التراث والمؤتمرات المذهبية
إبراهيم المطرودي
المؤتمرات والندوات التي ترفع لواء المذهب، وتستنجد به، وتُوجّه للمسلمين خطابا أنهم إما أن يكونوا معها على الدين الصحيح، وفهمه السديد، وإما أن يكونوا مع غيرها على الدين المحرّف، والفهم المنحرف، تبعث فوضى عارمة في المجتمعات.
المؤتمرات التي تقام باسم المذهب، والندوات التي تنهض على فكرته، هي ثمرة من ثمار التراث، ونتيجة من نتائج الولاء له، وما دُمنا وقفنا على خطورة هذه المؤتمرات والندوات، وشعرنا بخطرها البالغ؛ فعلينا أن نُعيد النظر في التراث الديني الذي أعطى فرصة لخروج مثل هذه المؤتمرات، وأذن أن تُقام هنا وهناك، وسمح للآخرين، الذين تتقلب أحوالهم معنا صداقة وعداوة، أن يستغلّوها وينفذوا منها إلينا.
التحديات التي يخلقها التراث الديني، ويضعها في طريق المجتمعات ودولها، تحدّيات عظيمة، يلزم الدول المسلمة أن تُشارك في حلّها، وتبذل جهدا في سبيل مواجهتها؛ إذ من شرط الدولة الحديثة أن تبتعد عن تصنيف شعبها الذي تخدمه، وتقوم على مصلحته، وأن تمنع كلّ ما يقود إلى ذلك، وتقف يقِظةً في طريق كل مَن يركب هذا التراث، ويستلّ منه التصنيفات القديمة، ويُذكّر الناس بها، ويجعل ولاءهم للمذهبيات القديمة، وليس للمجتمعات الحديثة التي فيها يعيشون، ولها يعملون، وفي خدمتها يتميّزون.
المؤتمرات والندوات التي ترفع لواء المذهب، وتستنجد به، وتُوجّه للمسلمين خطابا أنهم إما أن يكونوا معها على الدين الصحيح، وفهمه السديد، وإما أن يكونوا مع غيرها على الدين المحرّف، والفهم المنحرف، تبعث فوضى عارمة في المجتمعات، وتخلق صراعا فيها، وتُعيد للمسلمين عصور الصراعات المذهبية القديمة التي تُعدّ أحد تحدياتنا المعاصرة في ظل تقارب وطني بين أبناء كل دولة، وتقارب إقليمي بين دولنا العربية والمسلمة، وتقارب عالمي بيننا وبين دول هذا العالم، وتُظهرنا نحن المسلمين أمام العالم بأننا أهل فرقة، ودعاة تنابذ، وأنصار شتات، ونحن ندعو ليل نهار إلى وحدة المجتمعات، وتنمية شعورها الوطني، وتخليصها مما يُضاده، فكيف نقف مع وحدة دولنا، ونصطف مع نماء شعورها الوطني، ونبذل نصحنا في مصافحة ما يُكدّر صفوه، ونحن ندعو للفرقة المذهبية، ونُقيم لها المؤتمرات والندوات، ونُسهّل لأهلها الإجراءات؟!
أليس من الغريب أن نكون في عصر تتقارب فيه دولنا المسلمة ثقافة واقتصادا واجتماعا، وتنشأ فيه الأواصر بينها، وتتوثق عُرى الأخوة بين أهلها، ثم نجد هذه الدولة أو تلك تُجدّف بعيدا عن كل ذلك، وتقتحم درب الفرقة المذهبية، وتُوقظ صراعات ما زال تحت الرماد لها وميض، وكأنها (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا)؟
إن الناس يلومون الأفراد الذي ينقضون غزلهم، ويقفون ضد مبادئهم، فيطلبون شيئا ويقومون بما يخالفه، ويرسمون أهدافا ويسيرون في غير دروبها، وهم للدول أكثر لوما، وأعظم عتابا؛ لأنها ترسم خططها مع غيرها من الدول، وتنسج علاقاتها معها، والضرر الآتي من مخالفتها لا يقع عليها وحدها؛ إذ ينجر، كما هي حال تلك المؤتمرات، إلى غيرها من الدول التي تنتمي إلى مذاهب مختلفة، وتنتشر فيها أقوال دينية مغايرة، ويدور على ألسنة الناس فيها عالم أشخاص مختلف، فعلى تلك الدول التي تراعي الاختلاف على أراضيها، وترضى به بين مواطنيها، أن تلتزم بمصالح الدول الأخرى ومجتمعاتها، وتكفّ عن كل ما يستعيد صراعات الماضي من جديد فيها؛ فبين الدول عقد اجتماعي في هذا العالم؛ كما أن بين أفراد كل دولة عقدا اجتماعيا يضمن الحقوق، ويضع وسائل حفظها، ويدرأ كل ما من شأنه أن يشينها أو يعرقلها.
نحن اليوم في عصر الدول، وتُظلنا ثقافتها، ونُسأل عن مصالحها، ولسنا في عصر المذهبيات، ولا في زمن رجالها الذين مضت عليهم القرون، ولا لنا مصلحة أساسا في ثقافتها القائمة على التمييز بين المواطنين، والتصنيف لهم باسم المذهب، فيُتوقع من دولنا المسلمة أن تقف بقوتها السياسية في وجه هذه المؤتمرات والندوات، ولا تسمح لها بالقيام، وتضع من الأنظمة ما يمنع تنظيمها، ويحول دون رعايتها؛ فهي مخالفة للدين الداعي للوحدة والائتلاف، ومخالفة لمصالح الدول التي جرى الاتفاق بينها على عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ومنها الدين والمذهب، والعلة في ذلك أن كل مجتمع راض بما وجد أهله عليه، وملتزم به وبرجاله، ومن الفوضى العارمة أن يُتدخل في شؤونه فيها، ويُطلب منه تغييرها؛ فالدين والمذهب ركيزة مجتمعية، ولها علاقة وثيقة ببقية ركائز المجتمع، وتُكوّن هذه وتلك سياقا واحدا ونسقا متّحدا، ومَنْ يُحاول بأي طريق تغييرها؛ فهو كمن يسعى إلى هدم المجتمع، وتخريبه على أهله.
وما أجدني أميل إليه -بعد حادثة مؤتمر غروزني وما يُشبهه من المؤتمرات والندوات- وأنصح به أنْ تلتفت منظمة التعاون الإسلامي إلى التعاون الديني بين هذه الدول، وتضع مشكلة ثقافة المذهبيات التي تُفرّق المجتمعات وتنشر بينها العودة إلى صراعات الماضي، تحت الدراسة والنظر؛ فهي منظمة تضع نفسها صوتا للعالم الإسلامي كله، وتهدف إلى حماية مصالح المسلمين الحيوية، والصراع المذهبي، القائم في هذه المجتمعات على "أنا من المسلمين الصالحين وأنت من غيرهم، وأنا من أهل السنة وأنت من غيرهم"، تحدٍّ يُوشك أن يهدم هذا العالم، ويأتي على مصالح دوله الحيوية؛ فلعل منظمة التعاون مشكورة أن تقوم بهذا.
ولا أنسى في هذه الخاتمة "مؤتمر العالم الإسلامي" ودوره المنتظر في علاج هذه القضية، بأن يفتح ملفا جديدا، يُعالج به هذا التحدي، ويقف بالأنظمة دون تأثيره على المسلمين دولهم ومجتمعاتهم.
المصدر: http://www.alriyadh.com/1531864