هل الشعوب العربية المسلمة شعوب متخلفة؟

 

طالما سَمِعنا طبقاتٍ مختلفةً من الناس - في وطننا العربي المسلِم - تَسِمُ نفْسَها بالتخلُّف والرجعيَّة؛ مُقارَنة بما يشهده الغربُ من إحراز تقدُّماتٍ عِلمية وحضاريَّة ماديَّة هائلة، بسوء الحالة السياسيَّة والاجتماعيَّة والعلمية وغيرها للأمم المُسْلِمة العربيَّة في العصر الحديث.

 

ونرى انبهارَ جماهير الناس بظاهر ما يرَوْن من هذا التقدُّم العلمي المادِّي الحديث، فتهتزُّ ثقتهم بأنفسهم، وبالمنهج الإصلاحيِّ الذي تحمله رسالة الإسلام، ويقوده دعاتُه في كلِّ مكان وزمان.

 

فشيءٌ محتمَل في ظلِّ الهجمة الإعلاميَّة لترسيخ الضعف في النفوس وصناعة التبعية للغرب على لسان رجاله في البلاد المسلمة.

 

أمَّا أن يتأثَّر رجال القرار ومثقَّفو الأمة بتلك المفاهيم، فيردِّدوا هم أيضًا تلك العبارات في خنوع ومهانة، فهي ضربةٌ قاصمة، تنبئ عن مزيدٍ من التأخُّر عن الرَّكْب العلمي والتقدُّمي الحديث؛ إذْ لا يُتصوَّر باستحكام هذا التصوُّر من العقول إلا العجز والدَّعَة، والدعوة إلى مزيدٍ من متابعة الغرب، ولو دخلنا جُحْرَ ضبٍّ خلفهم!

 

هل الشعوب المسلمة شعوب متخلفة؟

نحتاج قبل الإجابة عن هذا السؤال أن نقف على معنى "التخلُّف" ومجالاته المتَّسِعة؛ حتَّى نصل إلى إجابة حقيقيَّة مطابِقةٍ للواقع، بعيدًا عن العاطفة التي تُعمي عن العيب وتصمُّ، وبعيدًا كذلك عن النَّظر السطحيِّ الذي يحمل كثيرًا من الناس على النتائج المغلوطة، والوقوع في مصايد التغريبيَّة، عبر الإعلام وسائرِ وسائله.

 

معنى التخلُّف ومجالاته: التخلُّف المعنيُّ في تلك العبارة هو: التأخُّر عن رَكْب التقدُّم العلميِّ والعمَلي الحديث، ويشمل هذا جوانبَ ومجالاتٍ شتَّى، كما هو واضحٌ من إطلاقات العبارة في كتاباتِ وخطابات مَن يطلقونها.

 

فتشمل مجالَ البناء الحضاري، بشِقَّيه العِلمي والعمَلي، فتطلق في مجال الأخلاق والمعاملات البشريَّة، وتطلق على جانب العادات والتقاليد، وتطلق على الجانب السِّياسي، والجانب الثَّقافي، والجانب الاجتماعيِّ، والجانب الاقتصادي، وبالجملة: فالمتتبِّع لإطلاقات تلك العبارة على ألسِنَة الناس يعرف أنَّها قد شملت كلَّ مناحي الحياة تقريبًا.

 

فهل المسلمون متخلِّفون في كلِّ تلك المجالات والمناحي حتَّى يستحقُّوا إطلاق تلك العبارة الغليظة دون أيِّ استثناءٍ لأيٍّ من المجالات المختلفة؟!

 

إنَّ واقعنا - كمُسلمين - يشهد تأخُّرًا ملاحَظًا في مجالات دنيويَّة عديدة، مقارَنةً بما يحقِّقه الغربُ من إنجازات عِلميَّة ومادية، لكنَّنا في الوقت ذاته ننفرد بميادينَ أخلاقيَّةٍ وعُرفية واجتماعية واسعة تقدُّمًا وعلوًّا، مقارنة كذلك بما وصل إليه الغربُ من رجعيَّة وانحطاط تامَّيْنِ، فضلاً عن الحالة الدنِيَّة المزرِيَة التي عليها الغرب.

 

كما أنَّنا نحتاج إلى أنْ نفرِّقَ بين الوجهة الرئيسيَّة للبلاد العربية المسلِمة - والمتمثِّلة في النُّظم العامة للبلاد، والمناهج التي تسير عليها - وبين المنطَوِين تحتها من أبنائها، فليس صوابًا أن يُظنَّ أن كلَّ غربي متحضرٌ ثقافيًّا وحضاريًّا، وكلَّ مسلم بالضدِّ، بل ربَّما لا نكون مغالين إن قُلنا: إنَّ العوامل المتساوية والمشتركة بينهما متقاربة، غير أنَّ المسلم المعاصِر مكبَّلٌ بأغلالٍ من النُّظُم الفاسدة تعوقه عن الحركة الإبداعيَّة في هذا الكون.

 

فليس كلُّ مسلم إذًا ينسحب عليه وصفُ التخلُّف، كما أنَّ للغرب نصيبًا وافرًا من التخلُّف والرجعيَّة في مجالاتٍ لعلَّها أهمُّ وأعظم من مجالات التقدُّم العلمي والمادِّي الحديث؛ مجالات القيم والأخلاق، مجالات الجوهر والغاية.

 

فلماذا توصف الشُّعوب المسلمة بالتخلُّف والتأخر دون غيرها من الشُّعوب الغربية؟!

ولا ينبغي أن تَحْملنا تلك الحقيقة على التَّقاعس عن مُواكبة الرَّكْب العلميِّ والمادي الحديث، بعد أن نتخطَّى عقبات التقدُّم الحقيقة في مجتمعاتنا المسلمة، بل نقرِّر تلك الحقيقة لغايات وأهدافٍ أكبر وأعظم.

 

إنّ دعوى تأخُّرِ المسلمين وإن حوت جزءًا كبيرًا حقيقيًّا في الظاهر، إلا أنها أُريدَ بها أن تَهْدم الأمَّة بأسرها في الباطن؛ هدمًا لثقافتها، وهدمًا لقِيَمها، هدمًا لتاريخها، وهدمًا لحضارتها... فما دامت أمَّتُنا أمَّةً متخلِّفة متأخرة، وهي أمة "مسلمة"؛ فإنَّ الإسلام هو سبب تأخُّرِها، وسبب تخلُّفِها!

 

هكذا أُريدَ لنا أن نُساق لتلك الفِرْيَة العظيمة، بل وهكذا سيقَتْ الأمة لها، حتَّى استوردَت الأمة مِنهاجَها ونظامها من الغرب؛ بُغيةَ اللحاق بركب التقدُّم، فلم تتقدَّم رغم مرور ما يقرب من قرنٍ كامل!

 

ولا يزال ناسٌ في بلادنا المسلمة يَنْفثون سمومَ تلك الفِرْية بيننا؛ أولئك العلمانيُّون أذناب الغرب، ومن دعا دعوتَهم من بني جلدتِنا، فيَدَّعون دعوى عريضة مفادها أنَّ الإسلام سبب تأخُّر تلك الأوطان والشعوب!

 

ومن منطلق حماية العقول من العبث والتلاعب بها؛ يأتي الحديث المفصَّلُ عن تلك العبارة المُغْرِضة، التي أريدَ بها أهدافٌ أكبر من مجرد الحطِّ من قَدْر الأمَّة وتاريخها وحضارتِها، بل أريد لها بتلك الدَّعوى انسلاخُها من هويَّتِها وتبعيَّتُها لغيرها.

 

سبب هذا التخلُّف الحضاري:

ونحن نعي تمامًا أنَّ أمَّتَنا لم يقَعْ فيها التخلُّفُ الحضاريُّ إلاَّ بعد أن ولَّتْ دينها ظَهْرها، وعاشت عصرًا طويلاً بعيدًا عن صفاء دينها المتمثِّل في منهج الأولين، أعقبها هذا العصرُ ضعفًا تمكَّن فيه أعداؤها من فَرْض سيطرتهم عليها؛ بالسَّيف تارةً، وبالمَكْر تاراتٍ أخرى.

 

وإذا كان مقدَّرًا لأمَّتِنا أن تقوم بنفسها مرَّة أخرى، أو تقود غيرها كما كان حالها؛ فإنَّ الإسلام وحده هو القادر على هذا، وليست تلك شعاراتٍ نردِّدها، كما يردِّدُ العلمانيون شعارات "التَّنوير"، و"الحداثة"... إلخ، مِمَّا هو فراغٌ على فراغ، كالهواء يتعاقب على إناء فارغ له فتحتان؛ يدخل من إحداهما، ويخرج من الثانية!

 

ولكنها حقائق متعدِّدة مجتمعة؛ حقائق تاريخيَّة، تثبت بلا أدنى الْتِبَاسٍ حالَ الأمة إبَّان حكَمَها منهجُ الله تعالى، وحالَها إبَّان تسلَّطَ على رقاب أبنائها منهجُ الغرب في كثيرٍ من بلدانها.

 

وحقائق نظرية واقعيَّة، تثبت ضعف كلِّ مشروع غير إسلامي عن مجرَّد وضع تصوُّر إصلاحي في تلك البلاد التي أنَّتْ من الوجود العلمانيِّ جاثمًا على صدرها، فضلاً عن خُطَّة تعمل فتُثمِر، كما عمل الإسلامُ، وكما أثمر عمَلُه.

 

وحقائق إيمانيَّة، تَرْفُض في نفوس الجماهير كلَّ فكرة لا تنبثق عن منهج الله تعالى، فلا تَنظر لها إلاَّ نظرة المغتصَب للغاصِب، ونظرةَ المظلومِ للظالم.

 

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللَّهم وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.





المصدر:  http://www.alukah.net/culture/0/78226/#ixzz4Lue5pQD3

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك