التربية طريق التغيير الحضاري
علي عزت بيغوفيتش
في النظام الإسلامي تتوحد عناصر الدين والتنظيم السياسي والاجتماعي جميعًا، فكيف نسعى لتحقيقه؟.. بنهضة دينية، أم بثورة سياسية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هي: إنه لا يمكن البدء في نهضة إسلامية بدون ثورة دينية، كما أنه لا يمكن لهذه النهضة أن تواصل سيرها بنجاح وتكتمل إلا بثورة سياسية، هذه الإجابة التي تحدد النهضة الإسلامية باعتبارها ثورةً مزدوجةً، أخلاقية واجتماعية، وتعطي أولوية واضحة للصحوة الدينية.. هذه الإجابة تنبثق من طبيعة الإسلام ومبادئه، وليس من الواقع الكئيب الذي يطبع العالم المسلم في الوقت الحالي.
هذا الواقع يفصح عن خطورة الحالة المعنوية للعالم المسلم، كما يكشف عن الانحراف وسيطرة الفساد والخرافة والكسل والنفاق وسيادة التقاليد والعادات غير الإسلامية وترسُّخ المادية، والغياب المذهل للحماسة والأمل.. فهل يمكن البدء بأي نوع من الإصلاح الاجتماعي أو السياسي مباشرةً في مثل هذه الظروف؟ وكل أمة- قبل دعوتها لأداء دورها في التاريخ- عليها أن تحيا فترةً من التطهير «الجواني» والتسليم العملي بمبادئ أخلاقية أساسية معينة.
إن كل قوة في العالم تبدأ بثبات أخلاقي، وكل هزيمة تبدأ بانهيار أخلاقي، فكل ما يراد تحقيقه لابد أن نبدأ بتحقيقه أولاً في أنفس الناس.. فماذا نعني بالصحوة الدينية كمتطلب أساسي للنظام الإسلامي؟ إن الصحوة الدينية هي وعيٌ واضحٌ بالغاية الحقيقية للحياة: لِمَ نحيا؟ ولأجل أي هدف نحيا؟ وهل هذا الهدف هدف شخصي أم هدف مشترك؟ هل يتعلق الهدف بعظمة العنصر «الذي أنتمي إليه»؟ أم بمجد الأمة؟ أم تأكيد شخصيتي الفردية؟ أم هو هيمنة شريعة الله على الأرض؟
وبالنسبة لحالتنا فإن الصحوة الدينية تعني من الناحية العملية «أسلمة» الناس الذين يدَّعون أنهم مسلمون، أو أولئك الناس الذين يدعوهم الآخرون بهذا الاسم، فنقطة الانطلاق في هذه «الأسلمة» هي الإيمان الراسخ بالله من جانب المسلمين، والالتزام الدقيق الأصيل بقيم الإسلام الدينية والأخلاقية.
أما العنصر الثاني للصحوة الدينية فيتمثل في الاستعداد للقيام بالواجبات التي يفرضها الوعي بالهدف، فالصحوةالدينية- لذلك- هي نوع من الالتزام الأخلاقي، والحماسة حالة من القوة الروحية على المادة، حالة من المثالية الحية العملية يصحب فيها الأشخاص العاديون وهم قادرون على أعمال بطولية تتسم بالشجاعة والتضحية، ومن ثَمَّ فالصحوة الدينية خاصية جديدة للإيمان والإرادة، تتلاشى فيها قيمة المعايير اليومية المألوفة للممكن، ويرتفع فيها الفرد والجماعة معًا إلى درجة أعلى من درجات التضحية في سبيل تحقيق مثلهم الأعلى.. وبدون هذه الحالة الجديدة للروح والشعور يستحيل تحقيق أي تغيير حقيقي في عالم المسلمين الحالي.
وعند النظر في هذه الأمور تستبد بنا الحيرة- ولو للحظة قصيرة- فنتساءل: هل أقصر طريق للنظام الإسلامي هو الاستيلاء على السلطة التي ستقوم بدورها ببناء المؤسسات المناسبة وتقوم بتربية الشعب تربيةً دينيةً وأخلاقيةً وثقافيةً، كمقدمة ضرورية لبناء مجتمع إسلامي؟! لكن هذه مجرد غواية، فالتاريخ لا يذكر لنا أي ثورة حقيقية جاءت عن طريق السلطة وإنما عن طريق التربية، وكانت معنية في جوهرها بالدعوة الأخلاقية.
إضافة إلى ذلك فإن الصيغة التي تقصر إقامة النظام الإسلامي على نوع من السلطة لا تجيب عن السؤال: من أين تأتي هذه السلطة ومن سيقيمها وينفذها؟ ومن أي نوع من الناس ستتألف هذه السلطة ومؤسساتها؟ وفي النهاية من الذي سيكبح سلوك هذه السلطة ويمنعها من أن تتحول إلى «غول» تخدم نفسها بدلاً من أن تخدم الشعب الذي رحَّب بها؟
من الممكن استبدال مجموعة من الناس في السلطة بمجموعة أخرى، وهذا ما يحدث كل يوم.. يمكن استبدال مجموعة من الطغاة بمجموعة أخرى من الطغاة.. «إن مُلاك السلطة في هذا العالم قابلون للتغيير»، ومن الممكن تغيير الأسماء والأعلام والسلام الوطني والشعارات.. ولكننا بهذا كله لا نستطيع أن نتقدم خطوةً واحدةً نحو تحقيق النظام الإسلامي من حيث هو تجربة جديدة في العالم.. وعلاقة جديدة مختلفة بين الإنسان ونفسه وبينه وبين الآخرين والعالم.
والتطلع الدائم إلى سلطة ما للمساعدة تكمن جذوره في الميل الطبيعي للإنسان إلى الهروب من المراحل الأولى الشاقة من الجهاد.. وأعني بذلك جهاد النفس؛ فإن تربية الناس مشقَّة؛ ولكن أشق منها تربية الذات، والصحوة الدينية بحكم تعريفها تعني البدء بالذات.. بحياة الإنسان نفسه.. أما فكرة العنف والسلطة- كوسيلة للتغيير- فهي موجَّهة للآخرين، وهذا ما يجعل هذه الفكرة ذات إغواء.
لذلك لابد لأي حركة تتطلع إلى النظام الإسلامي كهدف أساسي لها أن تكون حركة أخلاقية.. أن تستهدف إيقاظ الناس بالمعنى الأخلاقي، وأن تكون لها وظيفة أخلاقية تنهض بالناس وتصلح أحوالهم، وهذا هو الفرق بين الحركة الإسلامية وبين الحزب السياسي، فالحزب السياسي قد تتمثل فيه وحدة بين الأفكار والمصالح؛ ولكنه لا يتضمن معايير أخلاقية ولا يشغل الناس بنشاط أخلاقي.. لقد أعطت المصادر الإسلامية أولويةً مطلقةً للصحوة الدينية:
أولاً- يقرر القرآن أن الصحوة الداخلية (تغيير النفس) شرط سابق على أي تغيير أو إصلاح أوضاع أي جماعة: «إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» [الرعد: 11].
ثانيًا- تأكدت هذه القاعدة عمليًا في صدر الإسلام وفي جهاد الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- في سبيل إقامة أول نظام إسلامي في التاريخ، ويدل على هذا أن القرآن طوال السنوات الـ13 من الدعوة الإسلامية اقتصر في نقاشه على قضايا الإيمان وتأكيد المسئولية، ولم يتطرق في تلك الفترة لأية مشكلة اجتماعية أو سياسية، ولم يقرر أي نوع من القوانين الاجتماعية المبنيَّة على الإسلام.. إننا نتطلع إلى الصحوة الدينية في تحقيق ثلاثة أمور أخرى مهمة:
1- الصحوة الدينية وحدها هي التي يمكن أن توفر العزم- دون تردد أو تساهل- على تطبيق أحكام القرآن، ولاسيما تلك الأحكام التي تتعلق بالأمراض الاجتماعية المتأصلة، أو التي من شأنها إحراج أصحاب السلطان ومحتكري الثروات العريضة، وتعني الصحوة الدينية أن يتم تطبيق هذه الأحكام دون عنف أو كراهية؛ لأن كل المجتمع الذي استيقظ فيه وعيه الديني أو غالبيته سوف يفقه هذه الأحكام ويرحِّب بها طاعةً لأمر الله وتحقيقًا للعدل.
2- لا يمكن تصور نهضة إسلامية بدون استعداد الناس لتضحيات هائلة بالأموال والأنفس، ولا بدون درجة عالية من الثقة المتبادلة والتعاون المخلص فيما بينهم، وإلا فما الذي يحول دون استغلال هذه الجهود والتضحيات التي يفرضها على نفسه فريق من المجتمع؛ لكي يستخدمها فريق آخر لدعم سيطرته وإشباع مطامعه؟ وما الذي يمنع من تكرار مأساة الهزائم الأخلاقية التي يتكرر ظهورها في التاريخ الحديث للمسلمين؟! إن كل نظام- بما في ذلك النظام الإسلامي- يكون دائما أكثر تمثيلاً للناس الذين أقاموه من تمثيله للمبادئ التي ينادون بها.
3- نظرًا للتخلف المذهل في العالم الإسلامي عليه أن يسير سيرًا حثيثًا في مجالي التربية والتصنيع، جنبًا إلى جنب؛ وذلك لأن التنمية المادية المتسرعة تكون عادةً مصحوبةً بأعراض مرضية خطيرة، تتمثل في الاستبداد والفساد، وتحطيم الأسرة، وانتهاب الثروات بطرق سريعة غير مشروعة، وبروز الانتهازيين ومعدومي الضمير في المقدمة، والتوسع في المدن على حساب الريف، وانتشار الكحول والمخدرات، وتفشي الدعارة، ولا يوجد سدٌّ يحول دون الفيضان الكاسح لهذا الخبث المضاد للثقافة والأخلاق إلا ذلك السدُّ الذي يبنَى على أساس من الإيمان القوي الخالص بالله، والالتزام بتعاليم الدين من قبل جميع فئات الشعب، فالدين وحده هو الذي يضمن لنا ألا تقوض الحضارة أركان الثقافة، أما التقدم المادي والتقني المجرد- كما رأينا بوضوح في كثير من الحالات- فإنه قد يتحوَّل إلى بربرية.
السلطة الإسلامية
إننا إذا كنا نؤكد على أولوية الصحوة الدينية والأخلاقية، فهذا لا يعني- ولا يصح تأويله ليعني- أن النظام الإسلامي يمكن أن يقوم دون سلطة إسلامية، إنه يعني فحسب أن طريقنا لا يبدأ بالاستيلاء على السلطة، وإنما بكسب الناس، وأن الصحوة الإسلامية إنما هي ثورة في التربية تؤدي إلى ثورة في السياسة، فيجب علينا أن نكون أولاً دعاةً، ثم بعد ذلك نكون جنودًا مجاهدين، وسلاحنا هو القدوة الشخصية والكتاب والكلمة، فمتى تلحق القوة بهذا كله؟!
اختيار هذه اللحظة هو دائمًا اختيار واقعي يعتمد على سلسلة من العوامل، وتوجد على كل حال قاعدةٌ عامة: أن الحركة الإسلامية يمكنها؛ بل يجب عليها أن تبدأ في السعي إلى السلطة عندما تجد في نفسها من القوة الأخلاقية والعددية ما يمكِّنها- ليس فقط- من تغيير الحكومة غير الإسلامية؛ بل أيضًا من بناء حكومة إسلامية، وهذا التمييز بالغ الأهمية؛ لأن تغيير النظام وبناء نظام آخر لا يتطلبان نفس الدرجة من التهيؤ النفسي والمادي.
التسرع في هذه الأمور خطر، شأنه في ذلك شأن التراخي، وتسلُّم السلطة نتيجة توافر مجموعة من الظروف المواتية بدون إعداد أخلاقي ونفسي كافٍ، وبدون توافر الحد الأدنى الضروري من الأفراد المدرَّبين تدريبًا عاليًا متينًا، يعني إحداث انقلاب آخر وليس ثورةً إسلاميةً، والانقلاب إنما هو استمرارية للسياسة غير الإسلامية ممَّا تقوم به المجموعات الأخرى، أو باسم مبادئ أخرى غير المبادئ الإسلامية.
المصدر: https://alfajrmg.net/2016/06/16/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%...