شـعب الله الـمحـتار
فهد عامر الأحمدي
لم يتعرض (عـرب الجزيرة) لما يهدد هويتهم ووجودهم الثقافي سـوى مرتيـن خلال التاريخ:
ـــ المرة الأولى حين حملوا رسالة الإسلام الى الشعوب الأخرى فحدث تلاقـح فكري أثـر على أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم العربية (لدرجة كثر الاستعجام فأمر علي أبن أبي طالب بوضع قواعد النحو)..
ـــ أما المرة الثانية ففي عصرنا الحديث حين اكتشف النفط ومرت الشعوب الخليجية بطفرة مادية جعلتها تـستغني بطيب خاطر عن عاداتها وتقاليدها ومهاراتها القديمة..
.. فـحتى وقت قريب (زمن جدي وجدك) كنا مكتفين ذاتياً ولم نحتج لاستيراد شيء من منتجات الشعوب الأخرى. كانت جداتنا يصنعن السجاد والسلال والسمن وكافة احتياجاتهن الأسرية، في حين كان أجدادنا يبنون منازلهم بأنفـسهم ويحرثون أرضهم بسواعدهم ويصنعون كل شيء تقريبا من أشجار النخيل ومنتجات الماشية وطـين الأرض.. غير أن هذه المهارات (التي تبلورت خلال أجيال طويلة) فـقـدناها خلال جيل واحد فـقط بفضل الطفرة النفطية وتحولنا لمجتمعات استهلاكية..
قــد لا يأسف معظمنا على فقد مهارات الآباء والأجداد، ولكن المشكلة أننا لم نأتِ ببديل معاصر لها أو تصنيع ما هو خير منها (فأصبحنا مثل الغراب الذي ضيع مشيته ومشية الحمامة)..
وياليت الأمر اقتصر على تضييع المهارات اليدوية كوننا أضعنا بنفس المستوى (عادات وأعرافاً وأخلاقيات) تبلورت خلال قرون فأصبحنا بالفعل "شـعـب الله المحـتار" الذي دخل مرحلة نضج جديدة ولم يستقر حتى الآن على خـيار حضاري واضح..
فنحن مثلاً مازلنا حائرين بين عاداتنا البدوية القديمة وحياتنا المدنية الحديثة.. نبني أفخم القصور ولكننا نعشق التخـييم في الصحراء.. نفرش بيوتنا بالرخام الإيطالي والأثاث السويدي، ثم نبني ملحقاً بالطين يتوسطه موقد للنـار والحطب.. مازلنا حائرين هـل نلبس ثوباً وشماغاً وجزمة أم بنطالاً وقميصاً وشبشباً؟ .. هل نأكل بالشوكة والسكين على الطاولة؛ أم نضرب بالخمس قعوداً على الأرض.. نلبس داخل الوطن ثـياباً (ويتصنع بعضنا أخلاقاً) مختلفة عما نلبسه ونصنعه حين نسافر للخـارج.. نخلع العباءة والثوب في الدول البعيدة ولا يشغـل بالنا خلال هذه الفترة القصيرة غير "لا يشوفـنا سعودي"..
نتحدث كثيراً عن الزهـد وعـدم الإسراف وإكرام النعمة، ولكن الواقع يؤكد أننا أكثر شعوب الأرض استعراضاً وإسرافـاً وتطبيقاً لمبدأ "لا تفشلونا قدام الناس".. نعيش في منطقة جافة قاحلة ــ لا أنهار فيها ولا زرع ــ ومع هذا لا يجارينا أي شعـب في استهلاك المياه ورمي الأطعمة.. نبدي إعجابنا بمدن أوربا القديمة وبيوت سويسرا الجبلية ومساجد تركيا الأثرية، ولكننا ننسى أننا كنا نملك كل هذا قبل أن تكتسحه جرافات البلدية ـــ وتصبح مدننا وبيوتنا بلا طعم أو هوية.. يمكنك تسميتنا ببلد المليون واعظ على وزن المليون شهيد في الجزائر، أو المليون شاعر في موريتانا ولكن واقع النزاهة لدينا لا يثبت أننا اتعظنا أو أصبحنا أفضل البشر.. نتحدث عن الديموقراطية والشفافية، ولكننا مازلنا نفكر بعقلية القـبيلة ونفضل التعاملات السرية ونتحدث بطريقة: "يقولك خوينا وش سويت بموضوع فلان اللي أنت خابر"..
ورغم أننا نعيش عالة على الشعوب المنتجة (حتى في ملابسنا وحليب أطفالنا) مازلنا نحـتفظ بأنفـة الأعراب ونعـتبر غـيرنا "عـجـماً" سخرهم الله لخـدمتـنا ــ وكأننا شعب الله المخـتار..
الحقيقة هي أننا "شعـب الله المحتار" الذي لم ينضج بعـد، ومايزال يعيش مرحلة مراهقة متقـلبة..!