لغة الحوار السياسي
لغة الحوار السياسي
صاحب الربيعي
يعدّ الحوار استعداداً في المقام الأول الاستماع إلى وجهات نظر سياسية مخالفة أو متقاطعة كلياً أو جزئياً مع وجهات النظر السياسية السائدة. وهدف الحوار مناقشتها وإجراء تسوية على نحو حلول وسط ترتضيها الأطراف المتحاورة لتجاوز أزمة سياسية أو صراع عنفي يجلب الدمار على الجميع، وقد يحسم الطرف القوي الصراع بالعنف لكنه يعدّ الخاسر الأكبر سياسياً.
لذلك لا يمكن إجراء حوار سياسي جاد وفعال من دون وجود رغبة لدى أطراف السلطة والمعارضة التوصل إلى تسوية سياسية ولا جدوى من الحوار مع جهة سياسية ترفض الاعتراف مقدماً بالمعارضة لأن أحد شروط الحوار الاعتراف بالآخر بعدّه مخالفاً للرأي، وبغض النظر عن قوته أو ضعفه على حسم الصراع السياسي بالعنف أو السلم. على خلافه فإن رفض الآخر على نحو علني أو خفي تعدّ نظرة إلغائية يفقد الحوار مغزاه، كما أن اتخاذ الحوار غطاءاً لكسب هدنة سياسية لخوض الصراع العنفي مجدداً يقوض أسس الحوار ويضعف الثقة بين المتحاورين.
حين يستند الحوار إلى قاعدة الغالب والمغلوب لا يعدّ حواراً وإنما استسلاماً بين جهة منتصرة وأخرى مهزومة. موجبات الحوار تستند إما إلى تكافئ القوى المتصارعة وصعوبة حسم الصراع بالقوة وإما إلى توصل أطراف الصراع إلى قناعة أن استخدام القوة لحسم الصراع ليس حلاً عقلانيناً وإما إلى عدم قدرة أطراف الصراع تحمل عبء الخسائر البشرية والمادية فتعتمد أسلوب آخر لإدارة الصراع الذي يتطلب تفكيراً جدياً بمسبباته ونتائجه ومساراته وتداعياته الكارثية.
يعتقد (( إبراهام لنكولن )) ” أنه لو عرفنا أين نحن، وماذا جرى بنا، لعرفنا ماذا نفعل، وهل ما فعلناه كان كما يجب ؟ “.
ليس هناك حوار سياسي جاد من دون شروط مسبقة يتفق عليها المتحاورين بعدّها أحكاماً ملزمة لكل أطرافه وليست اشتراطات مناكفة سياسية، لذلك يجب تعيين مسارات الخلاف لمناقشتها والقبول بمبدأ إجراء التسوية للتوصل إلى اتفاقات مشتركة محددة بتوقيت زمني وليس زمناً مفتوحاً حتى لا يتحول الحوار السياسي إلى جدل سياسي يزيد من شقة الخلاف ويعمقه.
تتطلب القناعات المشتركة تنازلات مؤلمة عن قناعات راسخة لأن الحل المعقول ليس شرطاً أن يكون حلاً مقبولاً دائماً لكل أطراف الصراع بعدّه مرتبطاً بدالة الزمن الحاضر لقبوله كتسوية سياسية تحقق أهداف بعيدة المدى تستند إلى معايير قيمية مغروسة في اللاوعي الاجتماعي جذرها الأساس قيم وطنية أو قيم أخلاقية لا يعيها على نحو كامل الجمهور الذي يستخدم كوقود لإشعال الصراع السياسي لتحقيق المصالح الدنيئة لنخبه السياسية.
تقول (( إ. زيمنيايا )) : ” إن الحوار الفعال للتوصل إلى قناعة مشتركة يتطلب استدلالاً منطقياً وتحليلاً وتقومياً من المتحاورين لتقريب وجهات النظر المختلفة “.
لا يمكن المطالبة بتقديم تنازلات مؤلمة من أطراف الصراع خلال المفاوضات من دون إزالة مخاوف الآخر ومنحه ضمانات كافية لتطبيق الاتفاقات السياسية والحفاظ على مصالحه استناداً إلى قاعدة لا غالب ولا مغلوب، فكل تنازل عن قناعة راسخة في محور خلافي ما، يجب أن يقابله تنازل الطرف الآخر عن محور خلافي مماثل. لأن التسوية تعدّ سعياً إلى كسب ربح محدود لكل أطراف الصراع تحاشياً لخسارة كارثية يتعرض لها الجميع، فالربح المحدود في الحاضر وبضمانات متبادلة يحقق الربح الأكيد للجميع في المستقبل.
يعتقد (( بيخو باريخ )) ” أنه يستحيل الحوار ما لم يكن كل طرف مستعداً لإجراء مراجعة نقدية للمخاوف والأحكام والافتراضات بالحوار، ومن ثم السعي إلى تعديلها أو التخلي عنها مقابل ضمانات متبادلة “.
يتطلب الحوار السياسي نخباً سياسية واعية لماهية الأزمة السياسية ومديات الصراع ونتائجه المستقبلية وتكون مخولة بإتخاذ قرارات سياسية جريئة وإجراء تسويات تستند إلى حلول معقولة لتحقيق أهداف واقعية تجنب المجتمع حرباً أهلية وتحافظ على وحدة التراب الوطني.