجه بالثلاثية القديمة مع النص عليها [...] ونجد ديوميد في القرن الرابع يحتفظ بالتصنيف الثلاثي"[iii].
لكن ظهور الحركة الرومانسية على مسرح الأدب الأوروبي سيفلح في زحزحة التصنيف الأرسطي عن مكانته، إذ أدخل منظرو الحركة الرومانسية تعديلا رئيسا على تصنيف أرسطو الذي يحصر الأنواع في ثلاثة، فقد سعت الرومانسية إلى هدم فكرة "نقاء الأنواع" الكلاسية بما أفضى إلى التخفيف من سطوة الثلاثية اليونانية، وفسح المجال أمام أنواع أدبية جديدة مفتوحة على التغيرات الطارئة. يقول كيليطو: "قبل الثورة الرومانسية الألمانية كان الكلام يدور حول الأنواع التي كانت تعتبر قارة وثابتة ومنفصلة بعضها عن بعض. أما مع الرومانسية فإننا نلاحظ نزعة نحو التركيب ومزج الأنواع والمتضادات، لهذا نجدهم يولون اهتماما كبيرا لشكسبير الذي لم يكن يلتزم صوتا واحدا في مسرحياته، وإنما يمزج أصناف الكلام، فيمزج مثلا الكلام الجزل بالكلام السوقي. ونفس النزعة جعلتهم يهتمون بالحوار الأفلاطوني الذي يتقبل في ثناياه عدة أنواع مازجا الجد بالهزل. والذي لا يمكن إغفاله هو أنهم يضعون الرواية في الصدارة، لأنهم انتبهوا إلى كونها تتضمن أو يمكن أن تتضمن جميع الأنواع"[iv].
لقد أرسى منظرو الرومانسية معايير في تصنيف الأنواع جديدة ومغايرة تماما لتلك التي حكمت الإبستمولوجيا الأرسطية المستندة إلى فكرة المحاكاة؛ فقد "ذهب باتو، في أواخر العصر الكلاسيكي، إلى أن الشاعر الغنائي يحاكي العواطف، محتجا بالمناجيات التي تقع في الشعر التمثيلي. على أن منظري الرومانسية، وعلى رأسهم فريدريك شليجل، لا يلبثون أن يبتعدوا عن فكرة المحاكاة فيصنفون الشعر على أساس الذاتية والموضوعية، فعند شليجل أن الشعر الغنائي ذاتي والشعر التمثيلي موضوعي والملحمي ذاتي موضوعي، ويعدل خلفاؤه هذا التصنيف فيما يتعلق بالملحمة والتمثيلية؛ فالملحمة هي الموضوعية والتمثيلية تجمع بين الذاتية والموضوعية، ويلاحظ أيضا أن معيار الذاتية يختلف بعض الاختلاف عن المعيار (كيفية القول) الذي وضعه أرسطو، فكون الشاعر هو المتكلم أو المتكلم الأصلي في الملحمة لا يعني أن الملحمة ذاتية"[v].
وبهذا تكون التأويلات الحديثة للثلاثية الأرسطية القديمة غير منشغلة بالمحافظة على استقلال تلك الأنواع وتمايزها ولكنها، على عكس من ذلك، تداخل بين الأنواع بما رفعت بينها من حواجز وفواصل، فهارتمان مثلا يقترح التمييز بين:
1- الغنائي الصرف والغنائي الملحمي والغنائي الدرامي.
2- الدرامي الصرف والدرامي الغنائي والدرامي الملحمي.
3- الملحمي الصرف والملحمي الغنائي والملحمي الدرامي[vi].
إذا كان التقسيم الثلاثي (الملحمي والدرامي والغنائي) المنحدر من أفلاطون وأرسطو قد ظل حاضرا في مختلف النظريات، التي انشغلت بتجنيس النصوص وتصنيفها، فإن ناقدا فرنسيا حديثا هو جيرار جونيت سيخرج عن هذا الإجماع، فقد وصف إسناد هذه القسمة إلى أفلاطون وأرسطو بنعوت سلبية شتى فهو، عنده، "فهم خاطئ" و"تفسير متسرع"[vii]. وسيشكل تصحيح هذا "الخطأ الشائع" منطلق جونيت لاستئناف القول في قضية الأجناس بكثير من الدقة والشمول، بما جعل دراسته "مدخل لجامع النص" التي أفردها لمراجعة قضية الأجناس، منذ ظهورها مع أفلاطون وأرسطو إلى يومنا هذا، واحدة من أهم الدراسات في مجال الأجناس.
لقد رأى جونيت في إسناد التقسيم الثلاثي إلى أرسطو "وهما إرجاعيا"[viii]، لأنه عائد، كما بين هذا الناقد بحق، إلى الحركة الرومانسية. وقد ترتب عن هذا "الوهم الإرجاعي"، باصطلاحه، تبعات نظرية خطيرة، إذ تسبب في إضفاء صفتي الخلود والبداهة على هذه القسمة، وهما صفتان ليستا، بالضرورة، شرعيتين.
انطلاقا من هذا "الاكتشاف" الخطير قرر جونيت العودة إلى "النبع" الذي تدفقت منه نظرية الأجناس، ولم يكن هذا "النبع" سوى نظام الأجناس كما اقترحه أفلاطون وطوره من بعده أرسطو. وهو إجراء سعى من خلاله جونيت إلى استبانة الموقف السليم من هذه القضية النقدية العويصة، التي ما فتئ البحث فيها يدعو نقاد الأدب إلى معاودة النظر في النتائج التي استقرت في النظرية الأدبية الحديثة "مسلمات" و"مصادرات".
لقد أعاد جونيت قراءة "جمهورية" أفلاطون و"شعرية" أرسطو، وبعد مراجعات ومقارنات رصينة استخلص الباحث شبكة من أربعة أقسام تحدد ما كان يعنيه التراث الكلاسيكي بالأجناس[ix]:
الصيغة الموضوع |
المأساوية |
السردية |
المتفوق |
المأساة |
الملحمة |
المتدني |
الملهاة |
الشعر الساخر |
ينقسم الأدب عند جيرار جونيت إلى أنواع يعتبرها "تأسيسيا أدبية"[x]، لأن انتماءها إلى الأدب، مهما يكن حظها من الأدبية، انتماء شرعي لا يرقى إليه طعن أو شك، ويمثل جونيت لهذا الصنف من الأنواع بالمسرحية والرواية والقصيدة الشعرية، فيما يعتبر أنواعا أخرى "ذات أدبية غير راسخة"، لأن انتماءها إلى "الأدب"، مهما ارتقت قيمتها الفنية، غير متأكدة، ويمثل لهذا الصنف بأنواع مثل الخطابة والتاريخ والسيرة الذاتية.
ولما كان هذا التقسيم لا يبدو مقنعا لإدراجه تحت نفس القسم شتيت أنواع تحتاج هي نفسها إلى تنظيم، فقد وجد جونيت نفسه مضطرا إلى مراجعة بعض المبادئ المعتمد في التصنيف، وعلى رأس هذه المبادئ يأتي التصنيف العمودي، الذي رفضه جونيت لأنه لا وجود لنوع أكثر "طبيعية" أو أكثر "مثالية" حتى يوضع فوق غيره، كما أنه لا وجود لطريقة استنباطية "أعلى من غيرها" يمكن أن توصل إلى تصنيف أكثر نجاعة من غيره[xi].
لقد سعى جونيت من وراء هذه المراجعة للمبادئ المعتمدة في التصنيف إلى زحزحة القسمة الثلاثية القديمة، التي احتلت عند أغلب النقاد أعلى الهرم فيما بقيت الأنواع الأخرى مجرد تفريعات لها وتنويعات عليها. ذلك ما يقرره جونيت بالقول:
"إن عناصر الثلاثية الكلاسيكية من حيث هي مفاهيم أجناسية، لا تستحق أية مرتبة تصنيفية خاصة، فالملحمي على سبيل المثال لا يحتل مرتبة فوق الملحمة والرواية والقصة القصيرة والحكاية... إلخ. وقد يحتل الملحمي مرتبة فوقية إذا اعتبر "صيغة" (سردا) أما إذا اعتبر "جنسا" (ملحمة) أسند له كما فعل هيجل مضمون موضوعي متميز فيصبح غير متضمن للروائي الخارق...إلخ. ويصدق هذا القول على الدرامي بالنسبة للمأساوي والهزلي[...] والغنائي بالنسبة للهجائي والنقدي اللاذع"[xii].
بالرغم من انتقاد جونيت للتصنيفات السابقة عليه المستندة إلى القسمة الثلاثية، فإن اجتهاداته ومقترحاته ظلتا، عند التدقيق، دائرتين في فلك الإرث الأرسطي. فإذا كان جونيت قد جرد، في زعمه، القسمة الثلاثية من كل سلطة أو خلود، فإنه لا يتردد في اعتبارها "ثابتة أكثر من غيرها"، ولا يكتفي بذلك ولكنه يجعلها "أشكالا طبيعية"، وإن كان يستدرك بعد بأن صفة "الأشكال الطبيعية" ليست مطلقة في الثلاثية اليونانية، ولكن المقصود بها "المعنى النسبي للعبارة، وفي الحدود التي تبدو فيها اللغة واستعمالها كمعطى طبيعي إزاء التكوين المدرك والمعتمد للأشكال الجمالية"[xiii].
وبالجملة، فإن اجتهادات جونيت في مجال الأجناس لم تخرج، في خطوطها العريضة، عن الإبستمولوجيا الأرسطية، فقد بدا له، وهو يراجع أحكامه، أن نظام الأجناس كما اقترحه أرسطو أكثر فاعلية من حيث بنيته من الأنظمة التي اقترحتها النظريات اللاحقة، فهو – على الأقل- نظام جدولي مزدوج المدخل، بما يجعل الجنس الواحد قادرا على الانتساب، في نفس الآن، إلى صنف صيغي وآخر موضوعي، في حين تعتمد الأنظمة الأخرى تصنيفات هرمية متسلسلة ليس تؤدى، في المحصلة، إلا إلى الطريق المسدود.[xiv] لكل ذلك أعلن جونيت انحيازه اللامشروط لنظام الأجناس الذي اقترحه أرسطو:
"... وإذا كان من الضروري اليوم أن نسلم بكل شيء، وأن نضع نظاما فأنا أرى في نظام أرسطو، رغم رفضه للأجناس غير التنظيمية بطريقة تعتبر اليوم بدون مبرر، متفوقا في بنيته (أكثر فعالية بطبيعة الحال) على بقية الأنظمة اللاحقة"[xv].
نستفيد مما سبق أن جونيت يقر بوجود أنواع أدبية يمكن أن تدرج في أجناس تتفرع إلى أنواع وأنماط، مثلما يقر بوجود "نصوص" أدبية، وإن كانت غير معتبرة في حد ذاتها، إذ المعتبر في النصوص – عند جونيت- تلك العلاقات التي تجمع بينها ظاهرة وخفية، مما يصطلح عليه "التعالي النصي" الذي تتحقق ضمنه علاقات تداخل تربط النص بأنماط الخطاب التي ينتمي إليها، وفي هذه المنطقة بالتحديد يدخل مفهوم النوع الأدبي، لأن "التعالي النصي" يشمل – عند جونيت- مجموع العلاقات التي تربط النصوص بعضها ببعض، من قبيل "المحاكاة" و"التغيير" و"التناص"، وهي علاقات نحت لها جونيت مصطلحا جديدا هو "جامع النص" الذي، إن أحاط بالنص من كل جهة، فإنه لا يشكل – بحال- معادلا لنظرية الأنواع، بل يحتل "المرتبة الفوقية". وقد ذهب جونيت بعيدا في التمسك بهذا المصطلح الجديد لدرجة جعلته يقرر أن موضوع "الشعرية" ليس النص وإنما "جامع النص"[xvi].
إذا كانت القراءات اللاحقة للاجتهادات الأرسطية في مجال تجنيس الخطابات وتصنيفها قد نحت، مع الحركة الرومانسية، إلى مجاوزة القسمة الثلاثية المأثورة عن أرسطو وغيره من نقاد اليونان، فإننا لا نعدم في المحدثين من يتحمس للإرث الأرسطي فيحاوره ويتفاعل معه، بل ويتخذ منه منطلقا لتطوير نظرية في تجنيس الأنواع وتصنيفها صنيع نورثروت فراي الناقد الأمريكي الأشهر، الذي أبدى في كتابه "تشريح النقد" تقديرا ظاهرا لاجتهادات أرسطو في الموضوع ، إذ يترك في ذهن قارئه انطباعا بأنه لم يكتب في النقد شيء ذو بال على مدى ألفي سنة؛ أي منذ وفاة المعلم الأول:
"... على كل هذا ما افترض أرسطو طاليس أن يكون أول خطوة في النقد، وسنكشف أن النظرية النقدية للأنواع قد وقفت بالضبط حيث تركها أرسطو"[xvii].
وإذا كان فراي ينتقد هذا الوضع فقد انتدب كتابه "تشريح النقد" لتصحيحه، إذ ذكر في مقدمة الكتاب أنه سيبحث مسألة الأجناس والأنواع في الشعر قاصدا من ذلك إلى تنظيم الأنواع في نظرية تكون للأدب بمثابة نظرية التطور في علم الأحياء، حيث ترتد الظواهر المتعددة التي تبدو "أجزاء" إلى "كل" واحد:
"إن نظرية في النقد تنطبق مبادئها على مجموع الأدب، وتعلل كل نمط صحيح من أنماط الإجراءات النقدية، هي ما أعتقد أن أرسطو طاليس كان يعنيه في كتاب الشعر، إذ يبدو لي أن أرسطو طاليس قارب الشعر كما يقارب البيولوجي نسقا عضويا، يلتقط منه أنواعه وأجناسه، ليصوغ القوانين العامة للتجربة الأدبية"[xviii].
والحق أن الرجل أبدى وعيا بمسألة الأنواع حقيقيا لدرجة أنه لا يقدم نظرية واحدة بل ثلاث نظريات، أجهد نفسه في القبض على الخيوط الرفيعة التي يمكن أن تصل بينها. وقد استحق لهذا الجهد تقدير تودوروف وثناءه، حيث اختصه، دونا عن الاجتهادات المعاصرة المتصلة بقضية الأجناس، بمناقشة تفصيلية في كتابه "مدخل إلى الأدب العجائبي". وقد برر هذا الصنيع بالقول: "إن نظرية الأجناس التي ستناقش بتفصيل هي نظرية نورثروب فراي كما هي مصوغة خصوصا في تشريحه للنقد، وليس هذا الاختيار مجانيا: ففراي يشغل اليوم موقعا مهيمنا ومؤثرا في الصدارة بين النقاد الأنكلو- ساكسونيين وعمله هو، بدون شك، أحد ألمع الأعمال في تاريخ النقد منذ الحرب الأخيرة. إن تشريح النقد نظرية للأدب (وبالتالي للأجناس) ونظرية للنقد في نفس الوقت"[xix].
من بين التصنيفات الثلاث التي يقترحها فراي تصنيف يستند إلى "موضوع القول" المأخوذ، أصلا وفصلا، من أرسطو الذي أثر عنه، كما سبقت الإشارة، تقسيم المحاكاة حسب موضوعها؛ أي "ما يحاكى".[xx] وهو الأساس الذي انطلق منه أرسطو لتمييز الكوميديا من التراجيديا: "فهذه [الكوميديا] تصور الناس أدنياء، وتلك [التراجيديا] تصورهم أعلى من الواقع"[xxi].
وإذا كنا لا نعثر في كتاب أرسطو (أو ما وصلنا منه على الأصح) إشارة إلى القسم الثالث المتصل بـ "محاكاة البشر العاديين"، فإن فراي يتمم تصنيف أرسطو ويفصله على النحو التالي[xxii]:
1/ إذا كان البطل يفوق البشر فهو كائن إلهي، والحكاية عنه سوف تكون "أسطورة".
2/ إذا كان البطل متماهيا مع الكائن البشري ولكنه أرفع درجة منه بحيث يتحرك في عالم عجائبي مفارق للواقع، فإن الحكاية عنه تكون "خرافة وحكاية شعبية".
3/ إذا كان البطل أرفع درجة من بقية الناس، ولكن ليس أرفع من محيطه الطبيعي، فإن الحكاية عنه تكون "الملاحم" و"المآسي" (المحاكاة العليا).
4/ إذا لم يكن البطل أرفع من بقية الناس ولا من بيئته فهو واحد منا، والحكاية عنه تكون "الملاهي" و"القصص الواقعية" (المحاكاة الدنيا).
5/ إذا كان البطل أدنى منا طاقة أو ذكاء، فإن الحكاية عنه تكون من "الطراز الساخر".
إذا كانت المفاهيم والتصورات الأجناسية التي فحصنا في هذا المطلب مجراة في دراسة منظومة الأنواع في الغرب، فإن أبعادها النظرية مجاوزة لمنابتها وصالحة للاستخدام بعد التطويع والمعرفة الدقيقة بأصولها، على نصوص الأدب العربي، وإن كان الاحتراس واجب بعد في عدم استنساخ نتائج نظرية الأنواع كما تبلورت في الغرب، وإسقاطها إسقاطا آليا على أعمال تختلف اختلافا بينا عن تلك التي استخلصت منها إذ مهما بدا على مناهج الغرب المستحدثة من متانة في بنائها النظري، وسلامة فيما توخت من سبل إلى تحليل نصوص أدبية تباعدت أزمنتها وتغايرت لغاتها، فإن ذلك ليس مسوغا ولا مدعاة لسحب نتائجها على الأدب العرب القديم المطبوع بسمات فريدة ومخصوصة مستمدة من واقعه وسياقه. وهو ما يقتضي الدارس الحصيف مداومة النظر في هذا الأدب، والإنصات الحميم لصوته الخاص والمتفرد الذي لا يشبه أي صوت.
وبذلك يتحصل للباحث، من إجراء المناهج المستحدثة في الغرب على نصوص عربية، كفاية إجرائية تمكنه من تقصي منابت البناء النظري للمفاهيم المجراة، وإعادة صياغة حدودها وضوابطها، بما يكفل قابلية إجرائها على عينة لا صلة لها بمدونة النصوص التي اشتقت منها وتمحضت لها.
أسئلة النَّوع في النّظام النَّقدي والبلاغي العربي:
لعل من يتدبر نظامنا النقدي والبلاغي يجده قد بلور مفهوماته بعيدا عن نظرية الأجناس الأدبية كما نفهمها اليوم في الغرب، وما ذاك إلا لأنه امتثل في صوغ مقولاته النقدية لجنس أدبي بعينه هو الشعر، الذي فرض هيمنة مطلقة على التفكير النقدي العربي بوصفه جنسا أدبيا متعاليا. وقد شكل ذلك عائقا أمام ظهور نظرية عربية للأجناس الأدبية. فمن يتأمل الكلام العربي، في تجلياته المختلفة، يجد أنه لم يفلح أبدا في الخروج من "الشرنقة" التي نسجها حوله جنس الشعر؛ إذ جاءت المقولات النقدية مرتهنة للمقاييس الأسلوبية والبلاغية، التي كرسها هذا الجنس العتيد في الثقافة العربية.
وقد شكل الوعي بمشقة البحث في أجناس الأدب عند العرب، باعثا للباحث عبد العزيز شبيل على تخصيص أطروحة جامعية هي "نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري- جدلية الحضور والغياب" لفحص هذه المسألة، حيث أدارها على سؤال جوهري هو: هل وجد لدى العرب القدامى إدراك للأجناس الأدبية؟ وتصور واضح لخصائصها المميزة وحدودها ومجالات تفردها بالنظر إلى بعضها البعض؟ وبالمقابل طرح سؤالا نقيضا هو: إذا لم يتسن لهم امتلاك نظرية للأجناس الأدبية فما هي الأسباب التي حالت دون ظهورها ومنعتهم من بلوغها[xxiii]؟.
وقد كان حاصل نظر الباحث في أهم المصنفات العربية في البلاغة وإعجاز القرآن وفي النقد والفلسفة والأدب، الإقرار بغياب نظرية أجناسية عربية؛ فقد وقر في نفس الباحث أن "الأدب العربي لم يسع إلى إرساء نظرية أجناس أدبية بسبب التعالق المتين بين اللغة العربية وفكرها، أو بين رؤية الفكر العربي للكون وموقفه من الحياة، وبين طريقة التعبير عن تلك الرؤية وذلك الموقف بواسطة اللغة"[xxiv]. وهو غياب يؤول في تفسير الباحث إلى نزوع في الفكر العربي متأصل إلى تغليب المشابهة على الاختلاف، ورد التعدد إلى المفرد، بسبب الهيمنة التي فرضتها العقيدة على الثقافة في حضارة الإسلام، فكان حاصل ذلك كله تعالق بين نظام الأدب ونظام الوجود متين، أفضى إلى تحكيم المقدس الديني في أصول النظر الأدبي، وارتهان النظرية الأدبية عند العرب إلى قانون متعال يجعل "الكلام" جنسا أعلى يتميز به الإنسان عن الحيوان، ويستدل به على "حكمة الخلق وتناسق الوجود"[xxv].
إذا كان الأمر كذلك فما الداعي لتخصيص هذا الحيز للتعريف بجهود النقاد والبلاغيين العرب القدامى المتصلة بمسألة الأجناس الأدبية؟
بالرغم من تسليمنا بالفروض النقدية التي تقول بغياب نظرية نقدية عربية متكاملة للأجناس الأدبية في البلاغة والنقد العربيين القديمين، فإننا نرى – انطلاقا من التنظيرات والمحاولات التصنيفية التي أتيح لنا الاطلاع عليها- أن القدامى صرفوا جزءا من عنايتهم لبحث قضايا نقدية عديدة، كانت قضية تقسيم الكلام وتصنيفه واحدة منها. ولهذا الاعتبار رأينا أن نفرد هذا الحيز للتعريف بجهود النقاد القدامى في هذا المجال.
إذا كنا لا نجد دراسة غربية – وبخاصة ما اتصل منها بتاريخ الأدب- خالية من أسئلة النوع الأدبي، فإن نفس الملحظ ينسحب في يسر وفي تفاوت أيضا على التراث النقدي والبلاغي العربي، وتلك اعتبارات وجهتنا لأن نعتبر هذه الدراسات متنزلة في صميم مبحث الأنواع؛ فهي جميعا صادرة – قليلا أو كثيرا- عن وعي بالأنواع لا شك فيه، بقطع النظر عن كون هذا الوعي واعيا بصفته وتسميته أم لا. وبمقتضى ذلك تكون المدونة النقدية والبلاغية العربية القديمة قابلة للاندراج ضمن مباحث نظرية الأنواع وإن لم تستخدم مصطلح النوع ومتعلقاته. انطلاقا من هذه الاعتبارات، وبمقتضاها أيضا، نرى أن الأدب العربي القديم قابل للتجنيس، مدخلنا إلى ذلك إعادة قراءة المدونة النقدية العربية القديمة وعموم الدراسات المتعلقة بها قراءة أجناسية واعية بصفتها ومقاصدها. غير أنه لما كانت أسئلة الجنس الأدبي (المقومات، والتصنيف، والتحولات) أسئلة صعبة المراس وبالغة التعقيد، فقد تعددت بشأنها "الاجتهادات" وتنوعت المقتربات، بما جعل الإحاطة بكل ما له صلة بهذه القضية، في جانبي التنظير والتطبيق، مطلبا عزيزا تنوء به العصبة أولو القوة. ومن ثم كان العمل بقاعدة الانتقاء إجراء "حكيما" يفرض نفسه في هذا المقام فرضا، وإن كان العمل بقاعدة الانتقاء لا يعني بالنسبة إلينا التصرف مع المدونة بحرية قد تقود إلى تكلف وتعسف في استخلاص الأحكام واستنباط النتائج.
إن العمل بقاعدة الانتقاء متلازم عندنا وقاعدة أخرى نراها عاصمة من الشطط عند استخلاص الأحكام وتعميمها، يتعلق الأمر بقاعدة "دلالة الجزء على الكل" التي توجهنا لأن نراعي، في "انتقاء" وعرض النظريات والتصورات، مدى قابلية النتائج المستفادة للتعميم والتوظيف في تطبيقات أخرى.
-"أصل الأنواع":
يمكن اعتبار "التأصيل" سمة في الثقافة العربية وكيدة ومتأصلة، ولا أدل على ذلك من اختراق "فكرة الأصل" لمختلف فروع المعرفة التي شكلت "جنيالوجيا" (شجرة نسب) الثقافة العربية. ولما كان الأدب فرعا من دوحة هذه الثقافة فإنه لم يشذ – وأنى له ذلك- عن هذه القاعدة، فقد همين المنزع التأصيلي على جهود نقاد الأدب ودارسيه، كما يمكن أن نستبين من عنايتهم باستقصاء نسب المبدعين، وتتبع نسب العمل الفني، إلى جانب الحرص على تمييز المعاني الأول من الثواني.
أما فيما يخص مسألة الأنواع الأدبية فإن "التأصيل" اتخذ مظهرين اثنين:
1/ تحقيق المبدع الأول في كل نوع.
2/ التمييز في الأنواع بين النوع – الأصل، والنوع- الفرع.
1- المبدع الأول:
يبدي أغلب نقاد الأدب اهتماما بالغا بتحديد شخصية "المبدع الأول"، الذي أنشأ النوع لأول مرة. يظهر ذلك جليا في حرص النقاد على تحقيق المبدع الأول الذي "اخترع" تقاليد النوع محددا له بذلك سماته الخاصة التي تفرقه عن غيره من الأنواع الأدبية الأخرى شكلا وبناء، أسلوبا وبلاغة.
ونظرا للصعوبات التي تطيف بتحقيق شخصية المبدع الأول، فقد جاءت آراء النقاد متضاربة فيما يخص تعيين هذا المبدع. فقد عقد بعضهم ريادة الشعر لامرئ القيس[xxvi]، وعقدها آخرون لخاله المهلهل[xxvii]، فيما رأى فريق ثالث أن الاثنين (امرأ القيس والمهلهل) شريكان في الريادة[xxviii].
إن الجهود التأصيلية للنقاد القدامى ليست وقفا على نوع القصيد، ولكنها ممتدة لتشمل البحث في منشإ الأنواع الأخرى مثل الرجز والموشح والزجل، في محاولة لتحديد المنشيء الأول الذي "ابتدع" هذه الأنواع ووطأها لمن جاؤوا بعده. ويبدو أن اختلاف القدماء حول المنشيء الأول للنوع كان عاما، فمثلما اختلفت أقوالهم حول "مقصد القصيد"، اختلفت كذلك حول منشيء الرجز، فالأغلب العجلي – فيما يقرر ابن سلام- هو "أول من رجز"[xxix]، لكن ابن رشيق يخالفه في ذلك محتجا بأن الأغلب هذا عاش في عهد الرسول (ص) و"الرجز أقدم من ذلك"[xxx].
والظاهر أن قدم هذه الأنواع جعل من الصعوبة بمكان، إن لم نقل استحالة، تعيين المنشيء الأول للنوع. وقد ترتب عن ذلك أن تخفف القدماء من نزعة "تحقيق الأصل" والتوجه، بدلا من ذلك، إلى تحديد المبدع الثاني الذي بلور النوع وطوره. فإذا كان ابن رشيق قد نفى "ريادة" الرجز عن الأغلب العجلي، فقد أثبت للعجاج، نقلا عن أبي عبيدة بلورة النوع وتطويره (تقصيد القصيد): "العجاج أول من أطاله [الرجز] وقصده [...] فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء"[xxxi]، وإن كان ابن قتيبة ينسب هذا الدور للأغلب العجلي[xxxii].
ونفس التوجه [العناية بتحديد المبدع الثاني] نجده عند ابن خلدون في محاولته تأصيل الموشحات في الفصل الذي عقده لهذا النوع من "مقدمته"، فقد نص على أن "مخترعها" هو مقدم بن معافر الفريري وابن عبد ربه أخذ عنه ذلك، لكن "أول" من برع فيها هو عبادة القزاز[xxxiii]. غير أن هذا المسلك في التأصيل ليس ينفي أنه قد ينعقد إجماع النقاد، ممن عنوا بتأصيل الأنواع وتحقيق منشئيها، على تعيين منشئ أول للنوع كما هي الحال في "المقامة" مثلا التي عقدت ريادتها للهمذاني.
وقد دفعهم التشديد على "الأصل الأول" إلى تحقيق الزمن الأول الذي "تخلق" فيه النوع. وهذا الضرب من البحث هو بحث في "البدايات" المحفوفة دوما بالغموض والملتبسة بالأساطير. وإذا اقتصرنا على تحقيقهم الزمن الأول الذي تخلق فيه جنس الشعر، وجدنا أبا زيد القرشي مثلا يروي في "جمهرته" أشعارا لآدم وإبليس والملائكة والعمالقة وعاد وثمود[xxxiv]. بما يفيد أن هؤلاء، عنده، هم "المنشؤون الأول" لجنس الشعر، فهم من فصل قواعده وأنشأ تقاليده حتى استقر جنسا أدبيا مخصوصا. وإذن، فقد تخلق "الشعر"، حسب الشاهد، في "الزمن الأول" أيام "كل شيء قد كان يعرف وينطق"[xxxv]. أما الجمحي فيرى أن الشعر لم يقصد إلا في عهد هاشم بن عبد مناف، وأن زمن نشأة الشعر لا يتجاوز مائة ونيف وخمسين سنة قبل مجيء الإسلام[xxxvi]. وقد عبر الجاحظ عن نفس الرأي حينما اعتبر الشعر حديث السن لا ينجاوز مائة وخمسين أو مائتين وخمسين عاما على الأكثر قبل الإسلام[xxxvii].
وعلى الجملة، فإن مسألة تحقيق زمن تخلق النوع تبقى نسبية ومحكومة بمعايير ترجيحية، لأن النوع لا يتخلق، إلا فيما ندر، فجأة ودفعة واحدة بحيث يمكن تحديد زمن مضبوط لتخلقه كما هي الحال في المقامة مثلا، التي ظهرت مع الهمذاني ثم احتذاه فيها آخرون. ومع ذلك فإن بعض المحدثين من النقاد لا يسلم بذلك وإنما يعقد ريادتها لابن دريد أو من قبله[xxxviii].
وإلى ذلك نصادف عند القدماء عناية في بعض الأحيان بتحديد المكان الأول لنشأة النوع مما يظهر في شكل إشارات مقتضبة إلى المدينة أو البلدة، التي شهدت تخلق بعض الأنواع. من ذلك إشارة ابن خلدون إلى أن الأندلس كانت المنشأ الأول لجنس الموشح[xxxix]. لكن النقاشات التي أثارتها محاولات تعيين المنشأ الأول لم ترافقها سجالات حادة مثل تلك التي رافقت تحديد الزمن الأول لتخلق النوع.
والملحوظ أن عناية القدماء بتأصيل الأنواع لم تشمل جميع الأنواع الأدبية المتداولة، إذ لا نصادف جهودا تذكر فيما يتصل بتأصيل أجناس النثر مثل النوادر والأخبار مثلا.
النَّوع – الأصل:
استند القدماء، كما يظهر من السجالات والمناظرات التي عقدوها للمفاضلة بين الأنواع، إلى اعتبارات عدة لترجيح نوع على نوع. ومن أهم هذه الاعتبارات تعيين "النوع الأول" الذي يفضل سائر الأنواع الأخرى باعتباره "الأصل" الذي منه تفرعت الأنواع وتولدت، استنادا إلى تصورات من طبيعة ميتافيزيقية تعتبر "الأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل"[xl].
وقد اختلفت آراء النقاد بصدد النوع الأسبق الذي سيعتبر "أصلا" اشتقت منه الأنواع الأخرى، فقد مال ابن سينا في شرحه شعرية أرسطو إلى تقرير أسبقية الشعر على سائر الأنواع النثرية، حجته في ذلك أن الناس كانوا يتوسلون في البداية، قبل أن تظهر الخطابة، بالشعر لتقرير الاعتقادات في نفوس مخاطبيهم، ومن ثم كان "التخييل"، عند ابن سينا، سابقا على "التصديق". يقول:
"... فإن الأولين إنما كانوا يقررون الاعتقادات في النفوس بالتخييل الشعري، ثم نبغت الخطابة بعد ذلك، فزاولوا تقرير الاعتقادات في النفوس بالإقناع"[xli].
وهذا الرأي يتعارض مع آراء نقاد آخرين يميلون إلى إعلان النثر "أصلا" للأنواع. جاء في "الإمتاع والمؤانسة" أن "النثر أصل الكلام والنظم فرعه"[xlii]، لأن "جميع الناس في أول كلامهم يقصدون النثر، وإنما يتعرضون للنظم في الثاني بداعية عارضة وسبب باعث وأمر معين"[xliii].
إن هذا الشاهد صادع بأن النثر هو "أصل" جميع الأنواع الخطابية بما فيها الشعر، الذي لا يعدو، عند أصحاب هذا التصور، أن يكون "نوعا" متفرعا عن جنس – أصل هو "النثر". وهذا التصور مستند، في إعلانه النثر أصلا للأنواع الأدبية، إلى اعتبارات دينية وفلسفية تجعل النثر "إلهي بالوحدة" و"طبيعي بالبدأة"[xliv]. وإلى هذا الرأي ذهب ابن رشيق عندما قرر أن "الكلام كان كله منثورا"[xlv]، ولم يظهر الشعر إلا في مرحلة تالية عندما دعت الحاجة إليه.
يثير حرص القدماء على البحث في منشأ الأنواع وتأصيلها أسئلة لا تخلو، في تقديرنا، من أهمية: هل يتخلق النوع دفعة واحدة فيظهر، حين يظهر أول مرة، ناضجا ومكتملا؟ أم أنه يتولد في البداية غير ناضج ولا مكتمل ليتدرج عبر الزمان ويتطور؟ ثم من الذي يأخذ مبادرة إنشاء النوع: المبدع أم المتلقي؟
- تخلق النَّوع:
إن من يستعرض آراء القدماء الخاصة بمسألة "تخلق النوع" يستخلص موقفين متمايزين:
يميل الموقف الأول إلى أن النوع ينشأ ويتخلق مكتملا ودفعة واحدة. وهو ما يفصح عنه نسبتهم، كما سبق التنويه، لامرئ القيس "تقصيد القصيد"؛ أي وضع أصول النوع وتثبيتها، ونسبتهم للهمذاني إنشاء المقامة جنسا أدبيا مكتملا. في حين نقف في المدونة النقدية العربية على تصور آخر يرى أصحابه أن النوع يولد غير مكتمل، ولا يكتسب شكله النهائي إلا بتعاقب مبدعين عدة، يضطلعون جميعا ببلورة التقاليد النوعية الخاصة به. فالقصيد، حسب هذا التصور، لم يتولد دفعة واحدة في صيغته المكتملة مع امرئ القيس، ولكن سبقته مراحل جنينية يمثلها شعراء سابقون على امرئ القيس، ففي هذه المرحلة لم يكن جنس الشعر قد استقر نظاما أدبيا مكتملا وإنما "رجزا وقطعا"[xlvi]. والمقصود بالرجز هنا الصورة الأولى التي كان عليها الرجز عندما كان لا يتجاوز "البيتين والثلاثة ونحو ذلك"[xlvii]، يقول ابن قتيبة: "ولم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة"[xlviii].
يتحصل مما سبق أن القدماء ربطوا تخلق النوع بظروف طارئة، رافعين عنه بذلك القصدية الإبداعية، والراجح أن طغيان المقصد الوظيفي النفعي على منتج "أوائل الشعراء" هو الذي وجههم هذه الوجهة في التفسير والتعليل.
- النوع بين مبدعه ومتلقيه:
كيف يظهر النوع ويتخلق؟ هل بمبادرة فردية من المبدع؟ أم أن النوع إنما يظهر استجابة لحاجات العصر ومصالح جماعة التلقي؟
يمكن أن نميز في المدونة النقدية القديمة، فيما يتصل بهذه المسألة، مواقف ثلاثة متباينة:
موقف أول: يجعل إنشاء النوع وقفا على المبدع – الفرد، وهو ما تفصح عنه تقريراتهم:
- أول من قال الشعر...
- وأول من رجز...
- وأول من قصد القصيد...
- وأول من أنشأ المقامة...
- وأول من أبدع الموشح...
ينزع هذا الموقف النقدي إلى اعتبار الأنواع الأدبية بنيات وقوالب جاهزة، تنشأ دفعة واحدة على يد مبدع – فرد، فالنوع، حسب هذا التصور، مكتمل وثابت، تحددت تقاليده النوعية في مرحلة سابقة، وكل المبدعين الذين يتعاقبون على النوع بعد مبدعه الأول يخضعون بشكل مطلق للتقاليد النوعية التي أنهجها لهم. إن المبدع الأول لا يمنح للنوع شكله المتميز فقط، وإنما يحدد له أيضا أسلوبه وبلاغته؛ أي "تقاليد النوع" بما هي "قواعد" لا ينبغي أن يخرج عنها من يجيء بعده. لتوكيد هذا الفهم لدور المبدع – الفرد في إنشاء النوع وترسيخ تقاليده النوعية نثبت هنا موقفهم من امرئ القيس، الذي نظر إليه أصحاب هذا التصور بوصفه "أول من فتح الشعر واستوقف وبكى الدمن ووصف ما فيها، ثم قال دع ذا رغبة عن المنسبة، فتبعوا أثره، وهو أول من شبه الخيل بالعصا واللقوة والسباع والظباء والطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف"[xlix].
[i] - أرسطو: الخطابة، ، تح. عبدالرحمن بدوي، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد ط2- 1986ص: 36.
[ii] - نفسه، ص: 37.
[iii] - رشيد يحياوي: مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية، ص: 48.
[iv] - عبد الفتاح كيليطو: الأدب والغرابة، ص: 18.
[v] - شكري عياد: مشكلة التصنيف في دراسة الأدب، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، ع 43 ربيع 1993، ص: 114.
[vi] - جيرار جونيت: مدخل لجامع النص، ص: 60.
[vii] - نفسه ، ص: 17.
[viii] - نفسه، ص: 16.
[ix] - نفسه ، ص: 26.
[x] - نفسه، المقدمة التي خص بها المؤلف الترجمة العربية لكتابه، صص: 9-10.
[xi] - نفسه، ص: 76.
[xii] - جيرار جونيت: مدخل لجامع النص، ص: 77.
[xiii] - نفسه، ص: 74.
[xiv] - نفسه، ص: 83.
[xv] - نفسه، ص: 82.
[xvi] - نفسه، ص: 94.
[xvii] - نوروثروب فراي: تشريح النقد، ترجمة: محيي الدين صبحي، الدار العربية للكتاب، 1991، ص: 24.
[xviii] - نفسه، ص: 25.
[xix] - تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 32.
[xx] - أرسطو: فن الشعر، ص: 9.
[xxi] - نفسه، ص: 9.
[xxii] - فراي: نشريح النقد، ص: 49.
[xxiii] - عبد العزيز شبيل: نظرية الأجناس الأدبية في الثرات النثري – جدلية الحضور والغياب، دار محمد علي الحامي- تونس ط 1 - 2001، ص: 8.
[xxiv] - نفسه، ص: 481.
[xxv] - نفسه، ص: 482.
[xxvi] - "قال عنه عمر بن الخطاب: "سابق الشعراء – خسف لهم عين الشعر"- الشعر والشعراء، تح. أحمد محمد شاكر، مطبعة التراث العربي، ط3 – 1977 ج 1، ص: 133، وانظر في ريادته، ج 1، ص: 139 من نفس الكتاب.
[xxvii] - "ويقال: إنه أول من قصد القصائد وفيه يقول الفرزدق "ومهلهل الشعر ذاك الأول" الشعر والشعراء، ج 1، ص: 303 وانظر العمدة، ج 1، ص: 87.
[xxviii] - "وزعم الرواة أن [...] أول من قصده [الشعر] مهلهل وامرؤ القيس" العمدة، ج 1، ص: 189 / الحيوان، ج 1، ص: 54.
[xxix] - ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء تح، محمود محمد شاكر، مطبعة دار المعارف، القاهرة، (د.ت). ج 2، ص: 737.
[xxx] - ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تح محيي الدين عبد الحميد دار الجيل – بيروت ط5 - 1981ج 1، ص: 90.
[xxxi] - نفسه، ج 1، ص: 90.
[xxxii] - ابن قتيبة: الشعر والشعراء، تح. أحمد محمد شاكر، مطبعة التراث العربي، ط3 – 1977 ج 2، ص: 617.
[xxxiii] - ابن خلدون، المقدمة،، دار القلم – بيروت، ط 6 – 1986 ص: 584.
[xxxiv] - أبو زيد القرشي: جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، تحقيق: علي محمد البجاوي، مطبعة نهضة مصر، 1981، ص: 30.
[xxxv] - الجاحظ: الحيوان، ج 4، ص: 82.
[xxxvi] - ابن رشيق: العمدة، ج 1، ص: 189.
[xxxvii] - الجاحظ: الحيوان، ج 1، ص: 54.
[xxxviii] - زكي مبارك: النثر الفني في القرن الرابع، دار الجيل، بيروت (د.ت) ج 1، ص: 243.
[xxxix] - ابن خلدون: المقدمة، ص: 583.
[xl] - أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، الإمتاع والمؤانسة، تح. أحمد أمين، أحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت (د.ت) ، ج 2، ص: 132.
[xli] - ابن سينا، شرح كتاب الشعر ضمن فن الشعر لأرسطو، ص: 179.
[xlii] - أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ج 2، ص: 132.
[xliii] - نفسه، ج 2، ص: 132.
[xliv] - نفسه، ج 2، ص: 133.
[xlv] - نفسه ج 1ص:20
[xlvi] - ابن رشيق: العمدة، ج 1، ص: 189.
[xlvii] - نفسه، ج 1، ص: 90.
[xlviii] - ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ج 1، ص: 110.
[xlix] - نفسه ، ج 1، ص: 134.
المصدر: https://www.alawan.org/content/%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%...
(4)
إنَّ عبارات مثل "فتبعوا أثره" أو "فتبعه الشعراء" التي تتكرر في جميع المصادر النقدية القديمة كاشفة عن أن هذا المنزع النقدي يعتبر أن تقاليد النوع (البناء، وعدد الأبيات، والأغراض، والموضوعات)، قد تحددت مع امرئ القيس وتحولت إلى معيار تقاس استنادا إليه مختلف الإبداعات المؤطرة ضمن نفس النوع، فما طابقه حاز المقبولية واعترف لصاحبه بالإجادة، وما خالفه اعتبر رديئا وشاذا، ولا يحوز شرف الانتساب إلى دوحة النوع.
إن النوع، بهذا الفهم، "مؤسسة": تفرض على من ينتمي إليها ويبدع داخلها الامتثال لقوانين النوع، كما فصلها المبدع الأول بما هو "مؤسس"، فقد "سبق" إلى "ابتداع" تقاليد النوع فأنهجها ووطأها لمن يأتي بعده. يقول ابن سلام الجمحي حاكيا عمن احتج لتقديم امريء القيس:
"فاحتج لامرئ القيس من يقدمه قال: ما قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها واستحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبه النساء بالظباء والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه وفصل بين النسيب وبين المعنى"[i].
إن من يتدبر هذه السمات التي "سبق" إليها امرؤ القيس و"تبعته" فيها الشعراء يجدها تشمل مختلف مكونات جنس الشعر البنيوية والموضوعية والأسلوبية، مما يؤشر على أن أصحاب هذا النظر النقدي يجعلون سلطة إنشاء النوع في يد المبدع – الفرد الذي ينشئ النوع، في فهمهم، دفعة واحدة، فيأتي ناضجا مكتملا وثابتا.
لقد نظر إلى امرئ القيس، عند أصحاب هذا التصور، باعتباره علما وعلامة على "مرحلة الاكتمال": اكتمال اللغة (عصر الاستشهاد)، واكتمال النوع (كل اللاحقين له "متبعون" للقوانين النوعية التي أصلها)، يدل على ذلك أن جميع محاولات "شق عصا الطاعة" التي قادها الشعراء في مراحل مختلفة من تاريخ الأدب العربي، لم تطل "جوهر" النوع فاعتبرت، لذلك، مجرد "تجاوزات" أو "خروقات"، إن مست "الأطراف" فقد ظلت، على الدوام، موقرة لـ "المركز".
وفي ذلك تأشير على أن هذا التصور النقدي، وإن قصر سلطة إنشاء النوع على المبدع الأول، فإنه يسمح للمبدعين اللاحقين بإحداث بعض التعديل في تقاليد النوع بمبادرة فردية، شريطة ألا تمس هذه التعديلات سوى العناصر المعتبرة ثانوية في النوع. وقد رصد القدماء بعض التعديلات، التي رادها مبدعون بصفتهم الفردية، كما يمكن أن نستبين من المعركة النقدية التي دارت رحاها حول شعر أبي تمام، الذي "خرق" الكثير من التقاليد الشعرية الموروثة[ii].
كما يمكن للمبدع اللاحق أن يدخل تحويرات على النوع في مستوى تداوله وتلقيه، من ذلك ما ذكره ابن رشيق في "العمدة" من أن العادة كانت عند العرب ألا تتكسب بالشعر وإنما "يقال فكاهة أو مكافأة[iii]، فلما نشأ النابغة "تحول بالشعر من الفكاهة والمكافأة إلى طلب المكافأة"[iv]، كما يروي ابن رشيق في كتابه أن الأعشى "أول من سأل بشعره"[v].
إن هذا الانحراف بوظيفة الشعر من الفكاهة والمكافأة إلى السؤال بالشعر وطلب المكافأة، إنما تأتى بمبادرات فردية وليس بجهد جماعي. وبالإضافة إلى ذلك يمكن للمبدع اللاحق أن يدخل تحويرات على العناصر الثانوية بما يمكنه من الاستقلال بـ "منزع" خاص به يميزه من طريقة غيره من الشعراء. يقول حازم في "منهاجه": " ومنهم من اختص بمنزع يتميز به شعره من شعر سواه، نحو منزع مهيار ومنزع ابن خفاجة"[vi]. لكن هذه التحويرات والإضافات يشترط فيها أن تنضبط لقواعد النوع وتذعن لمقتضياته، بحيث لا تطول عناصره الجوهرية، وإنما تمس "جهة" من جهاته، ويمثل حازم لهذا المنزع بـ "المأخذ" الذي اختص به المتنبي، والمتمثل في "توطئة صدور الفصول للحكم التي يوقعها في نهايتها"[vii].
- جماعة التَّلقي وصناعة النَّوع:
يتميّز هذا التصور النقدي بمسلكه النازع إلى سحب سلطة إنشاء النوع من المبدع – الفرد لتركيزها في يد جماعة التلقي، حيث "تخلق النوع"، من هذا المنظور، إنما يأتي استجابة لـ "أفق انتظار" جماعة التلقي، التي تملك سلطة تكريس النوع وترسيخه ضمن نظام الأجناس المتداولة، بالاستجابة له على صعيدي التداول والتلقي، أو نفيه خارج دائرة الأجناس المعترف بها، عبر الإعراض عنه واستهجانه بما يفضي إلى تلاشيه واندثاره.
إن سلطة جماعة التلقي على استمرار الأنواع وتلاشيها ظاهرة في مقررات القدامى أن تعديل النوع وتحويره إنما يتحققان في تساوق مع رغبات ومصالح القراء المعاصرين للعمل، وهو ما يستفاد من قول ابن رشيق إن "طريق العرب القدماء في الشعر قد خولفت إلى ما هو أليق بالوقت وأشكل بأهله"[viii].
إنَّ الأنواع لا تتخلق أو تتطور أو تتعدل إلا في إطار العلاقة التفاعلية بين الأنواع من جهة، وجماعة التلقي من جهة مقابلة، وتتمثل هذه العلاقة التفاعلية في مختلف وضعيات التواصل، التي تحف بالنوع على مستوى التلقي والتداول؛ أي "عوائد التلقي" التي تتأثر بالظروف الاجتماعية والأسباب اللغوية، بل وحتى المواقع الجغرافية التي يتنزل فيها النوع. كل هذه اعتبارات تؤثر على "اختيارات" متداولي النوع فتوجههم إلى تكريس سيادة نوع بعينه وإهمال ما عداه، فقد ينشأ النوع من استجابة لظروف اجتماعية تفرض ظهوره، إذ كان الكلام، فيما يقرر ابن رشيق، كله "منثورا" في المبتدأ، ولما ظهرت عند جماعة التلقي الحاجة إلى نوع أدبي جديد يعبر عن تطلعاتها نشأ الشعر. يقول ابن رشيق:
"... وكان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرا"[ix]. وقد ينشأ النوع من ممارسة معيشية مثل الرجز الذي انبثق من نشاط يومي هو السقي، وحاجة اجتماعية مثل التشاتم والمفاخرة، فقد كان الرجل من العرب يرجز إذأ خاصم أو شاتم أو فاخر[x].
ومثلما ينشأ النوع استجابة لحاجة اجتماعية أو ممارسة معيشية ينشأ كذلك لأسباب لغوية، فقد أشار ابن خلدون في المقدمة إلى ظهور أنواع أدبية جديدة فضل أصحابها ترك الإعراب، واللافت أن ذلك لم يمنع ابن خلدون من الاعتراف لها بالبلاغة الفائقة[xi].
إنَّ النَّوع، من منظور هذا المنزع النقدي، لا ينشؤه مبدع- فرد، ولكنه ينشأ استجابة لتطلعات جماعة التلقي وحاجاتها الاجتماعية والثقافية. وهو ما عبر عنه أحد المعاصرين بالقول: "إن الأنواع الأدبية القديمة سواء كانت شعرا أو نثرا، تستمد قوتها واستمراريتها من مقتضيات التلقي بالدرجة الأولى، وهذا يعني أن لا فضل لنوع على آخر في ذاته، وإنما التفاضل بين الأنواع في مدى استجابتها لرغبات جماعية"[xii].
إلى جانب التصورين السابقين يصادف الباحث رأيا نقديا ثالثا مؤداه أن مبادرة إنشاء النوع ليست مرتدة إلى المبدع – الفرد، ولا إلى جماعة التلقي، ولكنها مرتدة إلى "جماعة المبدعين"، فالموشحات، عند ابن رشد مثلا، استنبطها "أهل هذه الجزيرة [الأندلس]"[xiii] و"أهل الأمصار" أنشأوا أنواعا جديدة يذكرها ابن خلدون[xiv]، و"المتأخرون من أهل الأندلس" استحدثوا الموشح[xv].
إن النوع، من هذا المنظور، لا يتخلق دفعة واحدة على يد مبدع – فرد، ولكنه ناتج جهود جماعية. فالمنشئ الأول يقتصر دوره على وضع اللبنة الأولى في صرح النوع، ثم يأتي بعده من المبدعين "جماعة" يتعاقبون على النوع ويضيفون إليه لبنات أخرى حتى يستقر بناء سامقا له أسس وقواعد تشكل "تقاليد النوع"، فإذا أخذنا الموشح مثلا نجد "مخترعه"، فيما يذكر ابن خلدون، هو "مقدم بن معافر الفريري ثم أخذ ذلك عنه ابن عبد ربه، لكن عبادة القزاز هو أول من برع فيه"[xvi].
إن تقاليد النوع تبلورها جماعة من المبدعين المتعاقبين، فإذا استقرت وجب على المبدعين اللاحقين، الذين يبدعون داخل نفس النوع أن يمتثلوا لهذه التقاليد، ولا يسمح لهم بالخروج عنها "... وقد يشبه الشعراء والعلماء والبلغاء الإنسان بالقمر والشمس والغيث والبحر وبالأسد والسيف وبالحية وبالنجم [...]، وسموا الجارية غزالا وسموها أيضا خشفا ومهرة وفاختة وحمامة وزهرة [...] وليس هذا مما يطرد لنا أن نقيسه وإنما نقدم ما قدموا ونحجم عما أحجموا وننتهي إلى حيث انتهوا"[xvii].
لقد قصر الجاحظ، في هذا الشاهد، ابتداع التشبيهات على طبقة الشعراء المتقدمين، ولم يرخص بذلك للمتأخرين الذين يقتصر دورهم على احتذاء التقاليد النوعية التي أنهجها لهم المتقدمون.
مشكلة التَّصنيف:
تهتم نظرية الأجناس الأدبية بدارسة تكون الأشكال الأدبية المختلفة، يحدوها في ذلك طموح إلى رصد تحولاتها، وتحديد العلاقات التي تربط الأجناس بعضها ببعض، وإن كان تدقيق النظر في هذه المسألة يقتضينا التنبيه إلى أن الأعمال التي تدرس الأجناس، في استقلال عن بعضها البعض، ليس مما يدخل في نظرية الأجناس الأدبية، وإنما هو داخل في نظرية الأدب عامة ( الشعرية العامة)، ونظرية الجنس المدروس خاصة( الشعرية الخاصة). فالدراسة التي تبحث الشعر مثلا تدخل في نظرية الشعر، والتي تفحص الرواية تدخل في نظرية الرواية، وكذلك الدراسات التي تتناول أجناسا أدبية متباينة مثل الشعر والقصة والرواية والمقالة والرسالة بطريقة مفردة، تجعل كل جنس مستقلا عن الآخر، فهذا الضرب من الدراسة إن دخل في نظرية الأجناس الخاصة، فإنه لا يدخل في نظرية الأجناس العامة، لأنه يبحث المكونات الأنواعية في كل نوع على حدة ولا يفحص العلاقات التي تربط الأجناس بعضها ببعض من حيث تكوينها البنائي والأسلوبي.
لهذه الاعتبارات كان الحديث عن نظرية للأجناس، في السياق العربي، منطو على كثير من الإرباك والإحراج. ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى تضافر جهود مختلف الاختصاصات المتصلة بعلوم اللسان والإنسان من أجل وضع الأسس الملائمة لاستئناف القول في أجناسية الأدب العربي القديم، في مسعى لتصنيفه ونمذجته، واستخلاص شبكة العلاقات التي تجمع أو تفرق أنواعه، بما يتيح رصد تحولاتها عبر الحقب الفنية المختلفة.
لقد ترك القدامى اجتهادات مهمة في مجال الدراسة الأجناسية لأنواع الكلام العربي، وإن بقيت محاولاتهم عبارة عن معالجة غير مكتملة ولا نضيجة، فهي أقرب إلى "الخطرات" التي تعرض للإنسان عفوا منها إلى التأمل النقدي الواعي بصفته وتسميته، ذلك ما يمكن تبينه من الاجتهادات النقدية المأثورة عن القدامى في مجال تجنيس أشكال القول العربي وتصنيفها.
لقد جاءت التصنيفات المأثورة عن القدامى مختلفة ومتباينة تبعا لاختلاف المقاصد التي ينشدها الباحث، والمرجعية التي يصدر عنها، كما يمكن أن نستبين من مراجعة التصنيفات المقدمة من طرف النحويين واللغويين والبلاغيين والمناطقة والأصوليين. وقد كانت نتيجة هذا التنوع في المقاصد والمشارب أن زخرت كتب النقد والبلاغة العربية بمادة غزيرة في هذا المجال متنوعة.
ونظرا لغزارة المادة المتصلة، من قريب أو بعيد، بهذا المطلب فقد رأينا أن نقتصر، من اجتهادات القدامى، على بعض النماذج التصنيفية، مكتفين بدلالة التمثيل. فلم يكن من وكدنا مضاعفة الأمثلة. وقد راعينا في اصطفاء النماذج التمثيلية أن تكون مسعفة لنا فيما نروم من مقاصد: الاستئناس بأنظار النقاد القدامى لتقديم صورة عامة عن أقسام الكلام العربي، وهو عمل نعتبره مدخلا أوليا في أفق التأسيس لنظرية خاصة بأجناس الكلام العربي عامة.
وردت عند القدماء تصنيفات لأجناس الكلام العربي عديدة، من ذلك التصنيف المأثور عن ابن المقفع وقد سئل ما البلاغة؟ فأجاب:
"البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون خطابا، ومنها ما يكون رسائل"[xviii].
يحصر ابن المقفع أصناف البلاغة، حسب الشاهد، في:
السكوت، والاستماع، والإشارة، والاحتجاج، والجواب، والابتداء، والسجع، والخطب، والرسائل.
وهو تصنيف يتداخل فيه، كما هو بين، السلوك غير اللغوي (السكوت، والاستماع، والإشارة) بالسلوك اللغوي (أنواع شعرية ونثرية). وليس من شك في أن هذا الجمع الذي يقيمه ابن المقفع بين الشعر والنثر والسكوت والاستماع كاشف عن وعي بقضية الأجناس غير دقيق، مأتاه تصور يرى في البلاغة "اسما جامعا" تندرج تحته جميع مظاهر التخاطب والإبلاغ، بقطع النظر عن وسائل تحققها. ولسنا نملك أمام هذا الخلط سوى الاحتفاظ بأنواع ثلاثة نراها موافقة لمقررات نظرية الأجناس، هي الشعر والخطب والرسائل. أما الجواب والابتداء فهما، فيما نقدر، مجرد تنويع على الرسالة، إنهما، إذن، للترسيل صنفان، وكذلك السجع فهو، فيما نتصور، ظاهرة أسلوبية وسمة إيقاعية متحققتان في بعض ضروب النثر، خاصة بعد اختفاء النوع الذي كان يمثله وهو "سجع الكهان"، وإن كنا نصادف إشارات واردة عند القدماء تجعل "السجع" نوعا قائم الذات، فقد جاء في "البيان والتبيين" مثلا: "وقد يكون له [الكاتب] طبع في تأليف الرسائل والخطب والأسجاع"[xix].
وقل نفس الشيء بالنسبة للاحتجاج فهو لا يمثل نوعا أدبيا مستقلا، ولكنه صفة لكل خطاب يتقصد الإقناع، شعري أو نثري، وإن كان بالأنواع الشفاهية ألصق. فهو أكثر حضورا في خطاب "المواجهة الشفاهية" مثل المنافرات والخطب والمناظرات.
لعل الجاحظ أن يكون أبرز أديب عربي وعى بمسألة الأنواع الأدبية وعيا واضحا وجليا، جسدته إشارات عديدة مبثوثة في تضاعيف كتبه المختلفة[xx]. وهي إشارات تكشف، عن وعي دقيق تحصل للجاحظ بضرورة الترتيب والتصنيف والتنظيم، فقد اعتبرا ذلك شرطا للمعرفة العالمة رئيسا، ومطلبا لتحفظ الحكمة والعلم أساسا. يقول:
"إن لكل شيء من العلم ونوع من الحكمة وصنف من الأدب سببا يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتتا، ومعنى يحدو على جمع ما كان منه متفرقا، ومتى أغفل حملة الأدب وأهل المعرفة تمييز الأخبار، واستنباط الآثار، وضم كل جوهر نفيس إلى شكله، أميت الأدب ودرس مستور كل نادر"[xxi].
غير أن اللافت في موقف الجاحظ ما يصدع به من أنه، في حثه على تمييز أجناس القول، إنما يواصل تقليدا علميا متوارثا، وسنة أدبية راسخة، درج عليهما الأوائل إذ "لم يخل زمن من الأزمان، في ما مضى من القرون الذاهبة، إلا وفيه علماء محققون، قد قرؤوا كتب من تقدمهم، ودارسوا أهلها، ومارسوا الموافقين لهم، وعانوا المخالفين عليهم، فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم فحفظوا الأمهات والأصول، وعرفوا الشرائع والفروع، ففرقوا ما بين الأشباه والنظائر، وصاقبوا بين الأشكال والأجناس، ووصلوا بين المتجاور والمتوازي [...] فوضعوا الكتب في ضروب العلم وفنون الآداب"[xxii].
إذا كان الجاحظ لم يقدم تصنيفا جامعا لأنواع النثر، فقد كان مدركا أن أقسام الكلام عند العرب أكثر مما لدى الأقوام الأخرى وأوفر:
"والدليل على أن العرب أنطق، وأن لغتها أوسع، وأن لفظها أدل، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر..."[xxiii].
إن هذا الوعي الذي يكشف عنه الجاحظ بوفرة الأنواع في كلام العرب، يجعلنا نزعم أن تقديم تصنيف جامع لأنواع النثر العربي لم يكن ليتأبى عليه، لو رامه أو كان من مقاصده، عمدتنا في ذلك أنه ذكر عديدا من أنواع النثر وفيرا، مع توافر قصد التعداد كما يشهد لذلك قوله في "البيان والتبيين":
" قد ذكرنا، أكرمك الله، في صدر هذا الكتاب من الجزء الأول، وفي بعض الجزء الثاني كلاما من كلام العقلاء والبلغاء، ومذاهب من مذاهب الحكماء والعلماء، وقد روينا نوادر من كلام الصبيان والمجرمين من الأعراب، ونوادر كثيرة من كلام المجانين وأهل المرة من الموسوسين، ومن كلام أهل الغفلة من النوكى وأصحاب التكلف من الحمقى، فجعلنا بعضه في باب الهزل والفكاهة"[xxiv].
لقد أورد الجاحظ في هذا الشاهد تصنيفا لضروب من النثر متغايرة من وجوه عدة منها:
- القصد من الاستعمال (الهزل والفكاهة).
- اعتبارات تلفظية (حكاية نوادر الحمقى والمغفلين كما تلفظوها من غير تعديل)
وإلى ذلك يمكن أن نستخلص من تواتر مصطلح "الكلام" في هذا الشاهد وفي مواضع عديدة من كتب الجاحظ، أنه يعتبره "جنسا أعلى"، عنه تتفرع أجناس من القول وأنواع، وإن كنا نلحظ بعد أن الجاحظ يقايض، في مواضع أخرى، مصطلح "الكلام" بعبارة "أصناف البلاغة"، كما هو حاصل في هذا الشاهد الذي نجتزئ من "البيان والتبيين":
"ونحن، أبقاك الله، إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق، من الديباجة الكريمة والرونق العجيب، والسبك والنحت، الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك إلا في اليسير والنبذ القليل"[xxv].
فما دلالة هذه المقايضة؟ هل يشغل الجاحظ مصطلح "البلاغة" بديلا لمصطلح "الكلام"؟ أم أن البلاغة لا تعدو أن تكون، عنده، فرعا للكلام وقسما من أقسامه؟
يبدو أن البلاغة عند الجاحظ، إن أحسن الفهم عنه، لا تعدو أن تكون مرتبة من مراتب الكلام "البليغ"، عمدتنا في ذلك أنه يجعل البلاغة "أصنافا"، في حين يقصر الكلام على "التأليف"، كما يتبين من إشارته، في معرض التمهيد للجزء الثاني من كتابه "البيان والتبيين"، إلى أنه سيذكر فيه "أقسام تأليف جميع الكلام وكيف خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من أعظم البرهان وتأليفه من أكبر الحجج"[xxvi]. وبالإضافة إلى ذلك يصرح بأن أقسام الكلام عند العرب أكثر منها عند الأقوام الأخرى:
"والدليل على أن العرب أنطق، وأن لغتها أوسع، وأن لفظها أدل، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر، والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسير..."([xxvii]).
بهذا الفهم، وتأسيسا عليه، يصبح "الكلام البليغ"، عند الجاحظ، "جنسا أعلى" يتفرع عنه جنسان كبيران هما الشعر بقسميه القصيد والرجز، ثم المنثور بأقسامه الثلاثة: السجع والمزدوج وما لا يزدوج. وتتنزل هذه الأقسام من جنس المنثور منزلة الأنواع الكبرى التي تتفرع، عند الجاحظ، إلى ضروب من النثر مختلفة تتجاور في مؤلفاته وفق تراتب عقدي:
"ومتى خرج من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية، ومقاييس سداد، ثم لا يترك هذا الباب، ولعله أن يكون أثقل والملال إليه أسرع، حتى يفضي إلى مزح وفكاهة، وإلى سخف وخرافة، ولست أراه سخفا، إذ كنت إنما استعملت سيرة الحكماء وآداب العلماء"[xxviii].
وإذا كان الجاحظ يعدد في هذا الشاهد عديد أنواع يؤشر عليها باصطلاحات أنواعية خاصة، فإن المصطلح النقدي لم يكن يسعفه دائما في توصيف أصناف من الكلام، إن شعر بتمايزها وتغايرها، فقد قعدت به الاصطلاحات عن الوفاء بنعتها وتسميتها، كما يمكن أن نستبين من قوله في "البيان والتبيين":
"وأنا ذاكر بعد هذا فنا آخر من كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة ونزه عن التكلف [...] ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين فحوى، من كلامه صلى الله عليه وسلم"[xxix].
من الواضح تماما أن الجاحظ مهما أجهد نفسه في تعديد الصفات التي وسمت هذا "الصنف من الكلام"، فإنه قد اعتاص عليه توصيفه فتركه من غير تسمية. وفي ذلك تأشير على "عجز اصطلاحي" ما فتئ الجاحظ يعانيه ويكابده كما هو ظاهر في عديد مواضع، يطلق فيها الجاحظ تسميات على أصناف من الكلام من دون أن تفلح في تحديد هويتها تحديدا دقيقا. من هذه التسميات نرصد:
- المنثور غير المقفى[xxx].
- ما لا يزدوج[xxxi].
- ما ضارع وشاكل كلام النوكى[xxxii].
وإلى ذلك يمكن التمييز في تصنيفات الجاحظ مستويين اثنين: مستوى الاكتمال حيث ترد الأنواع كاملة (خطبة كاملة، ورسالة كاملة، ودعاء كامل...).
ومستوى الاجتزاء حين يقتطع الجاحظ جزءا من نوع ما مؤشرا على ذلك باصطلاحات خاصة تفيد أن النص "جزء" من "كل". مثل:
"الفقر المستحسنة والنتف المتخيرة والمقطعات المستخرجة"[xxxiii].
وقد يستخدم الجاحظ اصطلاحي "صدر" و"جملة" للدلالة على حجم النص "المقتطع" مثل:
"وقد ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبه صدرا وذكرنا من خطب السلف جملا"[xxxiv].
وفي اصطلاحي "قصار" و "مقطعة" أيضا ما يفي، عند الجاحظ، بالمقاصد نفسها. فهما اصطلاحان ينصرفان، عنده، إلى التأشير على أنواع بعينها من خصائصها القصر:
"وذكرنا من مقطعات كلام النساك، ومن قصار مواعظ الزهاد، وغير ذلك مما يجوز في نوادر المعاني وقصار الخطب"[xxxv].
رغم وعي الجاحظ بتغاير ضروب الخطاب في عصره، وتمايز بعضها من بعض قياسا بوعي معاصريه ومجايليه، فإن هذا الوعي يبقى، عند التدقيق، غائما وملتبسا ليس يسلم من شوائب التشويش والخلط بين الأجناس والأنواع. وهي ظاهرة شائعة في مصنفات الجاحظ مجلاها الأبرز والأظهر إجراء "اصطلاحات الفنون" من دون ضابط أو تدقيق، كما هو حاصل في هذا الشاهد الذي تمتزج فيه أشكال الخطاب الأدبي (بالمعنى الضيق) وغير الأدبي:
"وإني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن، في الدين والفقه والرسائل والسيرة والخطب، والخراج والأحكام وسائر فنون الحكمة..."[xxxvi].
كما يظهر التداخل والخلط واضحين في تسميات الأنواع، كما هو ظاهر في هذا الشاهد، الذي يخلط فيه الجاحظ بين الحديث والخبر والقصة:
"ومن هذا الحديث ما خبر به عن بابويه صاحب الحمام، ولو سمعت بقصصه في كتاب اللصوص، علمت أنه بعيد من الكذب والتزيد وقد رأيته وجالسته، ولم أسمع هذا الحديث منه، ولكن حدثني به شيخ من مشايخ البصرة"[xxxvii].
هذا بالإضافة إلى الالتباس الذي يثيره، في ذهن القارئ، مصطلح "نوادر" الذي يتراوح، في تشغيل الجاحظ، بين الدلالة على الهزل والجد[xxxviii]، بل ويضم الشعر والنثر إذ يكون أحيانا "نوادر أشعار"[xxxix] ويكون في أخرى "نوادر المعاني"[xl].
ولعل ذلك أن يرتد، فيما رجح عندنا، لا إلى تمييزات وعاها الجاحظ بين أصناف الكلام العربي فجسدتها التسميات، ولكنه محمول بالأساس على "فتنة البيان"، التي اقتضت ازدواج العبارة. وهي طريقة في التعبير أثيرة عند أبي عثمان المفتون بـ "سحر البيان"، من ذلك ما ذكره في مفتتح الجزء السادس من "الحيوان" من أنه وشحه وفصل فيه بين الجزء والجزء "بنوادر كلام وطرف أخبار وغرر أشعار مع طرف مضاحك"[xli].
إن هذا التداخل في الاصطلاحات والخلط في التسميات ليؤشران على أن وعي الجاحظ بالتمايز والمغايرة بين صنوف المخاطبات غائم، ملتبس وغير نضيج. وقد نرى في بعضها مجرد تنويع في التسمية أملاه على الجاحظ تولع متأصل فيه بالازدواج والترادف.
يمثل كتاب "نقد النثر"، فيما أراد له صاحبه، مشروعا في البيان يستدرك به على مشروع بياني آخر كان الجاحظ قد حاوله في كتاب له شهير هو "البيان التبيين"، الذي اعتبر عند المشتغلين بقضايا البلاغة العربية، جدد وقدماء، أنضج محاولة لتأسيس "البيان العربي"[xlii]، فيما رأى فيه صاحب "نقد النثر" مشروعا، في البيان العربي، غير نضيج شابته عيوب ونقائص، لكونه "ضم أخبارا منتخلة، وخطبا منتخبة، ولم يأت فيه [الجاحظ] بوصف البيان، ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان، وكان عندما وقفت عليه غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب إليه"[xliii].
من الواضح أن المؤلف يرى في كتاب الجاحظ نقصا انتدب نفسه لتداركه بتصنيف هذا الكتاب، الذي كانت تسميته الأصلية، فيما يرجح محققه، "كتاب البيان" بما يؤكد أن المؤلف قصد به إلى معارضة كتاب الجاحظ مضمونا وتسمية[xliv].
إن قراءة الكتاب تكشف عن تولع متأكد بالتقسيم والتفريع، فبعد أن قرر صاحبه في معرض حديثه عن المعرفة العقلية بطريقة تذكر بطريقة الجاحظ، أن "العقل حجة الله على خلقه والدليل لهم إلى معرفته والسبيل إلى نيل رحمته"[xlv]. قسم العقل قسمين: موهوب ومكسوب[xlvi].
ولما كان البيان، عند المؤلف، ترجمان العقل ودليلا عليه، فقد انقسم، عنده، إلى وجوه أربعة:
1/ بيان الأشياء بذواتها: وفي هذا الصنف من البيان تتجلى حكمة الخالق وآثار صنعته، لأن الأشياء، وإن كانت صامته جامدة، فهي "ناطقة بظاهر أحوالها" وفي ذلك مدعاة إلى "الاعتبار".
2/ بيان يحصل في القلب: ولأنه يحصل في نفس المتفكر من دون غيره اختص باسم "الاعتقاد".
3/ بيان بنطق اللسان: وهو بيان يشترك فيه الإنسان مع غيره، وقد اصطلح عليه المؤلف بـ "العبارة".
4/ بيان بالكتاب: يتجاوز الشاهد ليطول الغائب.
بعد هذا التفريع لأقسام البيان يعقد المؤلف بابا وسمه بـ "باب تأليف العبارة" رصد فيه أقسام ما يسميه "سائر العبارة في كلام العرب"، فحصرها في ثنائية المنظوم والمنثور. وهي القسمة التقليدية التي رسخها النقد العربي منذ أطواره الأولى. يقول:
"واعلم أن سائر العبارة في كلام العرب إما أن يكون منظوما وإما أن يكون منثورا، والمنظوم هو الشعر والمنثور هو الكلام"[xlvii].
يسترعي انتباه الناظر، في هذا الشاهد، انطلاق صاحبه، في مسعاه التصنيفي، من تصورات مباينة تماما لتصورات النقاد العرب القدامى الذين ينطلقون ، في الغالب، من اعتبار الكلام، والكلام البليغ تخصيصا، جنسا أعلى يتفرع إلى أجناس وأنواع، لكن صاحب "نقد النثر" يقصر الكلام على "المنثور" مثلما يقصر المنظوم على "الشعر"، وإن كنا نجده يعدل من هذا الموقف لاحقا كما نفهم من إشارة وردت عنده، وهو بصدد تحديد البلاغة، التي يعرفها بالقول:
"... وحدها [البلاغة] عندنا أنه القول المحيط بالمعنى المقصود مع اختيار الكلام وحسن النظام وفصاحة اللسان"[xlviii].
والإشارة المقصودة في هذا الشاهد عبارة "اختيار الكلام" التي تحيل، من غير شك، على "المنثور" الذي لا يعني هنا، بأية حال من الأحوال، "الكلام العادي"، وإنما "الكلام البليغ"، لأن عبارة "اختيار الكلام"، في هذا السياق، دالة على مبدأ فني وجمالي مرتبط بعملية "الاختيار"، التي يمارسها المبدع حين يصطفي من الكلام ما يتوافق وشرائط البلاغة.
لكن اللافت في هذا الكتاب أن صاحبه ما إن يقدم هذا التحديد للبلاغة حتى يشرع في حديث مطول عن الشعر، ليس له من مبرر في كتاب اختصه صاحبه بـ "نقد النثر"، غير أن هذا الإجراء من المؤلف يسعفنا في تبين مقصوده من عبارة "تأليف العبارة" التي وسم بها هذا الباب، إذ وضح أنها منصرفة، عنده، لتعني اسما جامعا للكلام البليغ عموما، نثره ونظمه. يرجح ذلك أن المؤلف ينتقل مباشرة بعد حديثه عن الشعر وأقسامه إلى بسط القول في النثر وأنواعه، فقد عقد لهذا الغرض بابا وسمه بـ "باب فيه المنثور وما جاء فيه"، حيث حصر في المنثور أقساما أربعة هي الخطابة والترسيل والاحتجاج والحديث. يقول:
"وليس يخلو المنثور من أن يكون خطابة أو ترسلا أو احتجاجا أو حديثا"[xlix]، ولكل واحد من هذه الأقسام موضع يستعمل فيه:
1- الخطب: تستعمل في إصلاح ذات البين، وإطفاء نائرة الحرب، وحمالة الدماء، والتسديد للملك، والتأكيد للعهد في عقد الأملاك، وفي الدعاء إلى الله عز وجل، وفي الإشادة بالمناقب.
2- الترسيل: يستعمل في الاحتجاج على المخالفين من أهل الأطراف، وذكر الفتوح وفي المعاتبات والاعتذارات.
3- الجدل: يقصد به إلى إقامة الحجة فيما اختلف فيه اعتقادا المجادلين، ويستعمل في المذاهب والديانات وفي الحقوق والخصومات، والتنصل في الاعتذارات، ويدخل في الشعر وفي النثر.
4- الحديث: ما يجري بين الناس في مخاطباتهم ومناقلاتهم.
يتصل، بموضوع بحثنا من هذا التقسيم، أمران هامان:
تعيين مصطلح "النثر" صيغة جامعة لأصناف من التواصل الأدبي (الأنواع الأدبية)، وغير الأدبي (التواصل اليومي العادي)، ثم امتزاح الشفاهي بالكتابي، حيث يمزج المؤلف بين الفنون النثرية الشفوية (الخطابة – الحديث)، والفنون المكتوبة (الترسيل)، وإن كنا نلحظ هيمنة ظاهرة للأنواع الشفاهية على المكتوبة، فإذا اعتبرنا الاحتجاج (الجدل) أقرب من حيث مجالات استعماله، إلى الشفاهة لم يتبق لدينا من الأنواع الداخلة في المكتوب إلا "الترسيل".
اختص ابن عبد الغفور الكلاعي "النثر" بكتاب قصد فيه إلى "إحكام صنعة الكلام" وهذا المسلك من ابن عبد الغفور جدير بالتدبر والاعتبار، ففي هذا الكتاب يعلن الرجل عن انتصاره للكلام المنثور على حساب المنظوم، ذاهبا إلى أن النثر، في الممارسة الإبداعية أصل الشعر "فرع تولد منه"[l]. ورغم أولوية النثر، فيما يقرر ابن عبد الغفور، وأسبقيته على الشعر، فإن الدارسين ذهلوا عن قوانينه فتركوها من غير إحكام، وغفلوا عن أفانينه فتركوها من غير حصر، لكل ذلك انتدب الكلاعي كتابه لإحكام صنعة النثر مبررا انصرافه عن الشعر بما ناله من حظوة لدى الدارسين لم تتوافر لصنوه "النثر".
بعد أن بسط الكلاعي أسبابه في تفضيل صناعة النثر على الشعر، توقف عند أصناف النثر (يسميها "ضروبا") فجهر ببعض هذه الأصناف وسكت عن بعض:
"وتأملت – أدام الله توفيقك- النثر فوجدت فيه من أنواع البديع ما في النظم، فأغفلت ذكرها في هذا الكتاب، لأن كثيرا من العلماء عنوا بهذا الباب، وجعلت أبحث عن ضروب الكلام فوجدتها على فصول وأقسام منها: الترسيل ومنها التوقيع ومنها الخطبة ومنها الحكم المرتجلة، والأمثال المرسلة، ومنها المورى والمعمى، ومنها المقامات والحكايات، ومنها التوثيق ومنها التأليف، وتأملت – أكرمك الله- الأسجاع فوجدتها على ضروب وأنواع..."[li].
إن التصنيف عند الكلاعي، كما يمكن أن نستبين من الشاهد، عملية بحث مقصودة، فهي لا تأتي عفوا أو عرضا، ولكنها مستندة إلى وعي تصنيفي تحصل للكلاعي فصدع به ومارسه بعد "تأمل" في أقسام النثر "بحثا" عن "ضروب الكلام".
ومما يدل على أن عملية التصنيف، عند الكلاعي، واعية بحدودها وصفتها وضوح التصور المنهجي عنده لموضوعه وأدواته، فقد أقصى الشعر من دراسته لأسباب فصلها كما أقصى بديع النثر لأن غيره تكفل ببحثه وتقصيه. وإذن، فالكلاعي ينصرف عامدا عن الشعر وبديع المنثور ليتوجه قصدا إلى بحث ضروب النثر، التي شكلت نقطة البحث في دراسته.
وقد وقف الكلاعي في تدبره تجليات الممارسة النثرية عند قطاعات أربعة هي:
1/ الشعر 2/ بديع النثر
3/ ضروب الكلام 4/ الأسجاع
وقد أسلمه تقليب النظر في هذه القطاعات الإبداعية إلى رسم دائرة تصنيفية تضم أنواعا نثرية ثمانية هي بعض، وليس كل، ما يمكن أن تنقسم إليه "ضروب الكلام".
وإذا تأملنا هذه الضروب النثرية المرصودة من قبل الكلاعي وجدنا بعضا منها قد جاء مفردا، فيما جاء بعض آخر مزدوجا.
تتمثل الأنواع المفردة في:
1/ الترسيل: ويختلف باختلاف الأزمنة.
2/ التوقيع: يكون على الرقاع في آخر الرسائل.
3/ الخطبة: تقوم عند العرب على كلام منظوم له بال.
4/ تأليف الكتب: ويدخل فيه الكلاعي كتب النقد والإبداع وكتب المختارات وكتب الاختصارات والشروح.
5/ التوثيق: من اختصاص ديوان الإنشاء ويتعلق بالمحاضر والسجلات والوصايا والعقود.
أما الأنواع المزدوجة فتضم:
6/ الحكم المرتجلة والأمثال السائرة: ويجعل الكلاعي الأمثال على ضربين:
أ- ما روي في الخطب والرسائل.
ب- ما يأتي جوابا مرتجلا للسائل.
7/ المورى والمعمى: سمي كذلك لأن باطنه على غير ظاهره وهذا الضرب موجود في المنثور والمنظوم.
8/ المقامات والحكايات: يربط المقامات بالهمذاني، أما الحكايات فيمثل لها بكتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع وكتاب "القائف" للمعري.
أما الأسجاع فقد جعلها محطة لهذه "الضروب" تالية فهي، عنده، قابلة للتصنيف حسب الصورة التي تتحقق بها في النصوص، لأنه بعد انقراض النوع الكلامي الذي يمثلها وهو "سجع الكهان"، فقد تحولت الأسجاع إلى صفة إيقاعية في الكلام، متحققة في بعض ضروب النثر.
من الملاحظ التي يمكن أن يسلم إليها تدبر هذا التصنيف أن الأنواع المفردة داخلة كلها، باستثناء الخطبة، في الكتابة، وإن اختلفت بعد في خصائصها الأسلوبية والبنائية. أما الأنواع المزدوجة فبينها تماثل وتشاكل؛ فبين الحكم والأمثال أكثر من آصرة نسب، وبخاصة مرجعيتهما المرتبطة بالتجارب الإنسانية المشتركة، وكذلك المورى والمعمى اللذان يتفقان في الدلالة على ضرب من الكلام ظاهره مختلف عن باطنه. ويدخل فيه الكلاعي التورية واللغز والكناية وغيرها مما يكون لامتحان الذهن. أما الجمع بين المقامات والحكايات فلسنا نعثر على أي إشارة تدل على وعي تحصل للكلاعي باشتراكها في خاصة السرد أو البناء، فقد اكتفى الكلاعي في الباب الذي عقده لهذين النوعين بسوق نماذج مقامية للبديع، وفي الحكايات ساق أنموذجا من "القائف" للمعري، وعدا الإشارة إلى تفضيل "القائق" على "كليلة ودمنة" لا نعثر على أي تفصيل لخصائص الأنواع السردية، بل إن موقفه المعلن من السرد يستبطن الكثير من السلبية كما يمكن أن نستبين من وصفه "كليلة ودمنة" و"القائف" بأنهما "من الحكايات المختلقة والأخبار المنمقة"[lii].
يصدر الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" عن خلفية إعجازية واضحة، جعلته لا يرخي لقلمه العنان عند الخوض في قضايا النص الشعري، فقد كان يفلح دوما في كبح جماحه للتركيز على موضوعه الأصلي الذي انتدب إليه كتابه: بيان "إعجاز القرآن" وإثبات تفوقه على سائر الإبداعات اللفظية التي أنتجها "العربي". وقد كان بدهيا أن تتأثر مناولة الباقلاني لمختلف الأنواع الأدبية التي يضمها سجل الكلام العربي إقصاء واحتواء، ترتيبا وتصنيفا، بخلفيته الإعجازية التي وجهت نظره النقدي والبلاغي إلى اعتبار القرآن نصا نموذجيا متعاليا.
يقول الباقلاني في مقدمة كتابه محددا مقاصده من تأليف الكتاب التي يحصرها في وصف متصرفات الخطاب، وترتيب وجوه الكلام وأقسامه من "شعر ورسائل وخطب وغير ذلك من مجاري الخطاب، وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح وتقصد فيه البلاغة، لأن هذه أمور يتعمل لها في الأغلب ولا يتجوز فيها، ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم والتفاوت فيه أكثر، لأن التعمل فيه أقل إلا من غزارة طبع أو فطانة تصنع وتكلف"[liii].
نستبين من هذا الشاهد أن الكلام يتفرع عند الباقلاني إلى أقسام ثلاثة يسميها "أصولا"، وهي الشعر والرسائل والخطب. ومما يسترعي انتباه الناظر في هذا التقسيم الذي يسوق الباقلاني، عدم اقتصاره على الأقسام الثلاثة التي قررها "أصولا" لأجناس الخطاب، ولكنه يشير إلى أن هناك "أصولا" أخرى غير هذه كانت متداولة في عصره كما يمكن أن يستفاد من قوله: "وغير ذلك من مجاري الخطاب"، وكذلك "الكلام الدائر في محاوراتهم"، وإن كان الباقلاني لا يظهر أدنى عناية بحصر هذه الأنواع أو تفصيل القول فيها. وهو أمر مرتد إلى أن هذه الأنواع لم تتوافر لها مقومات "الأدبية" بخلاف "الأصول" الثلاثة التي توافرت لها شرائط الكتابة الفنية، إذ "يبين فيها التفاصح ويقصد فيها البلاغة". أما المحاورات وغير ذلك من "مجاري الكلام" فإن الباقلاني يخرجها من دائرة اهتمامه، فلا يعنى بتقصيها وتصنيفها، لأنها لم تنتج وفق القواعد التي تحددها "الصناعة". وإذا كان قد اتفق لها من السمات ما تلتقي فيه بالأصول الثلاثة، فإن ذلك مرتد فيها إلى "الطبع" و"الفطانة" وليس "القصد" و"التعمل". وبهذا الاعتبار فإن هذه "الأصول" لا ترقى إلى مستوى "الصناعة".
نستفيد مما سبق أن الباقلاني لم يستطع تجاوز مقولة "الإعجاز" التي شكلت أسا أدار عليه كتابه؛ فانشغاله بإبراز تميز النص القرآني وتفوقه جعله لا يعتني من الأنواع إلا بتلك التي تقترب في تكوينها البلاغي والأسلوبي من النص – الأنموذج (القرآن الكريم). ومن هنا كان قبول الأنواع الخطابية أو رفضها مرتهن، عند الباقلاني، إلى حظها من الفصاحة والبلاغة، ذلك ما نتبينه من العبارة التالية التي يوردها الباقلاني في معرض مرافعته عن فكرة تفوق النص القرآني على "الأصول" الثلاثة، التي قررها من قبل أجناسا خطابية توافرت لها شرائط "القول البليغ":
"من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي [...] فليس يخفى عليه إعجاز القرآن كما يميز جنس الخطب والرسائل والشعر"[liv].
إن تخصيص هذه الأجناس الثلاثة بالعناية إنما يرتد إلى اشتراكها في "التعمل" و"الصناعة"، وبذلك يستقيم للباقلاني المقارنة بينها والقرآن ابتداء، ليخلص – انتهاء- إلى إثبات تفوق النص القرآني على هذه الأنواع جميعا في مقاييس الفصاحة والبلاغة.
وإلى ذلك نعثر عند الباقلاني في المواضع التي يختصها بالحديث عن "إعجاز القرآن" وبلاغته ذكرا لأقسام الخطاب غير الأصول الثلاثة، إما بشكل صريح أو ضمني يفهم من صيغ القول التي يستعمل للدلالة على أنواع أدبية مثل أخبر (الخبر) وضرب (المثل) وذكر (قصة) يوسف...
ومما يسترعي انتباه الدارس أن أجناس الخطاب في القرآن، فيما يرصد الباقلاني، وفيرة تتوزع ما بين خبر ومثل وقصة وموعظة... وهي أجناس لم يتضمنها تقسيم الباقلاني لأجناس الكلام العربي. وهو أمر يمكن أن يرتد إلى الخلفية الإعجازية التي حكمت هذا الباحث ووجهته لأن يعتبر جميع الأجناس الخطابية، التي تضمنها القرآن مستحقة للذكر والتنويه، لما حازت من فصاحة وما انطوت عليه من بلاغة. أما كلام العرب فلم تتوافر شروط البلاغة إلا لأجناس منه ثلاثة هي الشعر والرسائل والخطب. وقد استحقت، بمقتضى ذلك، الاعتراف بها أجناسا أدبية. أما الأصناف الخطابية الأخرى مثل المحاورات والشعر القصصي فلم تتوافر له هذه الشروط فكان أن أسقطها الباقلاني من خطاطته التصنيفية.
لقد اعتمد الباقلاني "مقولة الإعجاز" عيارا في الحكم على حظ الأنواع الأدبية من الفصاحة والبلاغة، الذي يستند إليه في تحديد قيمتها "الأدبية"، وبالتالي صلاحيتها للتداول من عدمه. وهو إجراء يجليه موقفه المعلن من جنس "القصة" الذي اتسم بازدواجية واضحة؛ فهذا الجنس يحظى عنده، من جهة، بالاعتراف والمقبولية عندما يرد في القرآن الكريم إذ يعتبرها، في هذه الحال، نوعا من الخطاب ساميا توافر له من شرائط البلاغة ما استحق معه أن يدرج ضمن الأنواع الخطابية الأخرى التي استوعبها النص القرآني مثل الموعظة والمثل والخبر، لكن موقف الباقلاني من هذا الجنس يختلف تماما عندما يرد، من جهة مقابلة، في الشعر، حيث يكون حظه من البلاغة، في زعمه، منعدما. ولذلك توجب إخراجه من دائرة الأغراض الشعرية المعترف بها مثل المدح والفخر والرثاء...
وقد عبر الباقلاني عن هذا الموقف الرافض للقصة نوعا خطابيا في جنس الشعر في معرض مفاضلته بين بلاغة السرد القصصي في النص القرآني والنص الشعري، حيث يقرر أن أي سورة من سور القرآن "تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة عنها بأضعاف كلماتها لم تستوف ما استوفته [...] وإن أردت أن تتحقق ما وصفت لك فتأمل شعر من شئت من الشعراء المفلقين، هل تجد كلامه في المديح والغزل والفخر والهجو يجري مجرى كلامه في ذكر القصص، إنك لتراه إذا جاء إلى وصف واقعة أو نقل خبر عامي الكلام سوقي الخطاب، مسترسلا في أمره متساهلا في كلامه، عادلا عن المألوف من طبعه"[lv].
يمكننا الانتهاء، من هذا الاستعراض لآراء النقاد والبلاغيين العرب القدامى حول مسألة تصنيف الخطابات الأدبية، إلى أن غالب هذه الآراء جاء متفقا في الكثير من القضايا المتعلقة بتصنيف الكلام العربي، إذ نصادف عندهم نفس التصنيف لبعض التجليات النصية بالنظر إلى وجود قيم ثابتة وقارة. وهو ما يظهر جليا في حديثهم عن "النوع الأدبي" بوصفه صيغة جامعة تستوعب مختلف الممارسات اللفظية التي توافرت لها شروط "الأدبية"، وحظيت بالقبول والتداول، فمعظم المقترحات التصنيفية يتفق في تقسيم الكلام إلى جنسين كبيرين هما الشعر والنثر، اللذين ظلا حاضرين باستمرار على امتداد تاريخ الأدب العربي.
وإذا كانت آراء النقاد قد جاءت متفقة فيما يتصل بـ "أجناس الكلام"، فقد تباينت عندما تعلق الأمر بتقديم مقترحات تصنيفية للأنواع التي تتفرع إليها الأجناس، فإذا كنا نجد اتفاقا بين النقاد، يصل حد التطابق والتواتر فيما يتصل بالأنواع "الثابتة"، مثل تفريع جنس الشعر إلى نوعين هما القصيد والرجز، وجنس النثر إلى رسالة وخطبة، فإن الاختلافات ما تلبث أن تظهر عندما يتعلق الأمر ببعض الأنواع التي يمكن نعتها بـ "المتحولة"، مثل الخبر والحكاية والدعاء والحديث.
إذا كانت هذه النظرات النقدية المأثورة عن القدماء كاشفة عن وعي بمسألة الأنواع الأدبية، فإنه يصعب، عند التدقيق، اعتبارها مصادر في تجنيس الكلام العربي، لأن الوعي الذي تعبر عنه غائم وفي بداياته. إن وعى ضمنا بالظاهرة، فقد بقي عاجزا عن حصرها وضبط حدودها، فكان أن جاءت الأحكام المأثورة عن القدماء انطباعية ومعيارية في الأعم الأغلب، رغم عمقها أحيانا.
[i] - ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، ج 1، ص: 55.
[ii] - انظر أطرافا من ذلك في "الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري" للآمدي حيث أبو تمام مطرود من جنة الآمدي لأن شعره لا يشبه أشعار الأوائل ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة.
[iii] - ابن رشيق: العمدة، ج 1، ص: 80.
[iv] - نفسه، ج 1، ص: 80.
[v] - نفسه، ج 1، ص: 81.
[vi] - حازم: منهاج البلغاء وسراج الأدباء تح. محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي ط 3 – 1986ص: 366.
[vii] - نفسه ، ص: 366.
[viii] - ابن رشيق: العمدة، ج 1، ص: 301.
[ix] ، نفسه ج 1، ص: 20.
[x] - نفسه، ج 1، ص: 20 / الشعر والشعراء، ج 2، ص: 617.
[xi] - ابن خلدون: المقدمة، ص: 583.
[xii] - أبلاغ محمد عبد الجليل، شعرية النص النثري، مقاربة نقدية تحليلية لمقامات الحريري، شركة النشر والتوزيع، المدارس، البيضاء، ط 1، 2002، ص: 28.
[xiii] - ابن رشد: تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر ضمن فن الشعر، ص: 203.
[xiv] - ابن خلدون: المقدمة، ص: 582.
[xv] - نفسه، ص: 583.
[xvi] - نفسه ، ص: 584.
[xvii] - الجاحظ: الحيوان، تح . فوزي عطوي، دار صعب – بيروت ، ط 2 – 1978 ج 1، ص: 128.
[xviii] - الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1، ص: 78.
[xix] - نفسه ، ج 1، ص: 130.
[xx] - ترصد حمادي صمود أطرافا من هذا الوعي عند الجاحظ في مقالة موسومة بـ: "الوعي بالأجناس الأدبية في كتاب الحيوان للجاحظ" حوليات الجامعة التونسية، ع 45- 2001، ص: 199، وانظر كذلك يوسف الصديق في بحث له موسوم بـ "مدى وعي الجاحظ بأجناس المنثور من خلال رسائله"، حوليات الجامعة التونسية، ع 43- 1999، ص: 157.
[xxi] - الجاحظ: رسالة الحنين إلى الأوطان ضمن رسائل الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون، ج 2، ص: 232.
[xxii] - الجاحظ: رسالة في فصل ما بين العداوة والحسد ضمن رسائل الجاحظ، تح. عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ 1964، ج 1، ص: 338.
[xxiii] - الجاحظ: البيان والتبيين، درويش جويدي، المكتبة العصرية - بيروت 2005ج 1، ص: 222.
[xxiv] - الجاحظ: البيان والتبيين، ج 2، ص: 338.
[xxv] - نفسه، ج 3، ص: 426.
[xxvi] - نفسه ، ج 1، ص: 222.
[xxvii] - نفسه، ج 1، ص: 222.
[xxviii] - الجاحظ: الحيوان، ج 1، ص: 65.
[xxix] - الجاحظ: البيان والتبيين، ج 2، ص: 244.
[xxx] - نفسه، ج 2، ص: 413.
[xxxi] - نفسه، ج 3، ص: 426.
[xxxii] - نفسه، ج 3، ص: 595،
[xxxiii] - - نفسه ، ج 3، ص: 413.
[xxxiv] - نفسه، ج 2، ص: 265.
[xxxv] - نفسه، ج 3، ص: 548.
[xxxvi] - الجاحظ: فصل ما بين العداوة والحسد، رسائل الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون، ج 1، ص: 350.
[xxxvii] - الجاحظ: الحيوان، ج 2، ص: 299.
[xxxviii] - الجاحظ: البيان والتبيين، ج 2، ص: 338.
[xxxix] - نفسه ج 3، ص: 561.
[xl] - نفسه ، ج 3، ص: 548.
[xli] - الجاحظ: الحيوان، ج 6، ص: 395.
[xlii] - انظر في ذلك أطروحة حمادي صمود –أحمد المفتونين بالجاحظ عن "التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن السادس، منشورات الجامعة التونسية، مجلد 21 ـ 1981حيث قسم أطروحته تقسيما لا يخلو من دلالة واعتبار فقد ركبها على: ما قبل الجاحظ- الحدث الجاحظي- ما بعد الجاحظ ، في إشارة واضحة إلى مركزية مساهمة الجاحظ في "التفكير البلاغي عند العرب".
[xliii] - قدامة بن جعفر: نقد النثر، ص: 3.
[xliv] - يؤكد ذلك أن صاحب "نقد النثر" ما يفتأ يحين الفرص للاستدراك على الجاحظ والتنبيه على القصور الذي وسم مشروعه البياني فلم يسلم له حتى بتحديده البلاغة الذي رأى فيه قصورا استدركه عليه مقدما تحديدا بديلا رآه أكثر وفاء بحد البلاغة:
"وقد ذكر الناس البلاغة ووصفوها بأوصاف لم تشتمل على حدها وذكر الجاحظ كثيرا مما وصفت به وكل وصف منها يقصر عن الإحاطة بحدها وحدها عندنا..." - نقد النثر، ص: 76.
[xlv] - قدامة ابن جعفر: نقد النثر ، تح. عبد الحميد العبادي، دار الكتب العلمية – بيروت1995 ص: 6.
[xlvi] - نفسه، ص: 6.
[xlvii] - نفسه ، ص: 6.
[xlviii] - نفسه ، ص: 76.
[xlix] - نفسه، ص: 93.
[l] - ابن عبد الغفور الكلاعي: إحكام صنعة الكلام، تحقيق: رضوان الداية، عالم الكتب، ط 2- 1985، ص: 40.
[li] - نفسه، ص: 102.
[lii] - نفسه ، ص: 204.
[liii] - أبو بكر الباقلاني: إعجاز القرآن، تحقيق: عبد المنعم خفاجي، دار الجيل، بيروت، 2005، ص: 54.
[liv] - نفسه ، ص: 165.
[lv] - ، نفسه ص: 235.
المصدر: https://www.alawan.org/content/%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%...